تحقيب الشّعر العربي

تحقيب الشّعر العربي

تهدف هذه المقالة إلى تعريف شباب الشُّعراء بتاريخ شعرهم العربيّ عبر العصور المتعاقبة؛ للإفادة منه والإضافة إليه، وإظهار موقع صاحب كلّ تجربة من تراثه العربيّ تأثُّـرًا به وتأثيرًا فيه، فالمؤرّخون للشّعر العربيّ يربطونه دائمًا بالزَّمن أو العصر، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه «تحقيب الشّعر»، نسبةً إلى «حقْـبَة»، فيستهلُّونه بالشّعر الجاهليّ، الَّذي سبق ظهور الإسلام، وهي فترةٌ تصل إلى قرن ونصف القرن عند أغلب المؤرّخين، بينما يرى أبو عمرو عثمان بن بحر الجاحظ، أنَّها قد تصل إلى قرنيْن من الزَّمان إن استظهرنا غاية الاستظهار.

تكمن أهمية الشّعر الجاهليُّ في أنَّه يُعَدُّ الوثيقة الأولى للعرب، فشاعَتْ مقولة: «الشّعر ديوان العرب»؛ إذ يكشف النّقاب عن ثقافتهم وعلومهم، ومناقبهم ومثالبهم، وعاداتهم وتقاليدهم، وحروبهم وأيَّامهم... إلخ، وتُعَدُّ المعلَّقات أبلغ ما نطق به اللّسان العربيُّ في ذاك العصر؛ ولعلَّها سُمّيَتْ بالمعلَّقات لأنَّ العرب كانت تعلّقها على أستار الكعبة تشريفًا لها وتقديسًا، فضلًا عن أنَّها تعلق بنياط قلوبهم، فتظلُّ دائرةً على ألسنتهم قارعةً مسامعهم مُزْدَانَةً بها مجالسهم، كما هي الحال في أسواقهم، مثل: سوق عكاظ ومجنَّة وذي المجاز ودومة الجندل.
وبظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربيَّة نجد المؤرّخين يسمُّون هذا الشّعر بالإسلاميّ، ويشمل الشّعر في صدر الإسلام، وهي تلك الحقبة النَّبويَّة الَّتي ظلَّ القرآن فيها يتنزَّل على أفصح العرب محمد ([) في حوالي ثلاث وعشرين سنةً؛ عشر سنين منها في الفترة المكّـيَّة قبل الهجرة النَّبويَّة، وثلاث عشرة سنةً في الفترة المدنيَّة بعد الهجرة، ولعلَّ من أهمّ الأغراض الشّعريَّة لهذه المرحلة هو غرض الدّفاع عن الإسلام، والمنافحة عن الدَّعوة ضدَّ مَنْ راموا وَأْدَهَا في مهدها؛ فجاء الشّعر معبّرًا عن عقيدة للوحدانيَّة في أرض تتسم بالوثنيَّة، وعبادات قد تتفق في بعض شعائرها مع عبادات العرب الجاهليّين كالحجّ، ومعاملات أقرَّ الإسلام بعضها كالزَّكاة، وأبطل بعضها الآخر كالرّبا، وعلاقات حثَّ الإسلام على مقبولها كالزَّواج، وحذَّر من مرذولها كالزّنى... إلخ، وأشهر شعراء الدَّعوة في هذا العصر هم: حسَّان بن ثابت الأنصاريُّ الملقَّب بشاعر الرَّسول ([)، وكعب بن مالك الأنصاريُّ، وعبدالله بن الزّبَعْرَى.

الشّعر الإسلامي
كذلك يشمل الشّعر الإسلاميُّ فترة الخلافة الرَّاشدة (من 13هـ إلى 40هـ)، والَّذي شمل فترة حكم أبي بكر الصّدّيق وعمر بن الخطَّاب وعثمان بن عفَّان وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم وعُني شعراء هذه الحقبة بالحديث عن بناء الدَّولة العربيَّة الإسلاميَّة والتَّوسُّع في فتوحات الأمصار وتعيين الولاة عليها، كما وجدنا من الشُّعراء مَن امتدَّ بهم الأجل فَسُمُّوا بالمخضرمين؛ لأنَّهم جمعوا في حياتهم بين حقبتي الجاهليَّة والإسلام، ولعلَّ أشهرهم حسَّانٌ إذ عاش مئةً وعشرين سنةً شُطرَتْ بين الحقبتيْن.
وبقتل الخليفة الرَّاشد الرَّابع عليّ - كرَّم الله وجهه - في السَّنة الأربعين من الهجرة، يتولَّى سُدَّةَ الحكم معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أميَّة، ليبدأ العصر الأمويُّ حتى سنة 132هـ، ويعبّر جانبٌ كبيرٌ من الشّعر الأمويّ عن الصّراع السّياسيّ والعقديّ بين: حكَّام هذه الحقبة - أعني الأمويّين -، والشّيعة الَّذين بزغ نجمهم بقوَّة إثر مقتل عليّ فتشيَّعوا للدّفاع عنه وعن آل البيت، والطَّرف المناهض لهم وهم الخوارج الَّذين خرجوا على عليّ فقتلوه وترصَّدوا عَقبَهُ، والزُّبيريّين - نسبةً إلى الزُّبير بن العوَّام حواريّ رسول الله وزوج أسماء بنت أبي بكر- وهم يمثّـلون طرفًا من المعارضة السّياسيَّة، ومن أشهر شعراء هذا العصر: عبدالله بن الزُّبير ممثّـلًا للأمويّين، وَالْكُمَيْتُ بن زيد الأسديُّ ممثّـلًا للشّيعة، وَالطّرمَّاحُ بن عديّ الطَّائيُّ ممثّـلًا للخوارج، وابن قيس الرُّقيَّات ممثّـلًا للزُّبيريّين.
وينتهي عهد بني أميَّة بمقتل مروان بن محمَّد آخر خلفائهم، فيتولَّى أبو العبَّاس السَّفَّاح أوَّل خلفاء بني العبَّاس بن عبدالمطَّلب بن هاشم، ويُستهلُّ الشّعر العبَّاسيُّ بحقبتـيْه؛ العبَّاسيُّ الأوَّل (من 132هـ إلى 232هـ)، والعبَّاسيُّ الثَّاني (من 232هـ إلى 617هـ)، إذ ينتهي بغزو التَّـتار العالَمَ العربيَّ الإسلاميَّ، وبدخول التَّـتار تسقط الخلافة الإسلاميَّة الجامعة لكلّ الأمصار، فقد انفرط عقد العالَم العربيّ الإسلاميّ إلى دول وإمارات.

الشعر الأقاليمي
بدأ مؤرّخو الأدب بتقسيم الشّعر وفقًا لأقاليمه؛ فنجد الشّعر العربيَّ في إقليم الحجاز والعراق أو الجزيرة العربيَّة (السُّعوديَّة والكويت والإمارات والبحريْن وقطر وعُمان واليمن حاليًا)، وإقليم الشَّام (الأردن وفلسطين وسورية ولبنان حاليًا)، وإقليم مصر، وإقليم ليبيا وشمال إفريقيا، وإقليم المغرب والأندلس (إسبانيا والبرتغال حاليًا)...، وكل إقليم منها ينقسم الشّعر فيه زمنيًّا؛ ففي إقليم مصر الإسلاميَّة نجد الشّعر العربيَّ يرتبط بفتح مصرَ سنة (21 هـ) على يد الوالي عمرو بن العاص، وبعد ما كانت اللُّغة القبطيَّة لغة الحياة اليوميَّة، واللُّغة اليونانيَّة لغةً رسميَّةً بمصرَ قبيل الفتح، نجد اللُّغة العربيَّة تنتشر وتسيطر، فتصبح بعد فترة وجيزة لغةً رسميَّةً للمؤسَّسات والدَّواوين، فضلًا عن كونها لغةً للتَّعايش الحياتيّ، ممَّا أسهم كثيرًا في غزارة الإنتاج الشّعريّ المصريّ، ويظلُّ الشّعر ينتقل في عصوره المختلفة؛ الطُّولونيّ والإخشيديّ والفاطميّ والأيوبيّ، وما عزَّز ذلك من أحداث كانتصار صلاح الدّين الأيوبيّ على الصَّليبيّين ومواكبة الشّعر لهذا المنجز الحضاريّ، حتَّى نصل إلى العصر المملوكيّ فالعثمانيّ، اللَّذيْن ضعف خلالهما الشّعر العربيُّ ضعفًا ملحوظًا، فاهتمَّ في الغالب بالزَّخارف الشَّكليَّة على حساب المضامين المعرفيَّة.
وفي العصر الحديث نجد محمود سامي الباروديَّ (ربَّ السَّيف والقلم) يحاول أن ينهض بالشّعر العربيّ فيكوّن مدرسة الإحياء والبعث، الَّتي يريد من خلالها محاكاة عيون الشّعر العربيّ من التُّراث التَّـليد، فينشئ الكثير من القصائد الَّتي يعارض فيها القدماء، ثم يطوّر أحمد شوقي (أمير الشُّعراء) ذلك الاتّجاه في مدرسته الكلاسيكيَّة الجديدة، فيحاكي الشّعر القديم ويجدّد في تراكيبه وأساليبه وصوره ومجازاته، ولعلَّ روافده الثَّـقافيَّة الغربيَّة هي الَّتي دفعَتْهُ إلى كتابة المسرح الشّعريّ، ممَّا أكسب الشّعر الحديث بعدًا جماهيريًّا يُضاف إلى بعده الجماليّ، ثم تظهر المدرسة الرُّومانسيَّة، فنجد جماعة الدّيوان لعبدالرَّحمن شكري وإبراهيم عبدالقادر المازنيّ وعبَّاس محمود العقَّاد، وجماعة أبولُّو، وجماعة المهجر... إلخ، وكلُّ مدرسة لها مشربها في تدبيج القصيدة وتذوُّقها ونقدها، الَّذي قد تشترك في بعض جوانبه مع المدرسة السَّابقة في أوَّل الأمر ــ بحكم النَّشأة والتَّاريخ ــ ثمَّ ما تلبث أن تبحث عن فرادتها.

التطور والتجديد
ولعلَّ بعض مبدعي الشّعر ونقَّاده أرادوا تقسيمه تقسيمًا موضوعيًّا خاصًّا، كاتّجاه «الأدب الإسلاميّ»، الَّذين صرف أصحابه اهتمامهم إلى قضايا الأمَّة العربيَّة الإسلاميَّة، والتَّعبير عن مقوّماتها ومعوّقاتها، وتوظيف التُّراث واستلهام التَّاريخ بأحداثه وأشخاصه في الشّعر المعاصر؛ لتعزيز هويَّة الأمَّة واستنهاض عزمتها من جديد، وهو توجُّهٌ له مؤيّدوه ومفنّدوه حيث تحكمه الأيديولوجيا.
كما أنَّنا نلمس تطوُّرًا وتجديدًا في أوزان الشّعر العربيّ وقوافيه في العصر الحديث، وذلك من خلال شعر التَّـفعيلة أو المرسَل أو الحرّ، أو السَّطر بديل البيت، ثمَّ قصيدة النَّـثر الَّتي ضربَتْ بالوزن والقافية التَّـقليديَّين عرض الحائط، واهتمَّتْ بالحديث عن الواقع المعيش والتَّـفصيل اليوميّ وأمعنَتْ في سرد دقائقه، وَنَأَتْ - إلى حدّ بعيد - عن الخيال والمجاز والصُّور البلاغيَّة الموروثة، فأصبحَتْ أثيرةً لدى البعض بموسيقــــاها الخاصَّة ومجازات عصرها، بينما لاقَت اعتراضًا عند البعض الآخر، إذ قبلها فريقٌ على مضض، وأخرجها فريقٌ من حقل الإبداع الشّعريّ ليجدها نثرًا خالصًا، ولا نغفل بعض المؤثّرات كالبعثات والصَّحافة والتَّرجمة على حركة الشّعر العربيّ إبداعًا وتذوُّقًا ونقدًا، وهكذا تقلَّب الشّعر العربيُّ بين تحقيبه (تقسيمه الزَّمنيّ) وخضوعه لأغراض المؤوّل تارةً أو لذائقة المتلقّي تارةً أخرى■