لاميّة امرئ القيس الرؤية الوجودية والتشكيل الفني

لاميّة امرئ القيس الرؤية الوجودية والتشكيل الفني

الرؤية، في أبسط تعاريفها، ذلك التصوّر الفكري الذي يوجه إبداع الشاعر ويرسم له طريقًا أسلوبية مختلفة تشكّل ملامح شخصيته الشعرية.
 وامرؤ القيس شاعر صاحب أسلوب، وإمام مدرسة، اختط للشعراء طريقًا ساروا عليها، وهو بعد ذلك نموذج يُحتذى، فتق عين الشعر، وسار على منواله الشعراء الذين حاولوا تقليده ومجاوزته، وفي كل الأحوال كان السابق الهادي «سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، واستحسنتها العرب، واتبعته فيها الشعراء: استيقاف صحْبه، والتبكاء في الديار، ورقّة النسيب، وقرب المأخذ، وشبّه النساء بالظباء والبيض، وشبّه الخيل بالعقبان والعصيّ، وقيّد الأوابد، وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب، وبيّن المعنى».

الرؤية نتاج الموقف والتجربة والنظرة إلى الأشياء، وهي في عمقها فلسفة في فهم النفس والناس والكون، والحقّ أنّ الشاعر القديم لم يكن بمعزل عن هذا التصور، إذ كان يصدر في إبداعه عن رؤية هادية تشبه البوصلة التي تفتح له عوالم الإبداع، وتؤسّس لخصوصية إبداعية تجعله متميزًا عن غيره.
تقوم القصيدة على ثنائية كبرى تصدر عنها المعاني وترِدُ إليها، نبرزها فيما يلي: 
الحاضر/الماضي
وتتفرع عنها ثنائيات أُخَر تمتُّ إليها بصلة، نذكر منها:
الحياة/ الموت
المجد/ الهوان
البطولة/ الاستسلام
إنّ أول ما يُظهر هذا التقابل بين الماضي والحاضر مقدمة القصيدة ونهايتها؛ فالوقوف على الأطلال تأمل في سيرورة الوجود وتقلّبه من حال السعادة والحياة إلى حال التحسّر الممضّ والموت النفسي، وهو بذلك صورة عن الحاضر، أما اليقين التام الذي تنطق به نهاية القصيدة فدالٌّ على تحوّل جذري في الشخصية أدى إلى تغيّر في النظرة إلى الحياة، حيث استبدل اليقين والاستسلام بالاندفاع والبطولة. 
وبين المقدمة والنهاية ترتسم عوالم حياة حافلة بالمغامرات، ناطقة بالشجاعة، وكاشفة عن شخصية الشاعر الإنسان وفلسفته في الحياة التي تدور في دائرة اللذة واللهو والشهوة. 

بين الغزل والطلل
تتلون مقدمة القصيدة بالسواد الذي يعكس أسى على انصرام أيام السعادة، وقد تضافرت عوامل التعرية الطبيعية (أسحم هطّال) والزمنية لتجلدها وتسلخ البهاء والحياة عنها، ويعكس الدعاء/ التحية (ألا عم) رغبة في إحياء ماض أفلت شمسه. 
تنال سلمى من حديث الشاعر نصيبًا في المقدمة، ذلك أنّ الغزل شديد الصلة بالطلل، يتذكرها بحنين هادئ يعكسه تكرار اسمها أربع مرات، ثمّ يمضي بعد ذلك إلى ردّ التّهمة التي رمته بها امرأة (التعيير بالكبر، والعجز عن إغراء النساء)، وقد استنفر الشاعر كل طاقته البيانية ليكذّب ادعاءها ويثبت فحولته المتّهمة.
وبعد أن يسوق مغامراته في قالب قصصي منساب يتقمص فيه دور السارد والمخرج، يهدّئ من روْعه واندفاعه، مؤكدًا انصرافه عن اللهو والمغامرة، ومتخلصًا إلى وصف فرسه القوي السريع الذي يشبه في سرعته الصّوار والعقبان، ليختم قصيدته بكلام يختلط فيه الأمل باليقين.
تصوّر لنا القصيدة شخصية مضطربة، شديدة الانفعال، قوية الاندفاع، بعيدة عن الاستقرار النفسي، يعكس تعدّد الأغراض وتداخلها أيضًا التشتت الذهني الذي يعد تجليًا من تجليات حياة الشاعر. 
ينصرف الشاعر إلى وصف مغامراته باعتبارها انتصارًا لفحولته المتهمة، ويفرّ بذلك إلى ماضي البطولة، هاربًا من حاضر التيه والضياع.

وقفة تأملية
إنّ القصيدة، في عمقها، وقفة تأملية في سيرورة الوجود المتقلب الذي لا يثبت على حال، يبرز فيها الشاعر، من حيث لا يدري، حالة التيه الوجودي الذي يحياه، والنزعة العبثية التي يتبناها، والقصيدة، إلى جانب ما سبق، بحث عن تعويض نفسي عن فشل الحاضر، وعن البطولة المجهضة.  تقدّم لنا القصيدة صورة للبطل ترتبط بفكرة الفحولة الجنسية، ولعل في ذلك ما يشي بمحاولة حثيثة لإثبات عكس ما ترميه به النساء، ويجد امرؤ القيس في الخيال متسعًا للانتصار لفحولته بعيدًا عن فشل الواقع. 
إنّ فلسفة الشاعر في الحياة مبنيّة على اقتناص اللذات، لذلك تخلو القصيدة من فلسفة الجدّ، وهو بصنيعه هذا يتيح لذاته وخياله النصيب الأعلى من الظهور، في حين يتوارى العقل ليفسح المجال لانطلاق الشاعرية وتدفقها، وذلك أقرب إلى روح الشعر. 
يظهر امرؤ القيس في قصيدته متجردًا عن كل مسؤولية، تحرّكه الأهواء، ويهيمن عليه الانفعال والتوتر والاندفاع، وتحرّكه الرغبة الملحّة في إثبات الفحولة التي يلخصها في القوة الجنسية. 
إن موقف امرئ القيس من الوجود موقف هروبي يتخذ تجلّيين؛ فتارة يهرب إلى الماضي باحثًا عن البطولة، وتارة يهرب إلى الخيال باحثًا عن الفحولة، وبين الهروبين تبرز شاعرية الشاعر. والظاهر، مما سبق، أنّ الفخر عند امرئ القيس ذو صلة بالفكر النسقي السائد الذي يكرّس فكرة إثبات الفحولة.
 ويقابل البناء النفسي والذهني للشاعر، قدرة على الربط المنطقي والنحت الخيالي الذي يضع الأحداث والصور والحركات والأحاسيس والألوان في قالب يطبعه التناسب وقوة التناغم.

التشكيل الفنيّ 
ينصرف مفهوم التشكيل إلى الصورة التعبيرية العامة التي يختارها الشاعر قالبًا يصبّ فيه المعنى وما يرتبط به من أفكار وأحاسيس، والقصيدة لوحة لغوية يتخذ فيها مبدعها الأدوات التعبيرية المختلفة ريشة يرسم بها ويلوّن ويضع كل شيء مكانه، مع الحرص على التناسب وتساوق الفكرة والتعبير، وننظر في رصدنا للتشكيل الفني إلى كيفية توزيع الصور التعبيرية على جغرافيا القصيدة، ومدى صدورها عن رؤية فنية، ودرجة تناسبها.
اختار الشاعر بحر الطويل قالبًا يصبّ فيه تأملاته ومغامراته، وهو بحر ممتدّ التفعيلات، واسع المساحة، طويل النّفَس، أتاح له الاسترسال الهادئ والبث المستقصي والسرد المتتابع، وعادة ما يرتبط هذا البحر بالمعاني التي تحتاج إلى فسحة للتعبير، ويظهر في مطلع القصيدة تماثل إيقاعي بين الضّرب والعروض أثمر ظاهرة التصريع:
 لَلُلْبالي/ مفاعيلن/ صُرِ لخالي: مفاعيلن
فقد تبعت العروض الضربَ في الزيادة، والأمر نفسه يتكرر في البيت الرابع، حيث يماثل الشاعر بين الضرب والعروض، (بذي خالي/ مَهَطْطالي)، وقد اكتسب الابتداء نبضًا إيقاعيًا وحيوية نَغمية. 
وفيما يخص القافية، فقد جاءت مطّردة مطلقة في كل القصيدة، (/0/0)، وهي في الغالب بعض كلمة (جالي / والي...)، وأحيانًا كلمة عالي/ حالي)، واطّرادها هذا منح نهايات الأبيات انتظامًا إيقاعيًا له أبعاده النفسية والجمالية والصوتية، فوقوع الحركات والسكنات في المكان نفسه والزمان نفسه قوّى من فاعلية القافية، وعضّد من جماليتها الرويّ المفرز للأبعاد الصوتية والنفسية، والعاكس لنفسية الشاعر المنكسرة تارة، والرغبة في الانسلاخ من واقع الهزيمة، فألف الردف توحي رغبة الشاعر في الصعود للخروج من بئر الخيبة والهزيمة، لكنه سرعان ما يصطدم بالحاضر، فينحدر إلى بئر أعمق تمثّلها صوتيًا ياء المدّ التي تشبع حركة الروي، وهكذا يسهم التشكيل الإيقاعي في التعبير عن واقع الشاعر الذهني والنفسي. 

حيوية إيقاعية
يعتني الشاعر بالموسيقى الداخلية عناية بارزة، تظهر مدى وظيفتها في التشكيل والتعبير، فإلى جانب بُعدها الإيقاعي تسهم في تصوير الحركة، كما في تكرار التضعيف في البيت الرابع (ألحّ - هطّال)، فقد شاكل وقع الضربات التي تلقتها ديار سلمى من علِ، والأمر نفسه يظهر في تصوير الشاعر غضب بعل سلمى في قوله (يغطّ غطيطَ)، فالغين والطاء صوتان يعكسان الحركة المضطرمة داخل نفس الزوج، وللتكرار فاعليته الموسيقية في الكشف عن أبعاد نفسية الشاعر، ولا أدلّ على ذلك من ترداد صيغة الفعل والمفعول المطلق (سموت سمو/ حلفتُ حلفة/ يغطّ غطيط/ تحاماه تحاميًا) التي تعكس واقعًا داخليًا متوترًا يقوده الحرص على إثبات الذات، ولا يخفى على الأذن وقع حرف السين الذي يتكرر بصورة لافتة للسمع تُحدث ذبذبات صوتية تغني اللوحة الإيقاعية العامة، ناهيك بالتكرار اللفظي الدالّ (سلمى/ عرس/ تحسب/ أيقتلني) الذي أغنى من الإشعاع الإيقاعي للأبيات، وإلى جانب ما سبق، استثمر الشاعر فاعلية التوازي في تشكيل المعنى بطريقة تخرج عن المألوف، ويمكن أن نبيّن ذلك فيما يلي:
سِباطِ البنانِ/ لِطافِ الخصور 
وليس بذي رمحٍ/وليس بذي سيفٍ
والتوازيان يردان على التوالي في معرض الغزل ووصف جمال النسوة، وفي معرض الاستهزاء بخَوَر زوج سلمى، وقد قصد إلى صبّ المعنيين في قالب متحرك يميزهما عن غيرهما من المعاني التي وردت في قالب وزني مألوف لا يشدّ السمع، وهكذا يكون القصد إلى خيار إيقاعي ما رهينًا بالرغبة في لفت الانتباه إليه. ولا يخفى ما أضفاه التوازي من حيوية إيقاعية ونبض موسيقي قوّى من وظيفته الجمالية وبُعده النفسي. 
وغير بعيد عن التوازي، نلفي الترصيع في سياق وصف الفرس، وما يعكسه ذلك من رغبة في استقصاء الوصف، وهو أمر يتيحه هذا المكون الإيقاعي الذي يقوم على تتابع الفواصل الصوتية التي تخلق توقيعًا نغميًا لافتًا: 
سليمِ الشّظَى/عبْلِ الشُّوَى/ شَنِج النَّسا
أسهم هذا التعاقب الوصفي الذي لا يحدّه حاجز عطفٍ في إبراز إعجاب الشاعر بفرسه، وحرصه على تصوير دقائق جسمه، واختار لذلك قالبًا موسيقيًا منطلقًا مُوَقّعًا. 
عُرف عن امرئ القيس القدرة على الوصف والتشبيه، فهو أحسن الجاهليين تشبيهًا، وإمام مدرسة البيان التي سار على نهجها ذو الرمة وابن المعتز، وفي القصيدة المدروسة عناية بارزة بالتشبيه الذي يوظفه الشاعر ثلاث عشرة مرة، والظاهر أنه يمتح تشبيهاته من واقع السياق والبيئة، وينفخ فيها من روح نفسه وخياله، ولا تنفصل عن سياقها، وتؤدي إلى جانب وظيفتها الجمالية وظائف أخرى تتنوع بين التعبير والتصوير والمبالغة والإيضاح، ومن ذلك قوله:
وجيدًا كجيد الريم ليس بمعطال
يرد هذا التشبيه في سياق وصف جمال سلمى، ويتناص مع قوله في معلّقته «وجيد كجيد الريم ليس بفاحش»، ونراه كيف يستثمر أسلوب الاحتراس حتى يحدّ من عوج تأويل السامع، فجيد سلمى يشبه جيد الريم في طوله، وقد درجت العرب على مدح طول عنق المرأة، وبذلك يكون للتشبيه بُعد ثقافي يرتبط بمفهوم الجمال لدى الصحراويين، لكن قيد الاحتراس ميّز جيد سلمى بكونه مزينًا بحليّ تزيده حسنًا إلى حسنه السابق.

وصف مغامرة
من التشبيهات الدالة قوله في سياق وصف مغامرته الليلية: 
سموتُ إليها بعد ما نام أهلها
سموّ حَباب الماء حالًا على حال 
هذا التشبيه يؤخذ في كلّيته دون فصل مكوناته، فقد شبّه تلصّصه ونهوضه المتريث بحباب الماء الذي يعلو بعضه بعضًا شيئًا فشيئًا، وهنا يتقابل عدم إحداث الصوت والحركة من قبل الشاعر بعدم إحداث الصوت من قبل حباب الماء، ويصور لنا هذا التشبيه مشهد الانتقال من مكان إلى مكان وسرعته وعدم وجود حاجز مانع مثّله سقوط الأداة. 
وللصورة الكلية الممتدة حضورها في القصيدة، إذ تتضافر أجزاؤها في تصوير مشهد لا تنفصل لقطاته. 
يضيء الفراشَ وجهُها لضجيعها
كمصباح زيتٍ في قناديل ذُبّالِ
كأنّ على لبّاتها جمرَ مصطَلٍ
أصابَ غضًى جزْلَا وكُفَّ بأجذالِ 
وهبّت له ريحٌ بمختلٍف الصُّوَى
صبًا وشمالٌ في منازل قُفّالِ 
يصف الشاعر جمال المحبوبة وضياء وجهها الذي يمتدّ إشعاعه ليملأ المكان، فوجهها دائم الضياء والنور كمصباح لا ينقطع زيته، ولكي يحتج للصورة ويزيدها وضوحًا طلب لها ما يؤكدها ويوضحها، فكأنّ هذا الضياء المنبعث من الوجه ومن الجيد المغطى بالحليّ يشبه في سطوعه وتواصل نوره جمر غضى يتعهده المصطلي حتى لا يخمد، وزاد من قوة اشتعاله أن جعل حوله أصول الشجر ووُضع في مكان مرتفع تنفخ فيه الريح فيشتدّ لهبه ويقوى ويبقى متوقدًا، وهذه الصورة الكلية تدل على قدرة بيانية على الاستقصاء وإحداث التناسب، وأفضى ذلك كله إلى تشكيل صورة ذات أبعاد وظلال.

محطة استراحة
من الاستعارات الدالة قوله: ألحّ عليها كلُّ أسحمَ هطّال , فقد أسند للسحاب الأسود الحركة والإلحاح في الطلب، فكأنه إنسان يعرف ما يريد ويقصده ويلحّ في طلبه، وللصورة بُعد تشخيصي واضح، وآخر نفسي يصور أسى الشاعر على ما حلّ بالديار من عبث الزمان وعوامل الطبيعة، فاستحالت أثرًا بعد عين، ورسومًا بعد أن كانت آهلة بالحياة والنبض، وللصورة بُعدها الصوتي المرتبط بحركة الأمطار النازلة من علٍ، وبُعدها التشكيلي المنصرف إلى تلوين المشهد بالسواد الذي يزيد من تكريس الموت الذي حلّ بالديار.  إن ما يميز الصور الشعرية لدى الشاعر أنها مستقاة من البيئة والثقافة، لكنها تكتسب خصوصيتها وأبعادها من السياق والقدرة على رسم حدودها لتعبّر عن العاطفة والفكرة والحركة والواقع الخارجي والداخلي.
بُنيت القصيدة على تعدّد الموضوعات، وقد جعل لها الشاعر بسطًا من طلل وغزل، ليمر إلى وصف مغامراته الغرامية في قالب قصصي، ثم يمضي إلى وصف فرسه وما كان من أمر شجاعته، ليحطّ الرحال بالقاعدة التي أخلصها للحكمة، والظاهر أنّ هذا البناء القائم على الخروج من موضوع إلى موضوع شائع قبل امرئ القيس، ويوهم أول النظر بأنّ هناك تفككًا واضحًا بين أجزاء القصيدة، غير أنّ قليلًا من التريث والتأمل يسلمنا إلى أنّ التماسك بين أجزائها حاصل، فالوقوف على الأطلال وتذكّر ماضي سلمى، تبعه انهمار سردي ووصفي تخييلي، الهدف منه التعويض عن الحاضر والهروب إلى الماضي، ووصف الفرس وماضي البطولة لا ينفصل عن الرغبة في إثبات الفحولة المذكورة، أما خاتمة القصيدة الحكمية فما هي إلا محطة استراحة كانت لا بدّ منها، بعد طول تجوّل في أرض الماضي والخيال ■