الموتى يعيشون في داخلي يوسف الشاروني

الموتى يعيشون في داخلي

رسائل بروست ومصادره الروائية
لعله واحد من أكثر المؤلفين غزارة في كتابة الرسائل، فقد بلغ عدد المجلدات التي نشرت منها في لغتها الأصلية ستة عشر مجلدا، أضاء فيها الكاتب مختلف جوانب حياته الداخلية، فتحدث عن الحب والموت والشغف بالكتابة والبحث عن طريق لخلاص روحه من هواجسه الموتى.

نشرت دار هاربر كولينز أخيرا ترجمة الجزء بروست المولود عام 1871 والمتوفى عام 1922 عن واحد وخمسين عاما. قام بالترجمة إلى الإنجليزية تيرنيس كيلما ترين، وأشرف على نشره فيليب كولب. وهذه المختارات من أصل طبعة فرنسية تقع في ستة أجزاء من الرسائل التي وصلت أجزاؤها - في الأصل الفرنسي - حتى الآن إلى ستة عشر مجلدا.

كان بروست قد اندمج في شبابه بالمجتمع الباريسي اندماجا شديدا، إلا أنه ما لبث أن انسحب منه عام 1987 أي وهو في أوج رجولته عندما كان في الخامسة والثلاثين من عمره وسجن نفسه في غرفة مغلقة يكتب رائعته "البحث عن الزمن المفقود" التي ترجمت إلى الإنجليزية في سبعة أجزاء، وهي عمل فني بالمفاهيم النفسية والفلسفية والاجتماعية، ومحورها الربط بين الحقيقتين الخارجية والداخلية للإنسان على نحو وجودهما في الزمان والذاكرة، وأن الفرد معزول والمجتمع زائف يسوده الادعاء. وتبلغ عدد كلمات رواية "البحث عن الزمن المفقود" مليونا وربع مليون كلمة، وتقع في ثلاثة آلاف صفحة في الترجمة الإنجليزية.

في بداية الجزء الذي ترجم أخيرا نجد بروست قد بلغ الأربعين من عمره، مريضا قد ألزمته أزمات الربو غرفته، وكان قبل ذلك بثلاث سنوات قادرا على الخروج طوال النهار في سيارة مغلقة، لكنه بعد عام لم يستطع مواصلة هذا اللون من الخروج وإن كان لا يزال قادرا على الذهاب إلى الشاطئ في الأمسيات فقط، ثم تطور الأمر بحيث أصبح في هذه المرحلة من الرسائل لا يستطيع الخروج إلا ساعة أو ساعتين كل بضعة أيام. وهو يصف في عام 1912 محاولاته اليومية العبثية لاستنشاق الأبخرة المساعدة على التنفس والتي تستمر سبع أو ثماني ساعات في المرة الواحدة، وأن وجبته الوحيدة التي يتناولها يوميا تكون في الساعة الخامسة صباحا.

لقد كان بروست إنسانا نشطا ذات يوم، وقد أدى الخدمة العسكرية كجندي، وكان لا يزال في الاحتياط، لكنه الآن يعتمد على أصدقائه مصرا أن يرووا له كل الحفلات التي لم يعد يستطيع حضورها. ونقرأ في خطاباته كلمات العرفان والمحبة للأدباء وللسيدات ذوات الألقاب النبيلة ممن شاركهم حياتهم، فهو يستمتع بالأشياء الصغيرة كالأزهار والملابس واللغة، ويكتب باستطراد عن تدرجات مشاعره. وقلما نعثر على كلمة يثير فيها الشفقة على نفسه.

كارثتا المرض والحرب

وتتحدث كثير من رسائل بروست عن مشاريع كتابه "البحث عن الزمن المفقود"، وأنه في ذلك الوقت لم يكن يفكر إلا في كتابة جزأين منه، نشر أولهما على حسابه الخاص، كما تنبأ أن الجزء الثاني سيكون عملا جريئا يتجاوز الاحتشام، وقد عرض عليه الناشرون شراء عمله، لكنه أصر على تعاقده الأول الذي يحتفظ فيه لنفسه برأس المال.

وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى في أغسطس عام 1914 تغير كل شيء، ولما كان بروست يشعر بالذنب لأنه مريض لا يستطيع المشاركة في الحرب فإنه بذل جهده لمواساة الذين فقدوا أحبابهم. وفى إحدى رسائله يشير إلى أحد أصدقائه الذين قتلوا في المعارك قائلا: إن الموتى يعيشون في داخلي لدرجة أن عدم استطاعتي العثور عليهم في هذه الأرض يبدو لي أمرا لا معنى له، وأجد نفسي في حالة جنون.

ولقد دمرت الحرب صناعة النشر، وألقت بكل مشاريع كتب بروست في مهب الريح، لكن بروست العليل عاد في صبر إلى مكتبه والى ذكرياته، يستعيدها ويتوسع فيها ويؤلف بينها حتى نمت الرواية وأصبحت في ثمانية أجزاء. وكان ذلك إنجازا رائعا، ما كان يمكن أن يتم لولا تآلف مجموعة من الكوارث ابتداء من المرض، تلك الكارثة الشخصية، حتى الحرب، تلك الكارثة الجماعية، حتى أن ناشره علق على ذلك قائلا: الحرب خير وبركة مقنعة.

ولعل أهم ما يثير اهتمام معظم القراء في الجزء الذي صدر أخيرا من رسائل بروست هو وصفه لما يريد إنجازه في روايته، لا سيما طموحه في أن يجد الكلمات التي تعبر عن العمليات الغريبة اللا إرادية للذاكرة. وهو يكتب في عام 1913 أن الذاكرة الإرادية العاقلة تعطينا صورة غير دقيقة للماضي لا تماثل حقيقته، تماما كما يرسم فنان رديء صورة للربيع، فنفحة من عطر في خبايا النسيان تملؤنا بالنشوة فجأة، كما أننا قد نتوهم أننا ما عدنا نكن للموتى حبا لأننا لا نتذكرهم، لكننا إذا لمحنا قفازا قديما فإننا ننفجر في البكاء.

ولقد توفي تيرنيس كيلما ترين مترجم الرسائل منذ بضعة شهور، وكان قد سبق أن قام بالترجمة الكاملة لرواية بروست "البحث عن الزمن المفقود".

العلاج بالكتابة

وقد نشرت صحيفة الصنداي تايمز في أحد ملاحقها عرضها الرئيسي بقلم جون كاري عن ترجمة هذا الجزء من الرسائل بعنوان "الكتابة ضد عقارب الساعة". وجاء في المقال أن معظم الرسائل مرجه إلى معارف بروست من الفنانين وأفراد الطبقة الأرستقراطية ممن تعرف عليهم أثناء فترة حياته الاجتماعية، والذين استلهم شخصياتهم في روايته.

ثم يستطرد جون كاري قائلا. لعله مما يثير اهتمام القراء أكثر هو ما تكشف عنه هذه الرسائل من قلق مرضي كان يعاني منه بروست، بحيث يبدو أن كتابة روايته "البحث عن الزمن المفقود" كانت لونا من ألوان العلاج. ويرى جون كاري أن المحور الأساسي الذي تدور حوله هذه الرواية هو التعالي على الزمن أو تجاوزه، شاقا طريقه إلى الأزلي الأبدي على نحو ما عبر في رسائله، لكن بروست كان لا يزال واقعا في شراك. الزمن بما في ذلك من قلق ومفاجآت. ورغم أنه حذف تواريخ رسائله، إلا أنه لم يستطع أن يتخلص مما يضمره المستقبل المجهول من توقعات غير مؤكدة، وهو يبدو في بعض الأحيان كأنه يتحدى هذا المستقبل.

ويصف ليون دوديه صديقه بروست بأنه شخص هياب يعتقد أن أدبه المفرط مع كل إنسان من شأنه أن يؤمنه ضد ما قد تضمر له الأيام، بحيث يبدو تملقه مضجرا وأحيانا مضحكا، فهو يخاطب الأميرة سوتزو التي كانت تؤجل إجراء عملية المصران الأعور، مؤكدا لها أن المخدر من شأنه أن يضفي على بشرتها شحوبا رائعا، ومن ثم فإنها إذا أجرت جراحتها فستبدو بعد ذلك للمعجبين بها مرمرا شفافا ساميا.

ويلاحظ جون كاري أن بروست لا يأذن لانفعاله - إذا وجد سبيلا إليه - أن يفسد ما تتسم به رسائله من لباقة، وهو أقرب ما يكون إلى الانفعال حين يعرب عن استيائه اللاذع من أصدقائه الرجال حين يتصور أنهم عاملوه بغير احترام، فعندما لا يفي الشاب ألبرت نحميا بموعد مسائي معه يؤنبه تأنيبا عنيفا ويصفه بأنه شخص تافه، وأن شخصيات بارزة مثل أناتول فرانس توسلوا إليه أن يحضر حفلات عشائهم، لكن حتى هذه السخرية اللاذعة تكون مبطنة بلباقة عذبة كأنما بروست - بالرغم من غضبه الشديد - لا يرضيه تجاوزه حدود الأدب.

يعاني حساسية تعوقه عن الصداقة

ويتضح من الرسائل أن أهم حادث سبب ألمه خلال تلك السنوات، هو عدم إخلاص سائقه وسكرتيره - من وجهة نظره - ألفريد أجو ستينيلى الذي يصفه بروست في رسائله لأصدقائه بأنه ربما كان أعظم عقلية قابلها في حياته. ذلك أن أجو ستينيلي كان يرغب في أن يصبح طيارا، مما دفعه إلى الهرب من بروست المفتون به إلى موناكو، وهذا تصرف دفع بروست بدوره إلى استئجار شرطي خاص لتتبع سكرتيره وإعادته إليه. ويعرض بروست في خطابه الوحيد الباقي أن يدفع له ثمن طائرته، لكنه يوم كتب هذا الخطاب لقي أجو ستينيلى حتفه وهو يقود طائرته عندما تحطمت به في البحر في أول طلعة له فيها.

وبعد مصرع أجو ستينيلي نشبت الحرب العالمية الأولى. وبسرعة مخيفة لقي العديد من الشباب المتصلين ببروست حتفهم في المعارك، ومن بينهم برتراند فينيلون الذي كانت له به علاقة حميمة، والذي أمده بنموذج النبيل المفعم بالحياة سان لوب في روايته "البحث عن الزمن المفقود". وفي خطابات بروست في الشهور الأولى من الحرب تبدو بوضوح نغمة الأسى والإحساس بالصدمة، لكن هذا الأسى معقد بسبب وعي بروست أنه لم يعرف أبدا هؤلاء الموتى على حقيقتهم، ذلك أن إحدى القضايا الأساسية في روايته هو أننا نخترع الآخرين من محض خيالنا، أما حقيقتهم فتظل سرا لا نعرفه.

وينبه جون كاري إلى أن بروست قد بذل مجهودا لعدة سنوات لتجنب صحبة هؤلاء الأصدقاء الذين يبكي الآن رحيلهم. وقد أمده مرضه الذي ألزمه بعذر شديد الإقناع ليتجنب مجتمعه، رغم أن أي أشارة إلى ذلك كانت تثير سخطه العظيم، لدرجة أنه اتهم روبرت دي مونتسكيو - ومنه استمد شخصية شارلوس في روايته - بالسادية الشيطانية لمجرد أنه افترض أن بروست قادر على القيام بزيارته.

وفي خطاب صريح غريب أرسله بروست إلى مؤلف شاب ردا على رسالة منه، يعترف أنه يعاني من حساسية تعوقه عن إقامة صداقة حقة، فهو يقول: إنني عاجز عن الاستفادة من أي شخص آخر غير نفسي، ثم يضيف قائلا إنه لا يكون على حقيقته إلا إذا كان وحيدا، مما يجعله لا يبذل جهدا لرؤية الناس. وربما يساعدنا ذلك على فهم المجاملات الجوفاء في الرسائل، وعلى حاجة بروست المزمنة إلى العزلة.

ويعلق جون كاري على ذلك قائلا: إنه لا سبيل للادعاء بأن الشخصية التي تقدمها هذه الرسائل شخصية جذابة، وأن هؤلاء الذين يعتبرون بروست مدعيا وعاجزا سيجدون الكثير مما يؤيد حكمهم.

ومطالبته في رسائله بإظهار العواطف أو على الأقل التعبير عنها - على نحو تعنيفه أندريه جيد لأنه لم يستهل خطاباته بكلمتي "صديقي العزيز" - تبدو مطالبة مثيرة للرثاء. ويقارن جون كاري بين رسائل بروست ورسائل معاصرة للكاتب الإنجليزي د. هـ. لورنس فيقول: إن رسائل لورنس مليئة بالحيوية وروح المغامرة، بينما رسائل بروست كأنما كتبها شخص متقدم في العمر.

ونحن لا نعثر في هذه الرسائل على شخصية بروست الذي كان يعود من الحفلات ويثرثر مع مديرة منزله سيليت ألباريت وهو يعيش بخياله كل ما حدث، ولا على بروست الذي يثير الذكريات والعواطف.

ويختتم جون كاري عرضه قائلا: إن الرسائل تعطينا لمحة من العالم العجيب للصلات الشخصية التي كان على بروست أن يسحب نفسه بعيدا عنها حتى يستطيع أن يطارد في الخيال ما أسماه والتربنيامين "الطلب الملح للسعادة".

بين العنف والدبلوماسية

كما نشرت صحيفة الإندبندنت في أحد ملاحقها وبالتاريخ نفسه عرضا بفلم كانديا ماك وليم تقرر فيه أن هذا الجزء الثالث المترجم من رسائل بروست يغطي فترة خصبة من حياة الروائى، لكنها كذلك مليئة بالوفيات، إلا أنه استطاع أن يملأ الفراغ الناتج عن ذلك بتلك المعجزة العظمى: أن يجسد الخصائص اللا عقلية للمادة والحياة في كلمات إنسانية.

وترى كانديا ماك وليم أن حادثتي الموت العصيبتين في حياة بروست هما: وفاة أمه وسائقه أو سكرتيره ألفريد أجو ستينيلي.

وعندما بدأت كتابة هذه الرسائل كان بروست قلما يخرج من بيته، وكانت محاولاته لنشر أعماله تتم دائما من خلال وسطاء يدل مدى صبرهم على إيمانهم المطلق بكتابته، مهما انطوى سلوكه على ثورات.

وبعد أن عانى بروست الكثير قرر أخيرا أن ينشر على حسابه الخاص.

ولقد كان بروست معتزا بتدريب نفسه على سلوك دبلوماسية معينة، وذلك بالقدرة على الصفح والتركيز على ما في مصلحة الأصدقاء، وهو لا يتخلى عن هذه الدبلوماسية إلا عندما يعري نفسه ليصبح عنيفا بسبب تقصير في واجب الصداقة.

وإلى جانب الصداقة، كان هناك انشغاله بالفن، فهو يكتب خطابا إلى جان كوكتو يصف فيه افتتاح إحدى حفلات الباليه التي وضع موسيقاها ساتي وأعد مسرحها بيكاسو. وفي تلك الفترة كان بروست يتبادل التعليقات اللاذعة مع مونتسكيو الذي كان نموذجا لنهاية عصر أو حقبة، كما أنه يعنف جان كوكتو العبقري السريع الانفعال، ويصفه بأنه ذو مواهب رائعة لكنها عقيم. وترى كانديا ماك وليم أن الذاكرة هي روح الفن عند بروست.

ولقد واصل بذل مجهود كبير لتكوين مستودع "زمنه الضائع" وهو يعترف قائلا: لقد كنت كالنملة الدءوب فيما يختص بكل شيء يتعلق بكتابي، فهناك رسائل لصديقات عن الثياب، ورسائل أخرى تتقصي الأزهار ومواسم ازدهارها، وأسئلة خاصة بمسائل علمية.

كما كانت ذاكرته العاطفية مشحونة بالموسيقى، وكان قد اشترك فيما كان يسمى بالتليفون المسرحي وهو عبارة عن أنبوب ينقل التمثيليات من مسرح الأوبرا ومسارح أخرى في مقابل اشتراك قدره ستون، فرنكا شهريا. وتخلص كانديا ماك وليم إلى أن رسائل بروست رسائل منعشة، مترجمة ترجمة عملية، وذات هوامش وشروح دقيقة كل الدقة، وهي - على عكس كثير من عظماء الأدباء - تقدم شيئا أوسع وأعمق من شبكة العلاقات الإنسانية. وبروست يؤمن بضرورة عدم الإفصاح عن موضوع العمل الأدبي، ويمكن للقارئ أن يلاحظ أنه يحقق ذلك في هذه الرسائل التي كتبها على الورق نفسه الذي كان يجعل منه لفائف يوقد بها مسحوق الأبخرة لمعالجته من داء الربو المصاب به.

وهكذا نجد كيف يحتفل الغرب برسائل شخصياته البارزة، فأصحابها - وورثتهم من بعدهم - يهتمون أولا بالحفاظ عليها، ثم هي تجد طريقها فيما بعد إلى النشر بل والترجمة لتساعد على إلقاء مزيد من الضوء على الخلفية التي تعيش في الظل لتلك الشخصيات، وربما يجد فيها البعض ما يعينهم على فهم المصادر التي أمدت هؤلاء الأدباء بأعمالهم الفنية وشخصياتهم فيها على نحو ما مر بنا من ربط بين شخصيات في حياة بروست وشخصيات في روايته "البحث عن الزمن المفقود".

 

يوسف الشاروني







بروست





مارسيل بروست