اقتصاد العالم يشكو عدَم اليقين

عصفت تداعيات انتشار فيروس كورونا المستجد بمعظم أسواق المال والسلع العالمية وخلّفت أزمات متنوعة على مختلف قطاعات الاقتصاد في الدول المتقدمة والنامية والناشئة، لدرجة بات العديد من المحللين يقارن آثارها بأكبر أزمات الاقتصاد المعروفة، كالأزمة المالية العالمية في عام 2008، في وقت ذهب آخرون بعيدًا لمقارنتها مع الكساد العظيم الذي ضرب اقتصاديات العالم عام 1929.
ورغم أن منشأ الأزمة صحيّ بالدرجة الأولى، فإنّ التداعيات الاقتصادية كانت قاسية وغير مسبوقة للعديد من قطاعات الاقتصاد، مثل النفط الخام والسياحة والطيران والنقل والصناعة والبورصات والوظائف، حتى سجّلت سلع وأسواق ومؤشرات نتائج لم تكن في حسبان أشد المتشائمين قبل انتشار الجائحة.
النفط الخام... تدهور
ومع أنّ سلعة النفط الخام لم تكن أشد المتضررين من الأزمة، إلّا أنّها كانت الأكثر ارتباطًا بتوقّف أو تدهور مختلف الأعمال والأنشطة حول العالم بمعنى أن توقّف أعمال المصانع والمواصلات والطيران وغيرها من الأعمال التي تعتمد على النفط ومشتقاته أدّى إلى تراجُع في الطلب العالمي بما يوازي 40 في المئة من إجمالي الطلب العالمي وحتى الخفض التاريخي لمنتجي النفط من منظمة أوبك وخارجها المعروف بـ اأوبك بلسب، والمقدر بـ 10 إلى 20 مليون برميل يوميًا لم يفلح في إعادة التوازن إلى سوق النفط الذي انحدر قبل نهاية أبريل، مقارنة مع أسعار بداية العام الحالي بأكثر من 70 في المئة.
كذلك أثّر التراجع الحاد في سوق النفط على مشاريع كبريات الشركات النفطية العالمية، الحكومية منها والخاصة، مثل شركات شل، وبي بي، وإكسون موبيل وهاليبرتون، وغيرها، إلى جانب مؤسسة البترول الكويتية وأدنوك الإماراتية، وكلّ هذه الشركات وضعت خططًا لتخفيض حجم المصروفات الرأسمالية الخاصة بمشروعاتها خلال الفترة القادمة، لحين توافر اليقين حول آفاق الاقتصاد العالمي ودخول عامل انتشار الوباء وما يمكن أن ينعكس عليه من آثار اقتصادية تؤثر على الاستهلاك العالمي من مختلف المنتجات المرتبطة بالنفط.
ونشأت عن تخمة المعروض في سوق النفط إرباك لحركة ناقلاته، بعد أن بلغت خزانات النفط أقصى طاقتها، فهناك 50 مليون برميل من النفط يتم تخزينها كل أسبوع، وهي كمية تكفي نصف أوربا تقريبًا، في حين بلغت أيضًا مصافي النفط في آسيا نسبًا تجاوزت 95 في المئة من قدراتها التخزينية، وهو حدث أفضى الى نشوء أحداث غير مألوفة بالأسواق النفطية، مثل الأسعار السالبة لبرميل النفط، وتحديدًا برميل النفط الأمريكي اغرب تكساسب، إذ تدهورت أسعار هذا النوع من النفط يوم الاثنين 20 أبريل الماضي، بعد أن سارع مضاربون امتلكوا عقد خام غرب تكساس الوسيط للخروج من العقد قبل انتهاء صلاحيته، حيث لم يكن لديهم خزانات لتخزين النفط، مما جعل أحد المضاربين يدفع 40 دولارًا للبرميل لتجنّب تسلّم النفط، بدلًا من أن يحصل على المال مقابلها!
وتتوقّع وكالة الطاقة الدولية أن يتراجع الطلب العالمي على النفط بنسبة 20 في المئة، في حين يوجد 3 مليارات شخص حول العالم يلزمون منازلهم بسبب تفشّي الفيروس. وهذا بالطبع مرتبط بمدى قدرة الاقتصادات على عودة أنشطتها حال انحسار موجة انتشار الفيروس.
أزمة الطيران والسفر
ويعدّ قطاع الطيران واحدًا من أبرز ضحايا انتشار الفيروس والظروف التي فرضها كمفاهيم جديدة، مثل التباعد الاجتماعي وإعطاء الأولوية للاحتياطات الصحية على مختلف مناحي الحياة، إذ يقدّر اتحاد النقل الجوي الدولي (إياتا) أن يخسر قطاع الطيران في العالم 252 مليار دولار من عائداته هذا العام، بسبب اكوروناب، أي ما يعادل ضعف توقّعاته السابقة التي أطلقتها بداية انتشار الفيروس، التي بلغت 113 مليار دولار.
ووفق اإياتاب، فإن الأزمة باتت تلقي بثقلها على 98 في المئة من الرحلات التجارية في العالم، بحسب المنظمة، التي أوضحت أنه في مطلع العام كانت شركة طيران متوسطة تملك أموالًا تكفيها لشهرين.
ومع تفشّي موجة اكوروناب اضطرت شركات طيران إلى وقف أسطولها بالكامل بسبب القيود على السفر وتضمّ اإياتاب 290 شركة طيران تمثّل 82 في المئة من إجمالي الرحلات العالمية، وطلبت ادعمًا ماليًّا مباشرًاب للرحلات التجارية والشحن لتعويض خسائرها، وأيضًا قروضًا وضمانات وافقت عليها الحكومات والمصارف المركزية، وصولًا إلى تخفيف الضرائب والضمان الاجتماعي.
ومن المتوقّع أن تخسر شركات الطيران في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 24 مليار دولار من إيرادات الركاب، مقارنة بعام 2019، أي أكثر بـ5 مليارات دولار عمّا كان متوقعًا في بداية هذا الشهر، وأن نحو 1.2 مليون وظيفة في المنطقة ستتأثر في قطاع الطيران والصناعات ذات الصلة، أي ما يعادل نصف وظائف القطاع في المنطقة البالغة 2.4 مليون.
ومن المتوقّع أن تنخفض حركة النقل للعام الحالي بنسبة 51 في المئة، مقارنة بعام 2019، وفق ما ذكرته اإياتاب، مما قد يسبّب انخفاض الناتج المحلي الإجمالي المدعوم بالطيران في المنطقة بمقدار 66 مليار دولار من 130 مليارًا.
وتستند هذه التقديرات إلى استمرار قيود السفر الشديدة مدة 3 أشهر، مع رفع تدريجي للقيود في الأسواق المحلية، ثم الإقليمية، وأخيرًا عبر القارات.
توقُّف السياحة
بالطبع، أدى ما نال حركة الطيران وسوق السفر من تراجع حادّ إلى انحدار كبير في السياحة حول العالم، فشهد العالم منذ بداية التفشّي إلغاء لملايين حجوزات على الفنادق والمنتجعات والمتاحف والمسارح، وغيرها من المرافق السياحية.
ويتوقّع القطاع السياحي خسائر بمليارات الدولارات في آسيا بالدرجة الأولى، ثم أوربا، فمن نحو 100 مليون رحلة سياحية صينية إلى الخارج في العام، هناك 80 في المئة منها تتوجّه إلى بلدان آسيوية محيطة كاليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام والهند، ومع انقطاع الرحلات تكون مداخيل كبيرة للسياحة في هذه الدول قد تلاشت، كما أعلنت جزيرة بالي الإندونيسية أنه تمّ إلغاء 40 ألف حجز بالفنادق، وفي إيطاليا وهولندا وإسبانيا بقيت وجهات سياحية لا تخلو، في العادة، من الزحام خالية بلا زوّار.
أما في الولايات المتحدة فقد انخفضت أسعار الفنادق في الأسبوع الذي ارتفعت فيه معدلات انتشار الفيروس بنسبة 30 في المئة خلال الأسبوع الذي صادف يوم 21 مارس.
وقال أستاذ الاقتصاد، رئيس قسم البحوث في قسم السياحة والضيافة بجامعة بورتموث في المملكة المتحدة، آدم بليك، إن ارغبة الأشخاص في السفر إلى أماكن لم تتغيّر، لكنّهم سيكونون أكثر حذرًا بشأن أفعالهم، وسيحتاج المسافرون، أكثر من مجرد إقناعهم بأن السفر آمن، إلى رؤية التغيّرات الملموسة الفعلية التي حصلت لجعل السفر أكثر أمنًاب.
فقدان وظائف وخسائر بالتحويلات
أدى الانتشار الواسع لفيروس كورونا إلى فقدان العديد وظائفهم أو تقليصها، أو انخفاضات في الأجور، ويقدّر البنك الدولي أن التحويلات العالمية ستنخفض 142 مليار دولار في 2020، وهو أكبر هبوط في التاريخ الحديث، بينما تكبح أزمة فيروس كورونا التحويلات النقدية إلى أسر تشتدّ حاجتها إليها في الدول الأكثر فقرًا.
وقال البنك إن انخفاض الأموال التي ترسلها العمالة المهاجرة إلى بلدانها بحوالي 20 في المئة، وهي نسبة مرتفعة نحو 4 مرات عن مستوياتها إبان الأزمة المالية في 2009، يرجع إلى حد بعيد إلى انخفاض أجورهم والوظائف في الخارج.
وقال رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس إن االتحويلات مصدر حيوي للدخل في الدول النامية، والركود الاقتصادي الحالي بسبب كوفيد- 19 يؤثر بشدة في القدرة على تحويل أموال للوطن، ويزيد من أهمية تقليص فترة التعافي للاقتصادات المتقدمةب.
من جانبه، أكد ديليب راثا، الذي قاد فريقًا وضع التقرير الجديد للبنك الدولي عن تأثير اكوفيد- 19ب على التحويلات، أن انخفاض التحويلات منذ بداية العام الحالي هو الأكبر منذ بدأ البنك تسجيل بيانات في عام 1980.
التخوّف من الركود
توقّع صندوق النقد الدولي أن يحدث ركود أسوأ من ركود 2008، لكنّ التعافي سيكون أسرع، لأنّ الأمر مرتبط بممارسة الناس لحياتها السابقة، حيث وضع الصندوق تريليون دولار بتصرُّف دول تحتاج إلى التمويل العاجل، وأشار كل من اغولدمان ساكسب وابلومبيرغب إلى أن الاقتصاد العالمي سيتراجع 1 في المئة في العام الحالي.
أما الاقتصاد الأمريكي فيواجه تحديات كبرى مع اكوروناب، إذ يقول بنك غولدمان ساكس إن اقتصاد الولايات المتحدة سيتراجع 25 في المئة، أما بنك مورغان ستانلي فتوقّع تراجع الاقتصاد الأمريكي 20 في المئة في الربع الثاني من العام الحالي.
ويتوقّع بنك أوف أميركا تراجع الاقتصاد الأميركي بـ 25، في المئة، في حين يتوقّع اجي بي مورغانب تراجعًا قدره 14 في المئة، وتوقّع اغولدمان ساكسب أن يراجع اقتصاد منطقة اليورو 11 في المئة في الربع الثاني 2020. وتوقّع اجي بي مورغانب أن يتراجع اقتصاد الصين في الربع الأول من العام الحالي بنسبة 40 في المئة، وهو أسوأ ركود في 50 عامًا.
ومع انتشار فيروس كورونا في الصين وانتقاله إلى دول العالم، استمرت التوقّعات المتشائمة وتحوّل الحديث من التفاؤل بالاقتصاد العالمي إلى حديث عن أزمة اقتصادية كبرى.
ويقول صندوق النقد الدولي إن الاهتمام كان منصبًّا على إنعاش الاقتصاد في العام الحالي، لكنّ ظهور الفيروس غيّر كل هذه الأفكار، وبدأت أغلب الدول تعطيل أنشطتها الاقتصادية، وهو ما كبّدها خسائر اقتصادية فادحة بلغت نحو 10 في المئة من إنتاجها المحلي.
تحفيز تريليوني
وقد أطلقت حكومات الدول صاحبة الاقتصادات الكبرى حزمًا تحفيزية استثنائية لدعم الاقتصاد مع تنامي انتشار الفيروس، فأعلنت الولايات المتحدة عن حزم متعددة لتحفيز الاقتصاد بقيمة 3 تريليونات دولار تتمثّل في دفع مبالغ مالية مباشرة للأمريكيين وقروضًا لمختلف الشركات ومعونات للأسر.
وأعلنت اليابان، كذلك، عن خطط تحفيز تجاوزت تريليون دولار، وتتضمن إقراضًا نقديًا للشركات الصغيرة، وتأجيل ضرائب، إلى جانب مساعدات نقدية للأسر. وكشفت بريطانيا عن خطة تحفيز قيمتها 81.5 مليار دولار، توفّر ضمانات قروض بــــ 400 مليار، وتعليق مدفوعات الرهن العقاري 3 أشهر للمتعثّرين، وتوسيع نطاق تعليق ضريبة الممتلكات على الشركات الصغيرة، ليشمل قطاعَي الضيافة والترفيه.
واتفقت دول الاتحاد الأوربي على حزمة اقتصادية تبلغ نحو 540 مليار يورو، وتشمل صندوقًا مشتركًا للتأمين على العمل بقيمة 100 مليار يورو، إلى جانب أداة بنك الاستثمار الأوربي التي تهدف إلى توفير 200 مليار يورو من السيولة للشركات، إضافة إلى خطوط ائتمان تصل إلى 240 مليارًا من صندوق الإنقاذ في منطقة اليورو ضمن آلية الاستقرار الأوربية.
البثّ التدفقّي يكسب
مع أنّ أزمة اكوروناب على الاقتصاد كانت عميقة وقاسية، إلّا أنّ لها جوانب أخرى إيجابية تمثّلت في أرباح لقطاعات أخرى استفادت من هذه الأزمة، لاسيّما قطاعات الرعاية الصحية ومستلزمات الوقاية، وكذلك استفادت من هذه الأزمة قطاعات نمت مع إعلان بعض الدول الإغلاق التام، مما دفع الشركات العاملة في هذه البلدان إلى تبنّي أساليب عمل جديدة وغير مسبوقة.
فأضافت شركة الترفيه التلفزيوني انتفليكسب عددًا كبيرًا من المشتركين بلغ 16 مليونًا في الربع الأول من العام، لاسيّما بعدما أدّت جائحة فيروس كورونا إلى بقاء الناس في منازلهم، ودفعتهم إلى التفاعل مع أعمالها الدرامية والوثائقية وبرامج التسلية، وزادت أرباح انتفليكسب في الربع الأول من العام بأكثر من الضعف، أي إلى 709 ملايين، وكذلك الأمر بالنسبة إلى شركة ازووم فيديو كوميونيكيشنزب لخدمات الاجتماعات الافتراضية، التي نمت مع العمل عن بُعد، فارتفع عدد المستخدمين لخدمات الفيديو الخاصة بالشركة 50 في المئة خلال 3 أسابيع.
وقالت الشركة إن أكثر من 300 مليون يستخدمون تطبيق ازوومب يوميًا حاليًا، بعدما قفز عددهم بواقع 100 مليون خلال 22 يومًا. جاء ذلك برغم سيل من الانتقادات واجهها التطبيق من خبراء في الأمن الإلكتروني ومستخدمين، بسبب ثغرات تتعلّق بالتشفير.
كذلك نمت عمليات التوزيع والخدمات اللوجستية، فقد شهد زيادة في عدد الوظائف المتاحة فيه بنسبة 60 في المئة، حيث أعلنت شركة اوول مارتب الأمريكية تعيين آلاف العمال لمواجهة زيادة الطلب، مع بقاء المواطنين في منازلهم، كما شهدت شركة اجي. دي. دوت كومب الصينية لتجارة التجزئة على الإنترنت نموًا بنسبة 215 في المئة على أساس سنوي في المبيعات الإلكترونية خلال آخر أيام شهر يناير الماضي، لكنّ أكبر الرابحين في هذا القطاع كانت شركة أمازون التي عاكست سوق الوظائف الأمريكي ليس فقط في طرح الوظائف الجديدة، بل أيضًا إنفاق أكثر من 500 مليون دولار لزيادة أجور العمال خلال فترة الوباء، وعززت شركة أمازون خدمات الحوسبة السحابية لديها، وكذلك خدمة بثّ الفيديو ابرايم فيديوب من خلال تقديم مجموعة من الأفلام والمسلسلات مجانًا.
وذكرت مديرة شؤون المبيعات في أمازون، ستيفاني لاندري: انحن نعلم أن العديد من الأشخاص قد تأثروا اقتصاديًا، حيث إن الوظائف في مجالات، مثل الضيافة والمطاعم والسفر، تم فقدانها، لذا نرحّب بأي شخص خارج العمل للانضمام إلينا في أمازون حتى تعود الأمور إلى طبيعتهاب.
اقتصاد ما بعد «كورونا»
لا شك في أن مرحلة ما بعد كورونا التي لا يعرف حتى الآن إن كانت ستتعلّق بالتعايش مع الفيروس أو القضاء عليه ستكون مؤثرة جدًّا من الناحية الاقتصادية من حيث نمو السياسات التحفظيّة في الأسواق، وإعطاء الأولوية لقواعد الرعاية الصحية على حساب التوسعات والبيع والأرباح، وستسود الأسواق حالة الحذَر لدى المستهلكين لفترة طويلة بعد انحسار أزمة كورونا.
كذلك سيظل أثر المحفزات المالية في العالم كبيرًا، وبما يتم طرح المزيد منها في الاقتصادات العالمية. ومن المرجّح تزايد الإنفاق على البنية التحتية والصحة والتواصل التكنولوجي، وستواصل الإمدادات العالمية، ولو لفترة، الزيادة عن الطلب العالمي، خصوصًا في النفط، مما سيتمخّض عنه فائض في المعروض يُضعِف معدلات التضخم، وربّما عندما يستشعر المستثمرون عمق الركود ستنتعش الأسواق بمستويات متفاوتة، لكنّ الأولوية الكبرى ستكون للسياسات الاحترازية التي تحمي الإنسان قبل الاقتصاد ■