فقدان العرب للسيادة اللغوية كما يتجلى في معادلة بنود ميثاق اللغة
ترتكز مقولتنا في سطور هذا المقال المختصر على أبجدية بسيطة لإقامة الناس لعلاقة طبيعية أو سليمة مع لغتهم (كسب رهان السيادة اللغوية). نستعمل كلمتيْ طبيعية وسليمة كنعتين مترادفين. نعتقد أن أبجدية منهجيتنا هذه تتضمن معالم جديدة في الطرح، تجعل الحكم بشفافية وبساطة سهلًا على وجود أو فقدان علاقة سليمة/السيادة اللغوية للناس والمجتمعات مع لغاتهم. تؤكد وتقول هذه الأبجدية إن العلاقة الطبيعية بين الناس ولغتهم تتمثل في ممارسة أربعة بنود لميثاق اللغة، تندرج في ما يسميه العلماء القوانين الطبيعية، التي تشمل كل الموجودات في الطبيعة.
تُعرّف القوانين الطبيعية على أنها التناسق والانتظام في معالم الطبيعة. ووفقًا لرؤية منهجيتنا المطروحة هنا، يتمثل سلوك التناسق والانتظام الطبيعيين في التعامل السليم/ الطبيعي مع لغة الأم أو اللغة الوطنية في سلوكيات الناس اللغوية التالية:
1 - استعمالهم لها وحدها شفويًا دائمًا في كل شؤون حياتهم الشخصية والجماعية.
2 - استعمالهم لها فقط في الكتابة إن كانت للغة حروفها، أو إن استعملت حروف غيرها من اللغات الأخرى للكتابة.
3 - من المسلّمات أن استعمال اللغة بطريقة سليمة يتطلب معرفتها الوافية والمتمثلة في معرفة مفرداتها والإلمام بقواعدها النحوية والصرفية والإملائية وغيرها، لاستعمالها بطريقة صحيحة في الحديث والكتابة. يمثل هذا السلوك اللغوي الشفوي والكتابي الأرضية الأساسية الطبيعية التي يقيم بواسطتها الأفراد والمجتمعات علاقة سليمة مع لغة الأم أو اللغة الوطنية في المجتمعات.
4 - تنشأ عن هذه العلاقة السليمة التفاعلية مع اللغة (1 و2 و3) ما نسميها «العلاقة الحميمة» مع تلك اللغة والتي تتجلى أساسًا في المواصفات النفسية والسلوكية التالية: حب للغة والغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها قبل أي لغة أو لغات أخرى يمكن أن يتعلمها الأفراد في مجتمعاتهم. إن التزام المجتمعات بممارسة البنود الأربعة لميثاق اللغة (1 و2 و3 و4) تمنحها السيادة اللغوية الكاملة.
واستنادًا على تلك البنود الأربعة في ميثاق التعامل مع اللغة الأم أو الوطنية، يسهل التعرّف على نوعية العلاقة التي يمارسها الناس مع لغاتهم، فالذين يلبون بالكامل تلك البنود الأربعة مع لغاتهم هم قوم يتمتعون بعلاقة طبيعية أو سليمة معها، أي أنهم أصحاب سيادة لغوية مطلقة. أما الذين لا يلبونها، فهم أصناف متنوعة من التمتع بالسيادة اللغوية الكاملة أو الناقصة حسب درجة تلبيتهم لأي عدد من البنود الأربعة للميثاق اللغوي في التعامل مع لغاتهم. يسمح تشخيصنا هذا اليوم بدراسة حال اللغة العربية الفصحى واللهجات العربية في المجتمعات العربية ببيان درجات فقدان العلاقة السليمة أو السيادة اللغوية في هذه المجتمعات مع اللغة العربية الفصحى واللهجات العربية.
أبجدية فهم العلاقة الحميمة مع اللغة
يساعد منظور علم اجتماع المعرفة على فهم العلاقة الحميمة التي تربط الناس باللغة، إن هم استعملوها هي فقط بالكامل ودائمًا شفويًا وكتابة (1+2) في كل شؤون حياتهم الفردية والجماعية منذ الطفولة، وعرفوا مفرداتها وقواعدها النحوية والصرفية وغيرها (3). يجوز القول بكل بساطة إن تلك العلاقة الحميمة (4) مع اللغة الأم أو اللغة الوطنية هي نتيجة لعملية التفاعل/الاستعمال المكثف معها ولها، الذي يُنتظر أن ينشئ مثل تلك العلاقة النفسية القوية التي تخلق علاقة وثيقة ومتينة، أي حميمة مع اللغة بسبب عملية التنشئة الاجتماعية اللغوية الكاملة منذ الطفولة مع لغة الأم أو اللغة الوطنية. وبعبارة علم الاجتماع، فمثل ذلك التفاعل الشديد الكثافة والتواصل والاستعمال للغة يؤدي إلى ما يسميه هذا العلم بالعلاقة الأولية مع اللغة. وهي علاقة نَدِّية بالعواطف والشعور والتحمس لصالح اللغة. كل ذلك هو حصيلة لتنشئة لغوية اجتماعية طبيعية منذ الصغر تقتصر على استعمال اللغة الأم أو الوطنية على المستويين الشفوي والكتابي، ووفقًا لمفرداتها وقواعدها النحوية والصرفية والإملائية الصحيحة فـي كل شؤون الحياة الفردية والجماعية في المجتمعات.
يمكن صياغة مقولة طرحنا النظري بخصوص العلاقة مع اللغة في معادلتين شبه حسابيتين:
1 - الالتزام الكامل بالبنود الأربعة (1+2+3+4)= علاقة سليمة مع اللغة = سيادة لغوية كاملة.
2 - الالتزام الجزئي أو عدم الالتزام الكامل بالمعالم الأربعة (1+2+3+4) = علاقة غير سليمة كثيرًا أو قليلًا أو ما بينهما مع اللغة = فقدان السيادة اللغوية.
الأوربيون وعلاقاتهم الطبيعية مع لغاتهم
تجعل معظم أنظمة التعليم في أوربا تعلّم لغة أو لغتين أجنبيتين أو أكثر أمرًا واجبًا على كل المتعلمين، خاصة في المرحلتين الإعدادية والثانوية، لكن عملية تعلّم هذه اللغات الأجنبية في المجتمعات الأوربية لا تفسد العلاقة السليمة مع لغاتها الوطنية. أي أن هذه الأخيرة تظل هي وحدها لغات الاستعمال الشفوي والكتابي في كل ميادين الحياة في تلك المجتمعات، بما فيها استعمال اللغات الوطنية في قطاعات التدريس في جميع مراحل التعليم. وهي سياسية لغوية عكس ما هو متداول في معظم أنظمة التعليم في المجتمعات العربية المعاصرة التي تدرّس أغلبيتُها العلومَ بغير لغتها الوطنية (العربية) أي بالإنجليزية أو بالفرنسية في معاهد التعليم العالي والجامعات، فضلًا عن تدريس العلوم باللغة الفرنسية عوضًا عن اللغة العربية / الوطنية في المراحل الثانوية بالمدارس التونسية.
اللغة العربية الفصحى واللهجات العربية
يعرّف علم اللسانيات اللهجة على أنها نوع معيَّن من لغة ما، يُستعمل خاصة في الحديث بجزء محدد في بلد ما أو منطقة جغرافية أخرى. ويتمثل الفرق بين اللغات واللهجات أساسًا في الفهم المتبادل أو عدمه، فالمتحدثون باللغة الإنجليزية لا يستطيعون فهم الفرنسية إلا إذا تعلموها والعكس صحيح أيضًا. ومن ثم، فالإنجليزية والفرنسية هما لغتان مختلفتان، لأن الفهم ينعدم بين الناطقين بهما. أما المتحدثون باللهجات فيفهمون بعضهم البعض، فعلى سبيل المثال، يتحدث سكان المجتمعات العربية لهجات عربية متعددة ومختلفة داخلها وبينها. لكن يفهم عمومًا بعضُهم البعض بطريقة جيدة. ينطبق هذا على سكان المشرق العربي، من ناحية، وسكان المغرب العربي، من ناحية ثانية. ويلاحظ بهذا الصدد أن سكان المجتمعات المغاربية أكثر قدرة على فهم اللهجات العربية المشرقية من العكس. ويعود ذلك إلى بعض الأسباب الرئيسية: أ- تنحدر اللهجات العربية في المشرق العربي والمغرب العربي من اللغة العربية الفصحى. ب- يتعلم جميع التلاميذ العرب اللغة العربية الفصحى في مراحل التعليم المختلفة.
ج- أثّرت وتؤثر وسائل الإعلام الحديثة كالإذاعات والقنوات التلفزيونية وغيرها على تعلّم مواطني المجتمعات المغاربية للهجات العربية المشرقية بطريقة واسعة للغاية.
وبناء على ما ذُكر، فإن تشخيص طبيعة العلاقة بين العرب ولغتهم العربية /الوطنية في هذا المقال، يشمل جبهتين: اللغة العربية الفصحى واللهجات العربية. وبعبارة أخرى، فما هي درجة وجود العلاقة السليمة/ الطبيعية (السيادة اللغوية)، أو فقدانها بين المجتمعات العربية ومواطنيها مع اللغة العربية الفصيحة واللهجات العربية وفقًا لتعريفنا لمدلول العلاقة السليمة مع اللغات المذكورة أعــــلاه؟ أترك الإجابة للقارئ الكريم، فهي سهلة بعد الفهم الكامل لما ورد في السطور السابقة لهذا المقال، فالبنود الأربعة لميثاق اللغــة المذكورة لقياس وجود العلاقة السليمة (السيادة اللغوية)، أو فقدانها مع اللغة الأم أو اللغة الوطنية تمثل دليلاً بسيطًا وشفّافًا لمعرفة دقيقة لنوعية علاقة الناس بلغاتهم ولهجاتهم في مجتمعات العالم العربي وغيرها في الشرق والــغرب والشمـــال والجنوب.
فقدان العرب للسيادة اللغوية
من الكذب الغبي انتظار وجود علاقة كاملة سليمة مع لغة الأم أو اللغة الوطنية/العربية لدى معظم المواطنين العرب، والحال أنهم لا يلبون بالكامل المبادئ الأربعة في المعادلة (1+2+3+4) المشار إليها سابقًا. والكذب عن علاقة هؤلاء بلغتهم وصمة عار، لأنه يمس اللغة باعتبارها أعز «معلم أصيل» في هويات الشعوب. يُجمع أهلُ الذكر على الأهمية القصوى لتمسّك الشعوب بلغاتها، لأن من يخسر لغته وثقافته يكتب غيرُه معالمَ مسيرة مستقبله. وهذا ما يعبر عنه قول الكاتب دايفس “فشعب من دون لغته الأصلية ما هو إلا نصف أمة، فينبغي على الأمة حماية لغتها أكثر من حمايتها لأراضيها، إذ اللغة أمتن وأقوى حاجز حام لحدودها من الغابة أو النهر أو البحر»■