حسن فتحي شيخ المعماريين العرب في القرن الـ 20

حسن فتحي شيخ المعماريين العرب في القرن الـ 20

إنه المهندس المعماري ومخطّط المدن العربي المصري الكبير؛ مؤسس المدرسة المعمارية العربية الحديثة، ومدرسة «تكنولوجيا المعمار المتوافقة والمتكاملة» في رؤية شملت كشوف علوم البيئة والجغرافيا والتاريخ والاجتماع، والثقافة المركّبة (اللغة والعقائد والتكوينات الاجتماعية والموسيقى والتشكيل والسلوك) لبناء  «الموطن الإنساني» في توافق مع كلّ من بنية الإنسان النفسية والذهنية والسلوكية، وعناصر البيئة الطبيعية، والميراث الثقافي ومتطلّبات التطور الحضاري للناس (أصحاب الموطن وسكانه)، سعيًا إلى استعادة التوافق بين الإنسان وبيئته الطبيعية والاصطناعية، أي البيئة بمعناها الحضري والاجتماعي التي يشيّدها الإنسان ليسكن فيها ويعمل ويتواصل مع الآخرين، ويرفّه عن نفسه. 

تلك هي الرؤية التي تطورت عبر تطوير حسن فتحي لمفاهيمه في الهندسة المعمارية وتخطيط المدن أو المناطق السكنية الحضرية، التي منحته شهرته في مصر والعالمين العربي والإسلامي، وفي الغرب أيضًا، والتي أسبغت عليه لقب «شيخ المعماريين» في القرن العشرين، وأفضل مهندسي عصره، و«فيلسوف العمارة المتوافقة في عصرنا». 
كانت له وجهة نظر خاصة ترتكز على تراث أمّته، وتستفيد في الوقت نفسه من إنجازات الآخرين. فالبناء عنده لم يكن مجرّد جدران وسقف، بل كان حياة وحضارة، وتراثًا لم يندثر، لا تزال روحه حية، وإعدادًا جيّدًا لمستقبل متواصل مع هذا التراث تواصلًا جديًّا في غير انقطاع.

من الجمالية إلى باريس
ولد حسن فتحي في 23 مارس عام 1900 بالإسكندرية في أسرة من بسطاء الموظفين والتجار، وانتقل مع أسرته في طفولته إلى القاهرة ليقيم في حي الجمالية العتيق، الذي ظلّ يسكنه طوال حياته، ودرس في المدارس الحكومية المدنية بعد أن التحق بأحد الكتاتيب في طفولته، واستطاع حفظ سبعة أجزاء من القرآن الكريم.
تخرّج فتحي في مدرسة المهندسخانة (كلية الهندسة) بجامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن) عام 1925. 
وبعد التخرّج عمل مهندسًا بإدارة البلديات في وزارة الداخلية حتى عام 1930، وتم تعيينه أوّل معيد مصري، وأول عضو مصري في هيئة التدريس الحديثة بمدرسة الفنون الجميلة. 
في عام 1930 أوفدته الجامعة في بعثة إلى باريس للحصول على الدكتوراه من جامعتها، وهناك اكتشف توافُق العمارة الغربية التقليدية مع الموروث الثقافي السائد ومتطلبات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والترفيهية، واكتشف أيضًا أن للعمارة الإسلامية الموجودة في مصر تاريخها الخاص، الذي انقطع في أواخر القرن التاسع عشر، فبدأ كشفه التاريخي للأصول الفنية للعمارة الإسلامية، بدءًا من مواد البناء الأوّلية الطبيعية (الحجارة المنحوتة والصلصال والطَّفلة والأخشاب) إلى التصميم العام للمباني (المساكن ودور العبادة والقناطر، والمباني العامة... إلخ).

قرية القُرنة... مشروع لم يكتمل
في عام 1937 وضع حسن فتحي أول تصميم للمباني الريفية من الطين المخلوط بالقشّ (الطوف)، وشرع في الإعلان عن فلسفته بضرورة نشر هذا النمط من المساكن. وفي عام 1941 دشّن أول مجموعة من هذه المباني في حي بهتيم بشمال القاهرة. وتدّرج فتحي في كلية الفنون الجميلة حتى وصل إلى الأستاذية، وصار رئيسًا لقسم العمارة بها، لكنّه انشغل بالتجول في أنحاء مصر والعالم العربي، لكي يستنبط من المباني أصول تصميم وتنفيذ المعمار المحلي، ولم تكن مخطوطات التراث المعنيّة بهذا النوع - إن وجدت - معروفة آنذاك.
وكان عليه أن يكتشف موهبته في الواقع العملي القائم بقرى الصعيد والدلتا، وفي مباني القاهرة الفاطمية والمملوكية، وفي مدن رشيد والإسكندرية ودمشق وجدة وصنعاء وتونس وغيرها. 
في عام 1946 تم انتدابه من كلية الفنون الجميلة إلى مصلحة الآثار، ليتولى تصميم وتنفيذ قرية جديدة لسكان قرية القرنة المقابلة لمدينة الأقصر، والتي تم تشييدها فوق جبل القرنة لإنقاذ ما تحت بيوت القرية القديمة من مقابر فرعونية ينهبها سكان القرية ويبيعونها لتجار الآثار. ووضع فتحي أول تصميم كامل للقرية بمنازلها ومرافقها، واستدعى زميلًا قبطيًا ليضع تصميم الكنيسة في القرية.
ورغم النجاح العلمي والفني المدوّي للمشروع عالميًا؛ نظرًا لتشييد مبانيه بالمواد الأوّلية المتاحة في البيئة المحلية، وفقًا لتصميم مستوحى من بيوت بدو وفلّاحي صحراء مصر الغربية والصعيد الأعلى، حيث قاومه سكان القرية القديمة ولصوص الآثار، بدعم من تجار الآثار الأجانب والمصريين في القاهرة، ومعاونيهم من الأسرة المالكة والموظفين، وانضم إليهم عدد من أساتذة كلية الهندسة والمقاولين الذين رأوا أن نجاح «فلسفة» فتحي المعمارية سيقضي على مصالحهم؛ فأهملته الحكومة، وتعرّض للاضطهاد في كلّيته، وطلب إحالته إلى التقاعد.

المشكلة الإسكانية من وجهة نظر معمارية
كان فتحي يرى أن أهم مشكلات المعمار والإسكان في الدول الفقيرة كمصر تكمن في الفوارق الرهيبة بين القدرات المادية والدخل السّنوي للأهالي وتكاليف البناء، مما يؤدي إلى عدم القدرة على بناء العدد الكافي من المساكن التي يحتاج إليها أفراد المجتمع، فيحظى بالمساكن مَن يملكون تكاليفها، وتبقى الأغلبية الفقيرة بلا مأوى، إلّا الأكشاك أو الخيام أو التكدس كل 10 أفراد في شقة من حجرة واحدة وصالة، مما يؤدي بدوره إلى مشاكل اجتماعية ونفسية لا نهائية. 
وكان يرى أن الإصرار على حل المشكلة بالمساعدات المالية التي تُمْنح للأهالي عن طريق الحكومات أو الهيئات الدولية لن يحقق النتيجة المرجوّة، كذلك لن تكون ميكنة البناء واستخدام المباني الجاهزة أو الطرق الغربية في البناء حلًّا، نظرًا لارتفاع التكلفة.

من «التشجيعية» إلى تكريمات عربية وعالمية
في عام 1954 أرسلته منظمة اليونسكو إلى أثينا، ويذكر أنه أقام في أقدم حي بأثينا، هو حي البلاكا، ضمن أعضاء لجنة أبحاث «مدينة المستقبل» وبعد 4 أعوام قابله الرئيس جمال عبدالناصر في أثينا، وطلب منه العودة إلى مصر، وفي العام التالي مُنح جائزة الدولة التشجيعية عن مشروعه قرية القرنة؛ وفي عام 1963 عمل مديرًا لإدارة تخطيط الإسكان بوزارة البحث العلمي، وبدأت جهات عدّة تكلفه بتصميم وتنفيذ منشآتها، فصمّم ونفّذ نحو 39 موقعًا ما بين مسجد ومسرح ومعهد ومنزل خاص.
وفي عام 1969 كلّفته المملكة العربية السعودية بالإشراف على مشروع - عبر الأمم المتحدة - لإعادة تعمير مدينة جدة، وفي العام نفسه حصل فتحي على الجائزة التقديرية في الفنون، وأصبح رئيسًا لمجمع الدائرة المستديرة الدولية للنظر بإعادة تخطيط وعمارة القاهرة في عيدها الألفي. 
وفي الأعوام التالية كلّف بتصميم قرى النوبة الجديدة ونفّذها، وقرية باريس بالواحات التي نفّذ معظمها، ثم توقّف المشروع تحت ضغط المهندسين والمقاولين والموظفين مرة أخرى، واستدعته إحدى الروابط الإسلامية بالولايات المتحدة لكي يضع وينفذ تصميم «دار الإسلام» بولاية نيو مكسيكو، ومن هذا التصميم، تم استلهام تصميم ضواحي مدينة سانتافي بولاية كاليفورنيا، وغيرها في غرب وجنوب الولايات المتحدة الأمريكية. ثم استدعته حكومة العراق لكي يصمّم قرى وادي المسيب الكبير وضواحي بغداد الجديدة، وحكومة باكستان ليصمم وينفذ ضاحية كوارنجي بمدينة كراتشي. أصبح فتحي زميلًا في الاتحاد الأمريكي لمهندسي المعمار، وفي عام 1977 منحه الرئيس أنور السادات الدكتوراه الفخرية في عيد الفن، وتم تكليفه من جديد بوضع تصميم رئيس للقرى الجديدة في الأراضي المستصلحة، وفي العام نفسه أسّس ورأس المعهد العالي للتكنولوجيا، ومنح عدة جوائز وشهادات فخرية من الهند وسويسرا والسويد وفرنسا والجامعات المصرية، واختاره الاتحاد الدولي للمعماريين «شيخًا للمعماريين في القرن العشرين».

فلسفة فتحي المعمارية
كان فتحي يرى أن المعمار، سواء كان للسكن أو للعمل أو للعبادة أو للترفيه، ينبغي أن يكون «متوافقًا مع بيئته» وفسّر البيئة بأنها طبيعة من صنع الخالق تمدّنا بالمواد الأولية، وترشدنا إلى إدراك المناخ والأشكال الأساسية التي تنطبع في أذهان الناس، وتساهم في تشكيل تصوّراتهم عن العالم. كما أن البيئة «طبيعة اصطناعية» نضيفها نحن بأنشطتنا المختلفة إلى الطبيعة الأصلية من عقائد وعادات وعلاقات اجتماعية، وأنماط في السلوك والعمل والّلهو والنوم والأكل... إلخ، فنحوّلها إلى «موطن» على شكل قرى أو مدن. 
ويرى فتحي أنه لكي يتوافق الإنسان مع بيئته الأصلية الطبيعية التي صنعها الخالق، والتي نشأنا فيها، فلا بدّ أن يستخدم موادّها الأولية استخداما مستندًا إلى العلم المتطور، بحيث يحافظ على معالمها وخصائصها الرئيسة، وأن يبدع التصميمات المتلائمة مع تكوينه العقائدي والنفسي والثقافي، ومع سلوكياته وأساليبه في ممارسة أنشطته، وذلك حتى يتمكّن من مواصلة الإبداع وتعمير الأرض، وهما أبرز تكليف من الخالق للإنسان.
وشدد فتحي على أن فرض أشكال وأنماط معمارية من قبل الاستعمار على أمم الشرق والجنوب، من أخطر عوامل تخريب البنى الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وتعجيزها عن التطور الخلّاق، وضرب مثالًا بعمائر الخرسانة والألمنيوم والزجاج في أجوائنا الحارة التي تضاعف من تأثير الحرارة وتساعد على تمزيق العلاقات الاجتماعية، ثم تحتاج إلى طاقة هائلة، نبددها في التبريد ثم في التسخين، وإلى إمكانات ضخمة نبددها في معالجة الآثار الاجتماعية والنفسية السلبية التي تتركها عمارة «غير متوافقة» مع التكوين النفسي والخلقي والفكري للناس. ويطرح المهندس حسن فتحي حلولًا لهذه المشكلات، منها قيام الأهالي بالبناء بأنفسهم لأنفسهم عن طريق التعاون التقليدي، لا الجمعيات التعاونية لذات الموظفين البيروقراطيين، وإخضاع علوم الهندسة والتكنولوجيا الحديثة لاقتصاديات الأهالي ذوي الدخول شديدة الانخفاض، بما يسمح بإيجاد مسكن يتفق مع هذه الدخول.
ويؤكد فتحي أن ذلك يستلزم إيجاد النظام الاجتماعي “إداريًا/ ماليًا»، بما يسمح باستمرار فاعلية النظام التعاوني التقليدي في الظروف الحالية غير التقليدية، ذات النظام الذي بطلت فاعليته قبل الأوان بالنسبة للغالبية العظمى من الأهالي من جراء عمليات التحول الاجتماعي والاقتصادي التي شملت العالَم المُصَنّع، وجَرَّتْ معها العالَم غير المصنِّع أو العالم الثالث.
وقد أصدر فتحي عدة كتب، أشهرها عن الأسس الفلسفية لتصوّره المعماري والمدني أو الحضري، وهو «عمارة الفقراء»، وكتبه بالإنجليزية، ولم تصدر ترجمته العربية في مصر إلا في ثمانينيات القرن العشرين. 
وله عدة أبحاث علمية أشهرها «أصول العمارة المتوافقة»، وهو بحث متخصص يفصّل فيه نظريته المعمارية والإنشائية. وله عشرات البحوث التي ألقاها في مؤتمرات علمية وفكرية نشرها متفرقة، ولم تُجمع بعد.
ومن أشهر أقواله: «هناك 800 مليون نسمة من فقراء العالم الثالث محكوم عليهم بالموت المبكّر، بسبب سوء السكن، هؤلاء هم زبائني». 
كما قال: «الفنان لا يتحدّث قطّ عن الفن، لكنّه يصنعه». وقد رحل مؤسس «عمارة الفقراء» عن عالمنا في 30 نوفمبر 1989 بالقاهرة■

المسرح والخان والسوق بالقرنة