القيل والقال... في جنون «النقّال»

القيل والقال... في جنون «النقّال»

انقضى‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬مَن‭ ‬يرفع‭ ‬صوته‭ ‬وسط‭ ‬الناس‭ ‬يحادث‭ ‬شخصًا‭ ‬غير‭ ‬مرئي،‭ ‬أو‭ ‬كأن‭ ‬يجادل‭ ‬نفسه‭ ‬منفعلاً‭ ‬بصوت‭ ‬مسموع،‭ ‬يعدُّ‭ ‬من‭ ‬المختلين‭ ‬أو‭ ‬‮«‬المجذوبين‮»‬‭ ‬والمجانين‭! ‬فالكثيرون‭ ‬والكثيرات‭ ‬اليوم‭ ‬هذه‭ ‬حالهم،‭ ‬وبخاصة‭ ‬من‭ ‬مدمني‭ ‬الهاتف‭ ‬‮«‬النقال‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬المحمول‮»‬،‭ ‬ممن‭ ‬نسمعهم‭ ‬كلّ‭ ‬يوم،‭ ‬أو‭ ‬نراهم‭ ‬يلوّحون‭ ‬غاضبين‭ ‬خلف‭ ‬مقود‭ ‬السيارة‭ ‬وفي‭ ‬الأسواق‭ ‬وعلى‭ ‬مفارق‭ ‬الطرق‭!‬

وكان‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬الرزانة‭ ‬والأدب‭ ‬تجنّب‭ ‬‮«‬الضحك‭ ‬بلا‭ ‬سبب‮»‬‭ ‬والهدوء‭ ‬والوقار،‭ ‬وبتنا‭ ‬اليوم‭ ‬نرى‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬سوق‭ ‬وشارع‭ ‬بواسم‭ ‬الفتيات‭ ‬وضواحك‭ ‬الشباب‭ ‬ومزمجري‭ ‬أصحاب‭ ‬العمل‭... ‬ومَن‭ ‬يصرخ‭ ‬أو‭ ‬يقهقه‭ ‬وحيدًا‭!‬

ويقول‭ ‬باحث‭ ‬في‭ ‬مشكلات‭ ‬النقال‭ ‬والمحمول،‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬حدود‭ ‬لأماكن‭ ‬استخدامها،‭ ‬ويضيف‭ ‬أنه‭ ‬متأكد‭ ‬للغاية‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الجميع‭ ‬يستخدمون‭ ‬هواتفهم‭ ‬المحمولة‭ ‬أثناء‭ ‬وجودهم‭ ‬في‭ ‬دورات‭ ‬المياه‭. ‬ومن‭ ‬الطرائف‭ ‬المتداولة‭ ‬عن‭ ‬نزيل‭ ‬مستشفى‭ ‬نفسي،‭ ‬أن‭ ‬أحدهم‭ ‬كان‭ ‬يراه‭ ‬ضاحكًا‭ ‬مقهقهًا‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬لأنه‭ ‬كما‭ ‬يقول،‭ ‬يروي‭ ‬لنفسه‭ ‬باستمرار‭ ‬أطرف‭ ‬النكات‭!‬

ثم‭ ‬رآه‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬غارقًا‭ ‬في‭ ‬ضحك‭ ‬كاد‭ ‬يقطع‭ ‬أنفاسه،‭ ‬لأنه‭ ‬روى‭ ‬لنفسه‭ ‬نكتة‭ ‬جديدة‭. ‬هل‭ ‬حقًا‭ ‬لا‭ ‬نروي‭ ‬لأنفسنا‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬حكايات‭ ‬قديمة‭ ‬نعرفها؟‭ ‬الواقع‭ ‬أننا‭ ‬نفعل،‭ ‬وربما‭ ‬نضحك‭ ‬أكثر،‭ ‬وخاصة‭ ‬إن‭ ‬روينا‭ ‬بعض‭ ‬تفاصيلها‭ ‬بصوت‭ ‬مسموع‭ ‬وبحوار‭ ‬مختلف‭ ‬بعض‭ ‬الشيء،‭ ‬وسيناريو‭ ‬جديد‭! ‬دُهشتُ‭ ‬من‭ ‬رأيٍ‭ ‬لبعض‭ ‬متخصصي‭ ‬علم‭ ‬الاتصال‭ ‬أو‭ ‬التواصل،‭ ‬أي‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالـ‭ ‬Communication،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أتصوّر‭ ‬‮«‬أن‭ ‬أكثر‭ ‬شخص‭ ‬يتحدث‭ ‬معه‭ ‬أيّ‭ ‬منا‭ ‬أو‭ ‬يتحاور‭ ‬معه‭ ‬هو‭ ‬أنفسنا‮»‬‭!‬

فنحن‭ ‬فعلًا‭ ‬في‭ ‬حوار‭ ‬دائم‭ ‬مع‭ ‬النفس،‭ ‬وفي‭ ‬أخذ‭ ‬وردّ‭ ‬صامت‭ ‬مع‭ ‬الذات،‭ ‬وربما‭ ‬نخوض‭ ‬معارك‭ ‬طاحنة‭ ‬مع‭ ‬ضمائرنا‭ ‬ودواخل‭ ‬نفوسنا‭... ‬حتى‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭! ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬الأفضل‭ ‬أن‭ ‬نجري‭ ‬ذلك‭ ‬بصوت‭ ‬مسموع،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬بعض‭ ‬النفسانيين‭ ‬وحتى‭ ‬أطباء‭ ‬الأنف‭ ‬والأذن‭ ‬والحنجرة‭!‬

إن‭ ‬كثرة‭ ‬الكلام‭ ‬بصوت‭ ‬عالٍ‭ ‬مسموع،‭ ‬وحتى‭ ‬ربما‭ ‬رفع‭ ‬العقيرة‭ ‬بالغناء،‭ ‬فيما‭ ‬يبدو،‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬طبقة‭ ‬الصوت‮»‬،‭ ‬أفضل‭ ‬في‭ ‬رأي‭ ‬بعض‭ ‬أطباء‭ ‬الحنجرة،‭ ‬من‭ ‬دوام‭ ‬الصمت،‭ ‬لمن‭ ‬يعاني‭ ‬مشكلات‭ ‬ضيق‭ ‬وانقطاع‭ ‬التنفس‭ ‬أثناء‭ ‬النوم‭ ‬ومشاكل‭ ‬الشخير‭ ‬المزمن‭.‬

فمع‭ ‬تقدّم‭ ‬العمر،‭ ‬يقولون‭ ‬إن‭ ‬عضلات‭ ‬الحلق‭ ‬والحنجرة‭ ‬ترتخي،‭ ‬ويتضخم‭ ‬حجم‭ ‬اللسان،‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الأمر‭ ‬مجرد‭ ‬‮«‬عضلة‭ ‬فلتانة‮»‬،‭ ‬فتضيق‭ ‬مجاري‭ ‬التنفس،‭ ‬ومعظم‭ ‬الشخير‭ ‬من‭ ‬ارتخاء‭ ‬هذه‭ ‬العضلات‭. ‬ومن‭ ‬شأن‭ ‬كثرة‭ ‬الكلام‭ ‬بصوت‭ ‬مسموع‭ ‬وربما‭ ‬‮«‬الغناء‭ ‬الأوبرالي‮»‬‭ ‬خاصة،‭ ‬أن‭ ‬يقوي‭ ‬عضلات‭ ‬الحلق،‭ ‬ويحدُّ‭ ‬من‭ ‬الشخير‭!‬

وهذه‭ ‬ميزة‭ ‬ونعمة‭ ‬يتمتع‭ ‬بهما‭ ‬المحاضرون‭ ‬والمدرّسون‭ ‬والخطباء‭ ‬فيما‭ ‬يبدو،‭ ‬وكذلك‭ ‬ربما‭ ‬مَن‭ ‬لا‭ ‬ينقطع‭ ‬استخدامهم‭ ‬للهاتف‭ ‬آناء‭ ‬الليل‭ ‬وأطراف‭ ‬النهار،‭ ‬ممن‭ ‬يتحدثون‭ ‬باستمرار‭. ‬ويواصلون‭ ‬بالهاتف‭ ‬ما‭ ‬انقطع‭ ‬بينهم‭ ‬وبين‭ ‬أصدقائهم‭ ‬ومخاطبيهم‭ ‬من‭ ‬حديث‭ ‬أو‭ ‬حوار،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬يُفاجأون‭ ‬بمكالمة‭ ‬خارجية‭ ‬أو‭ ‬داخلية‭ ‬وهم‭ ‬على‭ ‬السلالم‭! ‬■