سعاد الصباح والحياة في سياق الفَقد

في مراثي الأعزاء الراحلين، تتطلب استعادة الصور الحيوية قدرًا معتبرًا من السكينة، والهدوء النفسي، والاتزان، وتتطلب الخروج من حال الفوران العاطفي الحادّ، واللوعة الحزينة، إلى الاعتصام بالقدرة على الرسم بالكلمات، وضمّ الخاطر إلى الخاطر، واللمحة إلى اللمحة في عقد نظيم، ثم الانتقاء من طيوف التذكر ما يرضي القيم الجمالية للإبداع، ويلامس أوتارًا حسّاسة لدى المتلقي.
وإذا كان الإفراط في الانفعال يحول دون التركيز في الكتابة، والانشغال بالذات عن الموضوع؛ فإن لحظة الإبداع تقتضي دائمًا ذلك الاتزان الانفعالي دون قمع العواطف، الخيط دقيق، لكنّه مُدرك منذُ زمن بعيد، ولهذا يتجدّد تساؤل هاملت لصديقه هوراشيو: «أين هذا الإنسان مَن ليس عبدًا لعاطفته (ولو لبعض الوقت)، ليسكنَ مهجتي، والعين، وسويداء القلب...؟!».
استغرقت الشاعرة سعاد الصباح في الانفعال العاطفي الذي حال دون الإمساك بلحظة الكتابة الإبداعية المُرْضية، مدة عامين من عمر التأثر البليغ برحيل ابنها البكر مبارك، وقد غاله الموت في عُمر الزهور وعمره اثنا عشر عامًا، ثم تتابعت مراثيها، كما ديمة اختزنت ماءها زمنًا طويلًا، ثم انهمر مطرها بعد طول حبسة، لقد تكثّفت الذكريات والرؤى، والأحزان حتى ثقُلت، ونأت بحملها، وعندما هبت رياح العودة، جاءت قصائد ديوان «إليك يا ولدي» (صدرت طبعته الأولى في عام 1982)، كما لو كانت قصيدة واحدة، كتبت في أوقات متقاربة، وليس بعيدًا عن هذا التصور، أن تحمل إحدى القصائد عنوان «أمطري يا سماء»، وأن تنطوي على ذلك التماهي الشفيف بين مطر السماء، وأحزان الشاعرة، ووجع الكتابة:
أجلْ أمطري... ذوّبيني أسًى
خُذيني بسيْلك قطرةَ ماءْ
لعلّي أسيلُ على قبرهِ
وأَسْقيهِ في لَهْفتي ما أشاءْ
لعلّي أسقط في قَفْرةٍ
فأُحْيي الجياعَ، وأسقِي الظِّماءْ
والشاعرة تستقبل العودة إلى الكتابة، ونظم الشعر تحديدًا - بعد عامين من الصمت الممضّ - باحتفاء خاصّ، تمثّل في مقاطع من مجزوء الرمل (ثم وافى بعد عامين بشجوي يترنّم)، جعلتها «مقدمة» للديوان، وبكل المقاييس فإن العودة كانت بالنسبة لها حميدة سعيدة، وتطوي تقديرًا عاليًا للكلمة حين تكون رفيقًا للإنسان في كل أحواله، وأولاها بالعناية، حال المحنة، فتغدو بلسمًا، وضمادًا للجراح النازفة.
مناجاة حميمة
في «المقدمة» الشّعرية لديوان «إليك يا ولدي»، لا يتوقّف التقدير الخاص للقلم، الرمز العتيد للكتابة والتعبير، عند ذلك المظهر الحسّي القريب (ها أنا أمطره اليوم أحرَّ القبلات)، بل نجد المقاطع الأربعة الأخيرة منها، تختّص بمناجاة حميمة له، ومع المناجاة يحدثُ الالتفات الأسلوبي من الغيبة والتكلّم إلى المخاطب، من (هو) إلى (أنت)، ويتردد هذا الضمير الأخير لإنتاج أوصاف القلم التي بلغت في هذه المقاطع اثني عشر وصفًا مفردًا، مثل: ولدي الروحي، راحة النفس، صديق العمر، أمين العهد...، وهي أوصاف تنتمي للحقلين الروحي والإنساني، ومعها ندرك مدى التصاق القلم بالذات الشاعرة، بوصفه رفيقًا لآلام الكتابة ومسراتها.
ومن خلال الكلمة «الغنائية» تتحدد رسالة الشعر عند الشاعرة، وتنكشف المحاور الكبرى لتجربتها الشعرية، التي تعددت مراحلها، وامتدت لتقارب الخمسين عامًا، فبعد ديوان «إليك يا ولدي»، تُصدر اثني عشر ديوانًا، آخر هذه الدواوين أخذ عنوان «الشعر والنّثر... لك وحدك» الصادر في عام 2016.
إن الشعر لديها يولّي وجهه نحو أربع جهات:
- جهة المراثي، ومراثي الابن البكر منها في الصدارة، وكذلك مراثي زوجها الشيخ عبدالله المبارك الصباح (ت. 1991م)، نائب حاكم الكويت إبان حكم الشيخ عبدالله السالم الصباح (ت. 1965م).
- جهة الانتماء الوطني لبلدها الكويت، والأسرة الحاكمة فيها، وأهل الكويت وميراثهم الاجتماعي والثقافي، والخلقي الأصيل، ويتّصل بها التوجه العروبي وقضاياه.
- جهة عاطفة الحب، رومانسيًا كان أم متمردًا، ومن أجلى الدواوين تجسيدًا لها، هو ديوانها الصادر في عام 1985 بعنوان «فتافيت امرأة».
- جهة الإنسان وحقوقه، وسائر قضاياه، على تعدّد الأزمنة، واتساع الأمكنة، وكانت حقوق المرأة أولى القضايا بالاهتمام والعناية بطموحاتها، ومواجهة الأعراف والتقاليد القاسية المفروضة عليها، وتوزعت على دواوين عدة، مثل ديوان «في البدء كانت الأنثى» (1988)، و«امرأة بلا سواحل» (1994).
تفاصيل دقيقة
تستحضر الشاعرة التفاصيل الدقيقة عبر أكثر من قصيدة، لتكوّن صورة حياة حبيبة أنيسة للابن الراحل، وعبر الأحلام - وهي ابنة اللهفة والأشواق - تتشكّل إحدى هذه الصور، ففي قصيدة «أحبّك حبًا كثيرًا» تتلقّى الأم وعدًا بالزيارة - وما أكثر وعود الأحلام - فتتهيأ للقاء بكل جميل، ويغمر البشر والحبور الأجواء حولها نورًا وعبيرًا وغناء، لكنّ الزمن يمضي ثقيلًا، والحُلم يتبدد، والوهم يتكشّف عن حقيقة أليمة، فالحبيب المنتظر كما هو باقٍ في عالَمه العلويّ، ومع تبدّل الحال تتبدل المشاعر، وتكتسي الصورة/ الذكرى بأطياف الحزن الأبدي:
وأمضي إلى الغابِ وحدي، فلا أستشفُّ العبيرَا
وتهتاجُني ذكرياتي، وتوشكُ أن تستجيرا
وتأخذني في دروبٍ، أطلنا عليها المسيرا
وتنقُلُني في رياضٍ، سكَبْنا عليها العطورا
وتُغرقني في أمانٍ، بنينا عليها القصورا
وكفُّك في حضْن كفّي، سعيدًا، حنونًا، قَريرا
وما زلتَ أنت المُفدَّى، وما زلت أنت الأثيرا
وما زلت حلمي المرجَّى، وما زلت عندي الأميرا
وما زلت نورًا لعيني، وما زلت حبّي الكبيرا
تطوي هذه الصورة المستعادة من خزانة الذكريات أزمنة ثلاثة، زمن الحدث، وزمن الاستعادة، وزمن القراءة، ويأتي زمن الحدث مصحوبًا بالوحدة والحزن والغروب، ومستمدًا وجوده من أفعال تنقلنا إلى الماضي الذي انقضى، مثل: أطلنا، سكبنا، بنينا عليها القصورا.
أما زمانا الاستعادة والقراءة، فيستمدان الوهج والحضور من خلال أفعال المضارعة المتلاحقة: أمضي، أستشفّ، تهتاجني، توشك، تأخذني، تنقلني، تغرقني.
وهي تستحضر الصورة، والحركة الحية في حالتيها هدوءًا وانطلاقًا، كما أن «ما زلت» المتصلة بالمخاطب، والمردوفة بالضمير المنفصل «أنت» الذي يؤكد الحضور، ثم تكرار التركيب بهذه العلامات اللغوية في أبيات الختام، يمنح النص دلالات التجدد والوجود العاطفي المستمر.
شعوران متناقضان
يترافق مع هذه الكثافة في الزمن الحاضر، شعوران متناقضان ظاهرًا؛ لكنهما ممتزجان في الموقف النفسي، الأول شعور الأسى والحزن، أو شعور ما بعد اليقظة، ومعه تنتحر الشمس، وتبكي لحظة غروبها، ويسود البرد والظلمة، في تعادل طبيعي لكل غروب وكلّ موت.
أما الآخر فشعور البهجة والأُنس، شعور الحلم، حين يأخذها التذكّر إلى رحلة بعيدة، إلى الغابة العامرة بالأشجار والأطيار، والأريج، ينطلقان معًا في أمان الله ورعايته، وكفّ الأم تحتضن كف الصغير، في مشهد ودود، وافر العذوبة والنقاء.
ليست الأحلام وحدها التي تستجلب الذكرى، وتستحضر صورة حيوية في سياق الفقد، فقد كان المكان أيضًا مثيرًا لافتًا في هذه السبيل، ففي قصيدة «بيتك الأخير»، تنبعث الذكريات من مرقدها، والشاعرة تقدّم لها، فتقول: «كان لنا بيت جميل في الهرم، أقصى ما كنّا نتمنى أن يكون بيتًا لمبارك مع عروسه، لكنّ القدَر كان أقسى منّا، فكان مرقده الأخير، ودفن في البيت الذي كان يحبه».
ثم يكون الدخول مباشرًا في رسم معالم المكان، واستمطار الصورة اليومية التي تقاسمتها مع الابن الحبيب، مستندةً في ذلك إلى خطاب المناجاة، وكاف الخطاب، وإذا كان الحوار فيها من طرف واحد، فإن الأساليب تأتي منوّعة، فتبدأ بسؤال المخاطب سؤال المشوّق الذي يودّ أن يضم أطراف الذكرى جميعها، ويجلب الحنين تفصيلًا محببًّا عن ساعات الّلهو البريء في حديقة البيت العامرة:
أترى تذكرُ مَرْأى شجراتِ البرتقالْ؟
في جوار الهَرمِ الشّامخِ ما بين التِّلالْ
حيث كان اللهْوُ يحلو لكَ في تلك الظّلال
بين أترابكَ في البيت، وفيهنَّ «نَوال»
ها... هنا يا ولدي، نورك عن دنيايَ مال
ها... هنا غُيِّبْتَ عنّي... وتوسَّدْتَ الرمال
حين كان القمرُ المحزونُ يمضي للزَّوَالْ
ختام درامي
تبدو هذه الصور الطفولية، وهي تقطرُ عذوبة، معينًا ثرًّا للأم الثكلى، وعلى وقع خطواتها تكون اللحظات التي تعدلُ عمرًا من البهجة، وبإضافة الأتراب إلى كاف الخطاب أو إلى الابن مبارك، فإنّ المحبّة الضافية تشملهم جميعًا، أليسوا أصدقاء مبارك وزملاءه؟ لكنّ اسمًا من بينهم جميعًا يبرز ساطعًا، ويختص بتتويج قافية البيت الرابع، إنه اسم «نوال»، ولا أحسب أنه جاء اقتضاء لحاجة القافية إليه، فهو يلوح لي اسمًا لشخصية حقيقية، فهل تراها كانت عروس المستقبل؟ خصوصًا وأن الشاعرة أشارت في المقدمة النثرية إلى عروس البيت، وإن استحال أملًا موؤودًا، واللافت أن اسم البنت بوصفه علامة سيميائية، يتضاد دلاليًا مع نهاية القصة الحزينة، فقد تلاشى كل «نوال» حين مال نور العين مبارك عن دنيا الأم، وألقت به يد الردى العاتية في غيابة الرمال.
ولا نودّ أن نغادر الصورة الحيوية، دون الإلماح إلى صورة القمر المحزون الذي يمضي للزوال، فهي وإن مثّلت ختامًا دراميًّا للصورة، فإنها تقيم معادلًا موضوعيًّا للابن الذي غُيّب في سنّ الفتوة، بعد أن شبَّ عن الطوق، وأوفى للكمال.
إن الطبيعة تتجاوب مع أحزان الشاعرة، كما تتجاوب الأصوات في معبد الصلوات، فالقمر يترك منازل النور في حركة وئيدة ليستقر في محاق الظلام، والماء يُضحى سرابًا، والبيت الجميل يغدو مثوى للأحلام والآمال المهيضة، وكم كانت في حياة الابن الحبيب حلوة المنال.
وبهذه الصور الحيوية المتدفقة، يرحّب النص الرثائي في ديوان «إليك يا ولدي»، ولا يقف عند تخوم النّدب والبكاء، بل يتجاوز الاعتقاد القديم لدى ناقد مثل ابن رشيق القيرواني (ت. 456هـ) الذي يرى أن «أشد أنواع الرثاء صعوبة على الشاعر أن يرثي طفلًا أو امرأة؛ لضيق الكلام عليه فيهما، وقلّة الصفات»؛ لكنّ توفُّر الشاعرة الراثية على جوانب دالّة، ومواقف أثيرة، ومشاعر متجددة تجاه الراحل المقيم، تغذي - ولا ريب - تجربتها الرثائية بأوفى غذاء، لتتجاوب فيها - بأريحيّة - الحركات والأصوات والأصداء■