الشيخوخة... نظرة إيجابية

الشيخوخة... نظرة إيجابية

تعد نظرية تسامي الشيخوخة نظرية تطورية للتقدم في العمر بصورة إيجابية، وضعها أستاذ علم الاجتماع السويدي المتخصص في الشيخوخة، لارس تورنستام (1943-2016)، في نهاية الثمانينيات الماضية، في ضوء بحوث تجريبية أجراها في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، حيث راح يستكشف الشيخوخة بمدخل كيفي ظاهراتي، ليؤكد وجود مميزات وإمكانيات تأتي مع النضج. 

رأى تورنستام أن الإنسان الذي يتجه نحو تسامي الشيخوخة، من الممكن أن يخبر تغيرات يتعالى من خلالها ويسمو؛ من بين هذه التغيرات إعادة النظر في الذات وفي العلاقات مع الآخرين، والتوصل إلى فهم جديد للعالم وللمسائل الوجودية الأساسية، مما يمكن أن يغير الإدراك على نحو يكسب قدرة على تحديد الدور الجديد في الحياة والموقف منها.

من المادية إلى الروحانية 
يشهد البعض في هذه المرحلة من العمر نقلة في المنظور الميتافيزيقي، فيتحول من النظرة المادية العقلانية إلى نظرة أخرى روحية كونية متسامية، غالبًا ما تورث شعورًا عميقًا بالرضا. ولتوضيح ذلك، ضرب تورنستام مثلًا يصف فيه سيدة مسنّة تحولت من الشعور بكونها في نهر يحملها التيار دون قدرة منها على مقاومته، إلى الشعور وكأنها النهر نفسه وجزء من التدفق بكل ما فيه من خير وشر. ويؤكد أن حالة التسامي هذه لا تتضمن الانسحاب من الحياة، كما تعتقد النظريات القديمة التي فشلت في شرح هذا النمط التطوري المتجاوز.
 فمنذ بداية علم الشيخوخة العلمي، ساد المنظور البائس في البحث. وتنبأ المتخصصون بمشكلات مختلفة مرتبطة بالتقدم في العمر، وعندما صادفوا متقاعدين ومسنين سعداء ولا يشعرون بالوحدة المتوقعة، على سبيل المثال، حاروا وارتبكوا. فقد بين عدد من الدراسات أن التقاعد لا يتضمن بالضرورة صدمة، بل من الممكن أن تتحسن صحة المتقاعدين إذا ما تخففوا من عبء العمل وضغوطاته. كما أكدت مسوح أجريت في السويد أن الشعور بالوحدة لا يزيد مع تقدم العمر.
 

تحولات مختلفة 
بدأ تورنستام بتجريب أفكارٍ نظرية جديدة، في محاولة منه للوصول لملاءمة أفضل بين البيانات التجريبية والمعلومات النظرية. واستلهم أفكار باحثين سابقين، مثل ينغ وإريكسون. وأجرى مقابلات مع مسنين أخبروه كيف ينظرون لحياتهم في مراحل وتحولات مختلفة. واكتشف بعد ذلك كيف توصف الحياة كنمو إيجابي ينطوي على تعميق الشعور بالرضا، وتراجع الاستغراق في الذات، وانتقاء الخيارات الاجتماعية والأنشطة الأخرى.
تناول الكبار في المقابلات شعورهم المتسامي، وصلتهم الوثيقة بالآخرين من الأجيال القديمة، وشعورهم بكونهم جزءًا من الكل. كما تحدثوا عن تعريفاتهم الجديدة لمفاهيم كالزمن والمكان والحياة والموت، وعبّروا عن زيادة حاجتهم للعزلة التأملية الإيجابية، التي كثيرًا ما يساء فهمها من جانب الأقارب فيعتبرونهم مرضى، ويفترضون أن الأمهات المسنّات، كمثال، مكتئبات ووحيدات وعلى حافة العتَه. ولكن الأشخاص الذين تمت مقابلتهم لم يكونوا يعانون أعراضاً مرضية؛ بل على العكس، كانوا يستمتعون بالحياة.
 وهكذا قرر د. تورنستام، استخدام مصطلح تسامي الشيخوخة، ليصف هذه المرحلة من الحياة، وأكّد أن ما وصفه الكبار يتجاوز الحدود والحواجز التي كانت تحدهم في بداية حياتهم. وفي ضوء ذلك قام بعدد من الدراسات الكمية التي شملت عينات عشوائية من سكان السويد والدنمارك في فئة عمرية، تتراوح بين 20 و104 سنوات. ووصفت هذه الدراسات تسامي الشيخوخة في ضوء أبعاد ثلاثة: البعد الكوني المتعلق بالتغيرات الوجودية؛ وبعد الذات الذي يخاطب التغييرات في رؤية الذات بين الحاضر والماضي؛ وبعد العلاقات الاجتماعية والشخصية وما اعتراها من تغيرات. 

البعد الكوني 
يرى تورنستام أن مفهوم الزمن يتجاوز الحدود، ليختلط اليوم بالأمس وتحضر جميع الأعمار في الوقت نفسه، لكن عند العودة للماضي عادة ما يعاد تفسير الأحداث والمواقف كتلك التي جرت في مرحلة الطفولة، وكثيرًا ما يتضمن ذلك نوعًا من التصالح، كما هي الحال مع سيدة مسنة أساءت والدتها التعامل معها في طفولتها وهي الآن تتفهم ما كانت تمر به الأم بطريقة جديدة، واستطاعت التصالح معها بعد 20 عامًا من وفاتها. آخرون يتجاوزون الزمن ويتبادلون الحديث مع فلاسفة وأشخاص من الأزمنة الماضية. وذكر أكثر من نصف المشاركين في المسح، من الفئة العمرية 74 - 100 سنة، أن اليوم، مقارنة بوقت ما كانوا في الخمسين من العمر، يشعرون بأن المسافة بين الماضي والحاضر تختفي. ويتزايد التواصل مع الأجيال الماضية ليستمر تدفق الأجيال. 
قال أحد المسنين إنه عندما كان صغيرًا كان يشعر بأنه معزول ووحيد كنقطة صغيرة في الكون؛ وعندما تقدم في العمر راح يشعر بأنه مجرد حلقة في سلسلة الأجيال. وأكدت نسبة 61 في المئة من المشاركين في المسح تعاظم شعورهم بالانتماء للأجيال الماضية مقارنة بوقت بلوغهم الخمسين. وذكر أكثر من النصف أنهم يشعرون بتسامي الشيخوخة بدرجة أكبر، ويضعون استمرارية الحياة فوق حياتهم الشخصية، ولهذا لا يثير الحديث عن الموت مخاوفهم مقارنة بأيام الشباب، لأنهم يعتبرون الموت أمرًا حتميًا. وبينت الغالبية تسامحًا واضحًا مع غموض الحياة، والإيمان بوجود معارف ماورائية يصعب التدليل عليها. وأشارت نسبة من المسنين إلى شعور متزايد بالابتهاج عند النظر إلى الطبيعة والزهور، وعند الاستماع إلى الموسيقى التي اعتبروها لغة جديدة. 

بعد الذات
 عندما ينظر الكبار إلى الوراء يكتشفون جوانب خفية من الذات بحلوها ومرها. فعلى سبيل المثال، تحدث أحد المشاركين عن تمتعه بوعي جديد يجعله يقاوم إسقاط جوانب ذاته المظلمة على الآخرين. ويمكن أن يكون الاكتشاف أحيانًا مثيرًا للسرور، كالثمانينية التي اكتشفت موهبتها الشعرية، ونجحت في نشر أول ديوان لها في ذلك العمر. 
مع تقدم العمر يتراجع التمركز حول الذات، ويخبر الكبار وعيًا جديدًا بحقيقة أن المرء ليس مركز الكون. وقد اعترف أحد المسنين ضاحكًا، أنه كان يعتقد أنه أهم شخص على وجه الأرض؛ ومع تقدم السنوات أصبح تقديره لذاته أكثر واقعية، كما يحكي تورنستام. ومن جانب آخر، يظهر وعيًا جديدًا بكيفية الاهتمام بالجسد من دون هوس بالمظهر والجمال، حيث يتزايد الرضا وتقبُّل الذات وانتقال الاهتمام تدريجًيا من الذات إلى الآخرين، لاسيما المقربين من الأولاد والأحفاد، فتطيح الغيرية بالأنانية، ويصبح الكل هو الأهم والأجمل برغم الصعاب. كمن يتسلق جبلًا بمشقة، لكنه في الوقت نفسه يتمتع بالرؤية البانورامية الرائعة.

بعد العلاقات الاجتماعية 
وصف المشاركون في المسح السابق كيف أصبحوا أكثر انتقائية في خيارات الصحبة. وكيف بهت اهتمامهم بممارسة الأنشطة الاجتماعية السطحية وفضلوا خلع الأقنعة، وباتوا يختارون قضاء الوقت مع صديق أو الجلوس في البيت منفردين يتأملون بإيجابية بالقرب من ذواتهم الحقيقية. وقد اكتسب البعض مزيدًا من الثقة بالنفس، ومهارات جديدة للتعبير عن الذات، فأقبل من كان يخاف طرح الأسئلة في محاضرة عامة على السؤال بجرأة ولا يهم أن يضحك الناس. وهكذا تصبح رحلة العمر أسهل وأكثر مرحًا لاسيما إذا خفف المرء أحماله وبدأ رحلة التخلص من الأشياء المادية غير الضرورية. كما يزداد الكبار حكمة وتسامحًا مقارنة بمرحلتي الشباب ومنتصف العمر، فلا يطلقون أحكامًا أو يقدمون استشارات من غير علم. وفي الوقت الذي تبين فيه دراسات تزايد مستوى الحكمة عند المرور بأزمات، تؤكد دراسات يابانية أن 20 في المئة من الناس يصلون لهذه المرتبة دون المرور بأزمة؛ ما يعني أن عملية التطور هذه تبطئ عند معظمنا أو تعاق لأسباب عدة، من بينها افتراضات خاطئة حول التقدم في العمر، ولهذا يموت البعض قبل تمام النضج بشعور أن الحياة سرقت منهم■

لارس تورنستام (1943 - 2016)