مدخل إلى سوسيولوجيا الجمعيات

مدخل إلى  سوسيولوجيا الجمعيات

صدر عن دار إفريقيا الشرق بالمغرب كتاب «مدخل إلى سوسيولوجيا الجمعيات» للدكتور فوزي بوخريص، أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن طفيل، بالقنيطرة/ المغرب، والذي يشكّل بالفعل مدخلًا نظريًا وتأصيليًا لأحد أهم الثيمات الحيوية ضمن براديغم عمل «السوسيولوجيات الجديدة»، ويسلّط الضوء على طبيعة الشروط الإبستيمولوجية التي طبعت انتقال المقاربة السوسيولوجيا لقضايا التنظيمات من إطار ماكروي (المؤسسة/ التنظيم) نحو آخر ميكروي (الفعل الجمعي المنظم/ الجمعية/ التعاونية).

تكمن القيمة العلمية والإبستيمولوجية لهذا المؤلف في طبيعة العدة النظرية والمفهومية التي وظّفها الباحث من أجل التأصيل التاريخي لتعاطي المقاربة السوسيولوجية مع التنظيمات الجمعوية (سواء فيما يتعلّق برصد موقع مفهوم الجمعية في إطار السوسيولوجيا «العامة» أو في علاقته بسوسيولوجيا التنظيمات وسوسيولوجيا الشغل)، ورغبته في توفير مادة نظرية أوّلية حول تاريخ تطوّر سوسيولوجيا الجمعيات في السياق الغربي، تمكّن القارئ المغربي والعربي من الاحتكاك بالسجالات والنقاشات الإبستيمولوجية والمنهجية التي تطبع تعاطي الجماعات العلمية الأوربية والأمريكية مع القضايا الميكروية الجديدة، وتسمح له بموقعة الذات والبحث عن الشروط الكفيلة بتطوير جماعات علمية محليّة منفتحة على الكونية، وآخذة بعين الاعتبار الطابع السوسيوسياسي المركّب لجُلّ المجتمعات العربية، كمجتمعات سائرة في طريق النمو.
في حقيقة الأمر، وإيمانًا منه بأنّ السوسيولوجيا ليست «مجرد معرفة تقنيّة خاصة بالخبراء وحكرًا عليهم» (ص:9) «أو حتى معرفة صورية ومجردة متعالية عن الواقع الاجتماعي وشروط إنتاج وعمل هذا الواقع»، سيجعل الباحث من هذا المؤلف جزءًا من مشروع علمي طموح (على المستوى المغربي بل والعربي كذلك) مكرّس لثيمة العمل الجمعوي بالمغرب، حيث سيستأنفه بمؤلف ثان ــ ميداني وتطبيقي ــ يهمّ «سوسيولوجيا العمل الجمعوي بالمغرب من التطوع إلى العمل المأجور»، الأمر الذي يبرز وعيًا علميًا وأكاديميًا بكون أهمية العلوم الاجتماعية لا تكمن في تقديم حلول أو وصفات جاهزة للفاعل الاجتماعي والاقتصادي، أو توفير مادة بحثيّة خام قابلة لإعادة الاستثمار الاستراتيجي من قبل الفاعل السياسي، وإنّما في المساعدة على تحقيق التنمية والتغيّر الاجتماعي وبناء المجتمع الديمقراطي المنشود من خلال حثّ الفاعل الاجتماعي على الوعي بالشروط الموضوعية المنتجة لواقعه (دون التأثير فيه أو التأثر به).
وتبعًا لذلك، يبدو أننا أمام واحد من المؤلفات السوسيولوجية الموجهة للمتخصصين (في إطار السوسيولوجيا النقدية والأكاديمية) كما جمهور العموم (بخاصة الفاعلين في المشهد الجمعوي المحلي والإقليمي).

تطوّر النظرية السوسيولوجية
يتكوّن الكتاب من بابين أساسيين يشمل كل واحد منهما على ثلاثة فصول، موزعة على 256 صفحة من القطع المتوسط، ترصد بالدراسة والتحليل تطوّر المقاربة السوسيولوجية لمفهوم المؤسسة في إطار تطور النظرية السوسيولوجية بشكل عام. ينفتح الباب الأول على التعريف بسوسيولوجيا الجمعيات من خلال مدارسة «تاريخ سوسيولوجيا الجمعيات» و«علاقة سوسيولوجيا التنظيمات بالجمعيات» و«علاقة سوسيولوجيا الشغل بالجمعيات».
ويركّز الباب الثاني على خصوصيات التنظيمات الجمعوية من خلال موقعة مفهوم الجمعية في علاقته بالمفاهيم المجاورة (المؤسسة، المنظمات غير الحكومية...) والبحث في هوية الجمعيات، ثم الختم بالرهان الإبستسمولوجي والنظري لسوسيولوجيا الجمعيات والحاجة إليها في السياق المعاصر.
يختص الباب الأول بمدارسة تاريخ سوسيولوجيا الجمعيات ضمن تطور الممارسة العلمية في إطار السوسيولوجيا العامة من جهة، وعلاقة هذا التخصص بسوسيولوجيا التنظيمات وسوسيولوجيا الشغل من جهة أخرى.
لذلك، نجد أن الفصل الأول ينفتح على تحديد تاريخ التعاطي السوسيولوجي مع قضايا الجمعيات والتنظيمات الجمعوية (في صورتها الكلاسيكية) من خلال تسليط الضوء على الإرهاصات الأولى لاهتمام جيل الرواد، إميل دوركايم وأليكس دي توكفيل (إسهام المدرسة الفرنسية) فرديناند تونيس وماكس فيبر (إسهام المدرسة الألمانية)، بالظاهرة الجمعوية في سياق تركيزهم شروط بناء «الاجتماعي» كما «العلم الاجتماعي» نفسه.

بصمة الرواد
على الرغم من صعوبة الإقرار بوجود إرث سوسيولوجي حول مفهوم الجمعية (ضمن المرحلة الكلاسيكية)، نظرًا لهيمنة القضايا الماكروية وهمّ التأصيل الإبستيمولوجي للممارسة السوسيولوجية على الأجندات العلمية لعمل الباحثين، إلا أنّ بصمة الرواد تظل حاضرة في أيّ محاولة تأصيلية لنشأة سوسيولوجيا الجمعية في إطار السوسيولوجيا العامة؛ على اعتبار أن التفكير في تطوّر سوسيولوجيا الجمعية لا ينفصل عن التفكير في تطور السوسيولوجيا نفسها.
في الواقع، ما ميّز اللحظة الكلاسيكية هو رهان التأسيس لعلم اجتماعي قادر على الكشف عن القوانين الخفيّة المتحكمة في إنتاج البنيات الموضوعية للمجتمع، في إطار التداخل بين الفعل الفردي والفعل الجمعي والبعد الاجتماعي مع السياسي، قبل البحث عن مدارسة الشروط السوسيولوجية لإنتاج وتنظيم البنيات المجتمعية في جزئياتها الميكروية.
وبالتالي، يظل التفكير المعاصر والجديد (مع السوسيولوجيات الجديدة) في الجمعية كإنتاج وتنظيم اجتماعي مقترن بالشروط الاجتماعية والسياسية الماكروية لإنتاج المجتمع نفسه؛ في سياق انشباكية العوالم المعاصرة.
يتناول الفصلان الثاني والثالث، على التوالي، إسهام سوسيولوجيا التنظيمات وسوسيولوجيا الشغل في تطوّر سوسيولوجيا الجمعيات ضمن تاريخ تطور هذين الحقلين السوسيولوجيين. 
ومن خلال تركيز الباحث على خصوصية سوسيولوجيا التنظيمات (في السياقين الفرنسي والأمريكي) كدراسة للفعل الاجتماعي (المجموعات الاجتماعية) وللفاعلين الاجتماعيين (أفراد وجماعات ومؤسسات)، وعرضه للانتقال البراديغمي للسوسيولوجيا من مقاربة المؤسسة (اللحظة الكلاسيكية) نحو التنظيم (اللحظة المعاصرة) والفعل الجمعي المنظم (السوسيولوجيات الجديدة)، يبرز أن الحوار الإبستيمولوجي بين سوسيولوجيا الجمعيات وسوسيولوجيا التنظيمات اقترن في الأساس بمنهجيات التحليل والمقاربات المعرفية (التحليل النسقي، الاستراتيجي، الخيار العقلاني)، بالشكل الذي جعل إشكالية العلاقة بين الطلب السياسي والاجتماعي وإنتاج المعرفة النقدية قضية ملازمة لتطور ومراس سوسيولوجيا الجمعيات في السياق الراهن.

تراتبيات اجتماعية
يكمن تأثير سوسيولوجيا الشغل في تطور سوسيولوجيا الجمعيات في الأهمية التي يوليها هذا التخصص - المقترن بتطور التفكير في التصنيع والظواهر الملازمة له - للعلاقة بين «العمل التطوعي» و«العمل المأجور» في سياق عالَم اجتماعي أكثر سوقنة وسلعنة وخضوعًا لقوانين السوق. 
وتبعًا لذلك، أضحت المقاربة السوسيولوجية للجمعية تنظر إلى الفعل الجمعوي كفعل اجتماعي واقتصادي في الآن نفسه؛ من منطلق أن الجمعية تمثّل «تنظيمًا مقاولاتيًا خاضعًا لتراتبيات اجتماعية ولمنطق فعل اقتصادي يتجاور الرهان التطوعي والنضالي نحو غاية مادية وسياسية»، في إطار ما يمكن أن نصطلح عليه بـ «الشغل الجمعوي المأجور» (ص 128). لكن مع ذلك، يختلف منطق العمل الجمعوي (سواء التطوعي أو المأجور) في جوهره عن منطق العمل المقاولاتي (المقاولة والمصنع)، إذ إن استراتيجية العمل الجمعوي تظل خاضعة لشروط اجتماعية مقترنة بطبيعة المشروع النضالي أو الإنساني للتنظيم الجمعوي نفسه أكثر مما تخضع لمنطق السوق أو الإنتاج الاقتصادي (فيما يتعلق بتمثّل وسائل وفوائد ومخاطر الفعل).
لم تهدف سوسيولوجيا الجمعيات إلى تطبيق نظريات سوسيولوجيا التنظيمات وسوسيولوجيا الشغل (المنتجة في إطار تطوّر التصنيع والظواهر الحضرية) على تنظيم اجتماعي خاضع لنمط الفعل المنظم (التطوعي أو المأجور) ومناشد للرهان الاجتماعي والإنساني قبل الاجتماعي، بل استفادت من المقاربات المفهومية والتحليلية المنتجة على مدى عقود ضمن هذه الحقول المعرفية وعملت على موقعة الفعل الجمعوي في إطار تطوّر منطق السوق ضمن مرحلة «ما بعد التصنيع» وسوقنة وسلعنة العالم في إطار الليبرالية الجديدة، كل ذلك من أجل الدفاع على خصوصية العمل الجمعوي بوصفه فعلًا ممأسِسًا للاجتماعي والاقتصادي والسياسي أكثر منه ممأسَسًا اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا (كما هي الحال في عالم المقاولة والمصنع).

خصوصيات التنظيمات الجمعوية
يقارب الباب الثاني خصوصيات التنظيمات الجمعوية من الناحية السوسيولوجية، ويركز على طبيعة الشروط الإبستيمولوجية لتعاطي المقاربة السوسيولوجية مع قضايا الجمعيات في سياق مجتمع (وعالم) منشبك وأكثر سلعنة لـ «العمل» و«المال» و«الأرض» (والإنسان والقيم) وأكثر تعقيدًا على نحو مستمر. لهذا، يرسم الباحث في الفصل الأول معالم رهان إيثيمولوجي وإبستيمولوجي ضمن حقل سوسيولوجيا الجمعيات (وله أهميته وراهنيته في حقل السوسيولوجيا بشكل عام) مقترن بتحديد علاقة مفهوم الجمعية بالعديد من المفاهيم المتداولة والمجاورة له، وخصوصية المقاربة السوسيولوجية لهذه المفاهيم وشروط تأثيرها وتأثّرها بالممارسة العلمية في حقل سوسيولوجيا الجمعيات.
بين مفاهيم «المجتمع المدني» و«المنظمات غير الحكومية» و«المؤسسة» و«القطاع الثالث» و«التنظيمات التي لا تهدف إلى الربح أو القطاع اللا ربحي» و«الاقتصاد الاجتماعي والتضامني»، يبرز ذاك التكامل والتداخل والتأثير التاريخي لسوسيولوجيا التنظيمات وسوسيولوجيا الشغل وسوسيولوجيا التنمية على قضايا سوسيولوجيا الجمعيات، بالشكل الذي يجعل تأصيل هذا المبحث مرتهنًا بتحديد المسافة وشروط الاشتغال ورهاناته وغاياته الإبستيمولوجية قبل الخوض في تحديد ماهية الفعل الجمعوي نفسه.
ونتيجة لذلك، يظهر أن التنظيمات الجمعوية، مقارنة ببقية التنظيمات والقطاعات المجاورة، تعكس في جوهرها الشروط الموضوعية لإنتاج المجتمع في تعقيداته وتلويناته المختلفة، وتفرض مقاربتها كبنيات اجتماعية واقتصادية تنموية ملازمة لطبيعة تمثّل وتعاطي الفاعلين المختلفين مع مقولات الفعل الجمعوي التطوعي/ المأجور.

إضافة نوعية
يعتبر الفصل الثاني، المكرس لتحديد الماهية السوسيولوجية للجمعيات، إضافة نوعية في مجال التفكير السوسيولوجي في قضايا التنظيمات الجمعية في علاقتها ببقية التنظيمات في سياق مجتمعات تنظر لقطاع المجتمع المدني (وللتنظيمات الجمعوية بخاصة) كأهم ركيزة لتفعيل مسلسل التنمية البشرية والمستدامة. لذلك، نجد أن الباحث يؤكد أن الخصوصية السوسيولوجية والأنثروبولوجية لمقاربة الهوية الجمعوية لا تقترن بالتحديد السطحي لخصوصيات الجمعية، ولكن بعلاقتها مع بقية التنظيمات الاجتماعية (المقاولة، والإدارة، النقابة والحزب...) كما بقية التنظيمات الجمعوية الأخرى (175 - 176). 
وبالنظر إلى اقتران هوية الجمعية بمتغيرات «الاسم» و«المشروع» و«الثقافة» و«القيم» (كمتغيرات ترتبط في جوهرها بعالم المقاولة) يظهر الطابع المؤسساتي للتنظيمات الجمعوية بوصفها بنية اجتماعية حاملة لمشروع مجتمعي تنموي أو تغييري، وفق رهان نشر قيم معينة أو الدفاع عن مبادئ عمل في إطار تداخل المصالح الاقتصادية والسياسية والحزبية والنقابية بين مختلف الفاعلين في إنتاج المشهد الجمعوي؛ أي أن التنظيمات الجمعوية (بخاصة في سياق الدول السائرة في طريق النمو) لا يمكن فصلها عن الرهانات السياسية والاقتصادية التي تضفي قيمة نوعية على العمل الجمعوي، كما يمكن أن تفرّغه من المعنى الاجتماعي والإنساني لمصلحة خدمة قواعد اللعبة السياسية.

رهان علمي وعملي
في الفصل الأخير، ينفتح الباحث على مدارسة الرهان الأبستيمولوجي والعلمي والعملي المعقود على سوسيولوجيا الجمعيات في الفترة المعاصرة، وفي سياق مجتمعاتنا العربية، مركّزًا على تحولات براديغم مقاربة الفعل الجمعوي خلال العقدين الماضيين ضمن تطوّر السوسيولوجيات الجديدة في الدول الغربية. 
ضمن منطق اشتغال «الجماعات العلمية الجديدة»، أضحى يُنظر إلى الجمعيات بوصفها تنظيمات اجتماعية واقتصادية خاضعة لنمط حياة يعزز التماسك الاجتماعي وتجسّد شكلًا من أشكال الفعل الاجتماعي المنظم، فضلًا عن أنها بنية مؤسساتية خاضعة لمنطق البحث عن السلطة والشرعية في إطار خدمة رهان المهنية (سواء المرتبطة بالفعل التطوعي أو العمل المأجور)، في أفق تجويد الممارسة الجمعوية وصبغها بالبُعد الإبداعي. 
لذلك، لا يمكن الحديث عن ممارسة علمية في حقل سوسيولوجيا الجمعيات منفصلة عن التفكير في البناء النظري والإرث الإبستيمولوجي للمعارف والحقول المجاورة (سواء سوسيولوجيا التنظيمات والشغل والمقاولة... أو العلوم الاقتصادية والسياسية).  
ختامًا، لم يأتِ اختيار هذا الكتاب لأهميته السوسيولوجية فقط، وإنما لرهاناته الإبستيمولوجية في سبيل ربط الجماعات العلمية في السياق المغربي والعربي بجديد النقاشات العلمية المفرزة في إطار تطور السوسيولوجيات الجديدة في السياق الغربي، والتي لا تنفصل بدورها عن القضايا السياسية والاجتماعية التي أضحى يطرحها تطوّر المجتمعات الحديثة وانشباكية العوالم الجديدة. لهذا، ننظر إلى كون مؤلف بوخريص حول «سوسيولوجيا الجمعيات» يعد مرجعًا أساسيًا لعموم الباحثين والمهتمين بقضايا التنظيمات الاجتماعية والجمعوية، وفرصة للتفكير في تطوير جماعات علمية سوسيولوجية منفتحة على القضايا الاجتماعية في ماكرويتها وجزئياتها بعيدًا عن تنظيرات البرج العاجي أو تقنوية البحوث الميدانية التي أفقدت «العلم الاجتماعي» روحه النقدية والإزعاجية والمشاغبة■

إسهام سوسيولوجيا التنظيمات وسوسيولوجيا الشغل في تطوّر سوسيولوجيا الجمعيات ضمن تاريخ تطور الحقلين السوسيولوجيين