قراءة نقدية .. في مجموعة قصصية: حالة حب مجنونة محمد حسن عبدالله

قراءة نقدية .. في مجموعة قصصية: حالة حب مجنونة

هذا هو عنوان القصة الثالثة، من بين إحدى عشرة قصة، آثرته ليلى العثماني ليكون رمزا أو دليلا إلى مجموعتها، وهذا الاختيار صائب تماما، بل إن هذه القصص - على اختلاف موضوعاتها - تنضوي في إطار أنها "حالات" حب مجنونة.

إنها حالات من الجنون الفني، الجنون العاقل - إن صح اجتماع النقيضين - الذي دبرته كاتبة المجموعة عن عمد وإصرار، هو نوع من الجنون الخاص أو المحدود باللحظة، أو الموقف، يعرفه النقد الأدبي - في بعض أوجهه - بمصطلح "الرومانسية"، لقد اختارت ليلى العثمان لقصصها شخصيات عادية في مواقف عادية، وهذا أقدم شروط فن القصة القصيرة منذ تشيكوف وموباسان، غير أنها لا تستوفي نسيج قصتها بأن ترى الحياة وهي تعمل، فتعيش معها متعة الاكتشاف والتعرف، وإنما تتجاوز هذه الجوانب المحكومة بقوانين الواقع، والقدرة الإنسانية، لتضع تحت المجهر الانفعالات، وردود الأفعال المتوترة، والمشاعر الصاخبة أو المذعورة، لتثمر في النهاية عملا حادا، متجاوزا. فاختزال الشخصية الإنسانية في شعور واحد، والبلوغ بهذا الشعور مستوى التضحية بأي شيء، والاستهانة بكل ما عداه، هو ضرب من المرض النفسي، وهو - من الوجهة الفنية - أحد مسالك الرومانسية للغوص في باطن الشخصية، وتمييز الذات الفردية، وتأكيد المشاركة الوجدانية من جانب المتلقي، بتضخيم الانفعالات، وتراجع هيمنة التفكير وقوانين المجتمع وأعرافه على الشخصية، التي تبدو ثائرة صاحبة قضية، مضحية. بعبارة أخرى: هي ضحية المجتمع الظالم أو الظروف القاسية على الأقل!!

صور مختلفة للحب

هكذا تأصلت صورة أبطال حالات الحب المجنونة المنتشرين في قصص المجموعة، وليس من بينهم غريب أو مستجلب، فهذه هي طريقة ليلى العثمان في انتقاء التجارب، والكشف عن أقنعة الشخصيات، وتحديد غايات التصوير الفني، ونشير هنا إلى مجموعة "الحب له صور" ورواية "المرأة والقطة"، فلهما حضور قوي، في الانتقاء والأسلوب، بل إن هذه المجموعة التي بين أيدينا يمكن أن تكون استمرارا للعنوان ذاته، إذ قدمت صورا مختلفة للحب، فإذا كان الحب المجنون استأثر بالعنوان فإن الحب المحبط الذليل (قصة: "طابور الخبز") والحب الذابل تحت قهر الزمن، أو حب " العواجيز" (قصة: "عجوزان.. لوحة، وقطة") والحب الخطيئة (قصة: "ثقب في الجدار") والحب الجريمة (قصة: "تفاصيل للصورة الأخيرة") والحب الحلم (قصة: "شكرا.. يا دكتور")، و (قصة: "كل الأيدي متشابهة")، هذه الصور المختلفة للحب تكشف عن الصلة، وعن استقرار الأسلوب، فكل شيء في عالم ليلى العثمان القصصي يتحول إلى صلة بين الأنا والآخر، صلة انفعالية لا يمكن وصفها إلا بالحب وعلاقاته: درجاته، وأضداده، وتوابعه المثارة به إيجابا أو سلبا. أما في رواية "المرأة والقطة " فقد مضت في طريق إسقاط الحاجز أو تمييع الحدود بين الوهم والحقيقة، واهتمت بالتداعي، واعتنت - بقوة - بجانب التصوير المجازي (الاستعارة بصفة خاصة) وقد أخذت هذه الجوانب اهتماما واضحا من الكاتبة في قصص المجموعة التي نعني بها، وستكون لنا مع الخصائص الأسلوبية وقفة ختامية.

إن ليلى العثمان صوت متميز في الفن القصصي في الكويت، وهذا التميز يمتد ليشمل الوطن العربي إذا كنا نبحث عن الأقلام النسائية التي تواجه الكتابة الأدبية كقضية، ليس هدفها أن توجد أسماء نسائية على صفحات المجلات وأغلفة الكتب، بل أن توجد رؤية نسائية للكون، وللحياة، وللمجتمع ومؤسساته المختلفة، وللرجل (بصفة خاصة: الرجل) صادرة من منبعها الحقيقي الطبيعي: المرأة، وليست مزيفة أو من خلال وكالة مزعومة يقوم بها الرجل، وليست مقلدة تؤديها امرأة تكتفي بترديد ما يقول الرجال، مع إضافة تاء التأنيث إليه.

الصوت النسائي ورد الفعل

على أننا حين نتخذ من تميز الصوت النسائي في الأدب القصصي مدخلا لمناقشة هذه المجموعة، لا نجد مناصا من الإشارة إلى أن هذا الصوت لا يزال يعيش مرحلة "رد الفعل" بالمبالغة في تصوير ما تعارف الناس عليه أنه ألصق باهتمام المرأة وطبيعتها، ولا نستطيع أن نجزم هل تأخذ ليلى العثمان موقعها الجديرة به، موجة كويتية في سياق موجات رد الفعل العربية العامة، أم أن هذا الاهتمام المبالغ فيه بما تعارف الناس عليه أنه من شئون النساء وخواص تفكيرهن هو ما يناسب إدراكها، ويصدر عن طبيعة تكوينها. والاحتمال الثاني هو الأقوى، وذلك لتغلغل "الطريقة النسائية" ويقظتها في تدبيج دقائق التكوين الفني للقصة. ليس يكفي، وليس صحيحا أن نقول إن الاهتمام بالحب سليقة نسائية، فالحب هو الموضوع الأثير في القصص منذ وجدت، أما الفرق فيتجلى في طريقة تصويره، وقبل ذلك في تصوره، وهذا ما يميز قصص ليلى العثمان.

لقد سبقت الإشارة إلى أن عالم هذه القصص بمكن اختزاله في علاقة الأنا والآخر، كما يمكن وصفه بأنه عالم من الحب وأضداده وعلاقاته المثارة. وهذا التصور الخاص لون موضوعات جميع القصص حتى تلك التي تأبى طبيعتها وتكوينها أن تدخل في وصف الحب، فضلا عن الانحصار في علاقة الأنا والآخر.. مثلا: إن ليلى العثمان تريد أن تكتب قصة تمجد فيها ثورة الفتيان في فلسطين المحتلة، أو ما تعارفنا على تسميته: انتفاضة الحجارة. لقد فعلت هذا في قصتين: "كل الأيدي متشابهة" و"إنه ما زال يحلم". في القصة الأولى نحضر معها ندوة شعرية لتأييد الانتفاضة، بدايتها هذا السطر: "متراخية في مكانها، تسمع لغو الشعراء، وصقيع الكلمات، ودوي الميكروفون الخشن" هي إذن امرأة صعبة الرضا، لا يعجبها شيء، لا الشعر، ولا النثر، ولا حتى الميكروفون!! هذا حقها بشرط تقديم البديل الأكثر إيجابية، ولكن البديل الذي قدمته القصة، أو القاصة، هو هذه الأنا الأنثوية المشغولة جدا برجل واحد، يتصدر القاعة، تسبق تصوراتنا المشفقة على بناء القصة فتفترض فيه الرمز، لكنها تأبى علينا ذلك، إن يده وحدها تبدو لها فتثير فيها أحاسيس الأنثى: كم هي جميلة، تحسها دافئة رغم أنها لم تلمسها، الشعيرات القليلة المتناثرة عليها تبدو كعشب ارتوى للتو وهدأ. إنها - كما تصف المرأة في القصة - متوهجة، جريئة، ولكن في حدود القدرة على ازدراء رجل، واصطفاء آخر. وهذا التصور الخاص يفرض نفسه على القصة الأخرى، فهنا رجل محب للحياة، محب لزوجته، يفاجأ بوجود ورم خبيث في جنبه، فلا نجد شعور الانسحاق والتمزق بين اليأس والرجاء عند المريض، ولا نجد الهلع والحيرة عند الزوجة المحبة، بل نجد حزنا رزينا عاقلا يستولي عليهما، وتفكيرا غريبا يعزي الرجل عن بلواه، أن لو كان هذا الورم الناشيء المتحجر طوع إرادته، لانتزعه ورمى به الورم الأكبر الخبيث في الأرض المحتلة!! ولا تذهب الزوجة المفزوعة بعيدا عن هذا التصور ذاته.

التحرر من التجربة الشخصية

وإذا كان "سرداب الطفولة" المتشعب المترامي، والتجربة الخاصة المباشرة يمثلان أهم وأخصب روافد الاستمداد الفني لدى الأديب، فإن الفروق تتجلى ليس في درجة تحوير الحدث أو إعادة تشكيله في سياق العمل الفني وحسب، بل في تحرير هذا الحدث الذاتي من دلالته الشخصية المحددة أو المحدودة، والارتفاع به إلى مستوى الدلالة العامة أو الرمز. وهذا الأمر يصعب على المرأة لشدة ارتباطها بتسلسل أحداث حياتها الخاصة ومعاناتها الذاتية (التي تعتقد دائما أنه لا يوجد من عانى مثلها)، ولقوة حواسها التي تجنح بها إلى التشخيص، وتنأى بفكرها عن التجريد. هكذا ترادفت في قصص ليلى العثمان، وفي هذه المجموعة أيضا، صورة الأب القاسي، والأم الطيبة المقهورة، البعيدة عن ابنتها، وهذه الابنة الجميلة الوديعة، المظلومة من زوجة أبيها (عمتها)، ويحدث أن تتزوج هذه الفتاة الجميلة من غير أبناء وطنها، فتقبل على هذا الزواج تحديا، وتندمج فيما يترتب عليه من اهتمامات وأعراف، ويحدث أيضا أن تكون هذه الفتاة محبة للكتابة، وتنشر الصحافة صورها، فيعرفها الناس في الشارع، يتعلقون بها، ويتوقون إلى أداء خدمة تطوعية لها.

هذا الجانب الشخصي في قصص ليلى العثمان تجسد في الأسلوب التشخيصي، الذي تجيده بحق، واستحال التصور إلى التصوير، أدى المجاز فيه دورا بنائيا بكثير من الشاعرية والرهافة التي نعرفها في لغتها، وهي بهذا التشخيص، وهذا التصوير لم تغادر ذاتها الفردية، بقدر ما جعلتها على وفاق تام مع طبيعة الأنثى وطريقتها في الإدراك والتعبير. وهذه طائفة من الصور والمشاعر التي تشير إلى ما نقصد:

إنها تشبه اللعبة (الأرجوحة) التي نراها في مدن الملاهي ولها أذرع أخطبوطية صاعدة هابطة بذيل العروس، أما النهار الساخن فإنه كثغر طفل، فإذا رأت رجلا يدخن فإنه يمسك بخصر سيجارته، وإذا دققت التفكير تحاول أن تتذكر أين رأت هذا الوجه الرجالي من قبل فإن تعجبها من أنه يلتصق بلحم ذاكرتها، أما علاقة الحب الخامدة بين عجوزين منفردين في بيت صامت، فإنها تتجسد في أشياء تنتمي إلى حيز النشاط النسوي، وتستقر في شكل مجازي نسوي أيضا.

"السجاجيد تآكلت أطرافها ونبتت الخيوط حولها كالأعشاب الجافة، والستائر التي رقصت يوما تهدلت كصدر امرأة أرضع ألف مرة"، أما اللحظة غير المرغوب فيها فإنها تقول: "تتناسل، تلد توائم أيام عصيبة". فإذا انفصل والدها عن أمها، وجاء يأخذها - هي الطفلة - إلى بيت زوجته القديمة فإنه يسحبها كنعجة، أما الجار الذي طرق الباب، فإنه يوصف بأنه جارها اللطيف.

إن الدقة والكثافة والحدة والملاءمة من صفات التصوير الفني عند ليلى العثمان، وهي بذاتها - على تفاوت - خاصة نسائية. قد راقبنا الدقة فيما سبق من صور، وفي مرات غير قليلة تتراكم الصور وتتكاثف لتعميق الشعور بصفة واحدة، مثلا: في قصة "شيء غير الوجع" - وهي القصة الوحيدة المتفائلة، وإن لم تنج من الطابع الكابوسي الذي صبغ جميع القصص - كانت الأم الشابة تتعلق بأمل أن يكون ابن ضرتها لم يهمل عامدا في رعاية أخته - ابنتها - مما أدى إلى سقوط الطفلة من الأرجوحة وموتها. كيف صورت لحظة الانتظار والتعلل بالأمل؟: "مدت ذراعيها. تصلبتا أن يحط العصفور بداخلهما، أن ينفض عن جناحه الخوف، أن يفقس شيئا غير الوجع، أن يحرر رأسها نهائيا من سواد الفكرة، ألا يغرس في جلدها حقيقة تكون بيوضا تفقس السرطانات التي لا علاج لها سوى الموت". هنا سيل من الصور المجازية، قد نختلف على مدى الحاجة إليه، أو على قدرته على تجسيد اللحظة المتوترة، ولكن الإطالة في وصف المشاعر (في الحزن وفي الفرح) طريقة نسائية، والإطالة - في ذاتها - تكشف عن طول المعاناة في اللحظة الخاطفة. وكما يعبر هذا السيل من الصور عن حدة الشعور، كذلك نجد في انتقاء مفردات الصورة، مثل: "رفست إصرارهم، وصرخت"، أما إشارة المرور الحمراء فإنها "تفتح لون النار" وبهذه الحدة تقرأ نظرة الفتى العاشق صويلح فإذا عيناه "تصهلان كجواد ظامئ في بقاعات نهارها". وبهذه الحدة تسمع للابتسامة صوتا فإذا هو "أزيز باب قديم"!! وكذلك تتجلى ملاءمة الصورة لموضوع القصة أو طبيعة الشخصية. وقصص ليلى العثمان - بشكل عام - نفسية، تعتمد على بواعث قديمة، تحركها سلوكيات حاضرة، فيكون رصد التداعي، أو مراقبة تيار الشعور هو الخط الأساسي للقصة، ولهذا السبب تعددت الصور التحويلية التي تنتهج طريقة الرمزيين في الإغراب والغموض، إذ تحولت النظرة إلى جواد ظامئ يصهل، وتحول المدرك بالنظر إلى مدرك بالسمع: البسمة كأزيز باب قديم. ولكن حين يكون موضوع القصة من الكويت القديمة، فإن هذا الطراز من الصور يختفي، لتحل مكانه الصور التراثية، مع قدر من إضفاء الجدة في علاقات الصور أو سيولتها، في "حالة حب مجنونة" التي تبرز الحب المضطهد في الكويت القديمة، نشاهد عائشة - المحبوبة - تمسك بمكنسة "العرفج"، وهذا يناسب أنه حين شفها الحب كانت "ترتجف مثل سعف" و"ظلت الأفكار تحرث في أرض عقلها"، بل نجد استخداما عصريا لصورة الليل عند امرئ القيس، الذي تمطى بصلبه، وأردف أعجازا، وناء بكلكل. لقد عانت عائشة قدرا من هذا حين طردت أمها حبيبها وحرمت عليه دخول البيت: "أكل جمر الليل الموحش من لحم أجنابها، وداس بأظلافه الثقيلة على صدرها فتوجعت".

تداعيات ومشاعر متقطعة

وكما تقوم نزعة التشخيص، ولغة الصور بدورها البنائي في تأكيد الأساس النفسي لقصص المجموعة، فإن الاعتماد على تداعي الصور والمشاعر والأفكار يأخذ مداه الواسع، بدرجة جعلت من قصتين كاملتين هنا: "شيء غير الوجع" و"التهمة"، سلسلة تداعيات ومشاعر متقاطعة، أما الالتماعات الذهنية والشعورية في بقية القصص فإنها منتشرة بكثرة. غير أننا نشير إلى نوع من التداعي، وطريقة خاصة في استخدامه، تميزت به هذه المجموعة، ويمكن أن نطلق عليه: "التداعي اللغوي"، فالكلمة تأتي في ختام الفقرة، بعدها فراغ أو فاصل، لتبدأ فقرة جديدة، تتصدرها تلك الكلمة ذاتها، مثقلة بمعناها، أو مكتسبة لمعنى مختلف. مثلا: يسرح فكرها وهي داخل سيارتها - عند الإشارة - فتصل إلى موقف محرج، عاقبها فيه والدها وهي طفلة "وتزعق عيني بالدموع" ثم: "زعق بوق سيارة وقفت إلى جانبي، فانتبهت".

وفي طابور الخبز تراقب طفلة تلعب بشعرها، فتتذكر كيف ثارت زوجة أبيها حين لاحظت اختفاء بعض شعرها المهمل في شقوق جدار مهجور، خوفا من أن تستخدمه ضرتها في السحر لها. كان من وصيتها لبناتها. "قد يجلب هذا لكن التعاسة" ثم تتم العودة من الماضي إلى الحاضر، ومن زوجة الأب إلى طابور الخبز، وتتصدر الكلمة ذاتها الفقرة التالية: "أي تعاسة كنت أخضع لها وأنا في الطابور!".

لقد تكرر هذا الصنيع أكثر من عشر مرات في قصص مختلفة، مما يعني أنه ليس عفو الخاطر، وأن الكاتبة تقصد إليه قصدا، ولعلها أرادت أن تحدث به توازنا بين النقلات المفاجئة التي يؤثرها الاعتماد على التداعي، والانسياب الطبيعي والتماسك في إطار الحكاية الذي يستلزمه فن القص في قواعده التقليدية، وأن تكسب لغتها نكهة خاصة، وقد تحقق لها هذا بالتشخيص والتصوير، بدرجة أقوى وأدخل في لغة الفن من هذا التداعي اللغوي المكشوف.

 

محمد حسن عبدالله







غلاف الكتاب





ليلى العثمان