الناقد السوري نبيل سليمان: الكتابة التي تغويها الجائزة والشهرة تذهب بددًا

الناقد السوري نبيل سليمان:  الكتابة التي تغويها الجائزة والشهرة تذهب بددًا

يعتبر الروائي والناقد الأدبي السوري نبيل سليمان حالة إبداعية ونقدية فريدة، ورمزًا من رموز الثقافة والفكر والإبداع في سورية والعالم العربي؛ وهو الذي عُرف منذ أزيد من نصف قرن بحضوره الإبداعي والنقدي وبكتاباته الروائية المتراكمة؛ إذ صدرت له في هذه المجالات جميعها عديد الروايات التي يناهز عددها الـ20 رواية، والتي شكّلت مجالًا خصبًا ومغريًا للباحثين، فكتبوا عنها مجموعة من الدراسات والكتب، فضلًا عن ترجمة عديد أعماله الروائية إلى لغات أجنبية مختلفة.

برز نبيل سليمان، منذ بداية انشغاله بالكتابة والتأليف مع بداية سبعينيات القرن الماضي، اسمًا لامعًا في المشهد الروائي العربي، وقلمًا مؤثرًا في المجالين النقدي والفكري، وكلّنا يتذكر كتابيه المضيئين والمهمين بالاشتراك مع المفكر العربي الراحل بوعلي ياسين «الأدب والأيديولوجيا في سورية» (1974)، و«معارك ثقافية في سورية» (1979) (بالاشتراك أيضًا مع محمد كامل الخطيب)، بما حققه هذان الكتابان لحظة صدورهما من تلقيّات وترحيب واسع، ومن انتشار محلي وعربي كبير.
كما يُعرف سليمان بكتبه النقدية والفكرية المضيئة والرائدة في مجال بعضها (نقد النقد)، إلى جانب أنه من أهم المتتبعين، نقدًا وتأليفًا، لما تصدره دور النشر العربية من إنتاج سردي، روائي وقصصي، ونقدي.
ويكفي أن نشير هنا إلى بعض كتبه الأساسية، من قبيل: «النقد الأدبي في سورية»، و«الرواية السورية»، و«مساهمة في نقد النقد الأدبي»، و«السيرة النصية والمجتمعية»، و«فتنة السرد والنقد»، وغيرها، وخصوصًا تلك التي تناول فيها نصوصًا روائية عربية، لأجيال متباينة عمرًا وتجربة، في انتمائها إلى مشاهد روائية عربية مختلفة، من زوايا جديدة، وغالبًا غير مطروقة من قبل على مستوى الطرح النقدي الروائي والحفر فيها واستنطاق مكنوناتها وقضاياها وثيماتها وأشكالها واستخلاص دلالاتها.
وكلها كتب أضحت مراجع لا مناص منها بالنسبة لدارسي الرواية ومحترفي النقد الأدبي، اعتبارًا لما تتميز به كتاباته النقدية من حجيّة وجرأة وعمق ودقة في التحليل واستنتاج التأويل، وبمثل ما تثيره أيضًا مساهماته ومشاركاته العديدة في الملتقيات والندوات العربية هنا وهناك، من أسئلة واهتمام وترحيب بها وبصاحبها، وذلك بشكل يجعل مساهماته النقدية ضرورة وقيمة مضافة لهذا الملتقى أو ذاك، وله في هذا الباب عديد المنطلقات والآراء والرؤى والمواقف الثاقبة والجريئة التي يساهم سليمان، عَبْرها، في إضاءة جوانب معتمة في إبداعنا السردي وفي تفكيرنا النقدي العربي.
ومن بين ما يُحسب لسليمان في هذا الإطار، كونه قارئًا كبيرًا ونهمًا وموسوعيًا، وهو الذي خصص حياته، سواء بعد مغادرته الوظيفة أو بعد تركه الإشراف على دار الحوار للنشر التي أسّسها، للكتابة والقراءة والتأليف.
فهو مثلًا لكي يموضع تجربة روائية معيّنة في سياق التجربة الروائية العربية ككل، لا تأتي أحكامه الثاقبة من منطلق قراءات اختزالية أو متهافتة، بل انطلاقًا من إدراك تام وعام للمتن الروائي الذي يشتغل عليه ويشكّل منطلقه في إصدار هذا الحكم أو ذاك، فتجده، على سبيل المثال، في تناوله لتجربة عبدالرحمن منيف الروائية، ينكبّ على استخلاص أحكامه انطلاقًا من عكوفه على قراءة الأجزاء الخمسة لـ «مدن الملح»، أي فيما يقارب ثلاثة أرباع المليون كلمة، ليصل إلى القول بأنها تجربة تشكّل مفصلًا خاصًا في تجديد السرد العربي بالمشهد الروائي العربي منذ فجره، يأتي بعد مفصل ثلاثية نجيب محفوظ بعقود، موضحًا بذلك المجالات والوحدات الفنية التي تحقق من خلالها التجديد في المتن الروائي لمنيف.
والجميل في هذه الرحلة الشائقة والمتميزة لسليمان، وقد تجاوزت نحو ربع قرن، فهي تجربة يعتبرها صاحبها، بكل تواضع وصدق، في طور التجدد الدائم بعيدًا عن أي ادّعاء أو غرور، إذ تجده دائمًا في مرحلة التعلّم والتأمل وركوب المغامرات، رغم الرقابة والمنع المتزايدين على إصداراته، ورغم الاعتداءات التي يتعرّض لها هو وبيته الريفي الذي سيظل مزهرًا ومنتجًا.
لقد جمعتني لقاءات عديدة بسليمان في المغرب وخارجه، وفي كل مرة كنت أستمتع فيها بحديثه الجميل والمفيد، فجاء هذا الحوار معه هذه المرة، لكي نستمتع به جميعًا على صفحات هذه المجلة الرائدة، وفي هذا الركن المضيء، بما راكمه من حوارات مع رموز الثقافة والفكر والإبداع والفن في العالم العربي وخارجه.

سيرة جغرافية
• تعتبر من بين الروائيين العرب الكبار، الذين اهتموا، بشكل بؤري وتقني ودلالي لافت، باستثمار فضاءي «القرية» و«المدينة» في رواياتك؛ إذ تحضر القرية فيها، منذ روايتك الأولى «ينداح الطوفان»، بمثل ما تحضر المدينة بقوة أيضًا، في رباعية «مدارات الشرق»، مرورًا بغيرها من رواياتك المستوحية لهذين الفضاءين معًا، وخصوصًا فضاء المدينة، في تحوّلاته وخصوصيته، وفي روحه وأوضاعه التاريخية والبشرية، وفي أبعاده الواقعية والمتخيلة: دمشق، وحلب، وحمص، واللاذقية، والسويداء، وحيفا، وتلمسان، وبغداد، والقاهرة، وباريس، وغيرها من المدن بأسماء متخيلة، فكيف تمكنت في رواياتك من النفاذ تخييليًا إلى خصوصية المدينة العربية، في تفاصيلها وروائحها وشخوصها وأطفالها والعشاق فيها؟
- قضيت طفولتي متنقلًا مع أسرتي بين القرى المترامية من شمال وشرق ووسط سورية إلى الجبال الساحلية.
ومن الجبال، قضيت سنوات الجامعة في قرية البودي، حيث عملت معلمًا، واخترت على كبر لعزلتي مكتبتي وكتابتي. أما المدن، فكان أول مقامي في طرطوس، فاللاذقية أثناء دراستي الثانوية، ثم تقاذفتني المدن، داخل سورية وخارجها، ومما سكنني منها: الرقة، وحلب، ودمشق، وبيروت، وتونس، وسياتل، والقاهرة، ومدريد.
وفي يقيني أن هذه السيرة الجغرافية، قد سرت في كتابتي الروائية، مثلما سرت في روحي، وأحسب أن ذلك جاء عبر ميسمين؛ واحد للتحول والآخر للخصوصية.

مدارات الشرق
• إلى أي رواية تفضل أن نعود هنا؟
- لكثرة الأمثلة سأكتفي بأقل القليل، ومنه رواية «حجر السرائر» التي تشرّبت دمشق منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى خمسينياته. وكانت رباعية «مدارات الشرق» قبلها قد تشربت دمشق منذ مطلع القرن العشرين حتى خمسينياته.
ورغم التقاطع الزمني، كان لدمشق في كل من الروايتين خصوصيتها، كما انفردت كل منهما بما لم يكن للأخرى من التحولات العمرانية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الروحية، أما المغامرة الكبرى فقد كانت فيما تشربت الرباعية من خصوصية وتحولات مدن أخرى، مثل حمص والسويداء وإسكندرون واللاذقية وبيروت، ومن خصوصية وتحولات قرى وبلدات ملء الفضاء السوري في أرجائه جميعًا، عدا عن أشطاره البدوية. ومن بعد، وكله من أقل القليل من الأمثلة، أشير إلى مدينة الرقّة في رواية «ليل العالم» منذ هزيمة 1967 حتى صارت عاصمة «الخلافة الداعشية».
بقي ما أحسبه مهمًا، ويحيّرني بقدر ما يمتعني غموضه. أقصد أولًا: المدن التي سكنت في رواية أو أخرى، وإن أكن لم أعش فيها، مثل حيفا وصفد والقدس من مدن فلسطين، أو عشت فيها، ولكن بعدما كتبتها في رواية ما، مثل باريس وروما وبرلين وإسطنبول. 
هذا أولًا، أما ثانيًا فهي المدن والقرى الروائية المتخيلة، كما في قرى رواية «أطياف العرش» أو قمورين وبرشمس وكمبا: مدن رواية «تاريخ العيون المطفأة». ليس المكوّن الجغرافي في السردية الروائية خرائط وأوصافًا وأحداثًا وحسب، بل هو من قبل ومن بعد: روح؛ روح المدينة أو روح القرية، هو نبض شارع وفحيح غرفة وآهة سجن ونواح شرفة و... وهذا ما عرفته كتحدٍ أكبر، وكمتعةٍ أكبر.

تحولات ومنعطفات
• ما بين روايتك الأولى «ينداح الطوفان» (1970) وروايتك الأخيرة «تاريخ العيون المطفأة» (2019)، والتي حققت، رغم حداثة صدورها، تلقّيات كثيرة، لا شك في أن مياهًا كثيرة قد جرت تحت الجسر، فهل لك أن تقرّبنا من طبيعة التحولات والمنعطفات التي عرفتها مسيرتك الروائية، منذ صدور روايتك الأولى، وقد عبرت عديد الأحداث والتغيرات والأزمات التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية، العاكسة لفساد الأنظمة ولاستفحال أشكال العنف والإرهاب والتطرف التي يشهدها عالمنا العربي؟
- هذا نصف قرن بطولة، وأي قرن، وأي نصف قرن هو؟ بعد هزائم مبكرة - عَنْوَنَتْ رواية لي عام 1985 - توالت الهزائم، ليس فقط في الحرب مع إسرائيل، بل أولًا في الحرب مع الذات الفردية والجماعية التي عشّشّ فيها التخلف والتدين الزائف، ونُفي منها الحوار والآخر.
خمسون سنة من الأحزاب الفاشلة، والصراع الأيديولوجي الأعمى، والدكتاتورية و«الجملكيات» والخراب التعليمي والاقتصادي والقيمي والأخلاقي و...
وقدة الحياة الباقية، التي تصارع من أجل البقاء، هي في كل من يحمل وتحمل الصليب على الظهر، ويواجه/ تواجه هذا القرن/ نصف القرن، عين تكسر المخرز، رواية أو أغنية أو لوحة أو دماء على جدران الزنزانة أو زيتونة يحرقها المستوطن أو...
لماذا اليأس؟ ها قد تبقى الكثير للسنين الحلوة الآتية لا ريب فيها، وإن يكن بعد عمر طويل.

روايات الوباء
• تهيمن موضوعة «العمى»، بشكل إبداعي ودلالي لافت، في روايتك الأخيرة «تاريخ العيون المطفأة»، وهي ثيمة مهيمنة في مجموعة من الروايات العالمية الشهيرة، كما هيمنت في روايات أخرى موضوعة «الوباء»، كالطاعون والكوليرا وإيبولا وكورونا، وغيرها من الأوبئة، فهل لجوؤك إلى توظيف ثيمة «العمى»، إلى جانب ثيمات أخرى متداخلة، كالفساد والقمع والوباء... هو فقط للتعبير عن واقع عربي، يعمّه المرض والفساد والتسلط والوباء؟
- منذ فشا حديث «كورونا»، أخذ الحديث عن روايات الوباء يتواتر. وإذا كانت بعض الأوبئة كالسلّ أو الكوليرا أو الطاعون قد حضرت على نحوٍ ما في بعض الروايات العربية، فقد كانت رواية أمير تاج السر (إيبولا) أول رواية عربية يمحورها الوباء، ثم جاءت «تاريخ العيون المطفأة» في عام 2019.
وإذا كانت روايات سابقة قد تمحورت حول «العمى» مما كتب جورج ويلز أو عزيز نيسن أو ساراماجو، وهو ما تمحورت حوله «تاريخ العيون المطفأة»، فقد تقرّتْ روايتي في روايات «العمى» وبخاصة في رواية ساراماجو، وذلك عبر محاورة أحسبها مهمة جدًا بين شخصيتي آسيا والدكتور الفنان والقانوني الأعمى لطيف الركني.
كما انفردت هذه الرواية عما سبقها بالاشتغال على ما بين العمى والفن التشكيلي في شخصية الركني، وبالاشتغال على ما بين الموسيقى والعمى في شخصية شيماء والموسيقيات العمياوات. وفي هذه الرواية أيضًا ما انفردت به، فيما يتصل من أخيولات جديدة للقمع بالعمى. وبالتالي، لم تكن ثيمة العمى هنا فقط للتعبير عن واقع عربي، بل للمغامرة في آفاق سردية جديدة عربيًا وعالميًا، في حدود علمي على أساس علمي مكين، تطلب منّي الكثير من البحث والاستشارات. 
خوّضت «تاريخ العيون المطفأة» في استئصال العين العمياء وزرع البصيرة محلها. وشبكت الرواية ذلك عبر شخصية العقيد معاوية بأخطبوط الفساد، وبآلة القمع التي ابتدعت مصحات الجنون، فأقفلت السجون والمعتقلات، لترسل بالمعارضين والمعارضات إلى المصحات كمختلّين ومجانين.
وفي منتهى الرواية، وتلبية لحاجة بنك/ بنوك العيون والمتاجرة بها، بدأت مقايضة المجنون/ المعارض بعينه السليمة أو بعينيه مقابل الإفراج عنه. جنون المخيلة هو جنون السرد، جنون الرواية، اللامعقول هو، الرعب هو، هل هي آفاق جديدة لكتابتنا التي بها نحيا؟!

منعطف مفصلي
• اعتبرت في أحد حواراتك، أن «تاريخ العيون المطفأة» تشكّل لحظة جديدة ومنعطفًا مفصليًا في مشروعك الروائي الممتد والمتطور... بعيدًا عن المتابعات النقدية العديدة التي واكبت هذه الرواية منذ صدورها، ومن موقعك ككاتب للرواية، كيف تنظر أنت إلى طبيعة هذه اللحظة الجديدة التي حققتها هذه الرواية، باعتبارها الرواية الأكثر قربًا منك؟
- هل يكفي أن أشير إلى ما ختم الجواب السابق؟ هل هي لحظة البرزخ بين الحياة والموت؟ هل هي لحظة الصراط بين الفوز العظيم والهاوية التي بلا قرار؟ هل هي لحظة الإبداع؟ إلى كم أحتاج من الشجاعة والطموح، بل من الجنون والعقل، بل من العمى والبصر والبصيرة، كي أقول: هذه هي لحظة «تاريخ العيون المطفأة»?
ولكن إن صح ذلك، فماذا أكون قد أبقيت لما تبقى من العمر؟ هل لي أن أقول إذن: هي كل ذلك، وهي ليست كذلك البتّة؟ ولكن مالي وما لهذا السؤال ولهذا الجواب؟ لماذا لا أدعهما للقراءة وللزمن، وأغفو في حضن «تاريخ العيون المطفأة»؟

محاولتي الأولى
• ليتك تقرّبنا من بعض الروائيين، ممن كان لهم تأثير مباشر أو غير مباشر، في كتاباتك الروائية، منذ البداية.
- «حكاية حلم» هي محاولتي الروائية الأولى (الساذجة) التي كانت في صيف عام 1959 عندما كنت في الرابعة عشرة، ولا زلت أحتفظ بذلك الدفتر الغرير (20 ورقة/ 40 صفحة). 
يومئذ كان التأثير المباشر لما قرأت من روايات إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي ومحمد عبدالحليم عبدالله، وكذلك للأفلام السينمائية المأخوذة عن روايات هؤلاء.
من بعد، وإلى هذا اليوم، سيظل لرواية ما أثر ما، مباشر أو غير مباشر، في كتابتي وفي روحي. ولئن كنت أُكبر نجيب محفوظ أو همنغواي أو هاروكي موراكامي أو ماركيز أو سواهم، فما أؤكده أن «الطاعون»، أو «أولاد حارتنا»، أو «دفاتر رودريغو»، أو «الحب في زمن الكوليرا»، تركت أثرًا عميقًا فأعمق في كتابتي وفي روحي، وليس كل ما كتب هذا الكاتب أو كتبت تلك الكاتبة. 
ويهمني أن أتابع القول بأن الأثر في رواياتي لا يعود فقط إلى رواية ما، بل قد يكون أيضًا إلى مفكر (إلياس مرقص، ومهدي عامل، وبوعلي ياسين، مثلًا)، أو إلى شاعر (بدوي الجبل، وأحمد فؤاد نجم، والرحبانيان، مثلًا)، أو إلى فنان (جبر علوان، واللباد، وفاتح المدرس، مثلًا).
من ألغاز «التأثر» ما كان لـ «موسوعة العامية السورية» بأجزائها الأربعة لياسين عبدالرحيم، فهذا الكنز، هذا النبع الدفّاق، كان له أثره العميق في أكثر من رواية لي، منذ أنعم بها الراحل ياسين عام 2003 حتى اليوم. ولست أعني بالتأثير مفردات أو تراكيب أو أمثالًا أو أدوات، بل الروح الشعبية التي جففتها أوهام الحداثة وما بعدها. ولعل السؤال يصير إذن: إذا كان أمر هذه الموسوعة كذلك، فكيف إذن بـ «ألف ليلة وليلة»؟

وفاء مشتهى
• أنت تقيم في اللاذقية، ولم تختر المنفى والهجرة، كما فعل آخرون، حتى قبل الأزمة السورية، فما سرّ هذا الوفاء المشتهى لمسقط الرأس? بعيدًا عن أية مهادنة طبعًا. وكيف تستطيع أن تكتب اليوم من داخل المعاناة والخوف والخطر? فكأني بك تشبه الراوي في روايتك الممتعة «تاريخ العيون المطفأة»، في قوله على لسان إحدى الشخصيات «سأكتب ضد الجميع، لا أستثني أحدًا، لا حاكمًا ولا محكومًا، لا معارضًا ولا محايدًا ولا سلطويًا».
- لا يتعلق الأمر البتّة بتلك السلسلة المدوية من الصمود والتحدي والجلال والجمال في رباك موطني.
الأمر ببساطة أنني لن أستطيع العيش خارج سورية. الأمر ببساطة أكبر أنني أحب هذه الـ«سورية». أنت تسمّيه وفاءً مشتهى لمسقط الرأس، وأنا لا أعرف حقًا إن كان كذلك، إذ إن لي أكثر من مسقط رأس في سورية. فقد ولدت في صافيتا، لكنّ مسقط رأس أسرتي في قرية جبلية بعيدة، هي البودي، وعليها ترددت أصيافًا، ثم أقمت منذ 1962 حتى 1966. ولا يسكنني مسقط الرأس هذا، ولا صافيتا، إلا كما يسكنني ما أسميه أيضًا مسقط الرأس في الرقّة (1967 - 1972)، أو حلب (1972 - 1978)، فهل أكون شاذًا بتعدد مساقط الرأس؟ وماذا لو أقسمت لك على أنّ لي من «مساقط الرأس» ما يكويني الحنين إليه كأنه أي خرابة في سورية؟
سأسمّي لك من المغرب: زاكوراء، ومن أمريكا: سياتل، ومن اليمن: عدن، ومن تركيا: آكي ياكا، ومن السعودية: الطائف... ومن مسقط إلى مسقط سأتهجّد: «أقلّ اشتياقًا أيها القلب»، وسأتهجّد: «خُلِقْتُ أَلوفًا»، حتى إذا تساءل أبوتمّام: 
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدًا لأول منزل
عاجلتُه: لي «أول منزل» من بعد «أول منزل»: عامودا الكردية في الشمال السوري، بل عين ظاط الشركسية في الوسط. 
وقبل أن أتابع، يتوحد ما سكنني من العالم وما حلمت بأن يسكنني في سورية، التي لم تكن إقامتي فيها بعد ما زلزل زلزالها إلا مثل إقامتي فيها من قبل، حيث لم يزدني ما تعرّضت له من ضرب أو منع من السفر أو منع رواية لي أو الاعتداء على بيتي... إلا تعلقًا بسورية. وإذا كنت لم أساوم على كلمة ولا على موقف، وإذا كان الصدأ يقتلني إذا لم أسافر، فها أنا أردد ما رددت من قبل: لن أعيش خارج سورية إلّا إذا ظل البوط يرفسني حتى يرميني خارج الحدود.

تجربة مؤثرة
• يُعرف عنك أنك من بين الروائيين والنقاد العرب المواظبين على كتابة الرواية ونقدها، مما يضعنا نحن القرّاء أمام تجربة إبداعية ونقدية غنية ومؤثرة، بنصوصها المتناسلة وبكتبها النقدية المضيئة، فما الذي قدّمه النقد الروائي عمومًا، ممارسة وقراءة، لتجربتك الروائية، وأنت الخبير بأسرار الكتابة الروائية ونقدها؟
- عندما صدرت «ينداح الطوفان» (1970)، أو «السجن» (1972) ولاقاهما بالكتابة عنهما حنّا مينه وممدوح عدوان وسواهما، وأنا المقيم في الرقة على بعد 500 كلم من العاصمة، نفحني النقد بعزم مضاعف على المراهنة بالعمر لقاء الكتابة.
وحين قارن الراحل خالد محيي الدين البرادعي بين «ينداح الطوفان» وروايات عالمية، بينما وصمها بدر الدين عرودكي بالبدائية، أفزعني النقد المتناقض 180 درجة. وبعد سنوات، عندما تحدّث الراحل سليمان فياض عن البوليفونية وتعدد الأصوات في روايتي «ثلج الصيف» (1973) وقارنها بتجربته المماثلة في روايته «أصوات» (1972) نفحني النقد بعزم مضاعف على التجريب. 
ربما تكون محاولاتي في النقد الروائي، وفي نقد النقد، ما يجعلني أقدر على قراءة النقود المتعلقة برواياتي. ومن ذلك مثلًا أن تجد أنّ خمس عشرة «دراسة» لرواية «تاريخ العيون المطفأة» خلال سنة، لم تلتفت لما في الرواية عن الموسيقى والعماء أو الفن التشكيلي والعماء، مما تدعي الرواية أنه جديدها، باستثناء ما كتبه التونسي صالح الدريدي.
بعيد صدور الجزأين الأول والثاني من «مدارات الشرق» عام 1990، جاء محسن يوسف بثلاثة مقاطع متفرقة، وأعاد كتابتها على هيئة سطور قصيدة النثر، وذهب إلى أنها مقاطع من الشعر، فكانت مفاجأة مثيرة لي، وأنا الحذِر والمحذّر من مزالق الشعر في الرواية والشعرية الروائية.
تلك أمثلة مبكّرة، ستصير خلال نصف قرن مئات المقالات والدراسات وعشرات المؤلفات والأطروحات الجامعية، وسيتقاذفني النقد بين أعلى علييّن وأسفل سافلين.

 حفريات روائية
• يشهد لك أيضًا بحضورك النقدي الكبير، عبر التأليف والمشاركات والدراسات والحوارات وكتابة عديد المتابعات النقدية لنصوص روائية أساسية، عربية وعالمية. وفي حوار سابق لك، قلت: «من المؤكد أنه لا يزال ينتظر الكتاب والكاتبات الكثير، لا يزال عليهم الكثير، دون أن نهوّن من قيمة ما تحقق»، في نظرك، وأمام ما تعج به الرواية العربية، في نصوصها المتناسلة، من قضايا وأسئلة وثيمات قد يصعب حصرها اليوم، هل لك أن تقرّبنا من طبيعة المناطق والثيمات التي لا تزال غير مطروقة بما يكفي من توظيف واستيحاء وتمثُّل في الرواية العربية؟
- لا يزال المقدس الديني ينتظر الحفريات الروائية العربية التي لا تتقافز فوق الألغام، أو تلتف على المحرمات بأفانين اللغة والرموز.
تلك هي رواية نورمان ميلر «إنجيل الابن»، وتلك هي رواية كازنتزاكس «الإغواء الأخير للمسيح»، متى سيكون لنا رواية عربية نظيرة لهاتين الروايتين، سواء أتعلّق الأمر بالإسلام أم بالمسيحية أم باليهودية؟ 
ليس الأمر تسفيهًا لمقدس أو تبشيرًا بإلحاد، مثلًا. القصد ألّا يكون أمام الإبداع الروائي، أو الإبداع الفكري أو الشعري أو التشكيلي، حقل ألغام أو جدار فاصل سَدّ.
من المناطق والثيمات التي تنتظر الرواية العربية، ما يمور به التراث العربي والإسلامي والمسيحي، وما قبل الإسلامي والمسيحي. فعلى الرغم مما كان من حفريات روائية في التاريخ والتراث، لا يزال الكثير والخطير المحفوف بحقول الألغام، بل والملغّم الذي ينتظر الرواية العربية.
أنت تعلم أن واحدًا من أمجاد الرواية في أمريكا اللاتينية، كان ما كتبته عن أو ما كتبت به الدكتاتور. ولقد رددت منذ سنوات أنه بات للرواية العربية دكتاتورها، وبنيت الرأي على روايات شتى لفاضل العزاوي ونجم والي ونهاد سيريس وواسيني الأعرج وسالم حميش وأبوبكر العيادي وعبدالستار ناصر... ولكن ما ينتظر الرواية العربية في هذه (المنطقة) أو (الثيمة) أكبر بكثير مما تحقق. 
لقد أنجب القرن العشرون عربيًا، وما مضى من هذا القرن، مَن بدا الدكتاتور في أمريكا اللاتينية مسكينًا بالنسبة إليهم. كم رافائيل تروخيليو لدينا لنباهي به رواية يوسا «حفلة التيس»؟ كم بيرون وإيفا لدينا - نعم، وإيفا - لنباهي رواية مارتينيث «سانتا إيفيتا»؟
ما حققته الرواية العربية وقع في مزالق الثأرية والهجاء، كما أساءت لبعضه التقية، بينما تتلاطم حياتنا بما فعلت ولا تزال تفعل الدكتاتوريات العسكرية والحزبية، المتحالفة مع الدكتاتورية الدينية أو المتصارعة معها.
في غير روايات الخيال العلمي يندر حضور (العلم) في الرواية العربية، كفلسفة ورؤية وحدث وشخصية ولغة. ومن هذا النادر الذي أحسب أنه فريد عربيًا، وربما عالميًا، ما ينعم به علينا الروائي العالم اليمني حبيب عبدالرب سروري. اقرأوا روايته «عرق الآلهة». اقرأوا روايته «تقرير الهدهد».
هل تكفي هذه الاقتراحات للمغامرة الروائية في الدين وفي الدكتاتورية وفي العلم؟ 

مسارات جديدة
• هل يمكن القول إن الرواية في سورية في عديد نصوصها المتباينة، قد اتخذت مسارات جديدة، إثر ما يشهده البلد، من أحداث وحروب وحراك منذ 2011؟
وكيف تنظر باعتبارك أحد المساهمين في حركية هذا المشهد والمتتبعين لتراكمه، إلى مجمل ما تحقق من تراكم روائي جديد في سورية، في ضوء ما تشهده سورية، مع الأسف الشديد، من أحداث وتحولات عاصفة؟
- تزلزلت سورية خلال عشر سنوات بالتهجير والهجرة إلى التوحش المتجلبب بالدين (داعش وأخواته) إلى المخيمات والاحتلالات والفساد والتمزق المجتمعي والخراب الأخلاقي و... و... و... وعلى الرغم من أزمة النشر داخل سورية وفي أصقاع المنافي واللجوء والنزوح، فقد صدرت عشرات الروايات خلال السنوات العشر.
لقد قرأت ما يقارب مئة رواية، وكتبت عن نصف ما قرأت تقريبًا، وتابعت ما كتب سواي. خارج سورية جاء العدد الأكبر من الروايات للعدد الأكبر من الأصوات الجديدة. وفي الخارج كما في الداخل، من النادر أن تجد رواية لا يشغلها ما كان في السنوات العشر، حتى لو عادت رواية ما إلى ما قبل ذلك.

إنجاز كبير
• إلى أين وصل ذلك كله؟
- جمهرة كبرى من الروايات وقعت في أشراك السياسة، ومنها الشعارية، واللهاث خلف الراهن، والخطابة الثورية اللفظية، وكل ذلك على حساب بناء الشخصية، أو العمارة الروائية. والمؤسف أن كتّابًا ذوي تاريخ روائي ناصع وقعوا في هذه الأشراك.
في الداخل كان للسياسة أشراكها أيضًا. لا فرق بين أصوات جديدة، ومخضرمين. هناك المعارضة وهنا الموالاة، وفي الحالتين يكون ذلك إما فاقعًا أو أقل (فقعنة)، وكله على حساب الفن الروائي.
وفي الداخل أيضًا ثمة كتّاب معدودون لم يغادروا البلاد إلا لسفر قصير، لكنّ رواياتهم صدرت في الخارج، وأغلبها ممنوعة في الداخل، والأهم أنها جاءت في منجاة من تلك الأشراك، كما في روايات ممدوح عزام وخالد خليفة وخليل صويلح وسوسن جميل حسن ونسرين الخوري وعتاب شبيب وسومر شحادة، وربما رواياتي أيضًا.
ليس ما يبدو من قتامة الصورة أعلاه غير جزء من القتامة التي تلفّ الفوران الروائي العربي. لكن ثمّة روايات تتقد في القتامة مثل الشهب، كما في روايات شتى لسمر يزبك وروزا ياسين حسن وخيري الذهبي وهيثم حسين ومها حسن وفادي عزام وابتسام تريسي وسواهم.
خلال عشر سنوات، ثمة من يتحدث عن أكثر من 400 رواية في سورية. ومهما يكن فأن تعطي السنوات العشر عشرين رواية تتقد مثل الشهب، فهذا إنجاز كبير رغم كل المعوقات، كما لو أن السنة الواحدة تعطي عشرين رواية عربية/ شهبًا، من بين مئتين أو ثلاثمئة رواية: أليس هذا بإنجاز كبير؟
• أنت بين المنتصرين لترجمة الرواية العربية إلى لغات أجنبية والداعين إليها، بغاية أن ترفد الرواية العربية خزانة الرواية في العالم... هل في نظرك أن ما تحقق حتى الآن من ترجمات للرواية العربية، وخاصة بعد «نوبل» نجيب محفوظ، كفيل بتحقيق هذا المبتغى والانتشار المرغوبين للرواية العربية في العالم، بعيدًا عن ادعاء أن الترجمة هي السبيل الكفيل بتحقيق ما يسمّيه البعض بـ«عالَمية الرواية العربية»؟
- إضافة إلى ما تفضّلت به، أرى أن أحوال ترجمة الرواية العربية إلى لغات أخرى، لا تزال عليلة. فما تحقق لم يوفّر الانتشار المأمول، ولا يمثّل من المشهد الروائي العربي إلا لُمَحًا ليست دائمًا معبّرة عنه. أما حديث «العالمية» فليست الترجمة إلا فاصلًا منه، إلا لمن يحدد العالمية بما يكتبه الآخر، وبخاصة منه الغرب الأوربي.

ظاهرة مرضية
• لا نستطيع أن ننكر مدى التأثير الذي تحدثه جوائز الرواية العربية، في هرولة البعض نحو الانعطاف إلى كتابة الرواية اليوم، وأحيانًا يكتبونها وفق مقاسات وتوجّه الجوائز نفسها، تبعًا لما يعرفه الواقع العربي من مستجدات ومنعطفات سياسية واجتماعية، وغيرها، وذلك إلى درجة هجر فيها بعض الكتّاب اهتمامهم الإبداعي الأول، ليرتموا في أحضان موضة الرواية أو زمن الرواية.
في نظرك، هل هذا يعتبر ظاهرة صحية، بما أنها تساهم، على الأقل، في إثراء التراكم الروائي العربي، أم أن الإبداع الروائي العربي، في جانب منه، أصبح خاضعًا لأهواء وإكراهات أخرى خارج إبداعية؟
- أظن أن ما تسميه بالهرولة إلى الرواية وهجران بعضهم لماضٍ إبداعي ما، له أسبابه الأخرى، وليست الجوائز إلّا آخر أو أوهى تلك الأسباب. فالمزاوجة بين كتابة الشعر وكتابة الرواية مثلًا، أو الهجرة إليها، ظاهرة تعود إلى ما قبل هيجان الجوائز.
أما الكتابة التي تستهدف جائزة ما، ويغويها بريق الشهرة والمال، فيذهب أغلبها بددًا، وقد يصادف أن يكون بينها رواية جديرة، لكن ذلك ظاهرة مرضية من بين الظواهر التي تفتك بنا في الثقافة أو السياسة أو القيم أو الاقتصاد أو الفن وما ماثل من إكراهات خارج إبداعية.

بيروت قِبلةٌ روائية
• تعتبر مدينة بيروت، إلى جانب بعض المدن العربية، كالقاهرة ودمشق وبغداد، وغيرها، من أهم المدن التي عملت الرواية العربية، على استيحائها بدرجات. 
إلى جانب ما عرفته بيروت من حروب وأحداث وتقلبات تاريخية فرضت نفسها على الروائيين اللبنانيين والسوريين وغيرهم، هل لك أن تحدثنا عن الدوافع الأخرى التي جعلت من بيروت فضاء روائيًا مهيمنًا في الرواية العربية وغيرها؟
- مرّ حين من الدهر كانت لبيروت فيه غوايتها الآسرة، فللسياسي الهارب من جحيم بلاده هي الملجأ، وللفنان طالب الشهرة هي الأمل، وللكاتب هي موئل النشر، كما هي فسحة الحرية. وعندما زلزلت بيروت زلزالها في حربي 1975 و1982، كانت أيضًا العلامة الفلسطينية واللبنانية المقاومة، والتي استقطبت في أصعب الأوقات الحالمين بالعدالة والثورة، عربًا وغير عرب.
في لجّة ذلك كله كانت بيروت قِبلة روائية. ومن أسفٍ أن ما تلا الحرب منذ 1990، لم تكن الحرب أكبر هولًا ولا خرابًا منه، حتى بدأت نجومها تنطفئ. ولا أظن أن كل هذه التراجيديا البيروتية المعقّدة ستنال منها كقِبلة روائية، إن لم يكن العكس.

دلالات متناقضة
• بالعودة إلى سورية، وبعد سلسلة التحولات التي عرفها المشهد السوري ولا يزال، منذ عام 2011، بما فيها تحولات المشهد الثقافي العام، أود أن أسألك أستاذ نبيل، ماذا تبقى اليوم من طروحات كتابك المزلزل المشترك مع المفكر السوري الراحل بوعلي ياسين، الصادر بعنوان «الأدب والأيديولوجيا في سورية» عام 1974، بطروحاته الجريئة وغير المهادنة؟ وهل يمكن أن نعتبر كتابك الجديد «في التباب ونقضه» الصادر هذا العام، بمنزلة امتداد تاريخي ونقدي وعقلاني للكتاب الأول؟
- منذ شهور كتب حسام الدين محمد في «القدس العربي» مقالة «ساطورية» عن هذا الكتاب، وحبس الكاتبين فيه. وهذه سانحة للحديث عن الكتاب بعدما خفت بريقه منذ ثمانينيات القرن الماضي.
أحسب أنه قد بقي من «الأدب والأيديولوجيا في سورية» دلالات متناقضة، منها أن قراءة أيديولوجيا الرواية أو الشعر أو المسرح، ليس أمرًا ممكنًا فقط، بل ضروري في زمن الصراع الأيديولوجي المحتدم في العالم كله، وحيث تبددت كذبة نهاية الأيديولوجيا. ومن دلالات الكتاب أن قراءة أيديولوجيا الكتاب تقتضي قدرًا أعمق وأكبر من الأهلية في الفلسفة وفي النقد، وهذا مما كان ينقصنا: بوعلي ياسين في النقد وأنا في الفلسفة، بل وفي النقد.
ربما تعلمنا ذكرى الكتاب أنه لا بدّ للظرف الذي تكتب فيه من وطأته. وقد كتب الكتاب في مطلع السبعينيات، بينما ارتدادات زلزال هزيمة 1967 تتوالى على ابن الـ 35 سنة (بو علي) والـ30 (أنا). 
هنا أنادي الشباب إلى المغامرة بالكتابة، فالحصيلة العلمية لن تكتمل ما دام المرء على قيد الحياة، ولا مطرح لأي حسابات خارج الكتابة، لا حسابات حزبية ولا سياسية ولا صداقية ولا مالية ولا...
أما كتابي «في التباب ونقضه» فهو مختلف، لأنه لا يتعلق بالأدب فقط، ولأنه يأتي معجونًا بالسنوات العشر الزلزالية، ليس في سورية وحدها.

مساهمات من الخارج
• هل لك أخيرًا أن تقربنا من المشهد الثقافي العام في سورية اليوم، وإلى أي مدى ساهمت الأزمة السورية في حركيته؟ أم أن المثقف السوري، قد تفرّق في الأرض، منشغلًا بسؤال التغيير وبإكراهات الحياة والعيش والعدالة والخوف والخراب والديمقراطية والصراعات الطائفية والمذهبية، وغيرها؟
-  ما من مثقف سوري واحد أو موحّد، كحال المثقف بعامة. ثمة مثقَف ومثقِف. للنظام مثقفوه، للمعارضات - وما أكثرها - مثقفوها. وما عدا قلة قليلة ممن يتبوأون مراتب أعلى في هرم السلطة أو في هرم المعارضات، يعاني بقية المثقفين إكراهات العيش، وبخاصة بعدما أخذت جلاجل الحرب تهدأ. ومع إكراهات العيش تتضافر إكراهات أكبر مرارة وقسوة وخطرًا، فأبواب الجحيم مفتوحة على مصاريعها، الدكتاتورية والتفسخ الأخلاقي والحزبي، والهويات الدنيا القاتلة كالجهوية والطائفية والمذهبية والعشائرية... إنه الخراب التعليمي والاقتصادي والعمراني والقيمي والنزوح والتهجير والتقسيم إلى سوريات متناحرة. 
ولكن على الرغم من ذلك كله، بل ومما هو أدهى منه، مما يصعب حصره في مقام كهذا، تعالى بعض المثقفين على الجراح والخراب، وقدّموا إبداعاتهم، كما رأينا في الرواية، وكذلك في الأبحاث والفكر، كما في كتابات ياسين الحاج صالح وصبحي حديدي وبرهان غليون... واللافت هنا أن المساهمة الفكرية تكاد تكون وقفًا على مَن هم في الخارج ■