الجوكر الضحك شفرة سريّة

الجوكر الضحك شفرة سريّة

بدخولنا فيلم Joker (المهرّج) سنمرُّ عبر حالة قمامة عامة، فالقمامة مؤثرة على كل الأحداث القادمة، الجرذان منتشرة في المدينة، والسلوكيّات تحكُمها القذارة، فمع القمامة يفتقد الإنسان نظافته وإنسانيته، يفتقد ذاته ويعيش في حالة من القذارة، ندخل مع طلّة المهرّج الأولى لحالته الشخصية وهو يحاول شدّ وجهه ليجذب الضّحكة؛ لنكتشف من الدقائق الأولى أننا سندخل إلى كوميديا سوداء مع مكياج لمهرّج لا يوحي الفكاهي، بل ينتمي للعنف النفسي الخفي.

تنفتح الشاشة على نشرة أخبار تتحدَّث عن إضراب عمال القمامة لليوم الثامن عشر، ثم تنسحب الكاميرا أثناء نشرة الأخبار على وجه المهرج وهو يضع مكياجه، فندرك أن المدينة تتراكم بها عشرات الآلاف من أطنان القمامة يوميًا، بسبب إضراب عمّال جمع القمامة، حتى في أرقى أحيائها، فأينما نذهب نجد القمامة والجرذان، لقد صارت المدينة قمامة، وبالتالي فقد اختفت ضحكة المدينة، حتى أن المهرج سقطت منه دمعة سوداء.
عندما تدخل الموسيقى المرحة مع وجه المهرج الذي يداعب الناس في الطرقات نشعر ببهجته، وأنه يحب هذا العمل من أجل أن يرسم ابتسامة على الوجوه، وقبل أن تكتمل بهجتنا بالفكاهة يظهر مجموعة من المراهقين يعبثون بالمهرّج ويأخذون لافتته ويضربونه في شارع جانبي ضربات عنيفة، ويتركونه وسط القذارة، وتموت لحظة سعادة الفيلم التي صنعها المهرج للمشاهد من الدقائق الأولى، تموت منذ البداية وندخل مأساة المهرج الذي انكسرت كرامته وفقدَ ذاته وسط القمامة، وبكى دون دمعة، وارتعش، وانكسرت لافتته دلالةً على كَسر ذاته، وانسحبت الكاميرا مبتعدةً عنه، تاركة إياه مع اللافتة المكسورة وسط القمامة والرجْفة والموسيقى التي تقول إن ها هُنا مأساة، وهنا يظهر اسم الفيلم «Joker» المُنتج في أكتوبر عام 2019 إخراج تود فيليبس، والذي شارك سكوت سيلفر في كتابة السيناريو له. 

الضحك... شفرة الفيلم
استخدم الممثل المتميز جواكين فينيكس كل عضلات وجهه ببراعة منذ المشهد الأول في دور المهرج آرثر فليك، فظهرت كل إمكاناته التمثيلية في هذا التنوع الضاحك، وكأنه لغة خاصة به، كأن الضحك كلمة السرّ التي ينبغي عليك أن تبحث عنها وتحلّلها حتى تعلم لماذا كانت الضحكة، كان الضحك بمنزلة شفرة الفيلم السرية التي تفسّر تفاعل المهرج مع الموقف الحادث أمامه، وأحيانًا تفسّر وجهة نظره، فظهر تنوّع الضحكات وأسبابها طوال الفيلم.
فينيكس يضحك ويحزن ويبكي بكاءً مكتومًا مصحوبًا بشهقة، هناك ضحك محبوس في داخله يريد أن ينطلق، لكنّه لا يستطيع، كأنه سمع نكتة يريد أن يضحك عليها وهو يعرفها وحده، لكنّ شيئًا ما داخله يمسك الضحكة، يجعلك في حالة انتباه لضحكته التي ستدرك فيما بعد أنّها متلازمة مرَضية، وأنه يضحكُ مرغمًا، فهو يحمل ورقة داخل جيبه يبرر بها ضحكته عبارة عن ورقة مكتوب فيها «سامحوني على ضحكي، أنا أعاني حالة مرَضية تسبب الضحك المفاجئ، لا يمكن السيطرة عليها، ولا تتماشى مع تشعر به»، فيجعل مَنْ أمامه يتقبَّل ضحكته على أنه مريض، في حين أنه يضحك على أشياء يكون لها سبب داخله تجعله يضحك، وتجعلك تضحك بمرارة.
هل هذه المتلازمة تبرير للضحك على كل الأوضاع؟ ضحك على الذات؟ ضحك سخرية مخلوط بتبريرات المرض؟ أنت تريد أن تُسكته، أن تقول له توقَّف عن هذه الضحكة المستفزة، في الوقت نفسه تريده أن يستمر في الضحك حتى يُخْرِج معاناته التي لا يستطيع أن يضحك ضحكة حقيقية من أجلها، نريد أن نتخلَّص من مانع الضحك، أنت الآن مُسْتَفَز من الطلَّة الأولى لفينيكس. 
ضحكته مكتومة مثل كُحّة معلّقة داخل الصدر لا تعرف كيف تخرج، وتعرف كيف تنتهي، وتكون أول جملة ينطقها لطبيبته النفسية «هل هذا شعوري وحدي، أم أن الوضع يزداد جنونًا في الخارج؟»، يريد أن يقول إننا جميعًا لدينا هذه الضحكة المكتومة التي تريد أن تخرج وتُجلجل، لقد ارتعشت قدمه فجأة أمامنا وشعرنا أننا نرتعش.

سبب خَفيّ
هذه الضحكات لم تكن مجانية، بل كانت بقليل من التعمُّق تعطينا سببًا خفيًا داخل نفس آرثر فيلك، فعندما كان يريد إسعاد الطفل في الحافلة، رفضتْ أمّه بحجة أنه يزعجه، لكن الأم لم تفهم، وهنا ضحك الضحكة الهستيرية المجنونة، ضحكة تقول إن الأم غبيّة؛ لأنها لم تفهم أنه يريد إسعاد طفلها، ضحكة مِنْ موقف الأم المتشنِّجة، ضحكة بمنزلة الصفعة على صفات هذه الأم التي لم تبتسم طوال وجودها على الشاشة، كانت مُتَجَهِّمة عن عَمْد، ضحكة تمثّل صفعة على وجه كل من لا يستطيع التعامل مع الإنسان عمومًا، أيضًا حين كان جمهور الصالة التي يلقي فيها النكات يضحك على سخافات، كان هو يضحك بمفرده بطريقة تبدو أقرب للسخرية من الضحك الكاذب.
وفي مشهد بارع كان آرثر فليك يضحك ضحكة رائقة على نكتة قالها زميله راندال، وسار في الممر يضحك وهو يغلق قميصه المفتوح، حتى كدنا نضحك وتعترينا ضحكة حقيقية دون تشنجات، فإذا به يقضمها وينسفها مرة واحدة ويسكت ويكتم ضحكته، وكأنه داخلٌ الآن ساحةَ حرب، كما جاءت ضحكته في المترو حين رفضت الفتاة أن تتجاوب مع الشبان الثلاثة بمنزلة ضحكة احتقار لهم.
أفلح فينيكس في اللقطة التي كان يُحَدِّث فيها المدير عن اللافتة، وغاب صوته، وشعرنا أنه يريد أن يضحك وبدا وجهه يبتسم في استعداد للضحك الهستيري، لكنّ اللقطة البارعة لم تسمح بذلك، بل شعرنا أن الضحكة كُتِمَت في أعماقه، وتم قطع المشهد ورأيناه يضرب القمامة بعنف، وكأنّه ينتقم ممن كسروا لافتته. 
أيضًا ضحكته أمام الميكرفون الذي كان يعرض فيه نكاته أمام الجمهور كانت ضحكة طويلة مميزة، هاجمته نوبة الضحك، وشعرنا أنه سعيد بالفعل، فهو وحده من يسمع النُّكت التي يريد أن يلقيها على الناس، يضحك عليها قبل أن يقولها، لقد هاجمه الضحك من داخله، فأصبحت نوبة الضحك الرائق مبررة جدًا على الشاشة. وتأتي الأغنية المناسبة تمامًا «ابتسم رغم أنك مفطور منكسر، ابتسم رغم أن قلبك بالأوجاع يئنّ».

الهلاوس البصرية تفسّر العنف
تأتي الجملة التي سَيُبِنَى عليها الفيلم كلّه منذ الدقائق الأولى مكتوبة داخل مذكرات فليك «يا ليت موتي يكون منطقيًا مربحًا أكثر من حياتي»... جملة وحيدة داخل مذكراته الغريبة تكشف أن حياته لم يكن بها ربح، لم يكن هناك أيّ مكاسب، حياته خسارة، وهو يخشى أن يكون موته خسارة أيضًا، وهذا ما سيسعى إليه طوال الفيلم، أن يكون موته مربحًا، جملة تكشف أن تصرّفاته القادمة ليست منطقية ولا رابحة، وهي في الوقت نفسه تنسحب على كثير في العالم ممّن يعيشون حياة ليست منطقية، فهو يعاني فَقدَ الذات، من أنّ أحدًا لم يدرك وجوده ولم يلاحظه، حتى أنه داخل نفسه لم يكن يعلم هل هو موجود أم غير موجود، فهو مخفيُّ وراء قناع المهرج، لا يعرفه أحد وقال: «طوال حياتي لم أكن أعلم إن كنت موجودًا أصلًا». 
نجد أن هناك علاقات حميمية متخيّلة، هلوسة بصرية داخل فليك ظهرت بينه وبين موري، الذي قام به الممثل الأشهر روبرت دي نيرو كمقدّم لبرنامج «على الهواء مع موري فرانكلين» علاقة يدخل فيها الواقع بالخيال، فقد تخيّل فليك من شدَّة حبه لموري أن الأخير يحتضنه بعُمق، وأنه بكى على صدره وكأن موري قال له إنّه يمكنه أن يتخلى عن كلّ هذه الأضواء والشهرة مقابل أن يحظى بابن مثله.
بدت العلاقة في خياله حميمية رهيفة لأقصى درجة، وكان يحلم بلقاء موري، وهو من أشد المعجبين ببرنامجه، ثم تتوتّر العلاقة بينه وبين موري حين يجعله الأخير أضحوكة على الملأ بعرض الفيديو الخاص به، الذي ظهر أنه يستهزئ به، لذلك تحوَّل هذا الحُب الداخلي المتخيل إلى كُره حقيقي عنيف أدى في النهاية إلى أن يقتل موري. كذلك شاهدنا هلاوس فليك البصرية التي حدثت مع جارته التي أحبها، والتي قامت بدورها الممثلة زازي بيتز، فقد تخيّل أنه التقى بها في أماكن متعددة وتحدّث إليها، كان كل ما يحدث هلاوس مرَضية. 
اضطراب وهمي
أيضًا ظهرت أعراض مرضه حين اعتدى عليه الرجال الثلاثة في المترو وضربوه، مثلما فعل به المراهقون أول الفيلم، لكنّه قتلهم بالمسدس، وجرى، وبدأ يرقص بحساسية وكأنه تخلَّص من أثر الاعتداء الأول عليه، رقص رقصة ناعمة على موسيقى هادئة، كأنه يمارس طقس رقص خاص به بهدوء وبدون عصبية، ثم فتح ذراعيه يستقبل العالم، لقد خلَّصه القتل والرقص من التوتر، وبدا وجهه في المشهد التالي مستريحًا وكأنه نام لفترة طويلة، هذا أيضًا سلوك مرَضي.
ونجد أن من أسباب هلاوسه المرضية وجود الأم التي قامت بدورها الممثلة فرانسيس كونروي، فمنذ طلّة الأم الأولى وهي تتحدث عن رجل نريد أن نعرف حقيقته، ففي كل ظهور لها تتّحدث عن رسالة إلى توماس واين تريد أن تصل إليه بالبريد، ويفتح فليك الرسالة، ويكتشف أن توماس (الرجل الشهير) والده، وأنها تطلب مساعدته، ثم نكتشف أن شخصية الأم مريضة، وأن كل ما تدّعيه لم يحدث، وأنها مريضة وَهْم، وقد اكتشف فليك أن الطبيب شخَّص حالتها بأنها تعاني مرض اضطراب وهمي، واضطراب الشخصية النرجسية.
لقد كانت تضربه وهو صغير، وتعذّبه وهو يضحك، لذلك كان طوال الفيلم يعاني هلاوس بصرية، حتى أنه كان يتخيل بعض الحوارات التي برع صنّاع الفيلم في إيهامنا بأنها حقيقة وليست وَهْمًا في خياله. وهي بذلك تؤسس لمرض آرثر، ونعرف أنه ليس ابنها وأنه مُتَبَنى، وفي لقطة بارعة بعد أن اكتشف أنه بلا أمّ أو أب أفرغ الثلاجة ودخلها، كأنه يطفئ بركانًا داخله سيحرقه.

تحطيم أحلام الآخرين
تحولت عملية قتل آرثر فليك للرجال الثلاثة في المترو إلى بطولة، وانتشر قناع المهرج في كلّ مكان، يريده الناس، لقد صار الجميع مهرّجين، ويتداخل الخاص في العام حين يتعاطف أهل المدينة المملوءة بالقذارة والجرذان مع المهرج، لأنّه قتل ثلاثة من الأثرياء عديمي الإحساس، وحين أعلن توماس واين أن القاتل يحقد على الأغنياء، لأنه فاشل، هنا كانت ضحكة واحدة مقطوعة من آرثر ورعشة قدم رهيبة، وعَلِمنا أن داخله بركان يغلى.
عندما قتل آرثر موري أعطانا انفعالات مميزة، على الرغم من أنه كان يرتدي قناع المهرج الذي يُخفى الانفعالات، ويكاد ينتهي الفيلم بالقبض عليه والمدينة كلها ترتدي القناع في حالة ثورة، ثورة مهرّجين، وتصطدم سيارة الشرطة التي تحمله وينجو آرثر وسط جموع أقنعة المهرجين، ويرقص رقصة الحريّة، وكأنه وجد نفسه التي يبحث عنها طوال الفيلم،  وينتهي الفيلم بقتل الطبيبة المعالجة وخروجه سائرًا على الدماء، وتتردد عبارته «بعض الناس تملؤها المتعة بتحطيم أحلام الآخرين، لكنّني لن أسمح بإحباطي»، ويدين الفيلم كل من يحاول التقليل من شأن الآخر، ومن يحاولون تحطيم أحلام الآخرين.
ويخرج آرثر فليك على آثار الدماء يرقص، ونستعيد داخل أنفسنا القذارة التي وصلت إليها المدينة■