أساتذتي الأجلاء... شوقي ضيف

أساتذتي الأجلاء... شوقي ضيف

عندما‭ ‬أتذكّر‭ ‬أستاذي‭ ‬د‭. ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ ‬ضيف،‭ ‬أجد‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬يتسارع‭ ‬إلى‭ ‬ذهني‭ ‬قبل‭ ‬تفصيل‭ ‬الكتابة‭ ‬عنه،‭ ‬فهو‭ ‬الوحيد‭ - ‬من‭ ‬بين‭ ‬أساتذتي‭ - ‬الذي‭ ‬ترجع‭ ‬نشأته‭ ‬الأولى‭ ‬إلى‭ ‬الأزهر‭.‬

فقد‭ ‬وُلِد‭ - ‬يرحمه‭ ‬الله‭ - ‬في‭ ‬الثالث‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬يناير‭ ‬1910،‭ ‬وتعلَّم‭ ‬في‭ ‬المعهد‭ ‬الديني‭ ‬بدمياط‭ ‬والزقازيق،‭ ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬والتحق‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬تجهيزية‭ ‬دار‭ ‬العلوم‮»‬،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬مؤهَّلًا‭ ‬لدخول‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬فدخلها‭ ‬والتحق‭ ‬بها‭ ‬وظل‭ ‬أستاذًا‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬توفاه‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬11‭ ‬مارس‭ ‬عام‭ ‬2005‭. ‬

كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يظهر‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬تفوّقًا‭ ‬منذ‭ ‬البداية،‭ ‬فقد‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬ليسانس‭ ‬الآداب‭ ‬عام‭ ‬1935‭ ‬بتقدير‭ ‬جيد‭ ‬جدًّا‭ ‬وكان‭ ‬الأول‭ ‬على‭ ‬دُفعته‭. ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬سجَّل‭ ‬لدرجة‭ ‬الماجستير‭ ‬مع‭ ‬الأستاذ‭ ‬أحمد‭ ‬أمين،‭ ‬وكان‭ ‬موضوعها‭ ‬االنقد‭ ‬الأدبي‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬الأغاني‭ ‬للأصفهانيب،‭ ‬وحصل‭ ‬على‭ ‬الدرجة‭ ‬بمرتبة‭ ‬الشرف‭ ‬الممتازة‭ ‬عام‭ ‬1939‭.‬

وانتقل‭ ‬في‭ ‬التلمذة‭ ‬من‭ ‬أحمد‭ ‬أمين‭ ‬إلى‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬وسجَّل‭ ‬تحت‭ ‬إشرافه‭ ‬درجة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬بموضوع‭ ‬االفن‭ ‬ومذاهبه‭ ‬في‭ ‬الشِّعر‭ ‬العربيب،‭ ‬وقد‭ ‬حصل‭ ‬عليها‭ ‬بالفعل‭ ‬مع‭ ‬مرتبة‭ ‬الشرف‭ ‬الممتازة‭ ‬عام‭ ‬1942‭.‬

وطُبعت‭ ‬رسالة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فرغ‭ ‬منها‭ ‬بتقديم‭ ‬د‭. ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬تعوَّد‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬مقدّمة‭ ‬للنابغين‭ ‬من‭ ‬طُلابه،‭ ‬ولا‭ ‬أذكر‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬المقدمة‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬لكتاب‭ ‬سهير‭ ‬القلماوي‭ ‬األف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلةب،‭ ‬وكانت‭ ‬أطروحتها‭ ‬للدكتوراه،‭ ‬والطبعة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬االفن‭ ‬ومذاهبه‭ ‬في‭ ‬الشِّعر‭ ‬العربيب‭ ‬لشوقي‭ ‬ضيف،‭ ‬الذي‭ ‬أشرف‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬الدكتوراه‭. ‬وقد‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬تلك‭ ‬الطبعة‭ ‬اإذا‭ ‬كنتُ‭ ‬حريصًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬شيئًا‭ ‬في‭ ‬التقدمة،‭ ‬فإنما‭ ‬تسجيل‭ ‬الشكر‭ ‬الخالص‭ ‬للجامعة‭ ‬التي‭ ‬أنتجت‭ ‬د‭. ‬شوقي،‭ ‬ود‭. ‬شوقي‭ ‬الذي‭ ‬أنتج‭ ‬هذه‭ ‬الرسالةب‭.‬

 

القلماوي‭ ‬وطه‭ ‬حسين

الحقّ‭ ‬أن‭ ‬أقدم‭ ‬أُستاذينِ‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بكلية‭ ‬الآداب‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬كانا‭ ‬د‭.‬ضيف‭ ‬ود‭. ‬القلماوي،‭ ‬كلاهما‭ ‬قد‭ ‬درس‭ ‬على‭ ‬يدي‭ ‬د‭. ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬في‭ ‬الدكتوراه،‭ ‬وكلاهما‭ ‬ينتسب‭ ‬إليه‭. ‬

لكن‭ ‬انتساب‭ ‬القلماوي‭ ‬كان‭ ‬أعمق‭ ‬وألصق؛‭ ‬أولًا‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬فتاة،‭ ‬وكانت‭ ‬تتقن‭ ‬اللغتين‭ ‬الإنجليزية‭ ‬والفرنسية،‭ ‬ومنذ‭ ‬سنواتها‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬كان‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬يعتبر‭ ‬نفسه‭ ‬وليّ‭ ‬أمرها،‭ ‬وثانيًا‭ ‬لأن‭ ‬القلماوي‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬طبقة‭ ‬أرستقراطية‭ ‬نسبيًّا،‭ ‬فوالدها‭ ‬كان‭ ‬طبيبًا،‭ ‬يحمل‭ ‬درجة‭ ‬البكوية،‭ ‬وكانت‭ ‬هي‭ ‬تساعده‭ ‬بعيادته‭ ‬في‭ ‬الأعمال‭ ‬البسيطة،‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬حقن‭ ‬أحد‭ ‬المرضى،‭ ‬أو‭ ‬قياس‭ ‬درجة‭ ‬الحرارة،‭ ‬أو‭ ‬إعداد‭ ‬بعض‭ ‬الأدوية‭ ‬البسيطة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الحاجة‭ ‬تقتضي‭ ‬إعدادها‭ ‬في‭ ‬الصيدلية‭. ‬

لذلك‭ ‬كانت‭ ‬خبرة‭ ‬القلماوي‭ ‬بالحياة‭ ‬القاهرية‭ ‬وبالمعارف‭ ‬الحديثة‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬ضيف،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تتقن‭ ‬الإنجليزية‭ ‬والفرنسية‭ (‬كما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬أشرتُ‭)‬،‭ ‬بما‭ ‬أتاحته‭ ‬لها‭ ‬دراساتها‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وهذا‭ ‬شيء‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يتميز‭ ‬به‭ ‬ضيف،‭ ‬وهذه‭ ‬نشأة‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬خلّفت‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬القلماوي‭ ‬العقلي‭ ‬والثقافي‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬السّعة‭ ‬والرحابة‭ ‬بالقياس‭ ‬إلى‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬الذي‭ ‬نشأ‭ ‬نشأة‭ ‬أزهرية،‭ ‬فلم‭ ‬يفارق‭ ‬المعهد‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬دمياط‭ ‬أو‭ ‬الزقازيق‭ ‬إلا‭ ‬لتجهيزية‭ ‬دار‭ ‬العلوم،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يلتحق‭ ‬بكلية‭ ‬الآداب،‭ ‬وينتقل‭ ‬من‭ ‬إشراف‭ ‬أحمد‭ ‬أمين‭ ‬إلى‭ ‬إشراف‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ (‬كما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬أشرتُ‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬نشأة‭ ‬جعلته‭ ‬أقل‭ ‬تفتحًا‭ ‬إزاء‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعرفه‭ ‬طه‭ ‬حسين‭. ‬

ولا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬أستاذي‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬قرأ‭ ‬كتابًا‭ ‬واحدًا‭ ‬بلغة‭ ‬أجنبية‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينتقل‭ ‬إشرافه‭ ‬من‭ ‬المرحوم‭ ‬أحمد‭ ‬أمين‭ ‬إلى‭ ‬أستاذه‭ ‬وأستاذنا‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬عليهم‭ ‬جميعًا‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭.‬

 

بين‭ ‬ضيف‭ ‬وخليف

وقد‭ ‬عرفتُ‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬عرفتُ‭ ‬فيه‭ ‬د‭. ‬يوسف‭ ‬خليف،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الأول‭ ‬يدرّس‭ ‬لنا‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي‭ ‬في‭ ‬عمومه‭. ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬قد‭ ‬صدرت‭ ‬الأجزاء‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬موسوعته‭ ‬الكبرى‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬إلّا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تركنا‭ ‬السنة‭ ‬الأولى،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يدرّسه‭ ‬لنا‭ ‬كان‭ ‬يفسح‭ ‬السبيل‭ ‬أمام‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬لكي‭ ‬يقرأ‭ ‬معنا‭ ‬نصوص‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬تاركًا‭ ‬القضايا‭ ‬والموضوعات‭ ‬الكبرى‭ ‬لأستاذنا‭ ‬د‭. ‬ضيف‭.‬

وكانت‭ ‬شخصية‭ ‬د‭. ‬شوقي‭ ‬تتّسم‭ ‬بالجهامة‭ ‬والجدية،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬قريبًا‭ ‬منّا‭ ‬نحن‭ ‬الطلاب‭ ‬ولا‭ ‬مهتمًّا‭ ‬بنا،‭ ‬تاركًا‭ ‬أمر‭ ‬التعامل‭ ‬معنا‭ ‬لتلميذه‭ ‬د‭. ‬خليف،‭ ‬ولذلك‭ ‬عندما‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬المرحلة‭ ‬الخاصة‭ ‬بانتحال‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬طلب‭ ‬منّا‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬قراءة‭ ‬كتاب‭ ‬ناصر‭ ‬الدين‭ ‬الأسد‭ ‬امصادر‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬وقيمتها‭ ‬التاريخيةب،‭ ‬وهي‭ ‬أطروحة‭ ‬دكتوراه‭ ‬لباحث‭ ‬أردني‭ ‬أشرف‭ ‬عليه‭ ‬د‭. ‬ضيف،‭ ‬ليقول‭ ‬معه‭ ‬القول‭ ‬الفصل‭ ‬في‭ ‬قضية‭ ‬انتحال‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬هدأت‭ ‬عواصفها‭ ‬ونيرانها‭ ‬المتأججة‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬مشتعلة‭ ‬لسنوات‭ ‬العشرينيات‭ ‬والقسم‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الثلاثينيات،‭ ‬وأصبحت‭ ‬موضوعًا‭ ‬للبحث‭ ‬العلمي‭ ‬الهادئ‭ ‬والرصين‭. ‬

وهكذا‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أطروحة‭ ‬د‭. ‬ناصر‭ ‬الدين‭ ‬الأسد‭ ‬هادئة‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬حماس‭ ‬الخصومة،‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬شوقي‭ ‬ضيف‭ ‬المنهجية‭ ‬ما‭ ‬يُظهر‭ ‬تعاطفه‭ ‬النسبي‭ ‬مع‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬ولكن‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يخلّ‭ ‬بالحقائق‭ ‬والوقائع‭ ‬التاريخية‭. ‬وأظنّني‭ ‬قد‭ ‬قرأتُ‭ ‬أطروحة‭ ‬د‭. ‬الأسد‭ ‬في‭ ‬مطبوعات‭ ‬دار‭ ‬المعارف،‭ ‬ضمن‭ ‬مطبوعات‭ ‬السلسلة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصدر‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬ادراسات‭ ‬أدبيةب،‭ ‬وهي‭ ‬السلسلة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬قرأتُ‭ ‬فيها‭ ‬كتاب‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬االفن‭ ‬ومذاهبه‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربيب‭.‬

 

بين‭ ‬الصّنعة‭ ‬والتصنّع

ما‭ ‬لفت‭ ‬انتباهي‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬هو‭ ‬بساطة‭ ‬الأطروحة‭ ‬التي‭ ‬ينطوي‭ ‬عليها،‭ ‬فالكتاب‭ ‬كله‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬فرضية‭ ‬يسيرة،‭ ‬مؤداها‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬قد‭ ‬تنقَّل‭ ‬بين‭ ‬مراحل‭ ‬تاريخية‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬عصوره‭ ‬وتنتهي‭ ‬إلى‭ ‬استقراره‭ ‬ورسوخ‭ ‬تقاليده‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬للهجرة‭. ‬وقد‭ ‬بدأ‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬منذ‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي‭ ‬أقرب‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬إلى‭ ‬االطبع‭ ‬الفطريب،‭ ‬ثم‭ ‬انتقل‭ ‬مع‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬الأول‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬قبله‭ ‬بقليلٍ‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬االصَّنعةب،‭ ‬ومع‭ ‬مُضيّ‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬وانتقاله‭ ‬من‭ ‬مرحلته‭ ‬الأولى‭ ‬إلى‭ ‬الثانية‭ ‬انتقل‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬الصَّنعة‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬التصنيع‭. ‬

وكانت‭ ‬ذروة‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬أبي‭ ‬تمام،‭ ‬ولم‭ ‬يتوقف‭ ‬تحوّل‭ ‬الشعر‭ ‬الفني‭ ‬عند‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬فحسب،‭ ‬فسرعان‭ ‬ما‭ ‬انتقل‭ ‬من‭ ‬حال‭ ‬االتصنيعب‭ ‬إلى‭ ‬حال‭ ‬االتصنّعب،‭ ‬أي‭ ‬المبالغة‭ ‬والإسراف‭ ‬في‭ ‬الصّنعة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬المبالغة‭ ‬والإسراف‭ ‬في‭ ‬الحيل‭ ‬الأسلوبية‭ ‬والصناعة‭ ‬اللفظية‭ ‬والمعنوية‭ ‬على‭ ‬السواء‭.‬

والمسافة‭ ‬بين‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي‭ ‬وأبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬هي‭ ‬المسافة‭ ‬من‭ ‬االطبعب‭ ‬إلى‭ ‬االتصنعب،‭ ‬وما‭ ‬بينهما‭ ‬تأسس‭ ‬شعر‭ ‬االصّنعةب‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬الشعراء‭ ‬المُحِككين‭ ‬وأنصار‭ ‬المراجعة‭ ‬ومعاودة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬القصائد‭. ‬

والأطروحة‭ ‬التي‭ ‬ينطوي‭ ‬عليها‭ ‬كتاب‭ ‬االفن‭ ‬ومذاهبه‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربيب‭ ‬أطروحة‭ ‬بسيطة‭ ‬موجودة‭ ‬بإجمالها‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬نفسه،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬احديث‭ ‬الأربعاءب‭ ‬في‭ ‬طبعته‭ ‬الحالية،‭ ‬فضلًا‭ ‬عمّا‭ ‬كتبه‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬المتنبي‭ ‬أولًا‭ ‬وعن‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬ثانيًا‭. ‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬شِعر‭ ‬الصّنعة‭ ‬قد‭ ‬بدأ‭ ‬مع‭ ‬أبي‭ ‬تمام،‭ ‬فيما‭ ‬يؤكد‭ ‬د‭.  ‬ضيف،‭ ‬فإنه‭ ‬قد‭ ‬بلغ‭ ‬ذروته‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬التصنيع‭ ‬مع‭ ‬شعر‭ ‬المتنبي،‭ ‬الذي‭ ‬مهَّد‭ ‬لشعر‭ ‬التصنع‭ ‬الذي‭ ‬وصلنا‭ ‬إليه‭ ‬مع‭ ‬إنتاج‭ ‬المعري،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الذي‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬شِعره‭ ‬الزوم‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يلزمب‭.‬

 

أربع‭ ‬حقب

والحقّ‭ ‬أنني‭ ‬كنتُ‭ ‬معجبًا‭ ‬أشد‭ ‬الإعجاب‭ ‬بهذه‭ ‬الصيغة‭ ‬العقلية‭ ‬التي‭ ‬اختزلت‭ ‬مراحل‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬وأشكال‭ ‬تطوره‭ ‬في‭ ‬أربع‭ ‬حقب‭ ‬فنية‭ ‬وتاريخية‭ ‬معًا‭. ‬

الحقبة‭ ‬الأولى‭ ‬هي‭ ‬حقبة‭ ‬االطبعب‭ ‬الغالبة‭ ‬على‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬والحقبة‭ ‬الثانية‭ ‬وهي‭ ‬حقبة‭ ‬االصَّنعةب،‭ ‬بدأت‭ ‬مع‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬الأول‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬قبله‭ ‬بقليلٍ،‭ ‬والحقبة‭ ‬الثالثة‭ ‬هي‭ ‬حقبة‭ ‬االتصنيعب‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬مع‭ ‬شعر‭ ‬المحدثين‭ ‬بعامة‭ ‬ومع‭ ‬شعر‭ ‬أبي‭ ‬تمام‭ ‬بخاصة‭.‬

والحقبة‭ ‬الرابعة‭ ‬ضمت‭ ‬المتنبي‭ ‬ومَن‭ ‬حوله‭ ‬ممن‭ ‬أضافوا‭ ‬إلى‭ ‬التصنيع‭ ‬ما‭ ‬يزيده‭ ‬كمًّا‭ ‬وكيفًا،‭ ‬فيصبح‭ ‬اتصنُّعًاب‭ ‬وصل‭ ‬به‭ ‬أبو‭ ‬العلاء‭ ‬إلى‭ ‬غايته‭ ‬القصوى‭ ‬عندما‭ ‬أدخل‭ ‬شعره‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬الزوم‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يلزمب‭. ‬

وكنتُ‭ - ‬ولا‭ ‬أزال‭ - ‬أرى‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬المراحل‭ ‬أو‭ ‬الحقب‭ ‬الأربع‭ ‬هي‭ ‬صيغ‭ ‬تجمع‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬المذهب‭ ‬الفني‭ ‬والتاريخ‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭. ‬

وكنتُ‭ - ‬ولا‭ ‬أزال‭ - ‬أغضّ‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬بساطتها‭ ‬التي‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬السذاجة‭ ‬أو‭ ‬البساطة‭ ‬الغالبة،‭ ‬فالأمر‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬التاريخي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬اليسير‭ ‬الذي‭ ‬تنجذب‭ ‬إليه‭ ‬كلماتي‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التحقيب،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬تعقيدًا‭ ‬وأعز‭ ‬منالًا‭. ‬ولكن‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أنني‭ ‬كنتُ‭ ‬مفتونًا‭ ‬بكتاب‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أطروحته‭ ‬للدكتوراه‭. ‬

وكنتُ‭ ‬أتمنى‭ ‬وأنا‭ ‬طالب‭ ‬أن‭ ‬أعثر‭ ‬على‭ ‬أطروحة‭ ‬مثيلة‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬أتخصص‭ ‬فيه‭. ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬توقّفي‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬في‭ ‬صيغة‭ ‬تختزل‭ ‬التعاقب‭ ‬التاريخي‭ ‬إلى‭ ‬تجاور‭ ‬فني‭ ‬أو‭ ‬تدرّج‭ ‬فني‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬جرَّني‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬مجال‭ ‬انقد‭ ‬النقدب‭ ‬أو‭ ‬االنقد‭ ‬الشارحب،‭ ‬حيث‭ ‬نضع‭ ‬الأطروحات‭ ‬النظرية‭ ‬للنقاد‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬المساءلة،‭ ‬أو‭ ‬نضع‭ ‬الأطروحات‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬البحث‭ ‬والاختبار‭. ‬

 

موسوعة‭ ‬الشعر‭ ‬العربي

الشيء‭ ‬اللافت‭ ‬للانتباه‭ ‬أن‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وصل‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬تأريخه‭ ‬للشعر‭ ‬العربي،‭ ‬بدأ‭ ‬يتفرع‭ ‬أفقيًّا‭ ‬بما‭ ‬يوازي‭ ‬فروع‭ ‬دوحة‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬الأقاليم‭ ‬الإسلامية‭ ‬المختلفة،‭ ‬فبعد‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬الثاني،‭ ‬جاء‭ ‬عصر‭ ‬الدول‭ ‬والإمارات‭ - ‬بجزئه‭ ‬الأول‭ ‬وصدر‭ ‬عام‭ ‬1980‭ - ‬والذي‭ ‬شمل‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬والعراق‭ ‬وإيران،‭ ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬بعده‭ ‬عصر‭ ‬الدول‭ ‬والإمارات‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬وحدها‭ ‬والشعر‭ ‬المصري،‭ ‬وصدر‭ ‬عام‭ ‬1984،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬جاء‭ ‬عصر‭ ‬الدول‭ ‬والإمارات،‭ ‬ليركّز‭ ‬أخيرًا‭ ‬على‭ ‬الأندلس‭ ‬وصدر‭ ‬عام‭ ‬1989‭.‬

وهكذا‭ ‬اكتملت‭ ‬موسوعة‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬ليكمل‭ ‬بها‭ ‬تأريخه‭ ‬للأدب‭ ‬العربي‭.‬

والحق‭ ‬أنني‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬هو‭ ‬أهمّ‭ ‬تاريخ‭ ‬صدر‭ ‬إلى‭ ‬الآن‭ ‬لضمّ‭ ‬شتات‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬رأسيًّا‭ ‬وأفقيًّا؛‭ ‬ففيه‭ ‬من‭ ‬حُسن‭ ‬التجميع‭ ‬والتصنيف‭ ‬ما‭ ‬يجعله‭ ‬مرجعًا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يُستغنى‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭. ‬وقد‭ ‬ظللتُ‭ ‬أتابع‭ ‬أجزاء‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬جزءًا‭ ‬جزءًا،‭ ‬وأفرح‭ ‬بصدور‭ ‬كل‭ ‬جزء‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اكتملت‭ ‬اموسوعة‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربيب،‭ ‬وتمثّلتها‭ ‬كاملة‭ ‬شاملة‭. ‬ولا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬موسوعة‭ ‬أخرى‭ ‬تضارع‭ ‬موسوعة‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬فيما‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬القديم،‭ ‬فهي‭ ‬موسوعة‭ ‬شاملة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬أي‭ ‬دارس‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬شيئًا‭ ‬شاملًا‭ ‬وكاملًا‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭. ‬وبالتأكيد‭ ‬فإن‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يكتب‭ ‬سوى‭ ‬هذه‭ ‬الموسوعة‭ ‬فذلك‭ ‬حسبُه‭ ‬وكفاه،‭ ‬فقد‭ ‬بذل‭ ‬في‭ ‬كتابتها‭ ‬وصياغتها‭ ‬وتنقيحها‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يقلّ‭ ‬عن‭ ‬ثلاثين‭ ‬عامًا‭. ‬ولحُسن‭ ‬الحظ‭ ‬أنني‭ ‬عشتُ‭ ‬هذه‭ ‬الأعوام‭ ‬الثلاثين‭ ‬وأنا‭ ‬أرقب‭ ‬صدور‭ ‬كل‭ ‬جزء‭ ‬وأحرص‭ ‬على‭ ‬اقتنائه‭ ‬وقراءته‭ ‬والتعلّم‭ ‬منه؛‭ ‬لكي‭ ‬تتكامل‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬الصورة‭ ‬الكاملة‭ ‬الشاملة‭ ‬لتاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭. ‬ولذلك‭ ‬لا‭ ‬أتردد‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أصف‭ ‬هذه‭ ‬الموسوعة‭ ‬بأنها‭ ‬أهمّ‭ ‬وأشمل‭ ‬موسوعة‭ ‬عن‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬عصوره‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي‭ ‬وتنتهي‭ ‬بعصور‭ ‬الدول‭ ‬والإمارات‭.‬

 

اهتماماته‭ ‬النحوية

لم‭ ‬يتوقف‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحدّ،‭ ‬فهناك‭ ‬اهتماماته‭ ‬النحوية‭ ‬التي‭ ‬قادته‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬المدارس‭ ‬النحوية‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬سنة‭ ‬1976،‭ ‬ودراسة‭ ‬تجديد‭ ‬النحو‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬موازية‭ ‬عام‭ ‬1982‭. ‬ولا‭ ‬يلبث‭ ‬قليلًا‭ ‬إلّا‭ ‬وينهض‭ ‬لاستكمال‭ ‬الموسوعة‭ ‬الشاملة‭ ‬لرؤيته‭ ‬عن‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬فيكتب‭ ‬عن‭ ‬افنّ‭ ‬الرثاءب‭ ‬عام‭ ‬1955،‭ ‬وعن‭ ‬اأدب‭ ‬الرحلاتب‭ ‬عام‭ ‬1956،‭ ‬وأضف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬كتابه‭ ‬االتطور‭ ‬والتجديد‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الأمويب‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬عام‭ ‬1959‭ - ‬وقد‭ ‬درسناه‭ ‬طلابًا‭ - ‬ويتوقف‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬من‭ ‬جوانب‭ ‬الموروث‭ ‬العربي،‭ ‬فيكتب‭ ‬عن‭ ‬االبلاغة‭... ‬تطوّر‭ ‬وتاريخب‭ ‬عام‭ ‬1965،‭ ‬وعن‭ ‬افصول‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬ونقدهب‭ ‬عام‭ ‬1971،‭ ‬وعن‭ ‬االشعر‭ ‬وطوابعه‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصورب‭ ‬عام‭ ‬1977،‭ ‬وعن‭ ‬اعالمية‭ ‬الإسلامب‭ ‬عام‭ ‬1996،‭ ‬وعن‭ ‬االأدب‭ ‬والنقدب‭ ‬عام‭ ‬1999،‭ ‬وعن‭ ‬اتيسيرات‭ ‬لغويةب‭ ‬عام‭ ‬1990‭. ‬ويصدر‭ ‬محاضراته‭ ‬المجمعية‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬عام‭ ‬1998،‭ ‬وهو‭ ‬كتاب‭ ‬يجمع‭ ‬ما‭ ‬ألقاه‭ ‬من‭ ‬محاضرات‭ ‬في‭ ‬مجمع‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الذي‭ ‬آلت‭ ‬إليه‭ ‬رئاسته‭.‬

وأذكر‭ ‬كتابه‭ ‬اشوقي‭... ‬شاعر‭ ‬العصر‭ ‬الحديثب‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬عام‭ ‬1953‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬لهذا‭ ‬الكتاب‭ ‬قصة‭ ‬طريفة‭ ‬معي،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الكاتب‭ ‬أنيس‭ ‬منصور‭ - ‬يرحمه‭ ‬الله‭ - ‬يعدّ‭ ‬برنامجًا‭ ‬للمذيعة‭ ‬المتألقة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان،‭ ‬ليلى‭ ‬رستم‭. ‬وكان‭ ‬البرنامج‭ ‬يستضيف‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأساتذة،‭ ‬وعددًا‭ ‬من‭ ‬الطلاب،‭ ‬ويمنح‭ ‬الفائز‭ ‬جائزة‭ ‬رمزية‭. ‬وقد‭ ‬تصادف‭ ‬أنني‭ ‬اشتركتُ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البرنامج‭ ‬ونلتُ‭ ‬جائزة‭ ‬من‭ ‬جوائزه،‭ ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬أظهر‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬شاشة‭ ‬التلفزيون‭. ‬وظلت‭ ‬أمي‭ - ‬يرحمها‭ ‬الله‭ - ‬تتباهى‭ ‬بابنها‭ ‬الذي‭ ‬شاهدته‭ ‬على‭ ‬التلفزيون،‭ ‬ورأته‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬قراءة‭ ‬كتاب‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬المهمة‭. ‬وأذكر‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬قد‭ ‬حدث‭ ‬عام‭ ‬1964،‭ ‬قبل‭ ‬تخرُّجي‭ ‬بعام‭ ‬واحد‭.‬

 

موسوعية‭ ‬فذّة

ليس‭ ‬من‭ ‬النضارة‭ ‬أن‭ ‬أحصي‭ ‬كل‭ ‬كتب‭ ‬د‭.‬ضيف‭ ‬التي‭ ‬تدلّ‭ ‬على‭ ‬موسوعيته‭ ‬الفذة،‭ ‬وعلى‭ ‬تعدّد‭ ‬اهتماماته‭ ‬الموسوعية‭. ‬لكن‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أكتفي‭ ‬بذكر‭ ‬كتبه‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬أكمل‭ ‬بأن‭ ‬الجانب‭ ‬الأزهري‭ ‬لم‭ ‬ينقطع‭ ‬في‭ ‬فكر‭ ‬د‭. ‬شوقي،‭ ‬وإنما‭ ‬تواصل‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬ميلٍ‭ ‬إلى‭ ‬الدراسات‭ ‬الإسلامية،‭ ‬ولذلك‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬غريبًا‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يصدر‭ ‬كتابًا‭ ‬عن‭ ‬امحمد‭ ‬خاتم‭ ‬المرسلينب،‭ ‬وعن‭ ‬اعالمية‭ ‬الإسلامب،‭ ‬وعن‭ ‬امعجزات‭ ‬القرآنب،‭ ‬بل‭ ‬يضيف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬كتابًا‭ ‬عن‭ ‬االتوجيه‭ ‬اللغوي‭ ‬والبلاغي‭ ‬لقراءة‭ ‬الإمام‭ ‬عاصمب‭. ‬

وأذكر‭ ‬أنه‭ ‬درّس‭ ‬النحو‭ ‬لجيلٍ‭ ‬من‭ ‬الأجيال‭ ‬السابقة‭ ‬علينا،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يؤكد‭ ‬ما‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬نشر‭ ‬كتاب‭ ‬ابن‭ ‬مضاء‭ ‬القرطبي‭ ‬االردّ‭ ‬على‭ ‬النُّحاةب‭. ‬وهو‭ ‬كتاب‭ ‬يلغي‭ ‬فيه‭ ‬ابن‭ ‬مضاء‭ ‬أمورًا‭ ‬رأى‭ ‬أنها‭ ‬عقَّدت‭ ‬النحو‭ ‬العربي‭ ‬وجعلته‭ ‬صعب‭ ‬الفهم‭. ‬وأظن‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الدافع‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬يصدر‭ ‬كتبًا‭ ‬مثل‭ ‬اتجديد‭ ‬النحوب،‭ ‬واتيسيرات‭ ‬لغويةب،‭ ‬واالمدارس‭ ‬النحويةب‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬له‭ - ‬يرحمه‭ ‬الله‭ - ‬مَذهب‭ ‬خاص‭ ‬في‭ ‬تيسير‭ ‬النحو،‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬منهج‭ ‬ابن‭ ‬مضاء‭ ‬القرطبي‭. ‬والحق‭ ‬أن‭ ‬دراساته‭ ‬في‭ ‬الجوانب‭ ‬اللغوية‭ ‬والإسلامية‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬تأصّل‭ ‬الجذور‭ ‬الأزهرية‭ ‬في‭ ‬تكوينه‭ ‬وفي‭ ‬تحولاته‭ ‬مع‭ ‬العصر‭ ‬والزمن‭.‬

وكان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ - ‬وللرجل‭ ‬هذا‭ ‬الإنتاج‭ ‬الهائل‭ ‬وغيره‭ - ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬له‭ ‬مهابة‭ ‬خاصة‭ ‬بين‭ ‬الأساتذة،‭ ‬ويفرض‭ ‬علينا‭ - ‬نحن‭ ‬الطلاب‭ - ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬معه‭.‬

وأنا‭ ‬شخصيًّا‭ ‬لا‭ ‬أنسى‭ ‬انطباعي‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يحبّ‭ ‬أسئلة‭ ‬الطلاب،‭ ‬وأنه‭ ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬إليهم‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬جبلٍ‭ ‬شاهق‭ ‬إلى‭ ‬كائنات‭ ‬صغيرة‭ ‬تمرح‭ ‬في‭ ‬أسفل‭ ‬سفح‭ ‬الجبل،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تُحدث‭ ‬أثرًا‭ ‬يُذكر‭. ‬ولذلك‭ ‬كانت‭ ‬علاقته‭ ‬بالطلاب‭ ‬فردية‭ ‬الاتجاه،‭ ‬يُملي‭ ‬فيها‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬كان‭ ‬يفتح‭ ‬الحوار‭. ‬وكنتُ‭ ‬أُبرر‭ ‬ذلك‭ ‬لنفسي‭ ‬بأنّ‭ ‬هذه‭ ‬بقايا‭ ‬النزعة‭ ‬الأزهرية‭ ‬فيه‭.‬

 

غضبة‭ ‬وصفح

كان‭ ‬الشيخ‭ ‬الأزهري‭ ‬يكتفي‭ ‬بإملاء‭ ‬تلامذته،‭ ‬ولا‭ ‬يفتح‭ ‬السبيل‭ ‬إلى‭ ‬مناقشاتهم‭ ‬أو‭ ‬الجدال‭ ‬معهم‭. ‬وقد‭ ‬نالني‭ ‬مرة‭ ‬من‭ ‬المرات‭ ‬غضبة‭ ‬من‭ ‬غضباته؛‭ ‬لأنني‭ ‬خالفت‭ ‬القاعدة‭ ‬وجرؤتُ‭ ‬على‭ ‬الاختلاف‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬نُطقِ‭ ‬بيتٍ‭ ‬شِعري‭. ‬ولذلك‭ ‬ظل‭ ‬يتابعني‭ ‬طوال‭ ‬العام‭ ‬الجامعي‭ ‬الثالث‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬فلما‭ ‬تأكد‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬العام‭ ‬أنني‭ ‬من‭ ‬الطلاب‭ ‬الممتازين،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬أقصد‭ ‬مجرّد‭ ‬المجادلة،‭ ‬صفح‭ ‬عنّي‭ ‬ومنحني‭ ‬من‭ ‬سعة‭ ‬صدره‭ ‬ولين‭ ‬أفقه‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يمنحه‭ ‬لغيري‭. ‬ولذلك‭ ‬كنتُ‭ ‬أرقبه‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬دائمًا‭ ‬وأمضي‭ ‬وراءه،‭ ‬وهو‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬بيته،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬المرحوم‭ ‬خليل‭ ‬يحيى‭ ‬نامي‭ - ‬وكان‭ ‬أستاذًا‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬فقه‭ ‬اللغة‭ ‬واللغويات‭ ‬التاريخية‭ ‬المقارنة،‭ ‬وأسنّ‭ ‬من‭ ‬شوقي‭ ‬ضيف‭ - ‬يصحبه‭ ‬دائمًا‭ ‬في‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬المنزل،‭ ‬سائرينِ‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭ ‬في‭ ‬نوعٍ‭ ‬من‭ ‬الرياضة‭ ‬البدنية‭. ‬وقد‭ ‬كانا‭ ‬يسكنان‭ ‬حيّ‭ ‬الروضة‭ ‬القريب‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة‭ (‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬تعبرَ‭ ‬الطريق‭ ‬للجامعة‭ ‬إلى‭ ‬نهايته،‭ ‬ثم‭ ‬تنحرف‭ ‬يسارًا‭ ‬لتعبر‭ ‬كوبري‭ ‬الجيزة‭ ‬فتكون‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الروضة‭ ‬التي‭ ‬كانا‭ ‬يسكنان‭ ‬فيها‭).‬

وأذكر‭ ‬أنه‭ - ‬عليه‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ - ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رضي‭ ‬عنّي،‭ ‬طلب‭ ‬مني‭ ‬اكشكولب‭ ‬محاضرات‭ ‬السنة‭ ‬الثالثة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يُملِي‭ ‬فيها‭ ‬علينا‭ ‬محاضرات‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬عادتي‭ ‬استكمال‭ ‬المحاضرات‭ ‬بالنصوص‭ ‬الأصلية‭ ‬التي‭ ‬كنتُ‭ ‬أجدها‭ ‬في‭ ‬المكتبة،‭ ‬خصوصًا‭ ‬القاعة‭ ‬الشرقية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬

ومرت‭ ‬الأيام،‭ ‬وإذا‭ ‬بكتابه‭ ‬عن‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬يصدر‭ ‬متضمِّنًا‭ ‬اكشكولب‭ ‬محاضراتي‭ ‬الذي‭ ‬تغيّرت‭ ‬ملامحه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أُعيد‭ ‬وضعه‭ ‬في‭ ‬سياقٍ‭ ‬جديد‭ ‬ومتكامل‭ ‬تمامًا‭.‬

وقد‭ ‬ظللتُ‭ ‬أباهي‭ ‬بهذه‭ ‬الواقعة‭ ‬طويلًا،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬استعدتُها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬أكتب‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬أستاذي‭ ‬الذي‭ ‬كنتُ‭ ‬وما‭ ‬زلتُ‭ ‬أُجلّه‭ ‬كل‭ ‬الإجلال‭ ‬وأحترمه‭ ‬كل‭ ‬الاحترام‭.‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬يباعد‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬شوقي‭ ‬ضيف‭ ‬سوى‭ ‬تحولّي‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الرابعة‭ ‬من‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالدراسات‭ ‬التراثية‭ ‬إلى‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالدراسات‭ ‬النقدية‭ ‬الحديثة،‭ ‬وهو‭ ‬الاتجاه‭ ‬الذي‭ ‬جعلني‭ ‬أحرص‭ ‬على‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬الخارج،‭ ‬لأستكمل‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬سنة‭ ‬1977‭ ‬ما‭ ‬فاتني‭ ‬درسه‭ ‬في‭ ‬سنوات‭ ‬دراستي‭ ‬بقسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬منذ‭ ‬1961‭ ‬إلى‭ ‬سنة‭ ‬1966‭. ‬

 

علاقة‭ ‬جديدة

عندما‭ ‬عدتُ‭ ‬من‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬أخذت‭ ‬نظراتي‭ ‬إلى‭ ‬كتابات‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬تتغيّر،‭ ‬وألمح‭ ‬فيها‭ ‬غلبة‭ ‬العقلية‭ ‬التقليدية‭ ‬على‭ ‬العقلية‭ ‬الحداثية‭. ‬والحقّ‭ ‬أنه‭ ‬فيما‭ ‬عدا‭ ‬كتابه‭ ‬االفن‭ ‬ومذاهبه‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربيب‭ ‬يصعب‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬كتابًا‭ ‬له‭ ‬قائمًا‭ ‬على‭ ‬أطروحة‭ ‬فكرية‭ ‬أو‭ ‬فلسفية،‭ ‬ولذلك‭ ‬فمن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬أطروحة‭ ‬كتابه‭ ‬االفنّ‭ ‬ومذاهبه‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربيب‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬تأثير‭ ‬أستاذه‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬ومما‭ ‬كان‭ ‬يؤكد‭ ‬لي‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬عندما‭ ‬يحدثني‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬يقول‭ ‬لي‭ ‬إنه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قرأ‭ ‬الفصل‭ ‬الخاص‭ ‬بأبي‭ ‬تمام‭ ‬على‭ ‬أستاذه‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬أذن‭ ‬له‭ ‬الأستاذ‭ ‬باستكمال‭ ‬الرسالة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقرأها‭ ‬عليه،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وثق‭ ‬بأنّه‭ ‬قد‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬الدرجة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يريدها‭ ‬له‭ ‬الأستاذ‭ ‬ليحصل‭ ‬على‭ ‬الدكتوراه‭.‬

ومنذ‭ ‬عام‭ ‬1978‭ ‬بعد‭ ‬عودتي‭ ‬من‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أخذت‭ ‬العلاقة‭ ‬بيني‭ ‬وبينه‭ ‬شكلًا‭ ‬جديدًا‭ ‬قائمًا‭ ‬على‭ ‬الاحترام‭ ‬الكامل‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬والتساؤل‭ ‬الحذر‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ثانية،‭ ‬فقد‭ ‬ظل‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الحداثة‭ ‬التي‭ ‬كنتُ‭ ‬أرفع‭ ‬شعارها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬هي‭ ‬شيء‭ ‬خطير‭ ‬يجب‭ ‬الاحتراس‭ ‬منه‭. ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬أذكر‭ ‬أنني‭ ‬جلستُ‭ ‬معه‭ ‬جلسة‭ ‬مطوَّلة‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬الاستقبال‭ ‬بمنزله‭ ‬القديم‭ ‬بالروضة،‭ ‬وظللنا‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬مجلة‭ ‬فصول‭ ‬التي‭ ‬ذهبتُ‭ ‬إليه‭ ‬لأطالبه‭ ‬بالكتابة‭ ‬في‭ ‬عددها‭ ‬الأول،‭ ‬تشجيعًا‭ ‬لها‭ ‬وتأصيلًا‭ ‬لاتجاهها‭ ‬الفكري‭.‬

وكان‭ ‬العدد‭ ‬الأول‭ ‬عن‭ ‬االتراثب،‭ ‬وقد‭ ‬ظهر‭ ‬وهو‭ ‬يحمل‭ ‬مقالًا‭ ‬مهمًّا‭ ‬من‭ ‬مقالاته‭ ‬التي‭ ‬حاول‭ ‬بها‭ ‬تغيير‭ ‬مفاهيمنا‭ ‬عمّا‭ ‬كنا‭ ‬نُسميه‭ ‬اعصور‭ ‬الانهيار‭ ‬في‭ ‬الأدبب،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ - ‬على‭ ‬العكس‭ - ‬يرى‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العصور،‭ ‬عصور‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬بحفظه‭ ‬في‭ ‬موسوعات‭ ‬بالغة‭ ‬الأهمية،‭ ‬لولا‭ ‬وجودها‭ ‬لضاع‭ ‬علينا‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬وما‭ ‬عرفنا‭ ‬دروبه‭ ‬التي‭ ‬انغلقت‭ ‬بعد‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬للهجرة‭.‬

الغريب‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬عمل‭ ‬في‭ ‬مجمع‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وتدرّج‭ ‬في‭ ‬مناصبه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬رئيسًا‭ ‬له،‭ ‬لم‭ ‬يطلب‭ ‬منّي‭ ‬أن‭ ‬أساعد‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬هذا‭ ‬المجمع؛‭ ‬ربما‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬تصوَّر‭ ‬أن‭ ‬دراستي‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬قد‭ ‬جعلتني‭ ‬سيئ‭ ‬الظن‭ ‬بتراثي،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬صنع‭ ‬الميزة‭ ‬التي‭ ‬تميّز‭ ‬بها‭ ‬أستاذه‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬على‭ ‬غيره‭.‬

 

وريث‭ ‬طه‭ ‬حسين

لكن‭ ‬هذا‭ ‬الحياد‭ ‬منه‭ ‬جعلني‭ ‬أعيد‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬بأستاذه‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وعلاقة‭ ‬أستاذه‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ثانية‭. ‬لأكتشف‭ ‬أن‭ ‬سهير‭ ‬القلماوي‭ ‬كانت‭ ‬أقرب‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬فيها‭ ‬امتداده‭ ‬في‭ ‬النظرة‭ ‬الحديثة‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬القلماوي‭ ‬بالفعل،‭ ‬فقد‭ ‬مضت‭ ‬في‭ ‬الوصل‭ ‬الحيوي‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب،‭ ‬بينما‭ ‬اقتصرت‭ ‬مهمة‭ ‬شوقي‭ ‬ضيف‭ ‬على‭ ‬تحديث‭ ‬القديم،‭ ‬وعدم‭ ‬مفارقة‭ ‬ضفافه‭ ‬الواسعة‭. ‬وكان‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬قارب‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وما‭ ‬باعد‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬أستاذه‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬موازية،‭ ‬لكن‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يقلل‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬من‭ ‬منزلة‭ ‬التلميذ‭ ‬بالقياس‭ ‬إلى‭ ‬طه‭ ‬حسين‭.‬

‭ ‬فالحقّ‭ ‬أنني‭ ‬إذا‭ ‬أردتُ‭ ‬أن‭ ‬أعثر‭ ‬على‭ ‬وريثٍ‭ ‬لطه‭ ‬حسين‭ ‬في‭ ‬مجمع‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬لوجدته‭ ‬شوقي‭ ‬ضيف‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭. ‬وإذا‭ ‬أردتُ‭ ‬أن‭ ‬أعثر‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬تلامذة‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬الذي‭ ‬ترك‭ ‬لنا‭ ‬موسوعة‭ ‬كاملة‭ ‬شاملة‭ ‬عن‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬وتحوّله‭ ‬عبر‭ ‬العصور،‭ ‬لظهرت‭ ‬ملامح‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬بارزة‭ ‬تملأ‭ ‬الصورة‭ ‬بأكملها،‭ ‬مؤكّدة‭ ‬مكانة‭ ‬ذلك‭ ‬الأستاذ‭ ‬الذي‭ ‬أفخر‭ ‬بالانتساب‭ ‬إليه،‭ ‬وبالتلمذة‭ ‬المباشرة‭ ‬عليه،‭ ‬وبالإفادة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تتوقف‭ ‬ولا‭ ‬أظنها‭ ‬تتوقّف‭ ‬من‭ ‬كُتبه‭ ‬التي‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬50‭ ‬كتابًا‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬التراث‭ ‬المختلفة‭ ‬التي‭ ‬أعدها‭ ‬شيخنا‭ ‬لجيلي‭ ‬في‭ ‬جوانبها‭ ‬الأدبية‭ ‬واللغوية‭ ‬والنحوية‭ ‬والدينية‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬عليه‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭.‬

وقد‭ ‬كرَّمتــه‭ ‬الجهـــات‭ ‬الرسمية‭ ‬عندمـــا‭ ‬منحته‭ ‬الدولة‭ ‬المصرية‭ ‬جائزة‭ ‬الدولة‭ ‬التقديرية‭ ‬في‭ ‬الآداب‭ ‬عام‭ ‬1979،‭ ‬ووسام‭ ‬الاستحقاق‭ ‬من‭ ‬الطبقة‭ ‬الأولى،‭ ‬وجائزة‭ ‬مبارك‭ ‬في‭ ‬الآداب‭ ‬عام‭ ‬2003‭.‬

هذا‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬حصوله‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬الملك‭ ‬فيصل‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬عام‭ ‬1983م،‭ ‬ومنحه‭ ‬دروعًا‭ ‬من‭ ‬جامعات‭ ‬عدّة‭ ‬كالقاهرة‭ ‬والأردن‭ ‬وصنعاء ■ 

 

د‭. ‬شوقي‭ ‬ضيف