الناقد الفلسطيني د. بكر البوجي: إميل حبيبي أعاد صياغة شكل الرواية العربية

الناقد الفلسطيني د. بكر البوجي: إميل حبيبي أعاد صياغة شكل الرواية العربية

بعد حصوله على جائزة الدولة التقديرية في الآداب بفلسطين، نلتقي على صفحات «العربي» الناقد الفلسطيني الكبير د. محمد بكر البوجي، أستاذ الأدب بجامعة الأزهر في غزة، رئيس جمعية النقاد الفلسطينيين ومقرّها المؤقت غزة ورام الله، ومقرها الرئيس القدس، كما ورد في بيانات التأسيس.  هو واحد من أبناء جيل من الفلسطينيين، كانوا يغلّفون كتب الأدب الفلسطيني بأغلفة روايات نجيب محفوظ، حتى يسمحَ لهم الاحتلال بالمرور، بعد عودتهم من الدراسة في مصر من معبر رفح. وقد اتّهم البوجي إسرائيل رسميًا بسرقة التراث الفلسطيني، ابتداءً من الثوب التراثي، والنجمة السداسية، وحتى عُملة الشيكل المتداولة في إسرائيل، وبأنها تسجّل كل ذلك باسمها في «اليونسكو».

● مسقط رأسك غزة، لكن جذورك في يِـبْنَا... أنت مثقف عربي بذاكرتين واحدة واقعية، والأخرى من خيالك.
- قرية يِبْـنَا عندما هاجمها الصهاينة، اضطر أهلها للمغادرة جنوبًا، باتجاه مدينة أسدود ومدينة المجدل وغزة، في الطريق، وكان الجو حارًا جدًا، استقر معظم الناس في أحراج بيت لاهيا التي تقع شمال قطاع غزة، وعندما جاء والدي لزيارتي في قطاع غزة من السعودية، وقد ذهب إلى هناك للعمل قبل حرب 1967 ثمّ عاد زائرًا بعد ذلك، رفض زيارة قريتنا يِبْـنَا، وقال قولته المشهورة: إما أن أعود رافعًا رأسي مستقلًا، أو لا أعود بتصريح صهيوني.
ذهبنا أنا وإخوتي في زيارة إلى بيتنا بقرية يِبْنَا، وجدنا القرية مدمّرة بالكامل، المسجد مدمّر، فقط نصف المئذنة، التي لا تزال شامخة حتى يومنا هذا، لم نجد بيوتًا باقية، وجدنا بيتًا واحدًا هو بيت آل الأسمر، وهو عبارة عن بيت باطون، كانوا يسمّونه قصر الأسمر، ذهبنا إلى هناك، كان يسكنه يهود من اليمن. 
من الأشياء الجديدة في كتاباتي، أنني عملت عن يِبْنَا كتابًا لجأت فيه إلى كبار السّن، وكل من تحدثوا في هذا الكتاب ذكرتُ أسماءهم، وكانت المعلومات تتقاطع، وأثبتّها. وعملت كتابًا عن الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والتاريخية في يِبْـنَا وشهدائها منذ عام 1930م، حتى سنة صدور الكتاب، الشيء المهم، أنّني شاركت وأوعزت لبعض أهالي «يبنَا» الذين يعملون مدرّسي جغرافيا، أوعزت لهم أن نرسم خريطة قرية يِبْنَا قبل النكبة، وفعلًا اعتمدت على اثنين من أهل البلد، محاولات عدة، جاؤوا وأرفض وأعدل، إلى أن صدرت بطريقة غريبة جدًا، سجّلنا فيها كل شجرة موجودة في «يِبْنَا» قبل النكبة، وكل بيت وكل ملامحها موجودة في الخريطة، لم يرسم أحد مثل هذه الخريطة، وأشرفت عليها عندما كتبت بخطّ اليد، ثم أشرفت عليها عندما رسمت على الكمبيوتر، وأصبحت الآن، في أيدي كثير من الناس، وطَبَعْنا منها ألفًا وخمسمئة نسخة، ووزّعناها مجانًا على الناس، خريطة مثل هذه حق لكل أهل «يِبْنَا» أن يحتفظوا بها، وأن يقولوا هذا بيتي قبل النكبة، هذه بيارتي وأرضي ومزرعتي، هذا هو الوادي الذي يدخل «يِبْنَا»، هذه هي المدرسة الثانوية التي كانت، كان فيها مدرسة زراعية قبل النكبة، لأنها كانت منطقة زراعية، وأرضها خصبة من الطراز الأول، إذن الخريطة والكتاب، أهم ما قمت به في تاريخي، وأصعب كتاب أكتبه في حياتي، لأنّ الدمع كان يذرف على الحرف والورق بصدق وأنا أكتب.

أفكار جديدة
● دَرَسْت في جامعة الأزهر بمصر، ودَرَّسْتَ في معهد الأزهر بغزة، أنت ابن البنية الثقافية التقليدية تكوينًا... هل يمكن القول «وإنتاجًا»؟
- بطبيعة وجودي في مخيم الشاطئ للاجئين، كنت متدينًا حتى النخاع، ودَرَسْت في معهد الأزهر بغزة، مما زادني تمسكًا أكثر بالأفكار الدينية، ثم ذهبت إلى القاهرة ودَرَسْت في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، وكنت في هذه المرحلة متمسكًا أكثر من الحاجة بالأصول الدينية، لكن عندما أنهيت درجة الليسانس في جامعة الأزهر، وانتقلت لدراسة الماجستير في معهد البحوث بالقاهرة، بدأت الأفكار بالتغيّر.
جاء أساتذة يحملون فكرًا جديدًا، بدأت أقرأ كتبًا جديدة، بدأت البنية التحتية للفكر التقليدي عندي تهتزّ، وخاصة أنني بدأت أكتشف الأخطاء التي كنّا نمارسها ونحن شباب، مع البنية التحتية الثقافية القديمة. 
أساتذة كُثر علّموني التفكير الجديد، منهم د. يحيى الجمل، يرحمه الله، علّموني كيف أقلب الفكرةَ إلى أفكار جديدة عدّة، كيف أقرأ كتابًا جديدًا، وألخّصه، كيف أقرأ مقالات جديدة مغايرة، بدأت الأفكار التقليدية القديمة تهتزّ بعنف، درّستني في الدراسات العليا د. سهير القلماوي، ود. عزالدين إسماعيل، ود. جابر عصفور، كثير من الأساتذة، الذين ساعدوا على تحويل الفكر من إنسان متطرّف دينيًا، يهوى المشاكسات، إلى إنسان تعددت لديه الثقافات التقليدية، مع الغربية والليبرالية، مع النقد الأدبي.
حدث ذات مرة أن اشتريت مجموعة كتب من منطقة الأزبكية، ومنها كتب في الاشتراكية الماركسية، وأدخلت هذه الكتب غزّة من معبر رفح، وأثناء التفتيش سألني الضابط المصري: هل أنت ماركسي، هل أنت شيوعي؟ قلته له: لا، قال: «أنت إيه»؟ قلت: أنا أدرس النقد الأدبي، وأنا محتاج إلى أن أطّلع على كل هذه الشغلات، وأدخلت هذه الكتب إلى غزّة.
وعملت في الجامعة وبدأت أفكاري تتغير، وواجهت مشاكل كثيرة بسبب هذا الاتجاه، لكنّ إصراري على أن أكون شخصًا مختلفًا تمامًا، عن البيئة التقليدية القديمة، جعلني أكتب في النقد الأدبي، وفيما هو جديد، وأصبحت معروفًا بأنني أمثّل الاتجاه الليبرالي المنفتح، في النقد الأدبي، الاتجاه الذي يمكن أن يفكر خارج الصندوق.

عثمان جلال
●لماذا كان محمد عثمان جلال، لا غيره، موضوعًا لرسالتك في الماجستير، وأنت تبحث عن دور فلسطين في الأدب العربي الحديث؟
- رسالتي في الماجستير بإشراف د. عزالدين إسماعيل، كانت عن محمد عثمان جلال، الكاتب المصري الذي تعلّم الفرنسية في مدرسة رفاعة الطهطاوي، بمعهد اللغات، لم يكن يخطر في بالي يومًا ما أن أكتب عنه، لكن يبدو أن جامعة عين شمس كان لديها مشروع في أن تكتب عن الأدباء المصريين في مطلع النهضة (نهضة مصر الحديثة في عهد محمد علي).
طرح د. عزالدين عليّ موضوع محمد جلال، وكان في تلك الفترة عميدًا لكلية الآداب بجامعة عين شمس، طبعًا وافقت على الموضوع، وبدأت أبحث وأكتب، محمد عثمان جلال بحاجة إلى دراسات جديدة، وتعريف أكثر للجمهور العربي بهذا الإنسان، الذي مَصَّرَ المسرح الفرنسي، والحكاية الشعبية للافونتين، إلى المجتمع المصري، وهو أستاذ الشاعر الكبير أحمد شوقي.
وبناء على كتاب عثمان جلال، «العيون في الأمثال والمواعظ»، بدأ شوقي يكتب قصص أدب الأطفال شعرًا، وقدوته في هذا محمد جلال، وأريد أن أقول شيئًا جديدًا في هذا الاتجاه، ربما لم يقله أحد من قبل، هو أن جلال هو بداية الشعر الحُرّ، بداية الشعر التفعيلة، عندما نقرأ تقسيم البيت الشعري في مسرح عثمان جلال، نجده مُقَطَّعًا كما نراه الآن، في شعر التفعيلة عند صلاح عبدالصبور ونازك الملائكة وحجازي، وغيرهم من الشعراء.

بين حبيبي ومحفوظ
● إلامَ خلُص تحليلك وتقويمك لأعمال إميل حبيبي في الدكتوراه؟ 
- اتخذت من إميل حبيبي موضوعًا لرسالة الدكتوراه، بإشراف د. عزالدين أمين، في جامعة الخرطوم، إميل حبيبي فلسطيني مقيم في حيفا، وكاتب متميّز ينبغي أن نلتفت إليه جيدًا، وأقول بكل صراحة، هو الكاتب الروائي الثاني بعد نجيب محفوظ، في هذه المرحلة لم نجد في فلسطين كاتبًا تجاوز حبيبي، حتى غسان كنفاني يعدّ أقل مرتبة فنيًا من حبيبي، وكذلك جبرا إبراهيم جبرا، أقلّ مرتبة منه، ومضمونًا ليس هناك كاتب كما أرى، يعادل حبيبي، بعد محفوظ.
إن الشخصية الأفضل في تاريخ الرواية العربية، بعد شخصية سي السيد، هي شخصية سعيد المتشائل في رواية المتشائل، هذه الشخصية تعدّ من الشخصيات المهمة جدًا في الرواية العربية، وقد أخذت دراستها منّي حوالي 90 صفحة، فقط في دراسة شخصية سعيد المتشائل.
أعمال حبيبي تستحق الدراسة، تستحق لأنه كما يقول جمال الغيطاني «إنه أستاذي في توظيف التراث بالرواية العربية». عمل إميل حبيبي شيئًا غريبًا جدًا، إذ استطاع تفعيل النص العربي للراوية العربية، واستفاد من الجاحظ ومن الهمذاني، ومن كتاب العقد الفريد لابن عبدربه الأندلسي، وكتاب السيرة لابن هشام، استفاد كثيرًا جدًا، بحيث أعاد صياغة شكل الرواية العربية، مبتعدًا قليلًا عن الشكل الأجنبي الأوربي، وأصبحت الرواية لديه لها شكل عربي متميز.

هجوم ثقافي معاكس
●اتهمت إسرائيل بسرقة التراث الفلسطيني... ما هي أدلتك؟
- الباحث يعيش حالة من التفكير الغريب والمدهش، وأنا بطبيعتي لا أحبّ التقليد، أحب الشيء الجديد في أبحاثي ودراساتي وتفكيري، طرحت سؤالًا في نفسي، لماذا لا نقوم بهجوم ثقافي معاكس على إسرائيل؟ وما زلت أدعو إلى ذلك، نحن بحاجة إلى هجوم ثقافي مكثّف، في كل أنحاء الوطن العربي والعالَم على إسرائيل، نحن في حالة دفاع، ودائمًا حالة الدفاع هي الخسارة، بلا شك.
لجأت إلى العهد القديم (التوراة)، وقرأته ودهشت أن كلمة الفلسطينيين موجودة في التوراة، أكثر من سبعة وستين مرّة، وأن الصراع بين العبرانيين والفلسطينيين عمره حوالي ثلاثة آلاف سنة، ليس صراعًا منذ اليوم أو في تاريخنا المعاصر، وأدركت من خلال التوراة أن نبيّ الله داوود تعلّم من الفلسطينيين صناعة الحديد، وتربّى عند الفلسطينيين حتى أصبح صبيًا يافعًا، كان دائمًا عندهم وعند القائد الفلسطيني جالوت، هذا موجود في التوراة، وهذا جعل القائد اليهودي شاؤول يطلب منه أن يقتل القائد الفلسطيني جالوت، في مقابل أن يزوّجه ابنته.
وافق داوود وذهب ليلًا إلى مضجع خيمة جالوت وذبحه بالسيف، ولهذا أنا أنفي قضية المقلاع، فهي قصة صهيونية توراتية غير صحيحة، أنا أنفي هذه القضية بناء على التوراة، ومرّة كتبت مقالًا إلى كتَّاب القصة القصيرة في الوطن العربي، وأصبحت قصة مشهورة، وطبعت كثيرًا في مصر.
ذهب داوود ليتزوج بنت شاؤول، فقتل القائد الفلسطيني الكبير، وأخذ رمحه ودرعه إلى خيمته، ودرع جالوت كان مرسومًا عليه سداسية أشعّة الشمس، لأنه كان يؤمن بالمعتقد الفرعوني، لكنّ اليهود استطاعوا أن يقولوا إنها نجمة داوود، لكنّها ليست كذلك، هي نجمة فرعونية موجودة الآن على أعمدة الكرنك، أنا رأيتها شخصيًا، أما اليهود فقد سرقوا السداسية ونسبوها إلى الملك داوود.
أما بالنسبة لعُملة الشقلة فهي موجودة بفلسطين، هي عملة بابلية، كانت موجودة في فلسطين كنعان قبل اليهود بمئات السنين، وكان معمولًا بها في فلسطين، وهذا موجود في التوراة كثيرًا، هي الأشياء التي أخذوها من الكنعانيين ومن الفلسطينيين والفراعنة والبابليين ونسبوها إليهم، لا يوجد لهم أيّ دليل تراثي في فلسطين، بل إنهم يزرعون تراثًا لهم في فلسطين وهذا معروف وموجود في كتابي، وفي مقالاتي على الإنترنت موجود. 

ثلاثة كتب
● ما الذي جعل أستاذ الأدب واللغة يشتبك بعمق مع الموضوع الأنثروبولوجي ليخصص له ثلاثة كتب من مسيرته البحثية؟
- هو نوع من اجتهادي، في الهجوم الثقافي على البنية التحتية الثقافية الصهيونية، عملت على تجميع التراث الفلسطيني الموجود في غزة، قدر المستطاع، وهو المكان الوحيد الذي أستطيع أن أمارس فيه بحثي وعملي بهذه المرحلة، لا أستطيع الوصول إلى حيفا وبقية المدن. 
فقط قطاع غزة وسكّانه جاءوا من يافا والنقب، ومن كثير من المدن الفلسطينية في أثناء النكبة، واستقرّوا في قطاع غزة، وهذا المكان يجمع عادات ولهجات وسلوكيات مختلفة، يجمع أفكارًا بين أهل المدينة والساحل والبداوة والفلاحين، مجتمع خليط جدًا، تستطيع بكل بساطة أن تقوم بدراسة هذا المجتمع، وأن تجمع ما تستطيع. 
في هذه المرحلة أصدرت ثلاثة كتب، الأول التراث الشعبي والمواجهة، ومن أبحاثه بحث صغير مكوّن من 5 صفحات، استمرّ إعداده 3 سنوات، وأنا أقرأ التوراة، إلى أن وصلت إلى نتائج بأن إسرائيل لا تملك شيئًا في فلسطين، وأنها تحاول زرع تراث لها في البلد.
على سبيل المثال، حدّثني والدي أنه في عام 1938 رأى مجموعة من الصهاينة، يأتون إلى مقام ولي صالح في قريتنا يِبْنَا، جنوبي يافا وبحماية سيارات عسكرية إنجليزية، يحفرون حفرة بجوار المقام، ويضعون فيه بلاطة مكتوبًا عليها كلام، ثم يردمون هذه البلاطة، ويذهبون ويعودون بعد أربعة أشهر، ومعهم الصحافة بحراسة إنجليزية، ويعثرون على هذه البلاطة، فيهلّلون ويصرخون فرحين بأنهم وجدوا تراثًا لهم في قريتنا يِبْنَا، هذه القصة مؤكّدة مئة في المئة، والدي رآها بعينه، وهو ينظر من بيته في قريته.
منذ خمسين عامًا وأكثر، وهم يزرعون تراثًا حول القدس، وبعض القرى والمدن الفلسطينية. الكتاب الثاني عن العادات والتقاليد الشعبية في فلسطين، لقد كتب المستشرقون في هذا الاتجاه، لكنّ المستشرقين الذين ذهبوا إلى فلسطين قبل مئة عام، كانت كل جهودهم تنصبّ حول العلاقة بين عادات الفلسطينيين وتقاليدهم، وما جاء في التوراة، إنهم يُرجعون هذه العادات والتقاليد إلى التوراة. 
الكتاب الثالث «الأغاني الفلسطينية وأصولها في فلسطين»، فالفلاح الفلسطيني مثل أي فلاح عربي، عندما يزرع يغنّي، وعندما يحصد يغني، وعندما يعصر الزيتون يغنّي، عندما يتزوج يغني أيضًا، الساحل الفلسطيني والبحارة الفلسطينيون لهم أغانٍ وثقافة، حاولت تجميع كل هذه الأشياء في كتاب، كمحاولة للحفاظ على التراث الفلسطيني.

التجربة الأدبية في فلسطين
● الثقافات والذاكرة... جعلتهما موضوعين لصراع رصدته في كتابين مهمّين لك عن الأدب الفلسطيني.
- حاولت أيضًا، ضمن الحفاظ على الذاكرة، والهجوم الثقافي ضد الثقافة الصهيونية، وخوفًا من أن تضيع التجربة الفلسطينية هباء، ولا يلتفت إليها أحدٌ في الوطن العربي، حاولت جمع هذه التجربة الأدبيّة والثقافية والفكرية في فلسطين، منذ النكبة حتى يومنا هذا، في موسوعة اسمها «التجربة الأدبية في فلسطين»، هي ثلاثة آلاف صفحة، صدرت في 6 أجزاء بجامعة الأزهر في فلسطين، فيها أحاول قدر الإمكان أن أحتفظ بالذاكرة الفلسطينية، استطعت خلال أكثر من 10 سنوات، أن أصل إلى معظم الكتّاب والمثقّفين والأدباء والشعراء الفلسطينيين، سواء داخل الـ48، أو الضفة الغربية والأردن وسورية، بل ذهبت بالاتصال التكنولوجي إلى أمريكا وكندا والعراق، لأجمع ما تركه هؤلاء القادة الثقافيون الكبار، أمثال جبرا خليل جبرا وحسام الخطيب ويوسف الخطيب، وعدد كبير جًدا من المثقفين العرب، جمعت تقريبًا تراث أكثر من مئة أديب فلسطيني بعد النكبة، من معين بسيسو حتى أحمد دحبور، حديثًا استطعت أن أجمع أفكار هؤلاء وليس كتبًا فقط، بل أفكارهم، وكيف كتبوا هذه الكتب وكيف طبعوها ونشروها، والمشاكل التي واجهوها أثناء تأليف هذه الكتب، والمناخ الذي أحاط بهم. استطعت أن أجمع خلال 10 سنوات عبر البريد الإلكتروني، تجارب حياة، تجربة مواقف، وإن لم أجد الأديب على قيد الحياة، ألجأ إلى أبنائه وأصدقائه، واستطعت أن أجمع عددًا هائلًا من هذه التجارب، أعتقد أنها ليست سيرًا ذاتية، بل تجارب، كل فكرة من الأفكار التي طرحها الكاتب، موجودة عبر أسئلة، كنت أطرح أكثر من ثلاثين سؤالًا على الكتَّاب، وهي أسئلة أدبيّة فكرية منذ النكبة حتى يومنا هذا، أتمنّى أن يعاد طباعة هذه التجربة، في طبعة خاصة خارج نطاق قطاع غزة.

سهير القلماوي
●كيف تستحضر لنا هذا الاسم من حياتك... سهير القلماوي؟
- في حياتي كثير من الشخصيات المؤثرة، في شخصيتي وثقافتي، د. سهير القلماوي، رحمة الله عليها، كان لها طلّة خاصة، ورونق وجاذبية مميزة، هي التي علّمتني كيف أتعامل مع طلابي في الدراسات العليا، لا أتكبّر ولا أؤجل البحث لشهور عدة، كانت تأتي كل يوم اثنين لتقابلني، وتعطيني ما قرأت من رسالتي، وهذا علّمني كيف أتعامل مع طلابي بالدراسات العليا.
وبمصداقية، د. القلماوي، من أهم الشخصيات الثقافية في الوطن العربي، ولها بصمات كثيرة جدًا في الثقافة، وفي تلاميذها، وهم كُثر بالوطن العربي، أتمنّى أن أكون أحد هؤلاء التلاميذ، كانت دائمًا تحثّنا على القراءة والاطلاع، وأن يكون لنا رأي خاص في النقد الأدبي، وألّا يكون النقد غيبيًا، أو من الذاكرة، عليك أن تقرأ من النص، وعلى النصّ أن يبقى أمامك، حتى تتكلم في النقد الأدبي، وهي أيضًا من رسّخ في ذهني كتابة التراث القديم، هي لها كتاب عن حكايات جدتي، وهذا جعلني أكتب حكايات الأدب الشعبي في فلسطين، وأن أضع مقدمة أو دراسة أنثروبولوجية للحكاية الشعبية، التي تدعو إلى المقاومة والحفاظ على الأرض، والحنين لها، والصمود في وجه العدو.
ود. القلماوي هي أول من كتب عن «ألف ليلة وليلة» في الأدب العربي، في كتابها المعروف، وتحدّث عن قضية ثورة المرأة في الوطن العربي، المرأة في «ألف ليلة وليلة» ليست ضعيفة، بل هي التي سحرت الملك، وجعلته يخضع لها، ويستمع لها أكثر من ألف ليلة وليلة، وهي تحكي له القصص، وهي تعالجه من العُقَد النفسية التي كان يعانيها الملك. 

تلفزيون فلسطين
● أربع سنوات من العمل في تلفزيون فلسطين، ولم تكتب كتابًا في الإعلام؟!
- بعد اتفاقية أوسلو وعودة بعض الفلسطينيين إلى بلادهم، في الضفة الغربية وقطاع غزة، أسّسوا تلفزيونًا فلسطينيًا، وأنا من طبيعتي لا أحب الصمت ولا السّكوت، أحب دائمًا الحركة، توجهت إلى التلفزيون، وطرحت عليهم أن أعمل متبرعًا في هذا الاتجاه، وبالفعل عملت برنامجًا مع الأدب والفكر، واستمر سنوات طويلة، دون أن أتقاضى قرشًا واحدًا، كان هدفنا بناء دولة ونشر الثقافة والوعي الحُر، ونشر ثقافة مضادة للثقافة الصهيونية، لم يكن هدفي يومًا ما أن أجريَ خلف المال، كان راتبي في الجامعة يكفيني، بل كنت أدفع من جيبي الخاص لتلفزيون فلسطين، وقمتُ أيضًا بتدريب بعض الزملاء في التلفزيون على الكتابة اللغوية والإعداد.
وقد جعلني غياب اللغة العربية الفصحى في التلفزيون أفكّر جيدًا، أيضًا، في إنشاء قسم بجامعة الأزهر، اسمه قسم اللغة العربية والإعلام، وهو الأول من نوعه في الوطن العربي، الطالب يتخرّج وهو يمتلك سلاحًا قويًا اسمه سلاح اللغة العربية، إضافة إلى المادة الإعلامية التي يقدمها، ومعظم الخريجين في الدفعات الأولى اشتغلوا في تلفزيون فلسطين، والإذاعات والصحافة الفلسطينية، وبالطبع ليس من حقي أن أؤلف كتابًا عن الإعلام، لأنه ليس تخصصي، وإنما كنوع من الاجتهاد وحبّ المساعدة وتقديم الخدمات، أصبحت لديّ فكرة، لكن كتبت شيئًا وحيدًا، كنت أول من كتب في إدارة الحوار الإذاعي بقطاع غزة، في تلك الفترة تقريبًا سنة 2000، لم يكن أحد يكتب في فنّ الحوار، فأنا كتبت في فن الحوار ضمن كتابي المعروف الثقافة العربية، وبعد ذلك بدأ الشباب يكتبون عن هذا الفن. 

الجائزة التقديرية
● جاءتك الجائزة التقديرية تسعى، بعد سنوات طويلة من انشغالك الدؤوب، بالبحث عن عوامل القدرة داخل الأدب الفلسطيني.
- حقيقة، لم أفكّر يومًا ما في هذه الجائزة، كنت أعمل فقط من أجل الوطن، وتثبيت حالة ثقافية وحراك ثقافي فلسطيني وعربي، الآن بعد المعاش والاستقرار النفسي، بدأت أفكر بالحصاد، وهو عبارة عن جائزة، فمن حقّي أن أتقدّم كأيّ مواطن وكاتب عادي، للحصول على جائزة، وفعلًا تقدّمت هذا العام بطلب، مثل حوالي مئة وعشرين أديبًا ومفكرًا فلسطينيًا، للمنافسة على جائزة الدولة التقديرية، تقدّمت بكتابي موسوعة «التراث الشعبي الفلسطيني... نفحات جذور شعبية»، وليس الهدف ماديًا بأي حال من الأحوال، لكننا ننظر إلى احترام معنويّ لا أكثر، الآن شعرت بالراحة، وبأن اجتهادي طوال السنوات السابقة تم تتويجه بجائزة الدولة التقديرية.
● لماذا قررت أن تؤسس جمعية للنقاد الفلسطينيين؟ ألم يكن اتحاد الكتّاب كافيًا؟
- أنا دائمًا أحب الجديد، وأحب أن أصنع شيئًا جديدًا، أسمع وأقرأ عن جمعية النقاد في مصر والأردن والمغرب، وكثيرًا من أنحاء العالم، لماذا لم يكن لدينا جمعية نقاد؟
هذا السؤال الذي طرحته على نفسي، وتشاورت كثيرًا في فترة زادت على 3 سنوات، مع زملائي في رام الله ونابلس وجنين، وفي غزة وحيفا وعكا، كيف ننشئ هذا الجهاز الثقافي، الذي قد تكون له شخصية نقدية وفكرية مميّزة عن اتحاد الكتاب، فاتّحاد الكتّاب يؤدي دوره، مثل أيّ اتحاد كتّاب في العالم، لكنّ جمعية النقاد لها دور مميّز، ومختلف تمامًا.
وبعد تجهيز الأوراق الذي استمر 3 سنوات، أخذنا موافقة من وزارتي الثقافة والداخلية في رام الله وغزة، وبدأنا العمل، من رام الله يوجد أعضاء، ومن جامعة النجاح ووزارة الإعلام، في كل مكان لدينا زملاء في هذا الاتجاه، جمعية النقاد الفلسطينيين، هي جمعية فلسطينية مقرّها الأساسي القدس، لكن مقرّها الحالي رام الله وغزة.

أدب الداخل
● ما الذي يميّز أدب الداخل وأدب المنفى الفلسطيني، وأيهما في رأيك كان الأقدر على التعبير عن أزمة الإنسان الفلسطيني؟
- هذا الطرح بسيط جدًا نظريًا، لكنّ الشتات الفلسطيني، أكبر من أن يقسّم بهذه الطريقة، لدينا داخل الـ48، وفي غزة والضفة الغربية، وأوربا والدول العربية، وفي العالم الإسلامي، هذه الأماكن، التي ينتشر فيها الأدباء والمفكرون والشعراء الفلسطينيون، كل يعبّر بحالته من خلفيته الثقافية والدينية، لكن الأقدر على التعبير، هم الذين عايشوا النكبة، مثل غسان كنفاني وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وفدوى طوقان وراشد حسين وسليمان دغش، واستمروا في التعبير عما رأوه، وما يتوقّعونه في المستقبل من ويلات، الأدب الفلسطيني في الداخل، لا يختلف كثيرًا عنه في المنافي، الموضوع واحد، هو فلسطين، لكنّ زوايا الرؤية تختلف من مكان إلى آخر.
لقد استطاع كنفاني، الذي خرج من حيفا وعمره 12 عامًا، أن يعبّر بصدق عن الحالة الفلسطينية، وعن الدراما والمأساة الفلسطينية، لأنّه عايشها بشخصه، وبأهله وجيرانه، وعايشها كذلك في كل مكان توفيق زياد، استطاع أن يعبّر عن ذلك شعرًا راقيًا ورائعًا، لدينا أهم شعراء المقاومة؛ الثلاثة زياد وسميح ودرويش، وأرى ويرى كثير من النقّاد أنهم أهمّ شعراء مقاومة في العالم، الشاعران معين بسيسو وهارون هاشم رشيد استطاعا من غزة، أن يعبِّرا بصدق وبإخلاص.
في كل مكان الأدب الفلسطيني في الداخل والخارج موضوعهم واحد، أولًا وآخرًا هو فلسطين، لكن يبدو، كما أرى ويرى غيري من النقاد، أن الداخل أكثر مساسًا بالحالة النفسية، والحالة التي يتم فيها تغيير الواقع على الأرض داخل فلسطين، فهم أقدر الناس على التعبير عن هذه الحالة، وأعتقد أن لدينا شعراء كبارًا بمعنى الكلمة، داخل الـ48، لدينا حنّا إبراهيم وحنّا أبوحنا وتوفيق زياد وسميح القاسم ومحمود درويش وحسين مهنا وراشد حسين، لدينا شعراء وروايات وقصص قصيرة كبيرة جدًا، ولها قيمة أدبية وفكرية وتوثيق.
أدب الداخل هو عبارة عن حالة من التوثيق لكلّ ما يحدث وحدث في فلسطين منذ الآن حتى يومنا هذا، قد يكون أدب الخارج فيه توثيق، لكنّ الذي عايش البلد وعايش النكبة هو الذي يوثّق، أما بعد الجيل الخامس والسادس، فأعتقد أنه يتكلم عمّا سمعه من آبائه وأجداده، يتكلم عمّا يقرأ عن فلسطين فيوثّق حالة مختلفة تمامًا في الأحداث التي تحدُث اليوم في محاولة العالم كله بعملية سحق القضية الفلسطينية وسحق الإنسان الفلسطيني الصامد على أرضه، والصامد في كل مكان، الإنسان الفلسطيني في كل مكان هو مقاوم من الطراز الأول، سواء كان في الداخل أو الخارج■