قصة قصيرة: عيد الميلاد سعيد سالم
قصة قصيرة: عيد الميلاد
واقع الأمر أنه لم يسب أمي. لقد قال لي بالحرف الواحد: - أتظن أنني أشتغل عند أهلك؟ ولكني لم أستطع النوم ليلتها.. فاقت حيرتي طاقة سنواتي التسع على التفكير، إذ لم أستطع أن أفهم لماذا يهينني إنسان ويخاطبني بهذا الاستعلاء والاحتقار. كل ما فعلته أنني ناديته بعفوية. - بس.. بس... بس لم أجد وسيلة غير هذا النداء لألفت نظره إلى وقوفي الطويل أمامه ومعي العينة دون أن يلتفت إلي رغم رؤيته لي لم أكن أعرف اسمه أو درجته الوظيفية حين طلبت منا المدرسة تقديم شهادة طبية تفيد بخلونا من البلهارسيا والانكلستوما. كان يجلس في نهاية المعمل الأميري العام يدخن سيجارة، وكنت واقفا أمام شباك العينات. حين قال لي تلك الكلمات شعرت بكياني يرتج بقوة وخفت منه خوفا شديدا. كان ألمي عظيما ولكني لم أعرف ماذا أفعل معه، فقد حرمت علي أمي مجادلة الكبار وأوجبت علي احترامهم وطاعتهم. سحب من يدي العينة بعنف وألقى بها في الحوض وعاد إلى مقعده وأخذ يهمهم بكلام غاضب لم أسمعه.. وانصرفت. كنت أمشي شاعرا بالدماء تنزف من قلبي الصغير دون أن أجد سبيلا لوقف هذا النزف. وفي المنزل لم أعرف كيف أوجه السؤال إلى صورة أبي الراحل. - لماذا أهان؟ في لحظة كومض البرق رأيته يبتسم لي من داخل إطاره الفضي. مازلت أذكر معالم تلك الابتسامة بمكوناتها الدقيقة. لم تكن تنم عن إشفاق أو مودة بقدر ما كانت تنم عن طمأنينة توحي إلى النفس بثقة راسخة ما لبثت شحناتها الغامضة أن انتقلت إلى روحي فاستقرت بها. في هدوء سحبني الأستاذ شنواني من الفصل. أعطاني قرشين أجرة المواصلات ووصف لي مكان النادي الذي تقام به مسابقة المدارس لسباحة المسافات القصيرة. شد يدي مودعا وهو يؤكد لي أني سأفوز بالبطولة. تعجبت لطيبة أستاذي وقوة يقينه الغريبة. أهمل زملائي المرشحين للمسابقة جميعا وجاء يبحث عني وقد اختفيت داخل الفصل غير عابئ بالاشتراك في المسابقة التي يتقاتلون عليها كل عام. في النادي أصابني ارتباك شديد، فهي، المرة الأولى التي أرتاد فيها محفلا اجتماعيا بهذه الفخامة والأبهة. بصعوبة بالغة استجمعت إرادتي واهتديت إلى مكان السباق حيث أبلغني المختصون بموعده. لم أجرؤ على الانتظار في أي مكان من الأماكن العديدة المتناثرة بأرجاء النادي والتي يقوم على خدمة روادها رجال يلبسون الأزرق والأصفر والأحمر، ويقدمون لهم الطلبات مصحوبة بانحناءة واضحة لم أتبين سببها. انتظرت أمام حمام السباحة. جلست أرقب رواد النادي وكأنني أشاهد قوما من كوكب آخر لا يتحدثون اللغة التي أتحدث بها. لم يعبأ مخلوق بوجودي على الإطلاق، ولا حتى الطلبة المشتركون في السباق من المدارس الأجنبية والذين كانوا يرتدون ملابس رعاة البقر. في غرفة الملابس تحدث بعضهم بالفرنسية. لم أشعر بقدر من المساواة معهم أبدا إلا بعد أن خلعنا جميعا ملابسنا وبقينا بلباس الاستحمام.عندما رأيت أبي شعرت بشيء من الاطمئنان فسألت نفسي بصوته الذي لم أسمعه: - لماذا تخاف يا ولد من هؤلاء الناس.. أليسوا بشرا مثلك؟ حمت حولهم مرة ثانية. سمعتهم يطلبون أطعمة لم أسمع يوما باسمها فازداد خوفي منهم وانسحبت بعيدا على استحياء. حين أطلقت إشارة السباق وجدت نفسي منطلقا في الماء كطوربيد بحري كاسح، وكانت أمي تحتل ذاكرتي في تلك اللحظات وهي تدعو لي قائلة "ربنا يحرسك". في لمح البصر رأيت حال الدنيا ينقلب أمامي إلى النقيض، فالجميع أحاطوا بي وراحوا يقبلونني ويلتقطون لي الصور الفوتوغرافية ويمطرونني بعبارات التهنئة لفوزي ببطولة السباق. وحين عدت إلى بيتي القابع في حارة ضيقة بمواجهة البحر، كانت سعادتي تفوق الوصف بالمرة الأولى في حياتي التي أذوق فيها طعم الانتصار، لكن شعورا غائرا في أعماقي كان يشوب فرحتي.. لقد كنت خائفا. أراسل فتاة فنلندية جميلة في مثل عمري، أتواصل معها بمخلوقات الله الأخرى عبر المحيطات، فملكه يستهويني باتساعه وغموضه وسحر عظمته. متعتي بالغة وأنا أكتب لها بالإنجليزية فتقول لي إن لغتي رائعة وتفوق لغتها بكثير. تأخرت خطاباتها زمنا طويلا وكنت أرى الساعي يسلم الخطابات لبعض الطلبة، ويوما سألته: * إلم يصلني خطاب من الخارج يا عم منعم؟ - لا أعرف.عندك مكتب البريد بالكلية. أخاطبه مخاطبة العم. أحبه وأتعاطف مع شيخوخته التي لم تحظ بالراحة. لماذا يعاملني بهذا الجفاء؟ ذهبت إلى مكتب البريد فوجدت خطابين يحملان اسمي وقد وصل أحدهما منذ أسابيع. عدت إليه أسأله بحيرتي نفسها أمام الرجل الانكلستومي البغيض. * لماذا لم تحضر لي رسائلي كبقية الزملاء؟ - لأن يدك مغلولة هكذا أطلقها صريحة في وجهي بلا حياء. أما الحقيقة فإن يدي أ تكن يوما مغلولة، وإنما كانت فارغة رغم أنفي دائما فارغة لهذا دهشت، ثم تعجبت لدهشتي التي لا تنتهي دائما إلا بالشعور بالخوف، لكني لم أكن خائفا هذه المرة من عم منعم، بل كنت خائفا من أشياء أخرى. قرب الفجر انتفضت من فراشي مذعورا لا أصدق عيني وقد سال من فمي لعاب كثير. رأيت منعم يقف أمامي. يضحك مقهقها بشدة يهتز معها جسده النحيل، فتتساقط من جيوبه ومن طيات ملابسه المهترئة مئات الجنيهات ويتساقط معها جلد وجهه وبعض من ضروسه ثم يصرخ في وحشية قائلا: - أكنت تظنني فقيرا يا دكتور؟ حين اقترن خوفي بضياع فرحة العمر ورعشة القلب وصفاء الأيام، رأيت الحياة شيئا مفزعا لا يطاق، تفوق قسوته على الروح بشاعة انشطار جسدي بفعل قنبلة من قنابل الجبناء. أودت بي النكسة إلى لهيب سيناء. كنت أتحرق شوقا إلى الانتقام من هؤلاء الأنجاس الذين يستحلون لأنفسهم اغتصاب الأرض والحياة والتربص بالحوامل وتكسير أذرع الأولاد وإلقاء أصحاب الدار في السجون. بعثت بخطاب إلى عادل أذكره بأيام طفولتنا الرائعة حين كنا نصطاد السمك معا ونلعب الكرة في الزقاق ونذاكر الدروس في حديقة الملك. قلت له إن "العادل" اسم من أسماء الله الحسنى، ولهذا فأنا على يقين من انتصارنا على الصهاينة. لم أكتب خلال فترة تجنيدي إلا لثلاثة أمي وحبيبتي وصديق طفولتي الذي يقول لي في كل خطاباته إنه يرى العبث يسود أرجاء الدنيا، وبعد ذلك طالت غيبتي، وقال صهري لعادل "الذي يفوقني علما ومالا ووسامة ويعلم ما بيني وبين حبيبتي": - سوف لا أتكلم مع أحد بهذا الشأن إلا بعد حصولها على البكالوريوس. انصرف عادل سعيدا يحدوه الأمل في اغتصاب أرضي وحياتي وطمأنينتي وخوفي. وفي اليوم التالي تركت حبيبتي أوراق امتحاناتها بيضاء ناصعة، فلم تخط بها حرفا واحدا حتى تضمن رسوبها عن جدارة، لحين عودتي إليها. وفي تمام الساعة السادسة من مساء الخامس من نوفمبر عام 1973 تحقق يقيني ثم تزوجنا فتحقق للمرة الثانية. لقاء مقابل مادي كبير وافقت على العمل كمستشار بمؤسسة دوائية عالمية. اشترطت علي رئيس المؤسسة الاستعانة بزميل لي كنت أعلم أنه بحاجة ماسة إلى عون مادي عاجل ليواجه به أزمة طاحنة ألمت بحياته فجأة. وكانت بداية العمل جولة طويلة في أوربا. قبل إقلاع الطائرة بقليل ظهرت عقبة إدارية مفاجئة تتعلق بجواز سفري إذ كان يخلو من تأشيرة تفيد بانتهاء خدمتي العسكرية. ثار الرئيس على المسئولين بالمطار إذ تجاوزت سني تلك المرحلة بعدة أعوام، واتهمهم بالبيروقراطية والتعنت. سافرت البعثة بدوني على أن ألحق بهم بعد استكمال إجراءاتي. بعد مرور يومين ساور القلق الرئيس فراح يجري اتصالاته من لندن بمقر مؤسسته متعجلا قدومي، حين قال له زميلي بابتسامة عرفت فيما بعد أنها كانت صفراء اللون: - لماذا تعقدون كل هذه الأهمية على قدومه بينما يمكنكم الاستغناء عنه بوجودي؟ عندما لحقت بهم في فرنسا انتحى بي الرئيس جانبا وقال لي بأدب شديد في لهجة تشبه الأمر: - اسمح لي لقد أعفيت زميلك من العمل معنا مستقبلا. في رحلة العودة تعمدت أن أجلس إلى جواره في مقعد الطائرة. كنت في غاية الحزن لأجله والرثاء لحاله بقدر ما كنت في غاية الذهول لهذا السلوك من جانبه، أما الغضب فقد أجلته. خيل إلي أنه سينهار على مقعده لحظة مواجهته بتنازله عن إنسانيته بلا مقابل، لكنه ابتسم ببرود قائلا: - صدقني.. لم أكن أقصد شيئا يسيء إليك. حين صافحني شعرت ببطن صرصار كبير خارج لتوه من بالوعة عفنة يزحف في لزوجة على يدي، فكان شعوري بالخوف ممتزجا بشيء من التقزز. ويوم عاد من العراق محفوظا في تابوت خشبي بلا تقرير طبي يفيد وفاته، بكيت عليه وعلى عروستي ودنياي. رن جرس التليفون ذلك الرنين الطويل المتواصل، المبشر المنذر، سمعت نسمة الفجر دقات قلبي المتلاحقة، المحيرة بين الرجاء واليأس، رفعت السماعة فسمعت صوته الشاب يتفجر حماسا وحمدت الله. يحدثني من "حفر الباطن".. اطمئن يا خالي. أوشكت مهمتنا المريرة على الانتهاء.. سنعود سالمين بإذن الله. بعد أن وضعت السماعة هاجت في كياني ذكرى أمه الراحلة. مصطحبا طفلي الصغير، مررنا - قبل عامين - أمام المستشفى. كان مساء حزينا صامتا، وبدا المستشفى تحت أضواء قناديله كبقعة من الخوف هائلة، حين سألني ابني ببراءة: - ألن نزور العمة نادرة يا أبي؟ لم أكن قادرا على ذلك. عاجز أنا عن رؤية شقيقتي ذات الوجه الجميل والخلق الأجمل، وهي تصارع المرض اللعين. صممت ألا أزورها إلا في بيتها بعد خروجها من المستشفى. قلت له: - قريبا إن شاء الله سأشتري لك باقة من الورد وأصحبك إلى منزلها لتقدمها لها. وحين رحل ذلك المساء الغائم ليفسح الطريق الأزلي أمام فجر جديد.. ماتت نادرة. اليوم أبلغ الثامنة والأربعين.. متأملا في هدوء أرقب انكماش عضلاتي وشهواتي وفتور طاقتي على العمل. أعرف جيدا أن ما بذلته من جهد مضن خلال تلك الأعوام قد أرهقني تماما، ورغم هذا فمعظم أحلامي لم تتحقق.. وعزائي في هذا أنني لم أفقد حتى اليوم دهشتي من الأشياء، فيما عدا الموت والرزق و.. بس بس، والتابوت العراقي ويقين الأستاذ شنواني، وكأس البطولة وخط بارليف، وورقة الامتحان الفارغة من الإجابة ودعاء أمي وباقة ورد لنادرة، وصوت ابنها وهو يحدثني عن الخراب والدمار وآبار البترول المشتعلة والنساء اللاتي اغتصبن، والأطفال الذين ماتوا جوعا وزميل مددت له يدي، فما معنى أن يتخلى إنسان عن نفسه.. فيكبر ابني وأراه يراسل الأصدقاء هو الآخر عبر المحيطات فأتأمل بكل ما أوتيت من قدرة على التركيز هذا العالم المرتبك الذي ينتظره وأتساءل ترى هل ينجح في مواجهته؟ جاء اليوم يسألني: - أبي.. لماذا تعيرني صديقتي الألمانية بأنني من العالم الثالث.
|
|