أطفال اليابان وعاداتهم الغذائية المميزة
في عام 2012، نشرت المجلة الطبية The Lancet دراسة أظهرت أن الأطفال اليابانيين يتمتعون بصحة أفضل من غيرهم من الأطفال في أي مكان آخر بالعالم، وبالتالي من المتوقع أنهم سيعيشون فترة أطول وبنوعية حياة أكثر جودة، كما أكدت أن جزءًا كبيرًا من الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة مرتبط بطرق التغذية المتّبعة في بلادهم، حيث إن العلاقات التي يطوّرها الأطفال اليابانيون مع الطعام منذ سنواتهم الأولى تشكّل صحتهم ورفاههم على المدى الطويل، وتجعلهم مثالًا يحتذى لجميع بلدان العالم.
في هذا الإطار نفسه، ألقى تقرير صدر في عام 2019 عن منظمة اليونيسيف بعنوان «وضع الأطفال في العالم»، بعض الضوء على العادات الغذائية للأطفال في جميع أنحاء العالم. ويشير التقرير إلى أنه «على الرغم من التقدم الذي أُحرز في العقدين الماضيين على صعيد العالم، فإن ثلث الأطفال دون سن الخامسة لا يزالون يعانون سوء التغذية، إذ تظهر عليهم علامات التقزّم والهزال، في حين أن الثلثين الآخرين معرّضان لخطر البدانة والجوع المستتر، بسبب وجباتهم الغذائية منخفضة الجودة».
لكن، وفق التقرير أيضًا، وفي وسط كل هذه المعطيات السلبية، برزت اليابان باعتبارها في أعلى قائمة الأمم بالعالم، التي يتمتع أطفالها بصحة جيدة، إذ دلّت المؤشرات على انخفاض معدلات وفيات الرضع فيها، ووجود عدد قليل من الأطفال الذين يعانون نقص الوزن أو البدانة.
أسرار أكثر الأطفال صحة في العالم
لكن ما السبب في ذلك؟ في كتابهما الذي يحمل عنوان «أسرار أكثر الأطفال صحة في العالم»، يقول المؤلفان نعومي مورياما، وويليام دويل إن الأنماط الصحية لدى أطفال اليابان تعود إلى أسباب عدة؛ أبرزها أن الوجبات التي يتناولونها مُرضية من الناحية التغذوية، حيث تتكون عادة من الأرز والكثير من الخضراوات والفواكه والمخللات، وكميّة أقل من اللحوم ومنتجات الألبان والسكّر، وفي الوقت نفسه هي وجبات مشبعة غنية بالمواد المغذية، وتحافظ على الشعور بالشبع فترة أطول. كما أن هناك في اليابان احتفاء بالوجبات عندما تلتف العائلة حول طاولة الطعام، ويتم تشجيع الأطفال على المحاولة لتذوق الأطعمة التي لم يسبق لهم أن تناولوها من قبل، وذلك عندما يُظهر الآباء متعةً واضحة في التلذّذ بالأطعمة التي يأكلونها، مما يحثّ الأطفال على أن يفعلوا الشيء نفسه.
فهناك أبحاث تشير إلى أن الأطفال يتعلمون تذوّق الأطعمة الجديدة من خلال مشاهدة البالغين والأطفال الآخرين وهم يتناولونها، وعندما حاول عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي بول روزين معرفة كيف تعلّم الأطفال في المكسيك تناول الأطعمة الحارة والغنية بالتوابل، إذ إنه من المعروف أن الأطفال عادة لا يحبّون هذه الأطعمة الحادة الطعم، اكتشف أن الأطفال في المكسيك يكبرون وهم يشاهدون البالغين وهم يتلذذون بتلك الأطعمة مرارًا وتكرارًا، وهكذا، وفي الوقت الذي يبلغون عمر الـ 5 أو 6 سنوات، يبدأون في الاستمتاع بتلك الأطعمة التي يظنّ السواد الأعظم من الناس أنها «أطعمة لا يحبّها إلا الكبار».
أطباق صغيرة والتفاف
يعزز الأنماط الصحية
إضافة إلى ذلك، فإن حجم الأطباق في اليابان صغير، بحيث لا تتسع إلا لكميات قليلة من الطعام، وذلك تماشيًا مع مقولة يابانية قديمة، على غرار المقولة النابعة من صلب الثقافة الإسلامية: «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع»، تقول إن «الشخص الذي لا يملأ بطنه أكثر من نسبة 80 في المئة فقط لن يحتاج إلى طبيب في حياته».
وهكذا تتألف الوجبات اليابانية من أطباق متعددة بكميات صغيرة، حيث يأكل الناس في إيقاع ثابت، بالتناوب بين الأرز وحساء الميسو والخضراوات والأسماك واللحوم.
وغالبًا ما يقوم أفراد الأسرة بمساعدة أنفسهم بأنفسهم بدلًا من خدمتهم من مساعدين آخرين. وكل ذلك يتمّ في بيئة منزلية تدعم خيارات الطعام ونمط الحياة الصحيين، إذ إن المنزل الياباني عادة ما يكون مليئًا بالأطعمة المغذية، حيث يشارك الأطفال في إعداد الوجبات مع أهلهم، وتأكل العائلات معًا بشكل منتظم. ولا شك في أن هذه الأمور بالغة الأهمية لرفاه الأطفال، كما تؤكد ذلك ورقة بحثية نشرت في عدد نوفمبر 2016 من مجلة طب الأطفال Pediatrics، حيث أشارت إلى أن الدفء والاستمتاع الجماعي ودعم الوالدين الإيجابي في وجبات الأسرة، لها ارتباط وثيق بانخفاض خطر زيادة الوزن والسّمنة في مرحلة الطفولة.
وإلى جانب الناحية الغذائية، هناك النشاط البدني الذي يمارسه الأطفال اليابانيون الذي يساعد في تعزيز صحتهم الجسدية. فالعديد من الأطفال في اليابان يمشون أو يركبون الدراجة، بدلًا من الاعتماد على ذويهم أو أي وسيلة أخرى توصلهم إلى المدرسة، (إذ تشير التقديرات إلى أن 98 في المئة من الأطفال باليابان يذهبون إلى المدرسة من دون سيارات).
وهذا يساعد في حرق السُّعرات الحرارية الزائدة ويولّد شهية صحية للطعام، ومعه يعتاد الأطفال المشاركة في التمارين الرياضية اليومية المنتظمة.
فلسفة غذائية تمتد إلى المدارس
لعل الأمر البالغ الأهمية فيما يختص بصحة الأطفال في اليابان، أن فلسفة التغذية الصحيّة تمتد إلى المدارس أيضًا، حيث إنه في اليابان، وعلى عكس المدارس في البلدان الأخرى بالعالم، يتمّ تقديم وجبات الطعام في الكافتيريا، تُقدم الوجبات المدرسية في الفصول الدراسية، بحيث تكون جزءًا من منهج التعليم وليس استراحة منه، وذلك بموجب قانون رسمي. فهناك مصطلح في اللغة اليابانية يعرف بـ «الشوكويكو» التي تعني تعليم الغذاء والتغذية، وقد تمت صياغة هذا المصطلح في عام 2005 عندما لاحظت السلطات المعنيّة وجود عدد كبير من الأطفال الذين يعانون اضطرابات الأكل، فعمدت إلى سنّ قانون بشأن شوكويكو، لتشجيع المدارس على تعليم الأطفال خيارات الطعام الجيدة. وفي عام 2007 دعت الحكومة إلى توظيف معلمين مختصين في مجال الحمية والتغذية بمختلف المدارس في اليابان.
منذ ذلك الحين أخذ برنامج الغداء المدرسي في اليابان يطبّق على مستوى البلاد بنجاح تام، بحيث تتم تغذية أكثر من 10 ملايين طالب بالمدارس الابتدائية والثانوية في 94 بالمئة من مدارس البلاد.
كما أن وجبات الغداء المدرسية التي تقدمها المدارس إلزامية، ولا توجد تنازلات لمن لديهم متطلبات غذائية خاصة أو للنباتيين منهم، وفي حين أن هذا الأمر قد يمثّل مشكلة في بعض بلدان العالم، فإن طلاب هذه المجموعات نادرون في اليابان.
كما أن إلزامية الوجبات الغذائية المدرسية تساهم في تحقيق التوازن الغذائي، لأن الأسر الفقيرة تحاول تخفيض التكاليف، فلا يتناولون سوى كميات قليلة من البروتينات، بينما يستهلكون الكثير من الكربوهيدرات والسكّر، مما يؤدي إلى السمنة. لذلك تعد الوجبات المدرسية أكثر أهمية للأطفال الذين ينتمون إلى العائلات الفقيرة، فهناك كثير من العناصر الغذائية التي تستكملها وجبات الغداء المدرسية بالنسبة لهؤلاء، وهكذا، فهي بطريقة ما تنقذ الأطفال من الفقر.
وجبات صحية وفق معايير
أما الطريقة التي يتم فيها إعداد الوجبات، فتكون من الأساس من خلال فريق من الطهاة الذين يعملون في مطبخ المدرسة، وفي كثير من الأحيان يستخدمون الخضراوات التي تزرع في ممتلكات المدرسة ذاتها، وفق المواسم والفصول.
كما أنه لا بدّ من أن تكون جميع المواد الغذائية المستخدمة طازجة خالية من أي أطعمة مجمّدة أو مصنّعة، للحفاظ على القيمة الغذائية الأصلية للطعام.
وكذلك يتم تصميم الوجبات حسب توصيات اختصاصيّي التغذية، حيث تحتوي كل وجبة على حوالي 600 - 700 سعرة حرارية متوازنة بين الكربوهيدرات واللحوم والأسماك والخضراوات. وهكذا يعتاد جميع الأطفال في جميع المدارس ومنذ سنّ مبكّرة تناول وجبات صحية ومتوازنة.
وقت الغداء... حصة تعليمية أيضًا
وما يميّز المدارس اليابانية أيضًا هو حقيقة أنها تنظر إلى وقت الغداء كفترة تعليمية لا ترفيهية. فالغداء هو وقت لتعليم الأطفال مهارات مهمة حول تقديم الطعام وآداب المائدة والتنظيف.
وكما تقول مسؤولة وزارة التعليم ميومي أويدا إن «الأمر لا يتعلّق فقط بتناول الطعام، لكن الأطفال يتعلمون الخدمة والتنظيف بأنفسهم ومختلف الأمور المتعلقة بالتغذية السليمة». فيأتي جميع الطلاب على استعداد لتناول طعام الغداء مع عيدان الطعام الـ «هاشي» القابلة لإعادة الاستخدام والكوب الخاص بهم وفرشاة أسنانهم، ومن ثم يقف الطلاب بانتظام وهم يتناوبون لأخذ صينية الطعام في المطبخ، وهم يهتفون «شكرًا» للطهاة الذين أعدّوها. ومن ثم يغسلون أيديهم ويذهبون إلى الفصل، ليجلس كلّ في مقعده كما يجلس معهم المعلم ليأكل مع طلابه، حيث لا أحد يشكو من الطعام، ويظهر الجميع آداب المائدة الجيدة.
وقد يحدث أن يقود المعلم مناقشة حول أصول الطعام يمكن أن تنتقل أحيانًا إلى تاريخ وثقافة الأطعمة اليابانية. وبعد الوجبة ينظف الطلاب أسنانهم قبل البدء في فترة تنظيف مدتها 20 دقيقة، تشمل الفصول الدراسية والممرات والمداخل والحمامات.
قبل كل ذلك، ولتعزيز الثقافة الغذائية، يتخلل اليوم الدراسي بثّ يومي لشرح العناصر الغذائية الموجودة في الغداء المدرسي لكل يوم، كما يستخدم الطلاب في المدارس الابتدائية قطعًا مغناطيسية تحتوي على صور لأطعمة مختلفة، ويضعونها في فئات مختلفة على السبّورة، حيث يتعلمون كيف يميّزون بين البروتينات والكربوهيدرات والعناصر الغذائية الأخرى.
هكذا، وبما أن أساس التعود على الأكل الصحي مدى الحياة يكمن في بناء الوعي على العادات الغذائية منذ سنّ مبكرة، هناك الكثير مما يجب أن نتعلمه من «الشوكويكو» ومن ثقافة الطعام اليابانية المميزة■
فلسفة غذائية تمتد إلى المدارس