الموسيقى والسينما شذى اللحن والصورة

الموسيقى والسينما شذى اللحن والصورة

تتقاطع السينما مع الموسيقى في النسَق التعبيري الذي يهدف إلى خلق الإمتاع الفني لدى المتلقّي، وفي الوقت نفسه تجسيد مواقف إنسانية وثقافية متعددة تستلهم نمطين فنيين مختلفين من حيث الأسس والمبنى، لكنّهما يشتركان في الهدف الجمالي والبُعد الفكري. من هنا كان تعامُل السينما مع فنّ الموسيقى حدثًا بارزًا أسهم في دمج نمطين تعبيريين، من أجل خلق جوّ درامي لأحداث الفيلم ينسجم مع مبتغى الرؤية السينمائية للمخرج، ويتوافق مع انتظارات المتلقي وشحنته النفسية والذهنية.  ما هي طبيعة هذه العلاقة الثنائية بين السينما والموسيقى؟ وكيف يوظّف المخرج السينمائي النغمات الموسيقية في تركيبة الفيلم السينمائي؟ وما هي أنواع الموسيقى التي يوظّفها السينمائي في الفيلم، وكيف تؤثر في المتلقي؟

علاقة الموسيقى بالسينما هي علاقة وطيدة وقديمة، فالموسيقى رافقت ظهور الشكل السينمائي منذ فجره الأول مع الأخوين لوميير سنة 1895، حيث عرض المخرجون أول فيلم سينمائي بمصاحبة عازف بيانو كان يوجد في القاعة. 
وبعد ذلك رافقت الموسيقى السينمائية الأفلام الصامتة التي كانت تستدعي الموسيقيين للعزف على آلاتهم، بجانب عرض الفيلم الصامت، ليصنعوا بذلك جوًا فنيًّا متكاملًا يجمع بين الصوت الموسيقي السمعي، والصورة البصرية السينمائية. 
ومع تطوّر الفن السابع وتقنياته، أصبحت الموسيقى ركيزة مهمة في الخلق الجمالي للفيلم، وبدأ الاهتمام يتزايد أكثر فأكثر بهذا النوع الفني المدمج في فن السينما.
وموسيقى الفيلم هي «إحدى الجماليات التي تتميز بها السينما من خلال لقطاتها المعتمدة على عنصر الموسيقى المكونة من مجموعة من النغمات، ومن دونها لا تكتمل القيمة الفنية للعمل السينمائي». 
ودورها الأساسي يكمن في خلق إيقاع نغَمي ينسجم مع السياق العام للفيلم، إيقاع يساير كل تطور في الأحداث من حيث التوتّر والانبساط، والصعود والاستقرار، والفوضى والسّكون.
كما أنها تمثّل مصدر فيض للطاقة والمشاعر المرهفة بالنسبة للمتلقي، لأنها قادرة على «إحداث وتوليد الانفعالات لدى المستمع ومناجاة مشاعره». 
فالموسيقى تمارس وظيفتين أساسيتين في العمل الفيلمي: «وظيفة فيسيولوجية مهمة؛ هي حشد السكون وإقامة التوازن الحسي، ووظيفة جمالية رفيعة الشأن تعنى بإبراز الانفعال تمامًا كالجوقة في المأساة اليونانية».

معايير فنية 
المخرج البارع هو الذي يتمكّن من حشد أحاسيس المتفرجين بموسيقى وألحان تتناسب مع طبيعة الموضوع الذي اختاره، وتتوافق مع وتيرة تطور الأحداث وتصاعدها.
من هنا يمكن القول إن توظيف الموسيقى في الفيلم السينمائي لا يكون اعتباطيًّا وعشوائيًا، بل يخضعُ لمعايير فنية وجمالية يقترحها المخرج حتى يخلقَ تناسبًا وتوافقًا مزدوجًا بين الصورة والموسيقى المصاحبة له، حيث نجد الموسيقى الهادئة ذات الإيقاع الرتيب في المشاهد الحزينة والمأساوية مثلًا، والموسيقى القوية الصدى ذات النغمات العالية والإيقاع السريع في أفلام الحركة والمرح والفرح، و«نغمات البوق تؤجج الروح القتالية للمحاربين» في الأفلام التاريخية وأفلام الحروب.
إذًا فالموسيقى في الفيلم السينمائي هي باختصار «تعبير عن الشعور نفسه الذي تجسّده الصورة»، من خلال البُعد الدلالي والعمق الرمزي الذي توحيه الأنغام الموسيقية، والذي يتناسب مع طبيعة الرؤية الفنية للمخرج ومشاهده الفيلمية.
لقد أتاحت الموسيقى إذًا للصورة الفيلمية فرصة التعبير بواسطة اللحن والإيقاع والأغنية، وأصبحت، بالتالي، لغةً نغمية تجسّد مجموعة من المواقف واللحظات الواقعية (الأصوات والأفعال والحركات) بواسطة الإيقاع الموسيقي المساير والمتماهي مع اللحظة التشخيصية في الفيلم، والمساهم في «تعميق الإحساس البصري للصورة السينمائية، وتجميل الحكاية، وجعلها واضحة ومنطقية، وشاعرية أيضًا». 
وتمارس الألحان الفيلمية هنا دورًا وظيفيًا في خلق الجو الصوتي المتّسق مع طبيعة الحدث، حيث «توجِد إحساسًا عامًا دون أن تفسّر الصورة، وتؤثّر بقوتها علوًا وانخفاضًا وبإيقاعها نشيطًا أو متهاديًا وبنغماتها مرحةً أو رزينة».

اندماج عاطفي
يتم إنجاز التأليف الموسيقى الخاص بالفيلم السينمائي في المرحلة الأخيرة من تصويره، والسبب في ذلك راجع أساسًا إلى أن الموسيقي يرصد المشاهد السينمائية أولًا ويعيش اندماجًا عاطفيًا مع أحداثها ولحظاتها وشخصياتها، لأن الموسيقى، كما يقول تاركوفسكي، «يمكن أن تضيفَ إلى المادة المصوّرة حالة شعورية تتولّد من تجربة المؤلف»، وهذا ما ينتج عنه تدفّق لـ «مشاعر معيّنة تلائم أجواء الفيلم، هذه المشاعر توجّه الخيال الموسيقي في ذهنه (ذهن الموسيقي)، وتساهم في تشكيل الإلهام الذي ينمو داخل مخيّلته المبدعة، وفقًا للانطباع الذي خرج به من محيط الفيلم». 
وتبدأ علاقة الملحّن الموسيقي بالفيلم حين «يبلغ المرحلة التي تُعرف بـ «النسخة التجريبية»، أو بكلمات أخرى حين يتم تصوير القصة، ويسجل الديالوج مع إضافة الأصوات الطبيعية».
فبعد أن ينتهي المخرج من وصل لقطات فيلمه، يختار المَشاهد التي سيرفقها بمقاطع موسيقية تنساب وتتناسب مع اللحظة الدّرامية للحدث والقصة، ثم يضبطها مع الزّمن الذي تستغرقه هذه القطع الموسيقية، وبعد ذلك يقوم بعملية مزج ودمج بين الموسيقى ومشاهد الفيلم ومختلف العناصر الصوتية والمرئية المساهمة في التشكيل الجمالي للفيلم.
وفي هذا الصدد يقول المخرج الأمريكي جون هيوستون: «عندما يتم توليف الشريط، أختار الموسيقى وفق قصد درامي. أكره الموسيقى الزخرفية. أريد أن تساعدَ الموسيقى القصة، وتوضّح الفكرة». 
في السياق نفسه، يؤكد المخرج السوفييتي أيزنشتاين خاصيّة التوافق والتناغم التي يجب أن تكون بين بنية القطعة الموسيقية (السمعية) وتكوين اللقطة السينمائية (المرئية) بقوله: «الآن لنمزج الخطّين البيانيين. ماذا نكتشف؟ الخطّان البيانيان للحركة يتلاءمان تمامًا، أي أننا نجد تجاوبًا تامًّا بين حركتي الموسيقى والكاميرا عبر خطوط التكوين التشكيلية».

موسيقى خارجية وداخلية
يمكن التمييز في الفيلم السينمائي بين نوعين من الموسيقى:
1 - الموسيقى الخارجية: والمقصود بها الموسيقى التصويرية المصاحبة للعمل الفيلمي، والتي يكلّف بتأليفها وإنجازها متخصصون في الموسيقى الفيلمية.
والموسيقى التصويرية هي الألحان «التي نسمعها في الفيلم دون أن يكون لها مصدر في اللقطة»، والسينما العالمية حافلة بمجموعة من القطع الموسيقية / السينمائية الخالدة التي ساهمت في ذيوع مجموعة من الأفلام وشهرتها مثل:
موسيقى أفلام الغرب الأمريكي الـ (ويسترن سباغيتي)، التي ألّفها الموسيقي الإيطالي أونيو موريكوني ووظّفها المخرج العالمي سيرجيو ليوني في أفلام الكوبوي الشهيرة: the good, the bad and the uglyوA fistful of dollars وfor a few dollars more.
موسيقى الأفلام الدرامية والتاريخية التي تخصّص في إنجازها الموسيقي الأمريكي جون ويليامس، خاصة في أفلام المخرج الأمريكي ستيفن سبيلبرغ: shindler’s list 
وlincoln وsaving private ryan.
موسيقى أفلام الخيال العلمي التي برع فيها الموسيقي الألماني هانس زيمر، ومن أبرز أمثلتها أفلام المخرج البريطاني كريستوفر نولن: inception وthe dark knight وinterstellar.
2 - الموسيقى الداخلية: ونقصد بها مجموع الأغاني والقطع الموسيقية الحاضرة في عمق المشاهد السينمائية (داخل أحداث الفيلم)، وهي إما:
أغان ومقاطع موسيقية مشهورة مقتبسة من أصلها ومجالها الموسيقي/ الغنائي.
أغان ومقاطع موسيقية مؤلّفة من طرف موسيقيين ومغنيين خصيصا للعمل الفيلمي، مثل الأغاني التي وضعها أرون كوبلاند لأفلام «فيران ورجال» و«مدينتنا» و«المهر الأحمر»، وتلك التي وضعها فيرجيل طومسون لفيلمي «المحراث الذي سوّى السهول»، و«قصة لويزيانا». 

توظيف فنّي جمالي
وعمومًا، فإن الموسيقى السينمائية بكل أنواعها ليست مجرد عمل تكميلي في تركيبة الفيلم السينمائي، بل إنّها توظيف فنّي جمالي خاضع لمنطق التقلبات والتعقيدات التي تطرأ على أحداث الفيلم، وعلى الموسيقي أن يكون ملمًّا بالطرق الفنية التي توظّف فيها الموسيقى في كل نوع من الأحداث والأجواء، لأن الملحّن السينمائي ليس مجرد فنان مثير للحافز الشعوري والدرامي والعاطفي للمتلقي بواسطة التأثير الموسيقي للفيلم فقط، بل إنه عامل فعّال مساهم في بناء الرسالة التواصلية للفيلم فنيًا وجماليًا. 
فمهمة التأليف الموسيقي في السينما لا تقلّ قيمة عن مهمة الإخراج السينمائي، نظرًا لخصوصياتها الإبداعية التي تفرض على صاحبها الإحاطة بمختلف الجوانب الفيلمية: الزمانية والمكانية والثقافية والفكرية.
ونظرًا لمكوناتها النغمية المؤثرة باعتبارها عنصرًا رئيسيًا وفعالًا في الدلالة البلاغية والإمتاعية للفنّ السينمائي، تتطلب هذه المهمة (الموسيقى السينمائية) دقّة متناهية في التوقيت لكي تتزامن مع الصورة والحوار، كما تحتاج إلى قدر كبير من الجهد والتكوين والمعرفة الفنية، إضافة إلى موهبة التأليف الموسيقي التي يجب توافرها في الموسيقي السينمائي■

الموسيقى السينمائية بكل أنواعها توظيف فني جمالي يطرأ على أحداث الفيلم