محو الأمية التقنية المشروع العربي الأكثر أهميّة

أعتى الحواجز التي تحول بين المجتمعات العربية والنهضة - بمفهومها الشامل – هي ظاهرة الأمية التقنية، وما يعمّق هذه المأساة أكثر هو حالة اللا إدراك التي نعيشها جميعًا على امتداد الجغرافيا العربية بحقيقة هذه الظاهرة وأساسها.
فمقدرة شريحة واسعة جدًّا من المجتمع العربي على استخدام وسائط وتطبيقات التواصل الاجتماعي والقليل من تطبيقات العمل المكتبي، أسهمت في التعتيم على هذه المشكلة وتسطيحها؛ إذ تعتقد نسبة مرتفعة من هذه الشريحة أنها لم تعد أمية تقنيًّا ما دامت قادرة على الاستخدام المباشر لهذه التطبيقات والوسائط!
هنا يظهر جوهر القضية، إذ يغيب عن ذهن الكثيرين المبدأ الأهمّ في التكنولوجيا، الذي يمكننا تبسيطه في متراجحة العلاقة العكسية بين سهولة الاستخدام وصعوبة البرمجة والتركيب، فكلما سهُل استخدامك لتطبيق ما، اعلم أنه سيصعُب عليك برمجته وتكوينه، فالمسافة بين استخدام الحاسوب وكيفية برمجته وصناعته تكبر وتتوسّع، وفي المنطقة المحصورة بين جهد البرمجة والصناعة، وبساطة الاستخدام المباشر، يمكننا تعريف الأمية التقنية وقياسها.
وباستخدام أداة القياس هذه يتّضح لنا مدى عمق التحدي الذي يواجهنا، إذ يصنّفنا هذا القياس ضمن الأمم الأكثر تخلفًا تقنيًا.
وفي عالمٍ ستصبح فيه الآلات المبرمجة التي يخلقها التقنيون هي المستخلفة في الأرض، فإن بقاءنا ضمن الوضع الحالي يقضي ببقائنا خارج المستقبل القريب.
الاقتصاد التقني هو المحرك الرئيسي حاليًا لنمو أي اقتصاد، وآلاف الشركات والمؤسسات العملاقة اليوم على المحكّ إن لم تدرك الواقع التكنولوجي ومظاهره، وتسعى لمواكبته؛ فعالم الاقتصاد اليوم ينقسم إلى قسمين:
اقتصاد يعتمد على أسس تقليدية، وإليه تنتمي اقتصادات بلداننا العربية، واقتصاد أساسه التقنية والابتكار، ومستقبلًا سيتلاشى الأول ليبقى الأخير.
وإذا كانت المطارات والسكك الحديد والمحطات العملاقة لتوليد الطاقة قد شكّلت أساس البنية التحتية المميزة للعقود المنصرمة، فإنّ ثمّة بنية فوقية جديدة بدأت تتشكّل الآن معتمدةً على التقنية بكل تفاصيلها، فالمحطات الأساسية لـ G5، ومراكز البيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي هي ملامح البنية الجديدة، بدءًا من هذه اللحظة وامتدادًا للعقود القادمة، وحسب تقرير مركز دراسات الصين وآسيا، فإنّ حجم نموّ سوق الذكاء الصناعي خلال عام 2020م سيتجاوز 29 في المئة.
وهذه النسبة مرشّحة للارتفاع أكثر، ووحدها البلدان التي تملك قاعدة تقنية ضخمة هي من سيدير بورصة هذا السوق الذي ينمو وفق منحنى اطّراد متسارع.
شفرة سريّة
وإذا قرّرنا وضع واقعنا التقني أمام المزيد من معايير التقييم، فستزداد قناعتنا بمأساوية الواقع وبضرورة التغيير، ففي عام 2019م نشرت مؤسسةHacker rank قائمة تضمنت ترتيب أعلى 50 دولة من حيث نسبة المبرمجين المحترفين فيها إلى إجمالي عدد السكان، وفي حين لم نجد أي اسم لأي قُطر عربي فيها، فإن دولًا مثل بنجلاديش ونيجيريا وفيتنام قد تضمنتها هذه القائمة.
وبالاطلاع على المقالات والدراسات التي تناولت نجاح التجربة الصينية في مواجهة فيروس COVID-19 الذي ظهر أخيرًا، فإن هناك شبه إجماع على أن البنية التقنية الحديثة للصين هي الشفرة السريّة التي تفسّر تفوقها في احتواء الوباء ومعالجته؛ إذ اخترقت الروبوتات الطبية وتطبيقات الخلوي وطائرات ادرونزب المجال الحيوي لمعركة الفيروس الشرس.
وأيضًا بملاحظة التغيّرات التي أنبتتها الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، فإننا نرى بوضوح عامل تكنولوجيا المعلومات وقد فرض نفسه كأهمّ العوامل التي سترجّح كفّة هذه الحرب، فحينما حُرِمت شركة هواوي الصينية من حقّ استخدام أنظمة التشغيل الأمريكية وحق الاستفادة من المنتجات البرمجية لـ اجوجلب هبط منحنى صعود الشركة العملاقة بقدرٍ أحدث هزّة في الاقتصاد الصيني ككل.
لم يتأثر الاقتصاد الصيني بنسبة الـ 100 في المئة التي فُرِضت كتعرفة جمركية على منتجات أرض التنين، لكنّه تأثر جدًّا بحجب التقنية الأمريكية عن الشركات المصنّعة للأجهزة الذكية.
ومن المعادلة السابقة يمكننا استنتاج الأهمية القصوى لضرورة الاتجاه نحو مشروع إنتاج التقنية لا استهلاكها فحسب.
مرحلة سيادة الروبوتات
وقد بدأ فعلاً دخول العالم مرحلة سيادة الروبوتات، فمجالات الطب والهندسة وعلوم الفضاء والأرض والتسلّح والحروب يتقلّص فيها وجود العنصر البشري لمصلحة هذه الروبوتات التي تتفوق عليه بسنوات ضوئية فيما يتعلّق بالكفاءة والسرعة.
وأمام كل هذه المعطيات والحقائق، لا بدّ من إعادة ترتيب الكثير من الأولويات لتصبح المسألة التقنية على رأس أولويات الحكومات والمؤسسات وحتى الأفراد.
وإذا ما ابتدأنا بالدور الحكومي، فإنّ تجهيز البنية التحتية والمالية والقانونية هو أول الأشياء التي يجب البدء فيها من هذه اللحظة، ثم يأتي بعدها مباشرة تحديث النظام التعليمي بما يتوافق وهذه المعطيات، وبالاطلاع على مناهج الحاسوب وآلية تدريسه في الوطن العربي نجد أنفسنا أمام وضع أقلّ ما يمكن وصفه به هو أنه امغالطة غير مقبولةب، فالتكنولوجيا قد مرّت بعصر الحاسوب المكتبي ثم الخلوي الذكي، والآن في طريقها نحو مرحلة شرائح السليكون الذكية المزروعة في الجسم، في حين أن أنظمتنا التعليمية العربية ما تزال تمنح شهادة قيادة الحاسوب لمن استطاع استخدام برنامجي الـword والـpower point!
إذاً فإدخال لغات البرمجة ضمن مناهج اللغات الإجبارية لتصبح في مرتبة اللغة الإنجليزية إن لم تكن أكثر أهمية صار أمرًا مُلِحًّا إن أردنا حقًا البدء في المشروع.
ولا يقتصر الأمر على الطلاب فحسب، بل يجب إدماج المعلمين أيضًا في إطار برامج مكثفة لمحو الأمية التقنية حتى يستطيعوا مواكبة تحديث النظام التعليمي؛ إذ لا مجال مستقبلياً للمنافسة في المجال التقني مع نظم تعليمية قائمة حاليًا أصبح فيها الواقع الافتراضي والواقع المعزز أمورًا بدهية، فكيف يمكن لنا منافستها وأنظمتنا التعليمية ما تزال هي ذاتها على مدى عقود؟! إلا من اختلافات شكلية لا تسهم في أي ثورة تقنية حقيقية.
تعبئة مجتمعية
ثم يأتي بعد ذلك دور المؤسسات وفي مقدمتها المؤسسات الإعلامية والمنظمات المجتمعية التي يجب عليها أن توجه خطابها التوعوي ودعمها المادي باتجاه المشاريع التي تدفع بالنهوض التقني، وأيضاً إعطاء قضية المستقبل التكنولوجي حقها من الاهتمام والتعبئة المجتمعية.
والأمر ينسحب ليصل إلى الأسرة أيضاً فالواجب يقتضي أن نصبح أكثر حماساً عندما نُرغِّب أبناءنا في مهن مستقبلية تتعلق بالحاسوب ومشتقاته؛ إذ إن الوظائف المتاحة مستقبلاً هي تلك المتعلقة بتكنولوجيا المعلومات من برمجة وتطوير وأمن تقني.
وفي عصرٍ ستصبح فيه القوة التكنولوجية هي المعادل الوحيد لقوى الطبيعة، فإن الجهل التقني في أي مجتمع سيودي به في غياهب التخلف والاستغلال من قبل قوى تملك إنتاج هذه التقنية، وإذا كنا نعيش الآن زمن التدفق المعلوماتي اللانهائي، فإننا نستنتج نظرية أخرى هي أن اامتلاك المعرفة ليس بتلك الأهمية التي يحتلها امتلاك التقنيةب، فخريج كلية العلوم يمتلك التفاصيل المعرفية الكاملة لإنتاج قنبلة ذرية لكن هذه المعرفة في غياب التقنية التطبيقية لها تظل بلا فائدة عملية، ومن هنا تظهر الأهمية الكبرى للجانب التقني مقارنة بالجانب المعرفي.
وما دمنا غير قادرين على إنتاج تقنياتنا التي نحتاجها فإننا سنظل مُستخدَمين لا مُستخدمين، فالمؤسسات المنتجة للتقنية حالياً لديها الكثير من المشاريع والميول التي تجعل المتكئين عليها تحت رحمة قراراتها، وعالمنا اليوم صار تحت إدارة أولئك الأعضاء الرئيسيين في منظومة صناعة وتطوير أنظمة التشغيل الرقمية، والبشرية تدخل فعلاً مرحلة احرب التطبيقاتب التي سيؤدي اشتعالها أكثر إلى ولادة امبراطوريات رقمية تُحكم قبضتها على الكوكب ■