«لأن الإنسان فَانٍ» الطب وما له قيمة في نهاية المطاف

«لأن الإنسان فَانٍ» الطب وما له قيمة في نهاية المطاف

ليس للموت صديق، ولا له عدو أيضًا، إنه قدَر محتوم لا يميّز بين رجل في مقتبل العمر، وبين شيخ طاعن في السن. لكنّ بوادرَه تلوح في الأفق كلما اقتربنا أكثر من منعطفات الهرم ومدارات الشيخوخة. لا يكرر نفسه ولا يرفّ له جفن حتى يحوّل الشروق إلى غروب، والنهار إلى ليل. ويترقّب في غير ملل أن تكمل الحياة دورتها وتعلن انسحابها، وأن يلقي الإنسان على أقربائه وأصدقائه تحيّة الوداع الأخير. 

 كثيرًا ما يولي الطب عنايته لإنقاذ حياة الناس، لكنّ مهمته تزداد صعوبة عندما يتعلّق الأمر بكيفية التعامل مع اللحظات الأخيرة في حياة كل فرد. وهنا تبرز الأسئلة الجوهرية التي يسعى الطبيب الجراح أتول غواندي إلى الإجابة عنها في مؤلفه الموسوم بـ «لأن الإنسان فَانٍ... الطب وما له قيمة في نهاية المطاف»؛ كيف يعتني الطب بالنهايات؟ وأي فائدة تُرجى من الطب بالنسبة إلى شخص في طريقه إلى الموت؟ وهل ينجح الطب في إنقاذ المقبلين على الموت من خلال مواساتهم ومعالجتهم تارة بالتعاطف وتارة بالعناية الطبية اللازمة؟ لماذا يتمسّك الناس إلى الرمق الأخير بما تبقّى لهم من لحظات الحياة وهم يواجهون الفناء وجهًا لوجه؟ هذه الأسئلة وغيرها تمثّل بؤرة اهتمام المؤلِّف في هذا الكتاب مستفيدًا مما راكمه من خبرات وتجارب في مسيرته المهنية، ومن انشغاله بما تنطوي عليه الحالات النفسية لمن امتدّ بهم العمر من هواجس الترقّب وبوارق الأمل فيما يمكن أن يسعفهم الطب به وهم يقتربون من اللحظات الأخيرة في حياتهم.
يستهل الكاتب مؤلفه بفصل أول عنوانه «الذات المستقلة»، وفيه يعرض لنماذج أشخاص مسنيّن قرروا عن طواعية أو مجبرين أن يعيشوا حياة مستقلة عن الآخرين. يخدمون أنفسهم بأنفسهم في تحدّ للصعوبات التي يواجهونها بسبب تقدّمهم في العمر، صامدين ومحافظين على روحهم الحيوية. 
وينقل الكاتب عن والده، الذي كان طبيبًا أيضًا، إيمانه بأن العائلة مسؤولة عن احتواء مَن تقدّموا في السنّ ومصاحبتهم والاعتناء بهم، بدلًا من إبعادهم ووضعهم في بيوت التمريض، أو ما يُعرف بدور العناية للمسنين، حيث تسود القواعد الصارمة التي تحدّ من حريّة النزيل واختياراته وتزيد من إحساسه بالغربة والاكتئاب. وهكذا، يرى غواندي أن «سنّ الشيخوخة وما يرافقها من متاعب جسمية قد انتقل من أنه من مسؤولية عدد من الأجيال إلى أنه مسألة شخصية بشكل ما». أي أن الأشخاص المسنين يتمسكون أكثر فأكثر بالإبقاء على استقلاليتهم لأطول فترة ممكنة.

الأشياء تتداعى
يرصد الكاتب في الفصل الثاني الموسوم بـ«الأشياء تتداعى» التطورات التي شهدها الطب في العصر الحديث، والتي بفضلها توصّل الطب إلى طرق تمكّن بها من تقليل نسبة الوفاة الناجمة عن كثير من الأمراض، مثل أزمات القلب وأمراض جهاز التنفس.
ومع ذلك لا مناص من الموت، وإن أفلح الطب في إبطاء المرض وتأجيل النهاية، ذلك أن جسد الإنسان يتداعى ويؤول إلى الانحدار والسقوط والانزلاق نحو النهاية المحتمة. ويراهن غواندي في هذا الفصل على الأشياء التي تؤجل مواجهة المريض للموت: العقاقير والسوائل والجراحة ووحدات العناية المركزة. وعلى الرغم من نجاعتها فليس بوسعها أن تقاوم مسار الشيخوخة الذي ينتظر كل واحد منّا.
وهنا يزداد الأمر غرابة، لأننا - وفق تصوّر الكاتب - أصبحنا نعيش أكثر بكثير مما هو متوقّع لنا مقارنة بالأزمنة السابقة التي كان الفرد يموت فيها قبل أن يصل إلى سن الشيخوخة. 
ويرى غواندي أن المعرفة الطبية قد نجحت في تمكين الفرد من العيش لأطول فترة ممكنة، لكنّها أغفلت مساندة الناس لكي يعيشوا شيخوختهم بطريقة أفضل. ومما يزيد من تعقيد الوضع انخفاض عدد أطباء الشيخوخة لأسباب اقتصادية (ضعف الدخل الوارد من أمراض الشيخوخة)، وأخرى مهنية (افتقاد معظم الأطباء القدرات اللازمة للتعامل مع المسنين).
وبين هذا وذاك «سيبقى الانحدار مصيرنا، وسيقرع الموت بابنا يومًا ما»، وسيقع على عاتق الطب تحديد شكل الانحدار: سقوط حرّ أو تداعٍ تدريجي.
يتناول الكاتب في الفصل الثالث «الاعتماد على الغير» إشكالية حاجة المسنين إلى مساعدة الآخرين سيما عندما يعجز المرء عن القيام بواجباته الحياتية بشكل صحيح ومتوازن. وفي هذا المقام يبرز دور فريق العناية داخل بيوت التمريض؛ وهو دور يتّسم بتباين الرؤى؛ فمن ناحية يبذل أعضاء الفريق كل ما في وسعهم للعناية بالنزلاء: التغسيل واللبس والإطعام، ومن ناحية أخرى، فرغم هذه الجهود المبذولة، يعتري النزلاء شعور بالضيق لفقدهم خصوصياتهم وغياب الراحة النفسية التي كانوا يستشعرونها في بيوتهم الأصلية، حيث استقر في أذهانهم أن مراكز التمريض هاته لا تعدو أن تكون أمكنة كئيبة مرعبة يُحتجز فيها المرء ليُجبر على قضاء آخر مراحل حياته فيها. ولذلك تجدهم يقاومون ضمنيًا النظام الصارم لحياة بيوت التمريض، ويناضلون في سبيل حياة يكون لها معنى وغاية، فينزعون إلى إبداء نوع من المشاكسة وعدم التعاون تجاه العاملين ببيوت التمريض، لكنّهم في نهاية المطاف يروّضون أنفسهم على قبول الوضع الجديد وعلى التعايش معه في انتظار أن يمضوا إلى حال سبيلهم.

مفترق طرق
يسرد غواندي في الفصل الرابع المعنون بـ«بذل المساعدة» قصصًا متنوعة لأشخاص تقدّم بهم العمر فلم يعد في مقدورهم أن يدبّروا أمورهم بأنفسهم، حيث صاروا في أمسّ الحاجة إلى مساعدة الآخرين. 
وهنا يبرز الكاتب دور الأبناء في رعاية آبائهم، مع ما يعتري هذا الأمر من صعوبات ومتاعب تنتهي بوضع المسنيّن في بيوت التمريض، فالتعايش مع الأشخاص المسنين يتطلب الكثير من الحنكة والتيقظ للتأقلم مع معطيات الحياة الجديدة، خصوصًا عندما تجد الابنة - مثلًا - نفسها في مفترق طرق بين العمل والعناية بشؤون البيت ورعاية الزوج والأطفال والعناية بالأب أو الأم أو هما معًا.
وهكذا يستنتج غواندي أن «العناية بشخص عجوز واهن الجسم، في عصرنا الذي تغلب فيه الحلول الطبية، هي مزيج يكاد لا يُحتمل من صعوبات التقنية وتوفير الرعاية». وفي الجهة المقابلة، كلما تقدّم العمر بالشخص كان تفاعله مع أعداد أقل من الناس، وكانت رغبته شديدة في قضاء الوقت مع أسرته وأصدقائه. إنها مسألة وجودية تحتفي بالحاضر أكثر مما تحتفي بالمستقبل. 
وقد عبّر الكاتب عن ذلك بقوله: «إن من يضيق نطاق اهتمامه وعلاقاته نتيجة تقدمه في السن يكون أقل سعادة».
يكشف الفصل الخامس «حياة أفضل» الآفاق التي يؤمن المسنّون بامتدادها ويحرصون على عدم انكماشها. يتعلّق الأمر بالأسرار الكامنة وراء اختيار حياة أفضل تتشكّل حلقتها الأقوى بالعناية والرعاية بما يطمح إليه الشخص المسن من معاني الحياة التي تتجاوز تقديم الأدوية والخدمات.
ومن هذا المنطلق يحكي غواندي قصة طبيب مقيم اسمه بيل توماس استطاع خوض تجربة ناجحة غيّرت جذريًا وضعية النزلاء في بيوت التمريض، وذلك بإدخال بعض النباتات والحيوانات والأطفال سعيًا منه إلى تقويض دعائم الملل والعزلة والعجز عند النزلاء. 
وهو بهذا الفعل قد بعث الحياة من جديد في هذه الأمكنة المغلقة، حيث انخفضت حاجة النزلاء إلى الأدوية، وهبطت نسبة الوفيات بنحو 15 في المئة. 

نتائج إيجابية
شكّلت النباتات والحيوانات والأطفال بالنسبة للنزلاء متعًا تستحق الحياة من أجلها. وقد عبّر غواندي عن النتائج الإيجابية لهذه التجربة الفريدة بقوله: «بدلًا من الشعور بالعزلة، تعطي الأشياء الحية الشعور بالصحبة». وفي الواقع، كان لهذه التجربة بالغ الأثر في نفسية كثير من المسنين، حيث جعلت حياتهم مليئة بالمعاني والسعادة والرضا. لا يتعلق الأمر إذن بعلاج المرض والشيخوخة والموت، بل بالعناية النفسية والروحية للمسنّين لكي يعيشوا حياة ذات مغزى، وذات معنى؛ حياة ترفع معنوياتهم وتحسسهم بقيمة وجودهم.
يناقش غواندي في الفصل السادس «التخلي» الهواجس التي تعتري المرء في الجزء الأخير من كتاب حياته، ويبيّن أن «ما يتربع على قمة الاهتمام لدى المريض هو تجنّب المعاناة وتقوية العلاقات مع أفراد الأسرة والأصدقاء، وأن يحافظ عقله على وعيه، وألا يكون عبئًا ثقيلًا على الآخرين، وأن يصل إلى الشعور بأن الحياة قد تمت».
وبهذا المعنى، فالأَولى أن يقدّم الطب الحديث لمن هو على وشك الرحيل مساعدة حقيقية من شأنها أن تضمن تحقُّق أكبر قدر ممكن من هذه الأولويات. وقد يكون لهذا الأمر ما يبرره بالنسبة إلى الأطباء الذين على الرغم من إخبارهم مرضاهم بأن حالتهم غير قابلة للشفاء، فإنهم - أي الأطباء - يحجمون عن تبديد آمال المريض ويتجنبون الحديث عن توقّعات الفترة الزمنية المتبقية له، ويبدون في أفضل الأحوال نوعًا من التفاؤل مراعاة لمشاعر المريض، ويسعون إلى التعامل اللطيف معه عبر تبديد قلقه حول المعاناة والأحبة والموت.

محاورات صعبة
يسلّط الكاتب الضوء في الفصل السابع «محاورات صعبة» على إشكالية مواجهة الموت من خلال طرح السؤال الآتي: كيف نواجه كوننا فانين ونحتفظ بجوهر الحياة ذات المعنى؟ وقد قاده هذا السؤال إلى الخوض فيما أسماه: المحاورة الصعبة التي تضع المرء أمام واقعه الذي لا مناص منه وتُعِدّه لتقبّل مصيره المحتوم، وتسعى إلى أن تكون النهاية هادئة لا مأساوية.
فمع اقتراب الأجل تصير أمواج الموت عاتية، ويجب على المريض أن يجد طريقة لملء الفجوات المتبقية من الحياة. وقد يحدث بهذا الصدد أن تتناسل الأسئلة التي يوجهها المريض إلى الطبيب، والتي تعكس مخاوفه وقلقه من الإجراءات الوقائية الطبية التي من شأنها أن تسعفه أو على الأقل أن تخفّف عنه الألم والمعاناة. وهو ما يستدعي صبر الطبيب وأناته وحكمته في معالجة مثل هذه المواقف الحرجة.
ويختتم غواندي كتابة بفصل أخير عنونه بـ«امتلاك الشجاعة»، وفيه يسعى إلى مقاربة الموت مقاربة فلسفية عبر مواجهة ما لا حلّ له من خلال نوعين من الجرأة «الجرأة على البحث عن حقيقة ما يجب الخوف منه، والجرأة على أن يتصرّف المرء وفق ما اكتشفه من حقيقة»، إذ تكشف الأيام الأخيرة للإنسان أن هذا الأخير يجد صعوبة في اتخاذ القرارات المناسبة، سيما أنه عاجز عن معرفة ما سيحدث. وعند هذا الحد تنوس قراراته بين التفكير في المخاوف أو التعلّق بالآمال.
ختامًا، يكشف هذا الكتاب أن رهانات الطب البعيدة وتطوّراته المستقبلية لا تزال تبدو محدودة فيما يتعلق بمواجهة الموت بالنسبة إلى الطبيب والمريض على حد سواء. فاهتمام الطب بتحسين صحة الناس لا يكفي ولا يحقق المأمول منه عند الأشخاص الذين يعيشون الفصول الأخيرة من حياتهم، يحدوهم رجاء واحد؛ أن تبقى حبالهم موصولة بالحياة لأطول فترة ممكنة، وأن تكون نهايتهم نهاية سلسة، آمنة وهادئة■

أتول غواندي جراح أمريكي ومؤلف الكتاب