أساتذتي الأجلاء... شوقي ضيف
عندما أتذكّر أستاذي د. أحمد شوقي ضيف، أجد عددًا من الأشياء يتسارع إلى ذهني قبل تفصيل الكتابة عنه، فهو الوحيد - من بين أساتذتي - الذي ترجع نشأته الأولى إلى الأزهر.
فقد وُلِد - يرحمه الله - في الثالث عشر من يناير 1910، وتعلَّم في المعهد الديني بدمياط والزقازيق، ثم جاء إلى القاهرة والتحق بـ «تجهيزية دار العلوم»، إلى أن أصبح مؤهَّلًا لدخول كلية الآداب، فدخلها والتحق بها وظل أستاذًا في قسم اللغة العربية إلى أن توفاه الله في 11 مارس عام 2005.
كان من الطبيعي أن يظهر د. ضيف تفوّقًا منذ البداية، فقد حصل على ليسانس الآداب عام 1935 بتقدير جيد جدًّا وكان الأول على دُفعته. وبعد ذلك سجَّل لدرجة الماجستير مع الأستاذ أحمد أمين، وكان موضوعها االنقد الأدبي في كتاب الأغاني للأصفهانيب، وحصل على الدرجة بمرتبة الشرف الممتازة عام 1939.
وانتقل في التلمذة من أحمد أمين إلى طه حسين، وسجَّل تحت إشرافه درجة الدكتوراه بموضوع االفن ومذاهبه في الشِّعر العربيب، وقد حصل عليها بالفعل مع مرتبة الشرف الممتازة عام 1942.
وطُبعت رسالة الدكتوراه بعد أن فرغ منها بتقديم د. طه حسين، الذي كان قد تعوَّد أن يكتب مقدّمة للنابغين من طُلابه، ولا أذكر له سوى المقدمة التي كتبها لكتاب سهير القلماوي األف ليلة وليلةب، وكانت أطروحتها للدكتوراه، والطبعة الأولى من كتاب االفن ومذاهبه في الشِّعر العربيب لشوقي ضيف، الذي أشرف عليه في الدكتوراه. وقد كتب في مقدمة تلك الطبعة اإذا كنتُ حريصًا على أن أقول شيئًا في التقدمة، فإنما تسجيل الشكر الخالص للجامعة التي أنتجت د. شوقي، ود. شوقي الذي أنتج هذه الرسالةب.
القلماوي وطه حسين
الحقّ أن أقدم أُستاذينِ لنا في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، كانا د.ضيف ود. القلماوي، كلاهما قد درس على يدي د. طه حسين في الدكتوراه، وكلاهما ينتسب إليه.
لكن انتساب القلماوي كان أعمق وألصق؛ أولًا لأنها كانت فتاة، وكانت تتقن اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ومنذ سنواتها الأولى في الجامعة كان طه حسين يعتبر نفسه وليّ أمرها، وثانيًا لأن القلماوي كانت من طبقة أرستقراطية نسبيًّا، فوالدها كان طبيبًا، يحمل درجة البكوية، وكانت هي تساعده بعيادته في الأعمال البسيطة، من مثل حقن أحد المرضى، أو قياس درجة الحرارة، أو إعداد بعض الأدوية البسيطة التي لم تكن الحاجة تقتضي إعدادها في الصيدلية.
لذلك كانت خبرة القلماوي بالحياة القاهرية وبالمعارف الحديثة أكبر من ضيف، خصوصًا أنها كانت تتقن الإنجليزية والفرنسية (كما سبق أن أشرتُ)، بما أتاحته لها دراساتها في المدارس الأمريكية، وهذا شيء لم يكن يتميز به ضيف، وهذه نشأة لا شك في أنها قد خلّفت في أفق القلماوي العقلي والثقافي نوعًا من السّعة والرحابة بالقياس إلى د. ضيف الذي نشأ نشأة أزهرية، فلم يفارق المعهد الديني في دمياط أو الزقازيق إلا لتجهيزية دار العلوم، قبل أن يلتحق بكلية الآداب، وينتقل من إشراف أحمد أمين إلى إشراف طه حسين (كما سبق أن أشرتُ)، وهي نشأة جعلته أقل تفتحًا إزاء الجديد الذي كان يعرفه طه حسين.
ولا أظن أن أستاذي د. ضيف كان قد قرأ كتابًا واحدًا بلغة أجنبية قبل أن ينتقل إشرافه من المرحوم أحمد أمين إلى أستاذه وأستاذنا طه حسين، عليهم جميعًا رحمة الله.
بين ضيف وخليف
وقد عرفتُ د. ضيف في الوقت نفسه الذي عرفتُ فيه د. يوسف خليف، فقد كان الأول يدرّس لنا العصر الجاهلي في عمومه. ولم تكن قد صدرت الأجزاء الأولى من موسوعته الكبرى عن تاريخ الشعر العربي بداية من العصر الجاهلي، إلّا بعد أن تركنا السنة الأولى، ولكن ما كان يدرّسه لنا كان يفسح السبيل أمام د. خليف لكي يقرأ معنا نصوص الشعر الجاهلي، تاركًا القضايا والموضوعات الكبرى لأستاذنا د. ضيف.
وكانت شخصية د. شوقي تتّسم بالجهامة والجدية، فلم يكن قريبًا منّا نحن الطلاب ولا مهتمًّا بنا، تاركًا أمر التعامل معنا لتلميذه د. خليف، ولذلك عندما وصلنا إلى المرحلة الخاصة بانتحال الشعر الجاهلي، طلب منّا د. خليف قراءة كتاب ناصر الدين الأسد امصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخيةب، وهي أطروحة دكتوراه لباحث أردني أشرف عليه د. ضيف، ليقول معه القول الفصل في قضية انتحال الشعر الجاهلي التي كانت قد هدأت عواصفها ونيرانها المتأججة التي ظلت مشتعلة لسنوات العشرينيات والقسم الأول من الثلاثينيات، وأصبحت موضوعًا للبحث العلمي الهادئ والرصين.
وهكذا كان من الطبيعي أن تكون أطروحة د. ناصر الدين الأسد هادئة بعيدة عن حماس الخصومة، فيها من ملامح شوقي ضيف المنهجية ما يُظهر تعاطفه النسبي مع طه حسين، ولكن بما لا يخلّ بالحقائق والوقائع التاريخية. وأظنّني قد قرأتُ أطروحة د. الأسد في مطبوعات دار المعارف، ضمن مطبوعات السلسلة التي كانت تصدر تحت عنوان ادراسات أدبيةب، وهي السلسلة نفسها التي قرأتُ فيها كتاب د. ضيف االفن ومذاهبه في الشعر العربيب.
بين الصّنعة والتصنّع
ما لفت انتباهي في كتاب د. ضيف هو بساطة الأطروحة التي ينطوي عليها، فالكتاب كله قائم على فرضية يسيرة، مؤداها أن الشعر العربي قد تنقَّل بين مراحل تاريخية تبدأ من أقدم عصوره وتنتهي إلى استقراره ورسوخ تقاليده الفنية في القرن الثالث للهجرة. وقد بدأ هذا الشعر منذ العصر الجاهلي أقرب ما يكون إلى االطبع الفطريب، ثم انتقل مع العصر العباسي الأول أو ما قبله بقليلٍ إلى مرحلة االصَّنعةب، ومع مُضيّ العصر العباسي وانتقاله من مرحلته الأولى إلى الثانية انتقل الشعر العربي من مرحلة الصَّنعة إلى مرحلة التصنيع.
وكانت ذروة هذه المرحلة ممثلة في شعر أبي تمام، ولم يتوقف تحوّل الشعر الفني عند هذه المرحلة فحسب، فسرعان ما انتقل من حال االتصنيعب إلى حال االتصنّعب، أي المبالغة والإسراف في الصّنعة، ومن ثم المبالغة والإسراف في الحيل الأسلوبية والصناعة اللفظية والمعنوية على السواء.
والمسافة بين امرئ القيس في العصر الجاهلي وأبي العلاء المعري هي المسافة من االطبعب إلى االتصنعب، وما بينهما تأسس شعر االصّنعةب على أيدي الشعراء المُحِككين وأنصار المراجعة ومعاودة النظر في كتابة القصائد.
والأطروحة التي ينطوي عليها كتاب االفن ومذاهبه في الشعر العربيب أطروحة بسيطة موجودة بإجمالها في كتابات طه حسين نفسه، خصوصًا في القسم الثاني من احديث الأربعاءب في طبعته الحالية، فضلًا عمّا كتبه بعد ذلك عن المتنبي أولًا وعن أبي العلاء ثانيًا.
وإذا كان شِعر الصّنعة قد بدأ مع أبي تمام، فيما يؤكد د. ضيف، فإنه قد بلغ ذروته التي هي التصنيع مع شعر المتنبي، الذي مهَّد لشعر التصنع الذي وصلنا إليه مع إنتاج المعري، خصوصًا في الجزء الذي أطلق عليه من شِعره الزوم ما لا يلزمب.
أربع حقب
والحقّ أنني كنتُ معجبًا أشد الإعجاب بهذه الصيغة العقلية التي اختزلت مراحل الشعر العربي وأشكال تطوره في أربع حقب فنية وتاريخية معًا.
الحقبة الأولى هي حقبة االطبعب الغالبة على العصر الجاهلي، والحقبة الثانية وهي حقبة االصَّنعةب، بدأت مع العصر العباسي الأول أو ما قبله بقليلٍ، والحقبة الثالثة هي حقبة االتصنيعب التي بدأت مع شعر المحدثين بعامة ومع شعر أبي تمام بخاصة.
والحقبة الرابعة ضمت المتنبي ومَن حوله ممن أضافوا إلى التصنيع ما يزيده كمًّا وكيفًا، فيصبح اتصنُّعًاب وصل به أبو العلاء إلى غايته القصوى عندما أدخل شعره في باب الزوم ما لا يلزمب.
وكنتُ - ولا أزال - أرى أنّ هذه المراحل أو الحقب الأربع هي صيغ تجمع ما بين المذهب الفني والتاريخ في الوقت نفسه.
وكنتُ - ولا أزال - أغضّ النظر عن بساطتها التي تنطوي على شيء من السذاجة أو البساطة الغالبة، فالأمر في الواقع التاريخي لم يكن على هذا النحو اليسير الذي تنجذب إليه كلماتي عن هذا النوع من التحقيب، وإنما كان أكثر تعقيدًا وأعز منالًا. ولكن الذي لا شك فيه أنني كنتُ مفتونًا بكتاب د. ضيف الذي كان أطروحته للدكتوراه.
وكنتُ أتمنى وأنا طالب أن أعثر على أطروحة مثيلة له في المجال الذي يمكن أن أتخصص فيه. وربما كان توقّفي على بناء تاريخ الأدب في صيغة تختزل التعاقب التاريخي إلى تجاور فني أو تدرّج فني هو ما جرَّني بعد ذلك إلى مجال انقد النقدب أو االنقد الشارحب، حيث نضع الأطروحات النظرية للنقاد في مدى المساءلة، أو نضع الأطروحات نفسها في مجال البحث والاختبار.
موسوعة الشعر العربي
الشيء اللافت للانتباه أن د. ضيف بعد أن وصل بنا إلى العصر العباسي في الجزء الثالث من تأريخه للشعر العربي، بدأ يتفرع أفقيًّا بما يوازي فروع دوحة الشعر العربي في الأقاليم الإسلامية المختلفة، فبعد العصر العباسي الثاني، جاء عصر الدول والإمارات - بجزئه الأول وصدر عام 1980 - والذي شمل الجزيرة العربية والعراق وإيران، ثم جاء بعده عصر الدول والإمارات الذي يقوم على التركيز على مصر وحدها والشعر المصري، وصدر عام 1984، وأخيرًا جاء عصر الدول والإمارات، ليركّز أخيرًا على الأندلس وصدر عام 1989.
وهكذا اكتملت موسوعة الشعر العربي التي كتبها د. ضيف ليكمل بها تأريخه للأدب العربي.
والحق أنني أعتقد أن هذا التاريخ هو أهمّ تاريخ صدر إلى الآن لضمّ شتات الأدب العربي رأسيًّا وأفقيًّا؛ ففيه من حُسن التجميع والتصنيف ما يجعله مرجعًا لا يمكن أن يُستغنى عنه في تاريخ الأدب العربي. وقد ظللتُ أتابع أجزاء هذا الكتاب جزءًا جزءًا، وأفرح بصدور كل جزء إلى أن اكتملت اموسوعة تاريخ الأدب العربيب، وتمثّلتها كاملة شاملة. ولا أظن أن هناك موسوعة أخرى تضارع موسوعة د. ضيف فيما كتب عن تاريخ الأدب العربي القديم، فهي موسوعة شاملة لا يمكن إلّا أن تكون في مكتبة أي دارس يحاول أن يعرف شيئًا شاملًا وكاملًا عن تاريخ الأدب العربي. وبالتأكيد فإن د. ضيف إذا لم يكتب سوى هذه الموسوعة فذلك حسبُه وكفاه، فقد بذل في كتابتها وصياغتها وتنقيحها ما لا يقلّ عن ثلاثين عامًا. ولحُسن الحظ أنني عشتُ هذه الأعوام الثلاثين وأنا أرقب صدور كل جزء وأحرص على اقتنائه وقراءته والتعلّم منه؛ لكي تتكامل في ذهني الصورة الكاملة الشاملة لتاريخ الأدب العربي. ولذلك لا أتردد في أن أصف هذه الموسوعة بأنها أهمّ وأشمل موسوعة عن الأدب العربي في عصوره القديمة التي تبدأ من العصر الجاهلي وتنتهي بعصور الدول والإمارات.
اهتماماته النحوية
لم يتوقف د. ضيف عند هذا الحدّ، فهناك اهتماماته النحوية التي قادته إلى دراسة المدارس النحوية من ناحية سنة 1976، ودراسة تجديد النحو من ناحية موازية عام 1982. ولا يلبث قليلًا إلّا وينهض لاستكمال الموسوعة الشاملة لرؤيته عن الثقافة العربية، فيكتب عن افنّ الرثاءب عام 1955، وعن اأدب الرحلاتب عام 1956، وأضف إلى ذلك كتابه االتطور والتجديد في الشعر الأمويب الذي صدر عام 1959 - وقد درسناه طلابًا - ويتوقف عند هذا الجانب أو ذاك من جوانب الموروث العربي، فيكتب عن االبلاغة... تطوّر وتاريخب عام 1965، وعن افصول في الشعر ونقدهب عام 1971، وعن االشعر وطوابعه على مر العصورب عام 1977، وعن اعالمية الإسلامب عام 1996، وعن االأدب والنقدب عام 1999، وعن اتيسيرات لغويةب عام 1990. ويصدر محاضراته المجمعية في كتاب عام 1998، وهو كتاب يجمع ما ألقاه من محاضرات في مجمع اللغة العربية الذي آلت إليه رئاسته.
وأذكر كتابه اشوقي... شاعر العصر الحديثب الذي صدر عام 1953. وقد كان لهذا الكتاب قصة طريفة معي، فقد كان الكاتب أنيس منصور - يرحمه الله - يعدّ برنامجًا للمذيعة المتألقة في ذلك الزمان، ليلى رستم. وكان البرنامج يستضيف مجموعة من الأساتذة، وعددًا من الطلاب، ويمنح الفائز جائزة رمزية. وقد تصادف أنني اشتركتُ في هذا البرنامج ونلتُ جائزة من جوائزه، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أظهر فيها على شاشة التلفزيون. وظلت أمي - يرحمها الله - تتباهى بابنها الذي شاهدته على التلفزيون، ورأته يحصل على جائزة قراءة كتاب من الكتب المهمة. وأذكر أن هذا الأمر قد حدث عام 1964، قبل تخرُّجي بعام واحد.
موسوعية فذّة
ليس من النضارة أن أحصي كل كتب د.ضيف التي تدلّ على موسوعيته الفذة، وعلى تعدّد اهتماماته الموسوعية. لكن قبل أن أكتفي بذكر كتبه ينبغي أن أكمل بأن الجانب الأزهري لم ينقطع في فكر د. شوقي، وإنما تواصل في شكل ميلٍ إلى الدراسات الإسلامية، ولذلك لم يكن غريبًا عليه أن يصدر كتابًا عن امحمد خاتم المرسلينب، وعن اعالمية الإسلامب، وعن امعجزات القرآنب، بل يضيف إلى ذلك كتابًا عن االتوجيه اللغوي والبلاغي لقراءة الإمام عاصمب.
وأذكر أنه درّس النحو لجيلٍ من الأجيال السابقة علينا، فقد كان يريد أن يؤكد ما وصل إليه من نشر كتاب ابن مضاء القرطبي االردّ على النُّحاةب. وهو كتاب يلغي فيه ابن مضاء أمورًا رأى أنها عقَّدت النحو العربي وجعلته صعب الفهم. وأظن أن هذا هو الدافع الذي جعله يصدر كتبًا مثل اتجديد النحوب، واتيسيرات لغويةب، واالمدارس النحويةب.
وقد كان له - يرحمه الله - مَذهب خاص في تيسير النحو، يعتمد على منهج ابن مضاء القرطبي. والحق أن دراساته في الجوانب اللغوية والإسلامية تكشف عن تأصّل الجذور الأزهرية في تكوينه وفي تحولاته مع العصر والزمن.
وكان من الطبيعي - وللرجل هذا الإنتاج الهائل وغيره - ما يجعل له مهابة خاصة بين الأساتذة، ويفرض علينا - نحن الطلاب - نوعًا من الخوف في التعامل معه.
وأنا شخصيًّا لا أنسى انطباعي عنه من أنه لم يكن يحبّ أسئلة الطلاب، وأنه كان ينظر إليهم كما لو كان ينظر من فوق جبلٍ شاهق إلى كائنات صغيرة تمرح في أسفل سفح الجبل، دون أن تُحدث أثرًا يُذكر. ولذلك كانت علاقته بالطلاب فردية الاتجاه، يُملي فيها أكثر مما كان يفتح الحوار. وكنتُ أُبرر ذلك لنفسي بأنّ هذه بقايا النزعة الأزهرية فيه.
غضبة وصفح
كان الشيخ الأزهري يكتفي بإملاء تلامذته، ولا يفتح السبيل إلى مناقشاتهم أو الجدال معهم. وقد نالني مرة من المرات غضبة من غضباته؛ لأنني خالفت القاعدة وجرؤتُ على الاختلاف معه في نُطقِ بيتٍ شِعري. ولذلك ظل يتابعني طوال العام الجامعي الثالث لي في قسم اللغة العربية، فلما تأكد في نهاية العام أنني من الطلاب الممتازين، ولم أكن أقصد مجرّد المجادلة، صفح عنّي ومنحني من سعة صدره ولين أفقه ما لم يمنحه لغيري. ولذلك كنتُ أرقبه من بعيد دائمًا وأمضي وراءه، وهو يذهب إلى بيته، بينما كان المرحوم خليل يحيى نامي - وكان أستاذًا لنا في فقه اللغة واللغويات التاريخية المقارنة، وأسنّ من شوقي ضيف - يصحبه دائمًا في العودة إلى المنزل، سائرينِ على الأقدام في نوعٍ من الرياضة البدنية. وقد كانا يسكنان حيّ الروضة القريب من جامعة القاهرة (يكفي أن تعبرَ الطريق للجامعة إلى نهايته، ثم تنحرف يسارًا لتعبر كوبري الجيزة فتكون في منطقة الروضة التي كانا يسكنان فيها).
وأذكر أنه - عليه رحمة الله - بعد أن رضي عنّي، طلب مني اكشكولب محاضرات السنة الثالثة التي كان يُملِي فيها علينا محاضرات العصر العباسي. وكان من عادتي استكمال المحاضرات بالنصوص الأصلية التي كنتُ أجدها في المكتبة، خصوصًا القاعة الشرقية في ذلك الوقت.
ومرت الأيام، وإذا بكتابه عن العصر العباسي يصدر متضمِّنًا اكشكولب محاضراتي الذي تغيّرت ملامحه بعد أن أُعيد وضعه في سياقٍ جديد ومتكامل تمامًا.
وقد ظللتُ أباهي بهذه الواقعة طويلًا، إلى أن استعدتُها في هذه اللحظة التي أكتب فيها عن أستاذي الذي كنتُ وما زلتُ أُجلّه كل الإجلال وأحترمه كل الاحترام.
ولم يكن يباعد بيني وبين شوقي ضيف سوى تحولّي في السنة الرابعة من الاهتمام بالدراسات التراثية إلى الاهتمام بالدراسات النقدية الحديثة، وهو الاتجاه الذي جعلني أحرص على السفر إلى الخارج، لأستكمل في الولايات المتحدة سنة 1977 ما فاتني درسه في سنوات دراستي بقسم اللغة العربية منذ 1961 إلى سنة 1966.
علاقة جديدة
عندما عدتُ من الولايات المتحدة إلى القاهرة أخذت نظراتي إلى كتابات د. ضيف تتغيّر، وألمح فيها غلبة العقلية التقليدية على العقلية الحداثية. والحقّ أنه فيما عدا كتابه االفن ومذاهبه في الشعر العربيب يصعب أن نجد كتابًا له قائمًا على أطروحة فكرية أو فلسفية، ولذلك فمن المؤكد أن أطروحة كتابه االفنّ ومذاهبه في الشعر العربيب كانت من تأثير أستاذه طه حسين، ومما كان يؤكد لي ذلك أنه كان عندما يحدثني عن هذا الكتاب يقول لي إنه بعد أن قرأ الفصل الخاص بأبي تمام على أستاذه طه حسين، أذن له الأستاذ باستكمال الرسالة دون أن يقرأها عليه، بعد أن وثق بأنّه قد وصل إلى الدرجة التي كان يريدها له الأستاذ ليحصل على الدكتوراه.
ومنذ عام 1978 بعد عودتي من الولايات المتحدة أخذت العلاقة بيني وبينه شكلًا جديدًا قائمًا على الاحترام الكامل من ناحية، والتساؤل الحذر من ناحية ثانية، فقد ظل يرى أن الحداثة التي كنتُ أرفع شعارها في ذلك الوقت، هي شيء خطير يجب الاحتراس منه. ولا أزال أذكر أنني جلستُ معه جلسة مطوَّلة في قاعة الاستقبال بمنزله القديم بالروضة، وظللنا نتحدث عن مجلة فصول التي ذهبتُ إليه لأطالبه بالكتابة في عددها الأول، تشجيعًا لها وتأصيلًا لاتجاهها الفكري.
وكان العدد الأول عن االتراثب، وقد ظهر وهو يحمل مقالًا مهمًّا من مقالاته التي حاول بها تغيير مفاهيمنا عمّا كنا نُسميه اعصور الانهيار في الأدبب، فقد كان - على العكس - يرى في هذه العصور، عصور الحفاظ على التراث العربي بحفظه في موسوعات بالغة الأهمية، لولا وجودها لضاع علينا الكثير من هذا التراث وما عرفنا دروبه التي انغلقت بعد القرن السادس للهجرة.
الغريب أنه عندما عمل في مجمع اللغة العربية وتدرّج في مناصبه إلى أن أصبح رئيسًا له، لم يطلب منّي أن أساعد في أعمال هذا المجمع؛ ربما لأنه كان قد تصوَّر أن دراستي في الخارج قد جعلتني سيئ الظن بتراثي، مع أن هذا النوع من الدراسات هو ما صنع الميزة التي تميّز بها أستاذه طه حسين على غيره.
وريث طه حسين
لكن هذا الحياد منه جعلني أعيد النظر في علاقته بأستاذه طه حسين من ناحية، وعلاقة أستاذه به من ناحية ثانية. لأكتشف أن سهير القلماوي كانت أقرب منه إلى طه حسين الذي كان يرى فيها امتداده في النظرة الحديثة. وهذا ما قامت به القلماوي بالفعل، فقد مضت في الوصل الحيوي بين الشرق والغرب، بينما اقتصرت مهمة شوقي ضيف على تحديث القديم، وعدم مفارقة ضفافه الواسعة. وكان في هذا ما قارب بينه وبين طه حسين من ناحية، وما باعد بينه وبين أستاذه من ناحية موازية، لكن بما لا يقلل على الإطلاق من منزلة التلميذ بالقياس إلى طه حسين.
فالحقّ أنني إذا أردتُ أن أعثر على وريثٍ لطه حسين في مجمع اللغة العربية لوجدته شوقي ضيف بالدرجة الأولى. وإذا أردتُ أن أعثر على أحد تلامذة طه حسين الذي ترك لنا موسوعة كاملة شاملة عن الأدب العربي وتحوّله عبر العصور، لظهرت ملامح د. ضيف بارزة تملأ الصورة بأكملها، مؤكّدة مكانة ذلك الأستاذ الذي أفخر بالانتساب إليه، وبالتلمذة المباشرة عليه، وبالإفادة التي لم تتوقف ولا أظنها تتوقّف من كُتبه التي تزيد على 50 كتابًا في مجالات التراث المختلفة التي أعدها شيخنا لجيلي في جوانبها الأدبية واللغوية والنحوية والدينية في آن، عليه رحمة الله.
وقد كرَّمتــه الجهـــات الرسمية عندمـــا منحته الدولة المصرية جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1979، ووسام الاستحقاق من الطبقة الأولى، وجائزة مبارك في الآداب عام 2003.
هذا إلى جانب حصوله على جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي عام 1983م، ومنحه دروعًا من جامعات عدّة كالقاهرة والأردن وصنعاء ■
د. شوقي ضيف