«بعد النهاية»... رواية القارئ الشّبح

«بعد النهاية»... رواية القارئ الشّبح

يُطلق على كاتب السيرة الذاتية في الغرب «الكاتب الشّبح»، فهو يكتب سيرة شخص آخر بأسلوبه الأدبي، ولا ينشرها إلا بعد موافقة صاحب السيرة الأصلي، ويحصل على أجر مقابل كتابته من دار النشر، أو من صاحب السيرة، فهو كاتب أجير، لكن له حق الحصول على المعلومات التي يرغب فيها لتكون لديه فكرة جيدة عن الموضوع الذي يكتبه.
وقد استخدم الكاتب الصيني تشو دا شين هذا الكاتب الشبح ليكون بطلًا لروايته «بعد النهاية... انتهى العرض والجمهور لم يغادر»، التي ترجمها د. يحيى مختار، ونشرها «بيت الحكمة للاستثمارات الثقافية» بالقاهرة هذا العام.

استخدم الكاتب بطله ليحلّ محل القارئ، لا مكان بطل السيرة الذاتية التي يكتبها، كما استخدم لروايته إطارًا أقرب إلى الصحافة الاستقصائية، ليعرض فيه أحداث عمله المثير للتأمل.

يُطلق على كاتب السيرة الذاتية في الغرب «الكاتب الشّبح»، فهو يكتب سيرة شخص آخر بأسلوبه الأدبي، ولا ينشرها إلا بعد موافقة صاحب السيرة الأصلي، ويحصل على أجر مقابل كتابته من دار النشر، أو من صاحب السيرة، فهو كاتب أجير، لكن له حق الحصول على المعلومات التي يرغب فيها لتكون لديه فكرة جيدة عن الموضوع الذي يكتبه.
وقد استخدم الكاتب الصيني تشو دا شين هذا الكاتب الشبح ليكون بطلًا لروايته «بعد النهاية... انتهى العرض والجمهور لم يغادر»، التي ترجمها د. يحيى مختار، ونشرها «بيت الحكمة للاستثمارات الثقافية» بالقاهرة هذا العام.

يموت السيد أويانغ وانتونغ، حاكم مقاطعة تشنغ خه، فتقرر أرملته أن تخلّد ذكراه وأعماله العظيمة، ورحلة كفاحه المجيد، في كتاب يكتبه كاتب سيرة ذاتية متخصص.
لا نعرف اسم كاتب السيرة الذاتية، ولا أي شيء آخر عنه، لا تاريخه، ولا صفاته الشخصية ولا ملامحه الخارجية، ولا مدى رضاه أو عدم رضاه عن القيام بهذه المهمة، وهل يعتبر نفسه يقوم بعمل مجيد فعلًا، أم هو مجرد «أكل عيش»، لكنّ كل شخصيات العمل توجه حديثها إلى هذا الكاتب الشبح المجهول، ومن خلال حديث الشخصيات يمكننا أن نعرف كل تفاصيل حياة أويانغ وانتونغ منذ طفولته حتى موته.
اعتادت الأعمال الأدبية التي تقدم سيرًا ذاتية لسياسيين أو حكّام أو مشهورين في مجالات مختلفة أن تبيّن الأسرار المسكوت عنها في حياة هؤلاء، خصوصًا الأسرار المثيرة المخزية، لكنّ الروائي الصيني تشو دا شين يقدّم شخصية مختلفة، سياسي نادر الوجود، كفء في أداء عمله، محب لمواطنيه، يعمل لمصلحة مقاطعته وبلده، لا يخضع لأية مغريات مادية أو جنسية أو تهديدات، ولهذا التقديم هدفان سنعرفهما بعد ذلك.

المفتاح الذهبي
تقدم رواية «بعد النهاية... انتهى العرض والجمهور لم يغادر» قصة صعود فتى فقير، ليصبح في أعلى الهرم السياسي، متسلحًا بالعلم والعمل الدؤوب والذكاء والخبرة المتراكمة والنزاهة التي لا تعرف تهاونًا، وذلك من خلال شهادات أسرته، ومعاونيه، ورؤسائه، وحتى أعدائه، فلم يستطع أحد أن يطعن في نزاهته وهو حي أو وهو ميت، فيشعر القارئ أنه أمام شخصية قدّمت كل شيء، وحصلت أيضًا على كل شيء، شخص عاش كما يحب، ومات كما يتمنى، وسيظل ذكره في تاريخ بلده طويلًا دون أن يُنسى... «معذرة، كل ما قلته سابقًا حقيقي تمامًا، وهو خدعة أيضًا، فلننتبه»!
إن تحليل العناصر الرئيسة للعمل بداية من العنوان، وفهرس المحتويات، وأسلوب تقديم العمل، وفكرته، ستوضح الألعاب التقنية والفكرية الممتعة التي قدّمها الروائي بتعقيد كبير في بنائها وبساطة أكبر في تنفيذها، رغم أن القارئ قد لا يشعر بذلك إن لم يقدّم تحليلًا دقيقًا لها.
عنوان الرواية الأصلي هو «انتهى العرض والجمهور لم يغادر»، لكنّ المترجم جعل هذا العنوان عنوانًا فرعيًا، ووضع بدلًا منه في الصدارة عنوانًا آخر هو «بعد النهاية»، ولا ألوم المترجم، فعنوان «بعد النهاية» مناسب جدًا للعمل، ومناسب لذائقة القارئ العربي الذي يميل عادة إلى العناوين القصيرة الدالّة، ووجود عنوانين للعمل أعطى ثراء في التأويل، لكنّنا لو اكتفينا بتحليل العنوان الأصلي للرواية لأعطانا المفتاح الذهبي لفهم الكثير من ألعابها وموضوعاتها.

الجمهور لم يغادر
انتهى العرض؛ فقد مات حاكم المقاطعة، وكذلك فقد تم تقديم كل التفاصيل الخفية المخزية للفساد الإداري المتغلغل في هذه المقاطعة الخيالية التي تعد نموذجًا لكل ما هو واقعي، حيث تم تقديم شخصية نزيهة طاهرة، لتكشف أن الجميع هم عكس ذلك، ويبرز هذا التضاد مدى انتشار الفساد وقوته، كما انتهى العرض، لأن العمل وضع بين يدي القارئ كل ما يحتاج إليه ليكوّن وجهة نظره الخاصة من دون أية إملاءات عنيفة أو ناعمة أو أية محاولات لتوجيهه، كل الوقائع بين يديه وهو حرّ التصرف فيها تمامًا.
والجمهور لم يغادر؛ لأنّ الجمهور هو الهدف الأول والأخير، فهو الذي يجب أن يعرف الحقيقة، وهو القاضي التي تجلس أمامه شخصيات الرواية من أهل القمة على كرسي اعتراف ممتد بطول صفحات الرواية، فقد استخدم الروائي ذلك الكاتب الشبح ليكون في الحقيقة هو بديل القارئ، فالشخصيات تتكلم أمامه بكل ما تعرفه، وتبوح بأسرارها وهي تعرف أنه لن يؤذيها، لكن ما يقدّمه الروائي لنا كقراء ليست رواية، بل المادة التي جمعها الكاتب الشبح ولم يعمل عليها بعدُ، وعلى كل قارئ أن يضع نفسه مكان هذا الكاتب، ليعمل هو (القارئ) على المادة الروائية التي بين يديه، ليعيد التفكير فيها، ويعيد صياغتها، لتكون له روايته الخاصة بالأحداث، ووجهة نظره هو كقارئ وليس أي شخص آخر، فذلك الكاتب الشبح لم يكن إذن سوى ممثّل جميع القراء في الاستماع إلى اعترافات الأشخاص، وربما يكتب هو فيما بعد روايته الخاصة بناء على المادة التي جمعها.

فهرس المحتويات
أما فهرس المحتويات فيحتوي على:
أولاً: نعي حاكم المقاطعة السيد أويانغ أونتونغ؛ وهو نعي رسمي قصير يشيد بمناقب الموظف الكبير الراحل. وهذا المدخل يؤكد به الروائي الطابع الاستقصائي والتوثيقي للعمل، كما يعقد به ميثاقًا مع القارئ أن يقدّم له مادة روائية خامًا بحيادية البيانات الرسمية.
ثانيًا: تجميع تسجيلات المقابلات (وفقًا لترتيب التسجيلات): وهي سبعة وعشرون مقابلة مع ستة وعشرين شخصية، إذ تبدأ المقابلات مع أرملة الراحل، وتنتهي بمقابلة ثانية معها، حيث يكتشف القارئ أنها كانت تكنّ له بغضًا كبيرًا، نظرًا لأنه دمّر حياة أسرتها وهي طفلة من دون أن يدري، بسبب ظروف عمله، ونكتشف من خلال هذه المقابلات كيف يرى كل هؤلاء الراحل، حيث تكمل كل شهادة جانبًا غامضًا أو ناقصًا من شهادة أخرى، وتتصارع كل المشاعر والأفكار الإنسانية حول الرجل وأعماله، الحب والبغض، والكراهية والإعجاب، والإيمان بالنزاهة، مهما يكن الثمن مقابل الاهتمام بالمصلحة الشخصية على حساب مصلحة الوطن، لكن أهم ما نكتشفه الأسباب الحقيقية لنزاهة الحاكم الراحل، فهو فعلًا لم يكن فاسدًا ولا مرتشيًا، لكن ليس لرفضه الفساد، بل لخوفه من نتيجة انكشاف المفسدين، حيث تدمّر حياتهم وينتهون بالسجون، وهو عندما يكون في أزمة وظيفية كبرى يلجأ لصديقه الجنرال الكبير الفاسد ليحلّ له هذه المشاكل بالوساطة، ومع ذلك يلوم الجنرال، ويطلب منه أن يكون أقل فسادًا حتى لا يفتضح أمره ويسجن، كما يحدث بالفعل للجنرال بعد ذلك، بل إن الحاكم الراحل هو الذي خطط حياة هذا الجنرال ليتزوج من ابنة قائد عظيم بالجيش، ويصبح في منصب كبير، ليستفيد منه بعد ذلك، فهو موظف يعرف كيف تدار الأمور، وكيف يساند الكبار بعضهم بعضًا مهما يكون فسادهم، وهو يستفيد من هذا الوضع، وإن لم يفعل الأمور الدنيئة بنفسه. وهو يعطي مثالًا محترمًا للموظف العام الذي يعتذر للمواطنين عندما تخطئ إدارته، ويعمل على تصحيح الأخطاء، لكنه أثناء ذلك يمكن أن يتمسك برأيه أو يحمي مرؤوسيه لمجرد ثقته بهم، لدرجة التسبب في تدمير حياة الآخرين. 
وهو يضعف أمام جمال الممثلة الشابة التي أحبته بصدق، ورغبت في أن تعطيه نفسها، ويقترب من التعدي عليها، ثم يتراجع، وهو يبدو في تراجعه موظفًا مذعورًا من عاقبة انكشاف أمره أكثر من كونه رجلًا نبيلًا يحمي فتاة صغيرة، ورفضه الدائم لقبول رشوة، ليقينه من مصير مَن يرتشي، وهو اليقين الذي ترسخ بدخول زوجته الأولى السجن نتيجة قبولها للرشوة.

لعبة أساسية
يفطن القارئ إلى كل ذلك، حتى وإن بدا العكس على سطح الرواية، فهذه هي اللعبة الأساسية التي يغازل بها الروائي قارئه، وكأنه ينبهه إلى أنه حتى الوقائع المجردة ليست دائمًا كما تبدو، ويمكن أن تكون لها تفسيرات أخرى، ويؤكد في الوقت ذاته أنه إذا كان النظام نفسه فاسدًا، فمن المستحيل أن يكون هنا موظف كبير في هذا النظام غير فاسد، لكن يمكن أن يوجد ذلك الموظف الذي يحافظ على نفسه من السقوط في هاوية دفع ثمن الفساد، لأنه من الذكاء بحيث يعرف آليات عمل النظام، ويجيد التعامل معها.
ثالثًا: المقتنيات الموجودة داخل خزانة أويانغ وانتونغ الخاصة: وهي صيغة لتذكير القارئ بطبيعة المادة الروائية التي يقرأها، ثم لتأكيد أن حياة هذا الرجل ضاعت هباء، فأهم هذه المقتنيات لوحة رسمها الراحل، ونوتة موسيقية لأغنية كان يحبها ويجيد عزفها.
تلك أهم مقتنياته، أحلامه التي لم تتحقق، وبدلًا منها أصبح موظفًا كبيرًا صاحب سلطة لا محدودة، وخوف أكبر من أن تضيع هذه السلطة، فبدا مالكًا للسلطة، بينما هو في الحقيقة عبدٌ لها.

صيغة إخبارية باردة
رابعًا: التقرير الوارد في «جريدة تشينغ خه» المسائية حول مراسم تأبين جثمان أويانغ وانتونغ: وهي صيغة إخبارية باردة لوداع الراحل الكبير، وساخرة أيضًا، حيث انتصر أعداؤه من المفسدين بوضع تظاهرات أمام جنازته تحمل لافتات تقول: «فلنبتهج جميعًا بإرسال المسؤول الإقطاعي أويانغ وانتونغ إلى الجحيم»! (ص 552)، تلك السخرية المرّة التي تؤكد أنه لا يمكن أن تنتصر النزاهة ولو شكلية أو بدافع الخوف في نظام يحكمه الفساد، «مَن ليس فاسدًا فهو أحمق» (ص 95). «كم مسؤولاً الآن لا يستخدم سلطته» (ص 138). «لو كنت الوحيد الفاسد لافتضح أمري سريعاً» (ص 323).
فرواية «بعد النهاية... انتهى العرض والجمهور لم يغادر» تسعى إلى إيقاظ وعي القارئ، بأن تعطيه الحقائق المجردة، ثم تسخر من تلك الحقائق، لأنها ذات وجوه عدة ربما أكثرها زيفًا وجهها الظاهر، وتطلب منه أن يرى واقعه بعمق وليس كما يُراد له أن يراه، حيث تضع القارئ مكان الكاتب الشبح، ليحصل بنفسه على الوقائع، ثم يعيد تركيبها وترتيبها، ليستخلص المعنى العام للرواية، ومن ثمّ للنظام الذي تفضحه، والحياة المتردية التي يعيشها البسطاء في ظل هذا النظام ■