الثقافة في زمن «كورونا»

كشفت تداعيات الأحداث والوقائع التي نتجت عن تفشّي وباء فيروس كورونا (كوفيد - 19) مدى حجم الأضرار الجسيمة التي لحقت بالقطاع الثقافي بكلّ مكوناته وجوانبه المتعددة، وامتدت النتائج والآثار السلبية والخسائر الباهظة إلى مختلف القطاعات التنموية في عالمنا العربي، كما هو في جميع أرجاء العالم.
وغني عن الذكر أن الثقافة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقطاعات التنمية الحيوية المهمة، مثل الخدمات التعليمية والصحية والنمو الاقتصادي وثراء السياحة الداخلية، وجميعها، مع الأسف، تأثّرت سلبًا بأضرار بالغة، وتكبّدت خسائر كبيرة.
أدى وباء كورونا العالمي إلى نشر الرّعب وهول الخطر في دول العالم كافة، إنها أزمة عالمية جسّدت، من جديد، أهوال نكبات الأوبئة العالمية التي اجتاحت الأرض وفتكت بالشعوب على امتداد التاريخ البشري الحديث، ولأكثر من 300 عام مضت، وقد وثّقتها مجلدات ومؤلفات سجّلت وقائع الأحداث والتاريخ الطويل للأوبئة الفتّاكة.
ولا تقلّ الأزمة الحالية ضررًا عن الأوبئة الأكثر إزهاقًا للأرواح، بالرغم مما تحقّق للبشرية من التقدّم والتطور العلمي والطبي العالمي الهائل، والارتقاء الذي بلغته الخدمات الصحية والوقائية، والعناية المرتفعة في المحافظة على المعايير البيئية الدولية، التي تضمن صحة وسلامة المجتمعات من شرور الأمراض السارية.
لكنّ وباء كورونا من نوع آخر جديد، حيث هزّ معظم المنظومات الصحية، وانهار البعض منها في دول عديدة متقدّمة في مستوى القدرة على تقديم الخدمات الصحية، في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية ودول في أمريكا الجنوبية، واستدعى تفشي الوباء استنفارًا متواصلًا وحشودًا مكثّفة لقوات الأمن والدفاع المدني والحرس الوطني، لتشكّل في مجموعها مع الفرق الطبية، بجميع طواقمها، الصفوف الأولى لمواجهة تفشي الوباء ومكافحته، وانتشاره الفظيع في عدواه ومدى تأثيره الواسع بانتقاله السريع بين الناس.
أرقام قياسية
إن حجم الأرقام القياسية المسجلة يوميًا وتفاقمها عالميًا، يؤكد فداحة هذه الجائحة على البشرية، فمع صدور هذا العدد من مجلتنا (العربي) تم تسجيل نحو أكثر من 3 ملايين إصابة حول العالم، في حين بلغ عدد الوفيات في العالم أكثر من مائتي ألف حالة.
منذ نشأة المرض وتفشّيه خارج منطقة ظهوره الأول ومنبع انتشاره الأول، بمدينة ووهان الصينية في يناير 2020، اتّضح للعالم بجلاء أن متغيرات جديدة ظهرت إلى دنيا الوجود الإنساني، تغيّر فيها تمامًا ما ساد في العالم من ثوابت قد بادت، ومسلّمات فُقدت في العالم كله، وحلّت مكانها أفكار جديدة، بأن القدرات والإمكانات العظمى في التقدم العلمي والطبي والأبحاث ذات النتائج المذهلة في حقول البيولوجيا والكيمياء الحيوية، أصبحت عاجزة عن اختراع وإيجاد لقاح طبّي ودواء لهذا الداء المحيّر، واتّضح لنا أن هناك تحديًا جديدًا أمام القوى الدولية الكبرى في هذا المجال، بعد أن صارت شبه عاجزة، وبانت بوضوح عظمة الخالق عزّ وجل وحكمته، سبحانه، في إظهار مدى ضعف الإنسان، وأنه مهما بلغ علمه وابتكاره واكتشافاته، فإنه لن يقوى على مواجهة إرادة الله وقدرته وبلائه على عباده، أمام أكثر سبب ضآلة؛ وهو وجود مخلوق فيروسي، تتغيّر بظهوره مفاهيم وتتبدّل معتقدات، مبرهنةً على أن الإنسان مهما بلغ من درجات الكمال لا يستطيع أن يغيّر شيئًا إلّا بإرادة الله العليّ القدير ومشيئته سبحانه.
وقد قال الله مبينًا قدرته الإلهية: {وما تشاءون إلّا أن يشاء الله إن الله كان عليمًا حكيمًا} (سورة الإنسان - الآية 30)، وقال تبارك وتعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كُن فيكون} (سورة النحل - الآية 40).
إذن، مهما يبلغ الإنسان من علوّ وتقدّم في العلوم والتكنولوجيا والاختراعات والإنجازات، تبقى هناك نقاط في محيط ما حبانا الله بفضله بنعمة خلقه للعقل الذي أوصلنا، بإرادته جلّ وعلا، إلى ما نحن عليه وما آتانا به من العلم، وبفضله.
جوانب إيجابية
كشفت تداعيات تفشي وباء كورونا عن وجود جوانب إيجابية تركت أثرها على الثقافة المحليّة (الوطنية) والعربية والعالمية، أهمها: أن العلم والمعرفة ليسا حكرًا على العالم المسمّى بالمتقدم، الذي لا يزال يبحث عن عقار طبّي فعال، بل إن الفيروس كان أكبر من تقدّمهم العلمي والطبي، وأثبتت الوقائع أن الأغنياء ليسوا أفضل من الفقراء في مواجهة الأمراض السارية ومعالجتها والوقاية منها، وأن عظمة الخالق تتجدّد بأحداث وأوبئة، لتعيد البشر إلى صحوة جديدة، لذا تقاربت دول كثيرة وأقبلت على التعاون الإنساني لمواجهة الوباء، حيث أثبتت جائحة اكوروناب مدى الحاجة العالمية أكثر من أي وقت مضى إلى التضامن والتعايش والتعاون الإنساني والحوار الحضاري المسؤول، وقبول التنوع والتعدد الثقافي، والاستفادة المُثلى من التجارب الثقافية للشعوب وخبراتها.
ومن الانعكاسات والتأثيرات الإيجابية في الجانب الثقافي خلال فترة الحظر وتوخّي الحذر من الإصابة بعدوى كورونا، أنها كانت فرصة للكثيرين من الأدباء والمفكرين والمؤلّفين والفنانين للعمل والإنتاج، والاستفادة من وقت الفراغ الطويل، مما ينبئ بظهور الكثير من الأعمال الثقافية العامة في موضوعاتها، والخاصة بتوثيق الأزمة العالمية على الإنسان في كل مكان، وقد شجّعت ظروف ملازمة البيوت الأطفال والناشئة على القراءة والمطالعة، والوعي بالثقافة الوقائية في الصحة والسلامة، وهذا هو الهدف الأسمى لشغل أوقات أبنائنا بما يفيدهم ويحصّنهم ثقافيًا عند استثمار مثل هذه الظروف بشكل إيجابي.
الثقافة الرقمية
استمر العطاء الثقافي زاخرًا متدفقًا لا ينضب ولا يتوقف، وثبت أن للثقافة ونشر المعرفة وسائلها الجديدة والفعالة في الإنتاج والانتشار والتأثير الاجتماعي الأممي عن بُعد، في زمن الأزمات والمحن والأوبئة، وذلك بالاعتماد على الثقافة الرقمية لمواجهة تحديات التباعد، إلى التمكين من التواصل، فنشطت الفعاليات الثقافية عبر المنصات الرقمية الفضائية الافتراضية لإقامة المحاضرات وعقد الندوات وتنظيم المؤتمرات الكبرى، ومن ضمنها مؤتمر وزراء الثقافة العرب الافتراضي الذي سيقام في 11 مايو الجاري، والمؤتمر الاستثنائي لوزراء الثقافة في الدول الأعضاء لمنظمة التعاون الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة في 17 يونيو المقبل، وأثبت التواصل الرقمي والإعلام الجديد والنشاط المزدهر للتواصل الاجتماعي الهادف بين المثقفين والأدباء وجمهورهم، جدواه ونجاحه في الواقع العملي، وأن الاستثمار التقني في الثقافة والمعرفة الرقمية كان في الاتجاه الصحيح، واستفدنا منه في زمن اكوروناب، الذي اعتمد فيه على المكتبات الرقمية والنشر الإلكتروني الفضائي، مما أدى الى ارتفاع ملحوظ في أنشطة القراءة والبحث والتأليف والنشر عبر الإنتاج الفكري والثقافي والأدبي الرقمي، وفتح بوابات المخزون الضخم الموجود في المكتبات الوطنية والعالمية الكبرى ذات الرصيد الرقمي الكبير من أوعية المعلومات ومصادر المعرفة.
إنّ حق الحصول الإنساني المستمر على المعلومات وإتاحتها ونشرها في العالم، يعدّ أحد أهم المؤشرات التي اعتمدتها هيئة الأمم المتحدة ضمن المؤشرات الأممية لإرساء التنمية الشاملة المستدامة حتى عام 2035 (المؤشر رقم 16)، كما يرتبط هذا المؤشر مع (المؤشر رقم 12) حول تمكين الأمم من الحصول على المنتجات الثقافية بحرّية أينما كانت وسائل نشرها أو بثّها عالميًا، دعمًا للتنمية الثقافية الحياتية، خصوصًا في مواجهة الظروف القاهرة التي تحول دون تصدير الثقافة التقليدية.
رسائل هادفة
إن الثقافة الحيّة عند المجتمعات التي تؤمن بها وتقدّر دورها لا تُهزم ولا تتقهقر، بل تزيدها الأزمات والمحن عزمًا وإصرارًا على تجاوزها بالعطاء والإنتاج بهمم عالية.
تواصل رقمي فضائي تجلّت مزاياه وظهرت إيجابياته في خدمة الثقافة ونقل المعرفة وتعزيز التقارب الإنساني على الثقافة، فتمكّن من التحدي لمواجهة إغلاق الحدود الجغرافية وكسر القيود بتوزيع منتجات الثقافة التقليدية بين الدول، ولعبت معارض الكتب الافتراضية دورها كزاد متدفّق بالعطاء الثقافي للعقول، وساهمت المعارض الفنية التشكيلية في دورها الفعال لراحة النفوس، من خلال منصات رقمية أبرزت دور الثقافة والفنّ المؤثر معًا تجاه الجائحة بنشر ثقافة تذوّق مزايا الفنون التشكيلية، التي تقدّم للجمهور رسائل هادفة بتشخيص الأوضاع وتوعية المجتمعات وإرشادها، بالوقاية وطرق السلامة وبعث روح البهجة والسرور والتفاؤل بالحياة والأمل باجتياز الجائحة، وبما يكافح فيه الفن والإمتاع بالإبداع الجمالي كل المحبطات المؤدية للقلق والتوتر والخوف من المجهول.
وقد كان للتواصل الثقافي الرقمي دوره وإسهامه البنّاء في تقريب رؤى وأفكار المثقفين والأدباء والفنانين والمفكرين العرب، وقدّمت متاحف كثيرة في العالم جولات لمقتنياتها المتحفية بالعرض الافتراضي على شبكة الإنترنت، في رسالة قويّة لتحدّي ومواجهة إغلاق المتاحف في كل العالم تقريبًا بسبب تفشي الوباء، وأحدث قطاع الاتصالات الدولية الرقمي ثورة هائلة في وسائل التواصل بين الشعوب محليًا وعالميًا منابر فردية وجماعية في التواصل الاجتماعي، عززت الحريات الثقافية المفتوحة ونقل المعلومات وتبادلها بشكل أسرع وأيسر وأكثر كثافة، من قبل عهد انتشار الوباء عالميًا.
نقلة نوعية
ومن الجميل أن الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي بين الناس، دفعا إلى تحفيز المفكّرين والأدباء وعموم المؤلفين إلى الإنتاج والعطاء الجديد، حيث كان المناخ مهيئًا لهم بوقت فراغ طويل يحسُن استثماره في التفرغ للعمل الثقافي، والأمر نفسه نجده قد تجسّد بوضوح لدى صنّاع الثقافة الإبداعية ومنتجاتهم المهمة في إحداث النقلة النوعية الجديدة للثقافة العصرية، خاصة بين أطياف جيل الشباب العربي المقبل، المشغوف بالثقافة الإبداعية المعتمدة على التكنولوجيا الحديثة.
لقد أُطلق في الوطن العربي الكبير العديد من المبادرات الثقافية القيّمة، التي أمّنت وصول المعرفة والمعلومات، وتسخير التكنولوجيا لخدمة الثقافة العربية ورفعتها، ومن المهم أن تُوجد قاعدة يقوم عليها تعاون واعتماد عربي مشترك في مشروعات البنى التحتية لتقنية المعلومات بشكل ثنائي وجماعي، يحقق الاستخدام الأمثل والأكثر ديمومة لتجهيزات وبرامج تقنية المعلومات لدعم التواصل الثقافي والأدبي والفني، والتوسع في إنشاء وإطلاق المنصات الرقمية الثقافية الدائمة، مع أهمية أن تُعنى المنظمات العربية والإسلامية والدولية بتوثيق المبادرات والأنشطة والفعاليات التي تم فيها مواجهة الأزمة الصحية بسلاح الثقافة، لتكون مرجعًا مهمًا ومصدرًا ثريًّا لدراسات وأبحاث المستقبل، الذي نأمل في استشرافه الاستفادة من الدروس والعِبَر التي سيتركها زمن وباء كورونا، ويدفعنا إلى همم جديدة واعدة في توظيف الصناعات الإبداعية والتكنولوجيا المعرفية والذكاء الاصطناعي بمكونات التنمية الثقافية كافة، التي يجب أن تعزّز الشراكات الأممية وتصون السّلْم الاجتماعي، وتدعم التعاون والتبادل الثقافي، وتُعنى بحماية حقوق المؤلفين، وتنمّي طاقات الشباب العرب الذين هم رهان المستقبل، وأمل الغد للأمة العربية.
إن تكرار الأحداث المؤلمة والأزمات العصيبة، ومنها هذا الوباء وتداعياته، يؤكد دائمًا أن دور الثقافة كشريك فعّال في عملية التنمية الشاملة المستدامة، باق ومستمر، ويثبت جدواه وفعاليته، ويحقق رسالته وأهدافه في خدمة حركة التنوير والتوعية، ونشر المعرفة بين أفراد الأمة، كما يعزز مفهوم دور الثقافة في الأزمات، وأنّ أكبر خطر يواجه الثقافة هو وباء الجهل والتخلّف والأميّة، فلا تنمية ولا ازدهار في أي قطاع إلّا بوجود الثقافة الحرّة الرصينة، التي تُظهر منابع الهوية الوطنية والعربية ذات القيم الأصيلة، وتحيي الموروث الحضاري الإنساني في نفوس الشعوب، لتستطيع وتتمكن من المواجهة بقوة العلم والثقافة التي تحصّن الأوطان، وتحمي المكتسبات التي تحققت عبر سنين طويلة مضت في صنع التضامن والتكاتف الاجتماعي للأمم، كما برهنت الثقافة على أهمية التعايش السّلمي والإنساني ■