كورونا وباءٌ هزمَ العالَم

لم تكن هذه الأسطر مستثناة مما أصاب العالم بأسره من جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، فقد أعدتُ كتابتها مرات عدة، وأدخلت عليها تغييرات متلاحقة نابعة من تأثيرات الحدث العظيم، في بدايتها كان محور الحديث يترصد الصين ومكانتها الاقتصادية على مستوى العالم، والمدخل المحفز كان موضوع الوباء الذي ظهر لأول مرة في «ووهان» عاصمة مقاطعة هوبي، عندها كانت عجلة الحياة تدور وأخبار الصين تعتبر حدثا فرعيًا، ويومًا بعد يوم تضخم الحدث الفرعي ليحتل نشرات أخبار العالم، وتتعدد بؤر انتشار الوباء، حتى تفوق بعضها في عدد الإصابات والوفيات على بلد المنشأ .
في حدث عالمي نادر مُحيت كل الحدود الفاصلة بين الخبرين، المحلي والعالمي، ولم يعد هناك مفرّ من متابعة أخبار تفشي وباء كورونا، بعد أن احتجز الناس في منازلهم، وأغلقت الحدود بين المدن والدول، وألغيت كل الفعاليات بجميع أنواعها لكبح جماح سرعة انتشار الفايروس الخبيث.
مَنْ كان ليصدق ما حدث من شلل شبه كامل أصاب أنظمة العالم ودورة الحياة الطبيعية بهذا الشكل الصادم والسريع؟ ومَنْ كان يتوقع أن البقاء في المنزل هو الطريقة الوحيدة المتوفرة لمواجهة وباء ينتقل بالمصافحة واللمس؟ لقد توالت ضربات اكوروناب لجميع أنشطة البشر وكل ما قد يشغلهم عنه، حتى أصبح الهروب من أخبار الوباء أمرًا مستحيلًا، وباتت جميع القوى العالمية والإقليمية هدفًا سهلًا للوباء الذي افترس الأقوياء قبل الضعفاء، في وقت ساد فيه الاعتقاد بأن ما وصلت له الحضارة الإنسانية من تقدم طبي كفيل بالسيطرة على الأمراض والأوبئة وعدم العودة إلى الحقب الغابرة، التي حصدت فيها الأوبئة أرواح الملايين من البشر.
وباء أعاد زمن الأوبئة
إن التطور الكبير في مجال الطب وفر الكثير من الأدوية وطرق العلاج التي ساهمت في الحفاظ على حياة البشر وعدم تقبل فكرة الموت بأعداد مهولة بسبب مرض غير معروف، لذلك كان من الصعب هضم الواقع الجديد، وهو أن زمن الأوبئة قد عاد بصورة غير مسبوقة من ناحية الانتشار. وبالمقارنة من خلال التاريخ، فقد كانت الأوبئة قديمًا تضرب منطقة محددة، وكان أمر تفشيها مرهونًا بالسفر، الذي لم يتطور سوى في القرن الماضي، بعكس وباء كورونا الذي تفشى في الصين، ثم ركب أمواج العولمة ليصل إلى جميع قارات العالم المأهولة!
قضى وباء جستنيان، الذي ظهر في القرن السادس الميلادي بالامبراطورية البيزنطية، على حياة الملايين من البشر، تقدر ما بين 25 و50 مليون نسمة، وكان السبب في انتشاره فئران السفن التجارية، وقد تكرر ظهوره حتى القرن الثامن الميلادي، وبنفس الوتيرة المليونية قضى وباء الموت الأسود الذي اجتاح أوربا والجدري في أمريكا على أكثر من عشرين مليون نسمة لكل منهما، أما وباء الكوليرا الشهير فقد ظهر لأول مرة في كلكتا بالهند عام 1817م، وانتشر بداية في معظم أجزاء قارة آسيا ولاحقًا في قارة أوربا، وتسبب ذلك الوباء في مقتل الآلاف واختلافه عن كل ما سبق يكمن في استمرار ظهوره حتى يومنا الحاضر.
وتعتبر الإنفلونزا الإسبانية هي الأخيرة في تسجيل الأرقام المليونية في الوفيات، وجاءت بعد الحرب العالمية الأولى 1914م ذ 1918م، وتسببت في إزهاق ما يقارب الخمسين مليون إنسان، وأخيرًا وفي العقد الأخير الذي لا يختلف كثيرًا عن هذا الوقت من حيث الكثافة والتنوع في حركة المواصلات الدولية، انتشرت إنفلونزا الخنازير لتصيب أكثر من خمسين مليون إنسان وتقتل 550 ألفًا، أما وباء إيبولا عام 2014 فقد اجتاح ثلاث دول إفريقية، هي غينيا وسيراليون وليبيريا، وقتل أكثر من 10 آلاف إنسان.
صياغة شعارات أممية
لم يفعل وباء كورونا بالعالم ما فعلته الأوبئة القديمة، خاصة فيما يتعلق بأرقام الوفيات، إلّا أنه بسبب سرعة انتشاره وفورية وصول الأخبار ليد كل من يمتلك هاتفًا ذكيًا، تسبب في حبس الناس في منازلهم، ودفع كل الحكومات والجهات المعنية بالصحة العامة لصياغة شعارات أممية تتمحور حول الإجراءات الوقائية، مثل البقاء في المنزل ونظافة اليدين ولبس الكمامات والقفازات وعدم المخالطة والمصافحة، والشراء حسب الحاجة، إضافة إلى ما فعله اكوروناب في أسواق التجارة العالمية وانخفاض الطلب على الكثير من البضائع، وتسببه في إغلاق مختلف الأنشطة الاقتصادية التي توفر الملايين من الوظائف، لكن ما زالت الخسائر في أول الطريق، والآمال متوقفة على انتهاء الجائحة بأسرع وقت ممكن.
عودة زمن القراصنة
كانت السمة الغالبة لأغلب الدول - وأولها الصين - في تعاملها مع انتشار فيروس كورونا، هي الارتباك، ثم التكتم، ومع سرعة انتشار الوباء وعدم القدرة على معرفة ماهيته للسيطرة عليه، تم اتخاذ تدابير قاسية لا يمكن إخفاؤها، مثل الحجر الصحي الكامل لسكان مدينة كاملة، ومع مرور الوقت وتزايد حالات الإصابات وإغلاق الحدود والمطارات أصبح التعامل مع الأوضاع الجديدة أكثر شفافية.
السمة الثانية التي لم تكن متوقعة هي الأحادية الدولية في التعامل مع وباء كورونا، فكل دولة منشغلة بحالها ماعدا دول قليلة ساهمت في إرسال مساعدات طبية لدول أخرى، وقد ظهرت تبريرات بأن الحدث جلل وأصاب الدول الكبرى التي انهارت منظوماتها الصحية بشكل مرعب، حتى وصلوا لمرحلة الاختيار بين المرضى، في حين كان متوقعًا أن تكون هي المبادرة لمساعدة الدول المحتاجة، وقد يكون هذا الرأي مقبولًا إلى حد كبير، لكن ما حصل في الاتحاد الأوربي مع إيطاليا وإسبانيا بالتحديد، وسقوط اتفاقية االشنغنب بعد إغلاق كل دولة حدودها، جعل شعارات الوحدة الأوربية على المحك، ولعل توقيت اكوروناب السيئ يأتي بمنزلة الضربة الثالثة للاتحاد الأوربي بعد الانهيار الاقتصادي لليونان وخروج بريطانيا من عضويته، وقد ظهرت بوادر تذمُّر شعبي في إيطاليا تطورت لاحقًا لتخرج إلى العلن على لسان رئيس الحكومة.
السمة الثالثة، التي أعتبرها أخطر من وباء كورونا هي االتوحشب، الذي أصاب بعض الدول والجماعات والأفراد، فمن ناحية الدول نجد أن دولًا محسوبة على معسكر الدول المتقدمة تسطو على سفن تحمل شحنات ومعدات طبية لدولة أخرى، وقد تكرّر هذا الفعل مرات عدة، بما يوحي بعودة زمن القراصنة وإطلاق قانون الغاب لمن يملك القوة الأكبر، أما الجماعات والأفراد، فتزايدت فيما بينهم صيحات العنصرية بشكل مقزّز، من بينها الدعوات لتجريب لقاحات اكوروناب على ذوي البَشرَة السمراء، وليت الأمر اقتصر على التدافع على الطعام والشراب، فتلك أمور تنتهي بانتهائها، لكن العنصرية ثقافة يصعب تغييرها بين يوم وليلة.
للجائحة فوائدٌ ودروس
بالرغم من أن كل الإجراءات المتبعة حاليًا للحد من انتشار وباء كورونا، التي يأتي على رأسها بقاء الناس في منازلهم، وتوقّف وسائل المواصلات كافة عن العمل، تعتبر مؤقتة، فإن تلك الإجراءات انعكست بشكل إيجابي على البيئة، من خلال الانخفاض الملحوظ في انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وكأن رئة الكرة الأرضية باتت تتنفس هواءً نقيًا، وعلى ذمّة موقع هيئة الإذاعة البريطانية، تراجعت مستويات التلوث في مدينة نيويورك الأمريكية بنحو 50 في المئة، مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، كما انحسرت الانبعاثات في الصين بنسبة 25 بالمئة في مطلع العام الحالي.
وتحسنت جودة الهواء في 337 مدينة حول العالم بنسبة 11.4 في المئة، مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، ويتوقع أن تطرأ على سلوكيات الناس بما يساهم في الحد من انبعاثات الكربون. وأشارت دراسة أجريت في عام 2018م بجامعة زيورخ للعلوم التطبيقية في سويسرا، إلى أن حثّ الناس على تغيير عاداتهم لفترة من الوقت قد يترك أثرًا على سلوكياتهم على المدى الطويل.
الدرس القاسي الذي تتجرّعه أقوى المنظومات الصحية، أنه على الرغم من أن جائحة كورونا أصابت أعدادًا تفوق الطاقة الاستيعابية، فإن الدرس يكمن في أن الرعاية الصحية ليست سلعة تباع وتشترى، والدولة، حتى في النظم الرأسمالية، يجب عليها عدم التخلي عن دورها في تقديم الرعاية الصحية الجيدة للفئات الأكثر تدنيًا في مدخولها، لأنها، أي الدولة، لا تملك في الأوقات الحرجة إلا أن تكون أكثر تسامحًا معهم.
وبهذه المناسبة لا نملك إلا أن نقدّم تحية كبيرة للطواقم الطبية المخلصة التي تواجه مرضًا لا يعرف له دواء، فهم اليوم يتقدّمون الصفوف الأمامية ويعملون فوق طاقتهم المعتادة ويتعرّضون لضغوط نفسية غير مسبوقة، ومنهم من واصل المهمة حتى قضى نحبه في سبيل قضية إنقاذ حياة الناس الآخرين.
رمضان قادم
تفرض وتيرة الصدور الشهري قواعد عمل، أبرزها عدم ملاحقة الخبر اليومي، وفي المجلات الثقافية والعلمية ليس مطلوبًا متابعة الخبر بقدر المواضيع التي تحلل أسبابه وتأثيراته المستقبلية، إلا أنّ بعض تلك الأخبار تكتسب خصوصية في كمها ونوعها، فارضةً نفسها بقوة على تفاصيل حياتنا بصورة أقرب إلى الخيال، وهذه المرة نحن نتكلم عن جائحة عالمية قياسية ليس لها مثيل في الانتشار أو الإجراءات الاحترازية.
لقد كان شهر رمضان هو أبرز ما كنا نستعد له في هذا العدد، وطوال فترة التحضير الاعتيادية تزايد وقع انتشار الوباء حتى وصل إلينا، وتسبب في تعطيل العمل بجميع المواقع الرسمية وغير الرسمية، والدراسة، ووسائل النقل، ومنع الصلاة في المساجد، وتم الطلب من الناس تأدية صلواتهم في المنزل، ومن ينتقل إلى رحمة الله لا يُقام له العزاء، ويتم الاكتفاء بالاتصال الهاتفي أو الرسائل القصيرة، أما الأفراح فتم تأجيلها لأجل غير مسمّى.
إن شهر الصيام على الأبواب، ولا نملك إلا ندعو الله، عزّ وجل، أن يزيح عنّا وعن كل البشر هذه الغمّة بأسرع وقت، حتى تُفتح بيوت الله من جديد، وتعمر بالمصلين الرُّكع السجود ■