سعاد الصباح والحياة في سياق الفَقد

سعاد الصباح والحياة في سياق الفَقد

‭ ‬في‭ ‬مراثي‭ ‬الأعزاء‭ ‬الراحلين،‭ ‬تتطلب‭ ‬استعادة‭ ‬الصور‭ ‬الحيوية‭ ‬قدرًا‭ ‬معتبرًا‭ ‬من‭ ‬السكينة،‭ ‬والهدوء‭ ‬النفسي،‭ ‬والاتزان،‭ ‬وتتطلب‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬حال‭ ‬الفوران‭ ‬العاطفي‭ ‬الحادّ،‭ ‬واللوعة‭ ‬الحزينة،‭ ‬إلى‭ ‬الاعتصام‭ ‬بالقدرة‭ ‬على‭ ‬الرسم‭ ‬بالكلمات،‭ ‬وضمّ‭ ‬الخاطر‭ ‬إلى‭ ‬الخاطر،‭ ‬واللمحة‭ ‬إلى‭ ‬اللمحة‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬نظيم،‭ ‬ثم‭ ‬الانتقاء‭ ‬من‭ ‬طيوف‭ ‬التذكر‭ ‬ما‭ ‬يرضي‭ ‬القيم‭ ‬الجمالية‭ ‬للإبداع،‭ ‬ويلامس‭ ‬أوتارًا‭ ‬حسّاسة‭ ‬لدى‭ ‬المتلقي‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬الإفراط‭ ‬في‭ ‬الانفعال‭ ‬يحول‭ ‬دون‭ ‬التركيز‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬والانشغال‭ ‬بالذات‭ ‬عن‭ ‬الموضوع؛‭ ‬فإن‭ ‬لحظة‭ ‬الإبداع‭ ‬تقتضي‭ ‬دائمًا‭ ‬ذلك‭ ‬الاتزان‭ ‬الانفعالي‭ ‬دون‭ ‬قمع‭ ‬العواطف،‭ ‬الخيط‭ ‬دقيق،‭ ‬لكنّه‭ ‬مُدرك‭ ‬منذُ‭ ‬زمن‭ ‬بعيد،‭ ‬ولهذا‭ ‬يتجدّد‭ ‬تساؤل‭ ‬هاملت‭ ‬لصديقه‭ ‬هوراشيو‭: ‬‮«‬أين‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬مَن‭ ‬ليس‭ ‬عبدًا‭ ‬لعاطفته‭ (‬ولو‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت‭)‬،‭ ‬ليسكنَ‭ ‬مهجتي،‭ ‬والعين،‭ ‬وسويداء‭ ‬القلب‭...‬؟‭!‬‮»‬‭.‬

استغرقت‭ ‬الشاعرة‭ ‬سعاد‭ ‬الصباح‭ ‬في‭ ‬الانفعال‭ ‬العاطفي‭ ‬الذي‭ ‬حال‭ ‬دون‭ ‬الإمساك‭ ‬بلحظة‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬المُرْضية،‭ ‬مدة‭ ‬عامين‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬التأثر‭ ‬البليغ‭ ‬برحيل‭ ‬ابنها‭ ‬البكر‭ ‬مبارك،‭ ‬وقد‭ ‬غاله‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬عُمر‭ ‬الزهور‭ ‬وعمره‭ ‬اثنا‭ ‬عشر‭ ‬عامًا،‭ ‬ثم‭ ‬تتابعت‭ ‬مراثيها،‭ ‬كما‭ ‬ديمة‭ ‬اختزنت‭ ‬ماءها‭ ‬زمنًا‭ ‬طويلًا،‭ ‬ثم‭ ‬انهمر‭ ‬مطرها‭ ‬بعد‭ ‬طول‭ ‬حبسة،‭ ‬لقد‭ ‬تكثّفت‭ ‬الذكريات‭ ‬والرؤى،‭ ‬والأحزان‭ ‬حتى‭ ‬ثقُلت،‭ ‬ونأت‭ ‬بحملها،‭ ‬وعندما‭ ‬هبت‭ ‬رياح‭ ‬العودة،‭ ‬جاءت‭ ‬قصائد‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬إليك‭ ‬يا‭ ‬ولدي‮»‬‭ (‬صدرت‭ ‬طبعته‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1982‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬قصيدة‭ ‬واحدة،‭ ‬كتبت‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬متقاربة،‭ ‬وليس‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬التصور،‭ ‬أن‭ ‬تحمل‭ ‬إحدى‭ ‬القصائد‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬أمطري‭ ‬يا‭ ‬سماء‮»‬،‭ ‬وأن‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬التماهي‭ ‬الشفيف‭ ‬بين‭ ‬مطر‭ ‬السماء،‭ ‬وأحزان‭ ‬الشاعرة،‭ ‬ووجع‭ ‬الكتابة‭:‬

أجلْ‭ ‬أمطري‭... ‬ذوّبيني‭ ‬أسًى

خُذيني‭ ‬بسيْلك‭ ‬قطرةَ‭ ‬ماءْ

لعلّي‭ ‬أسيلُ‭ ‬على‭ ‬قبرهِ

وأَسْقيهِ‭ ‬في‭ ‬لَهْفتي‭ ‬ما‭ ‬أشاءْ

لعلّي‭ ‬أسقط‭ ‬في‭ ‬قَفْرةٍ

فأُحْيي‭ ‬الجياعَ،‭ ‬وأسقِي‭ ‬الظِّماءْ

‭ ‬والشاعرة‭ ‬تستقبل‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة،‭ ‬ونظم‭ ‬الشعر‭ ‬تحديدًا‭ - ‬بعد‭ ‬عامين‭ ‬من‭ ‬الصمت‭ ‬الممضّ‭ - ‬باحتفاء‭ ‬خاصّ،‭ ‬تمثّل‭ ‬في‭ ‬مقاطع‭ ‬من‭ ‬مجزوء‭ ‬الرمل‭ (‬ثم‭ ‬وافى‭ ‬بعد‭ ‬عامين‭ ‬بشجوي‭ ‬يترنّم‭)‬،‭ ‬جعلتها‭ ‬‮«‬مقدمة‮»‬‭ ‬للديوان،‭ ‬وبكل‭ ‬المقاييس‭ ‬فإن‭ ‬العودة‭ ‬كانت‭ ‬بالنسبة‭ ‬لها‭ ‬حميدة‭ ‬سعيدة،‭ ‬وتطوي‭ ‬تقديرًا‭ ‬عاليًا‭ ‬للكلمة‭ ‬حين‭ ‬تكون‭ ‬رفيقًا‭ ‬للإنسان‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أحواله،‭ ‬وأولاها‭ ‬بالعناية،‭ ‬حال‭ ‬المحنة،‭ ‬فتغدو‭ ‬بلسمًا،‭ ‬وضمادًا‭ ‬للجراح‭ ‬النازفة‭. 

 

مناجاة‭ ‬حميمة

في‭ ‬‮«‬المقدمة‮»‬‭ ‬الشّعرية‭ ‬لديوان‭ ‬‮«‬إليك‭ ‬يا‭ ‬ولدي‮»‬،‭ ‬لا‭ ‬يتوقّف‭ ‬التقدير‭ ‬الخاص‭ ‬للقلم،‭ ‬الرمز‭ ‬العتيد‭ ‬للكتابة‭ ‬والتعبير،‭ ‬عند‭ ‬ذلك‭ ‬المظهر‭ ‬الحسّي‭ ‬القريب‭ (‬ها‭ ‬أنا‭ ‬أمطره‭ ‬اليوم‭ ‬أحرَّ‭ ‬القبلات‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬نجد‭ ‬المقاطع‭ ‬الأربعة‭ ‬الأخيرة‭ ‬منها،‭ ‬تختّص‭ ‬بمناجاة‭ ‬حميمة‭ ‬له،‭ ‬ومع‭ ‬المناجاة‭ ‬يحدثُ‭ ‬الالتفات‭ ‬الأسلوبي‭ ‬من‭ ‬الغيبة‭ ‬والتكلّم‭ ‬إلى‭ ‬المخاطب،‭ ‬من‭ (‬هو‭) ‬إلى‭ (‬أنت‭)‬،‭ ‬ويتردد‭ ‬هذا‭ ‬الضمير‭ ‬الأخير‭ ‬لإنتاج‭ ‬أوصاف‭ ‬القلم‭ ‬التي‭ ‬بلغت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المقاطع‭ ‬اثني‭ ‬عشر‭ ‬وصفًا‭ ‬مفردًا،‭ ‬مثل‭: ‬ولدي‭ ‬الروحي،‭ ‬راحة‭ ‬النفس،‭ ‬صديق‭ ‬العمر،‭ ‬أمين‭ ‬العهد‭...‬،‭ ‬وهي‭ ‬أوصاف‭ ‬تنتمي‭ ‬للحقلين‭ ‬الروحي‭ ‬والإنساني،‭ ‬ومعها‭ ‬ندرك‭ ‬مدى‭ ‬التصاق‭ ‬القلم‭ ‬بالذات‭ ‬الشاعرة،‭ ‬بوصفه‭ ‬رفيقًا‭ ‬لآلام‭ ‬الكتابة‭ ‬ومسراتها‭.‬

ومن‭ ‬خلال‭ ‬الكلمة‭ ‬‮«‬الغنائية‮»‬‭ ‬تتحدد‭ ‬رسالة‭ ‬الشعر‭ ‬عند‭ ‬الشاعرة،‭ ‬وتنكشف‭ ‬المحاور‭ ‬الكبرى‭ ‬لتجربتها‭ ‬الشعرية،‭ ‬التي‭ ‬تعددت‭ ‬مراحلها،‭ ‬وامتدت‭ ‬لتقارب‭ ‬الخمسين‭ ‬عامًا،‭ ‬فبعد‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬إليك‭ ‬يا‭ ‬ولدي‮»‬،‭ ‬تُصدر‭ ‬اثني‭ ‬عشر‭ ‬ديوانًا،‭ ‬آخر‭ ‬هذه‭ ‬الدواوين‭ ‬أخذ‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬الشعر‭ ‬والنّثر‭... ‬لك‭ ‬وحدك‮»‬‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2016‭.‬

  ‬إن‭ ‬الشعر‭ ‬لديها‭ ‬يولّي‭ ‬وجهه‭ ‬نحو‭ ‬أربع‭ ‬جهات‭:‬

‭- ‬جهة‭ ‬المراثي،‭ ‬ومراثي‭ ‬الابن‭ ‬البكر‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬الصدارة،‭ ‬وكذلك‭ ‬مراثي‭ ‬زوجها‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالله‭ ‬المبارك‭ ‬الصباح‭ (‬ت‭. ‬1991م‭)‬،‭ ‬نائب‭ ‬حاكم‭ ‬الكويت‭ ‬إبان‭ ‬حكم‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالله‭ ‬السالم‭ ‬الصباح‭ (‬ت‭. ‬1965م‭).‬

‭- ‬جهة‭ ‬الانتماء‭ ‬الوطني‭ ‬لبلدها‭ ‬الكويت،‭ ‬والأسرة‭ ‬الحاكمة‭ ‬فيها،‭ ‬وأهل‭ ‬الكويت‭ ‬وميراثهم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والثقافي،‭ ‬والخلقي‭ ‬الأصيل،‭ ‬ويتّصل‭ ‬بها‭ ‬التوجه‭ ‬العروبي‭ ‬وقضاياه‭.‬

‭- ‬جهة‭ ‬عاطفة‭ ‬الحب،‭ ‬رومانسيًا‭ ‬كان‭ ‬أم‭ ‬متمردًا،‭ ‬ومن‭ ‬أجلى‭ ‬الدواوين‭ ‬تجسيدًا‭ ‬لها،‭ ‬هو‭ ‬ديوانها‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1985‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬فتافيت‭ ‬امرأة‮»‬‭. ‬

‭- ‬جهة‭ ‬الإنسان‭ ‬وحقوقه،‭ ‬وسائر‭ ‬قضاياه،‭ ‬على‭ ‬تعدّد‭ ‬الأزمنة،‭ ‬واتساع‭ ‬الأمكنة،‭ ‬وكانت‭ ‬حقوق‭ ‬المرأة‭ ‬أولى‭ ‬القضايا‭ ‬بالاهتمام‭ ‬والعناية‭ ‬بطموحاتها،‭ ‬ومواجهة‭ ‬الأعراف‭ ‬والتقاليد‭ ‬القاسية‭ ‬المفروضة‭ ‬عليها،‭ ‬وتوزعت‭ ‬على‭ ‬دواوين‭ ‬عدة،‭ ‬مثل‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬في‭ ‬البدء‭ ‬كانت‭ ‬الأنثى‮»‬‭ (‬1988‭)‬،‭ ‬و«امرأة‭ ‬بلا‭ ‬سواحل‮»‬‭ (‬1994‭).‬

 

تفاصيل‭ ‬دقيقة

تستحضر‭ ‬الشاعرة‭ ‬التفاصيل‭ ‬الدقيقة‭ ‬عبر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قصيدة،‭ ‬لتكوّن‭ ‬صورة‭ ‬حياة‭ ‬حبيبة‭ ‬أنيسة‭ ‬للابن‭ ‬الراحل،‭ ‬وعبر‭ ‬الأحلام‭ - ‬وهي‭ ‬ابنة‭ ‬اللهفة‭ ‬والأشواق‭ - ‬تتشكّل‭ ‬إحدى‭ ‬هذه‭ ‬الصور،‭ ‬ففي‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬أحبّك‭ ‬حبًا‭ ‬كثيرًا‮»‬‭ ‬تتلقّى‭ ‬الأم‭ ‬وعدًا‭ ‬بالزيارة‭ - ‬وما‭ ‬أكثر‭ ‬وعود‭ ‬الأحلام‭ - ‬فتتهيأ‭ ‬للقاء‭ ‬بكل‭ ‬جميل،‭ ‬ويغمر‭ ‬البشر‭ ‬والحبور‭ ‬الأجواء‭ ‬حولها‭ ‬نورًا‭ ‬وعبيرًا‭ ‬وغناء،‭ ‬لكنّ‭ ‬الزمن‭ ‬يمضي‭ ‬ثقيلًا،‭ ‬والحُلم‭ ‬يتبدد،‭ ‬والوهم‭ ‬يتكشّف‭ ‬عن‭ ‬حقيقة‭ ‬أليمة،‭ ‬فالحبيب‭ ‬المنتظر‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬باقٍ‭ ‬في‭ ‬عالَمه‭ ‬العلويّ،‭ ‬ومع‭ ‬تبدّل‭ ‬الحال‭ ‬تتبدل‭ ‬المشاعر،‭ ‬وتكتسي‭ ‬الصورة‭/ ‬الذكرى‭ ‬بأطياف‭ ‬الحزن‭ ‬الأبدي‭:‬

وأمضي‭ ‬إلى‭ ‬الغابِ‭ ‬وحدي،‭ ‬فلا‭ ‬أستشفُّ‭ ‬العبيرَا

وتهتاجُني‭ ‬ذكرياتي،‭ ‬وتوشكُ‭ ‬أن‭ ‬تستجيرا

وتأخذني‭ ‬في‭ ‬دروبٍ،‭ ‬أطلنا‭ ‬عليها‭ ‬المسيرا

وتنقُلُني‭ ‬في‭ ‬رياضٍ،‭ ‬سكَبْنا‭ ‬عليها‭ ‬العطورا

وتُغرقني‭ ‬في‭ ‬أمانٍ،‭ ‬بنينا‭ ‬عليها‭ ‬القصورا

وكفُّك‭ ‬في‭ ‬حضْن‭ ‬كفّي،‭ ‬سعيدًا،‭ ‬حنونًا،‭ ‬قَريرا

وما‭ ‬زلتَ‭ ‬أنت‭ ‬المُفدَّى،‭ ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬أنت‭ ‬الأثيرا

وما‭ ‬زلت‭ ‬حلمي‭ ‬المرجَّى،‭ ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬عندي‭ ‬الأميرا

وما‭ ‬زلت‭ ‬نورًا‭ ‬لعيني،‭ ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬حبّي‭ ‬الكبيرا‭ ‬

تطوي‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬المستعادة‭ ‬من‭ ‬خزانة‭ ‬الذكريات‭ ‬أزمنة‭ ‬ثلاثة،‭ ‬زمن‭ ‬الحدث،‭ ‬وزمن‭ ‬الاستعادة،‭ ‬وزمن‭ ‬القراءة،‭ ‬ويأتي‭ ‬زمن‭ ‬الحدث‭ ‬مصحوبًا‭ ‬بالوحدة‭ ‬والحزن‭ ‬والغروب،‭ ‬ومستمدًا‭ ‬وجوده‭ ‬من‭ ‬أفعال‭ ‬تنقلنا‭ ‬إلى‭ ‬الماضي‭ ‬الذي‭ ‬انقضى،‭ ‬مثل‭: ‬أطلنا،‭ ‬سكبنا،‭ ‬بنينا‭ ‬عليها‭ ‬القصورا‭.‬

أما‭ ‬زمانا‭ ‬الاستعادة‭ ‬والقراءة،‭ ‬فيستمدان‭ ‬الوهج‭ ‬والحضور‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أفعال‭ ‬المضارعة‭ ‬المتلاحقة‭: ‬أمضي،‭ ‬أستشفّ،‭ ‬تهتاجني،‭ ‬توشك،‭ ‬تأخذني،‭ ‬تنقلني،‭ ‬تغرقني‭.‬

وهي‭ ‬تستحضر‭ ‬الصورة،‭ ‬والحركة‭ ‬الحية‭ ‬في‭ ‬حالتيها‭ ‬هدوءًا‭ ‬وانطلاقًا،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬‮«‬ما‭ ‬زلت‮»‬‭ ‬المتصلة‭ ‬بالمخاطب،‭ ‬والمردوفة‭ ‬بالضمير‭ ‬المنفصل‭ ‬‮«‬أنت‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يؤكد‭ ‬الحضور،‭ ‬ثم‭ ‬تكرار‭ ‬التركيب‭ ‬بهذه‭ ‬العلامات‭ ‬اللغوية‭ ‬في‭ ‬أبيات‭ ‬الختام،‭ ‬يمنح‭ ‬النص‭ ‬دلالات‭ ‬التجدد‭ ‬والوجود‭ ‬العاطفي‭ ‬المستمر‭.‬

 

شعوران‭ ‬متناقضان

يترافق‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬الكثافة‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬الحاضر،‭ ‬شعوران‭ ‬متناقضان‭ ‬ظاهرًا؛‭ ‬لكنهما‭ ‬ممتزجان‭ ‬في‭ ‬الموقف‭ ‬النفسي،‭ ‬الأول‭ ‬شعور‭ ‬الأسى‭ ‬والحزن،‭ ‬أو‭ ‬شعور‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬اليقظة،‭ ‬ومعه‭ ‬تنتحر‭ ‬الشمس،‭ ‬وتبكي‭ ‬لحظة‭ ‬غروبها،‭ ‬ويسود‭ ‬البرد‭ ‬والظلمة،‭ ‬في‭ ‬تعادل‭ ‬طبيعي‭ ‬لكل‭ ‬غروب‭ ‬وكلّ‭ ‬موت‭. ‬

أما‭ ‬الآخر‭ ‬فشعور‭ ‬البهجة‭ ‬والأُنس،‭ ‬شعور‭ ‬الحلم،‭ ‬حين‭ ‬يأخذها‭ ‬التذكّر‭ ‬إلى‭ ‬رحلة‭ ‬بعيدة،‭ ‬إلى‭ ‬الغابة‭ ‬العامرة‭ ‬بالأشجار‭ ‬والأطيار،‭ ‬والأريج،‭ ‬ينطلقان‭ ‬معًا‭ ‬في‭ ‬أمان‭ ‬الله‭ ‬ورعايته،‭ ‬وكفّ‭ ‬الأم‭ ‬تحتضن‭ ‬كف‭ ‬الصغير،‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬ودود،‭ ‬وافر‭ ‬العذوبة‭ ‬والنقاء‭.‬

ليست‭ ‬الأحلام‭ ‬وحدها‭ ‬التي‭ ‬تستجلب‭ ‬الذكرى،‭ ‬وتستحضر‭ ‬صورة‭ ‬حيوية‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الفقد،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬المكان‭ ‬أيضًا‭ ‬مثيرًا‭ ‬لافتًا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السبيل،‭ ‬ففي‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬بيتك‭ ‬الأخير‮»‬،‭ ‬تنبعث‭ ‬الذكريات‭ ‬من‭ ‬مرقدها،‭ ‬والشاعرة‭ ‬تقدّم‭ ‬لها،‭ ‬فتقول‭: ‬‮«‬كان‭ ‬لنا‭ ‬بيت‭ ‬جميل‭ ‬في‭ ‬الهرم،‭ ‬أقصى‭ ‬ما‭ ‬كنّا‭ ‬نتمنى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بيتًا‭ ‬لمبارك‭ ‬مع‭ ‬عروسه،‭ ‬لكنّ‭ ‬القدَر‭ ‬كان‭ ‬أقسى‭ ‬منّا،‭ ‬فكان‭ ‬مرقده‭ ‬الأخير،‭ ‬ودفن‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحبه‮»‬‭.‬

‭ ‬ثم‭ ‬يكون‭ ‬الدخول‭ ‬مباشرًا‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬معالم‭ ‬المكان،‭ ‬واستمطار‭ ‬الصورة‭ ‬اليومية‭ ‬التي‭ ‬تقاسمتها‭ ‬مع‭ ‬الابن‭ ‬الحبيب،‭ ‬مستندةً‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬خطاب‭ ‬المناجاة،‭ ‬وكاف‭ ‬الخطاب،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الحوار‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬واحد،‭ ‬فإن‭ ‬الأساليب‭ ‬تأتي‭ ‬منوّعة،‭ ‬فتبدأ‭ ‬بسؤال‭ ‬المخاطب‭ ‬سؤال‭ ‬المشوّق‭ ‬الذي‭ ‬يودّ‭ ‬أن‭ ‬يضم‭ ‬أطراف‭ ‬الذكرى‭ ‬جميعها،‭ ‬ويجلب‭ ‬الحنين‭ ‬تفصيلًا‭ ‬محببًّا‭ ‬عن‭ ‬ساعات‭ ‬الّلهو‭ ‬البريء‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬البيت‭ ‬العامرة‭:‬

أترى‭ ‬تذكرُ‭ ‬مَرْأى‭ ‬شجراتِ‭ ‬البرتقالْ؟

في‭ ‬جوار‭ ‬الهَرمِ‭ ‬الشّامخِ‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬التِّلالْ

حيث‭ ‬كان‭ ‬اللهْوُ‭ ‬يحلو‭ ‬لكَ‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الظّلال

بين‭ ‬أترابكَ‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬وفيهنَّ‭ ‬‮«‬نَوال‮»‬

ها‭... ‬هنا‭ ‬يا‭ ‬ولدي،‭ ‬نورك‭ ‬عن‭ ‬دنيايَ‭ ‬مال

ها‭... ‬هنا‭ ‬غُيِّبْتَ‭ ‬عنّي‭... ‬وتوسَّدْتَ‭ ‬الرمال

حين‭ ‬كان‭ ‬القمرُ‭ ‬المحزونُ‭ ‬يمضي‭ ‬للزَّوَالْ

ختام‭ ‬درامي

‭ ‬تبدو‭ ‬هذه‭ ‬الصور‭ ‬الطفولية،‭ ‬وهي‭ ‬تقطرُ‭ ‬عذوبة،‭ ‬معينًا‭ ‬ثرًّا‭ ‬للأم‭ ‬الثكلى،‭ ‬وعلى‭ ‬وقع‭ ‬خطواتها‭ ‬تكون‭ ‬اللحظات‭ ‬التي‭ ‬تعدلُ‭ ‬عمرًا‭ ‬من‭ ‬البهجة،‭ ‬وبإضافة‭ ‬الأتراب‭ ‬إلى‭ ‬كاف‭ ‬الخطاب‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬الابن‭ ‬مبارك،‭ ‬فإنّ‭ ‬المحبّة‭ ‬الضافية‭ ‬تشملهم‭ ‬جميعًا،‭ ‬أليسوا‭ ‬أصدقاء‭ ‬مبارك‭ ‬وزملاءه؟‭ ‬لكنّ‭ ‬اسمًا‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬جميعًا‭ ‬يبرز‭ ‬ساطعًا،‭ ‬ويختص‭ ‬بتتويج‭ ‬قافية‭ ‬البيت‭ ‬الرابع،‭ ‬إنه‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬نوال‮»‬،‭ ‬ولا‭ ‬أحسب‭ ‬أنه‭ ‬جاء‭ ‬اقتضاء‭ ‬لحاجة‭ ‬القافية‭ ‬إليه،‭ ‬فهو‭ ‬يلوح‭ ‬لي‭ ‬اسمًا‭ ‬لشخصية‭ ‬حقيقية،‭ ‬فهل‭ ‬تراها‭ ‬كانت‭ ‬عروس‭ ‬المستقبل؟‭ ‬خصوصًا‭ ‬وأن‭ ‬الشاعرة‭ ‬أشارت‭ ‬في‭ ‬المقدمة‭ ‬النثرية‭ ‬إلى‭ ‬عروس‭ ‬البيت،‭ ‬وإن‭ ‬استحال‭ ‬أملًا‭ ‬موؤودًا،‭ ‬واللافت‭ ‬أن‭ ‬اسم‭ ‬البنت‭ ‬بوصفه‭ ‬علامة‭ ‬سيميائية،‭ ‬يتضاد‭ ‬دلاليًا‭ ‬مع‭ ‬نهاية‭ ‬القصة‭ ‬الحزينة،‭ ‬فقد‭ ‬تلاشى‭ ‬كل‭ ‬‮«‬نوال‮»‬‭ ‬حين‭ ‬مال‭ ‬نور‭ ‬العين‭ ‬مبارك‭ ‬عن‭ ‬دنيا‭ ‬الأم،‭ ‬وألقت‭ ‬به‭ ‬يد‭ ‬الردى‭ ‬العاتية‭ ‬في‭ ‬غيابة‭ ‬الرمال‭.‬

‭ ‬ولا‭ ‬نودّ‭ ‬أن‭ ‬نغادر‭ ‬الصورة‭ ‬الحيوية،‭ ‬دون‭ ‬الإلماح‭ ‬إلى‭ ‬صورة‭ ‬القمر‭ ‬المحزون‭ ‬الذي‭ ‬يمضي‭ ‬للزوال،‭ ‬فهي‭ ‬وإن‭ ‬مثّلت‭ ‬ختامًا‭ ‬دراميًّا‭ ‬للصورة،‭ ‬فإنها‭ ‬تقيم‭ ‬معادلًا‭ ‬موضوعيًّا‭ ‬للابن‭ ‬الذي‭ ‬غُيّب‭ ‬في‭ ‬سنّ‭ ‬الفتوة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬شبَّ‭ ‬عن‭ ‬الطوق،‭ ‬وأوفى‭ ‬للكمال‭.‬

إن‭ ‬الطبيعة‭ ‬تتجاوب‭ ‬مع‭ ‬أحزان‭ ‬الشاعرة،‭ ‬كما‭ ‬تتجاوب‭ ‬الأصوات‭ ‬في‭ ‬معبد‭ ‬الصلوات،‭ ‬فالقمر‭ ‬يترك‭ ‬منازل‭ ‬النور‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬وئيدة‭ ‬ليستقر‭ ‬في‭ ‬محاق‭ ‬الظلام،‭ ‬والماء‭ ‬يُضحى‭ ‬سرابًا،‭ ‬والبيت‭ ‬الجميل‭ ‬يغدو‭ ‬مثوى‭ ‬للأحلام‭ ‬والآمال‭ ‬المهيضة،‭ ‬وكم‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الابن‭ ‬الحبيب‭ ‬حلوة‭ ‬المنال‭.‬

وبهذه‭ ‬الصور‭ ‬الحيوية‭ ‬المتدفقة،‭ ‬يرحّب‭ ‬النص‭ ‬الرثائي‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬إليك‭ ‬يا‭ ‬ولدي‮»‬،‭ ‬ولا‭ ‬يقف‭ ‬عند‭ ‬تخوم‭ ‬النّدب‭ ‬والبكاء،‭ ‬بل‭ ‬يتجاوز‭ ‬الاعتقاد‭ ‬القديم‭ ‬لدى‭ ‬ناقد‭ ‬مثل‭ ‬ابن‭ ‬رشيق‭ ‬القيرواني‭ (‬ت‭. ‬456هـ‭) ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬أشد‭ ‬أنواع‭ ‬الرثاء‭ ‬صعوبة‭ ‬على‭ ‬الشاعر‭ ‬أن‭ ‬يرثي‭ ‬طفلًا‭ ‬أو‭ ‬امرأة؛‭ ‬لضيق‭ ‬الكلام‭ ‬عليه‭ ‬فيهما،‭ ‬وقلّة‭ ‬الصفات»؛‭ ‬لكنّ‭ ‬توفُّر‭ ‬الشاعرة‭ ‬الراثية‭ ‬على‭ ‬جوانب‭ ‬دالّة،‭ ‬ومواقف‭ ‬أثيرة،‭ ‬ومشاعر‭ ‬متجددة‭ ‬تجاه‭ ‬الراحل‭ ‬المقيم،‭ ‬تغذي‭ - ‬ولا‭ ‬ريب‭ -  ‬تجربتها‭ ‬الرثائية‭ ‬بأوفى‭ ‬غذاء،‭ ‬لتتجاوب‭ ‬فيها‭ - ‬بأريحيّة‭ - ‬الحركات‭ ‬والأصوات‭ ‬والأصداء■