قليلاً من الأملِ... كثيرًا مِنَ الوطن! «مرّت السنوات... ومازالت كما هيَ الكلمات» للكاتبة د. سعاد الصباح

قليلاً من الأملِ... كثيرًا مِنَ الوطن!  «مرّت السنوات... ومازالت كما هيَ الكلمات» للكاتبة د. سعاد الصباح

‮«‬هُناك‭ ‬جانبٌ‭ ‬من‭ ‬المرحِ‭ ‬أشعرُ‭ ‬بهِ‭ ‬عندما‭ ‬أقولُ‭ ‬تلكَ‭ ‬الكلماتِ‭... ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬أحتاجهُ‭ ‬هوَ‭ ‬الكلمات‮»‬‭ (‬آن‭ ‬إنرايت‭... ‬رواية‭ ‬‮«‬التجمّع‮»‬‭ ‬–‭ ‬ص11‭).‬

والكلماتُ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السِّفر،‭ ‬بكلّ‭ ‬إيقاعها‭ ‬الحميميّ،‭ ‬وليمة‭ ‬أحاسيس،‭ ‬قدْ‭ ‬وُلِدت‭ ‬الكلماتُ‭ ‬سحريّة،‭ ‬حسب‭ ‬تعبير‭ ‬بورخيس،‭ ‬كلّ‭ ‬كلمةٍ‭ ‬تشبهُ‭ ‬ضربة‭ ‬في‭ ‬القلب‭... ‬والقلبُ‭ ‬بذاكرةٍ‭ ‬لا‭ ‬تخون‭... ‬وذبذبات‭ ‬نبضٍ‭ ‬مُمَوسقٍ،‭ ‬مُوحٍ،‭ ‬ومُوقظٍ‭ ‬في‭ ‬الآن‭...!‬

‮«‬مرّت‭ ‬السنوات‭... ‬ومازالت‭ ‬كما‭ ‬هيَ‭ ‬الكلمات‮»‬‭ ‬قصائدُ‭ ‬صحفيّة‭...! ‬اختارت‭ ‬ثوبَ‭ ‬النثرِ‭ ‬الخُرافيّ،‭ ‬وقدْ‭ ‬تفجّرت‭ ‬من‭ ‬ينابيع‭ ‬أصابع،‭ ‬بكيمياء‭ ‬الديناميت،‭ ‬خرجت‭ ‬إيقاعاتها‭ ‬الإنسانيّة‭ ‬على‭ ‬قواميس‭ ‬الأقدمين‭... ‬سحرُ‭ ‬حَكي‭ ‬الواقع‭ ‬المعيش،‭ ‬بأبجدية‭ ‬جريئة‭ ‬الحروف‭ ‬في‭ ‬قولِ‭ ‬وسردِ‭ ‬ما‭ ‬كانَ‭ ‬وكائن‭ ‬وما‭ ‬سيكون‭...! ‬ومثل‭ ‬هذه‭ ‬المشاعر‭ ‬والأحاسيس‭ ‬الرقيقة،‭ ‬تتلفُ‭ ‬إذا‭ ‬لمْ‭ ‬تُدوّن‭ ‬بعِطر‭ ‬ونبيذ‭ ‬وحنّاء‭ ‬تفاصيلها‭...!‬

‮«‬مرّت‭ ‬السنوات‭... ‬ومازالت‭ ‬كما‭ ‬هيَ‭ ‬الكلمات‮»‬‭... ‬نوعٌ‭ ‬من‭ ‬الكتابةِ‭ - ‬الضدّ‭!‬

والراوي‭ ‬الموثوق‭ ‬بهِ‭ ‬الزمانُ‭ ‬والمكانُ،‭ ‬وما‭ ‬بقيَ‭ ‬من‭ ‬ثمالة‭ ‬ذاكرة‭ ‬للإنسان،‭ ‬وهوَ‭ ‬يعالجُ‭ ‬جراحَهُ‭ ‬النازفة‭ ‬الأزلية‭ ‬في‭ ‬غفلةٍ‭ ‬من‭ ‬الجسدِ‭ ‬المُنهك‭ ‬همومًا‭ ‬وآلامًا‭ ‬وعذابات،‭ ‬ومن‭ ‬الروح‭ ‬المتشظية‭ ‬عشقًا‭ ‬لوطنٍ‭ ‬لا‭ ‬يُمكنُ‭ ‬أن‭ ‬يكونَ‭ ‬إلّا‭ ‬‮«‬المحلّ‭ ‬الهندسي‭ ‬للعقلِ‭ ‬الكلّي،‭ ‬وللحريّةِ‭ ‬العُليا‮»‬‭ - ‬حسب‭ ‬تعبير‭ ‬تيري‭ ‬إيجلتون‭.‬

‮«‬مرّت‭ ‬السنوات‭... ‬وما‭ ‬زالت‭ ‬كما‭ ‬هيَ‭ ‬الكلمات‮»‬‭ ‬الكتابة‭ - ‬الخلخلة‭!‬

وهي‭ ‬‮«‬الانتزاع‭ ‬من‭ ‬المستحيل‮»‬‭ - ‬وفق‭ ‬تعبير‭ ‬موريس‭ ‬بلانشو‭ - ‬في‭ ‬أسلوب‭ ‬غرفة‭ ‬عقل‭ ‬الكاتبة‭ ‬السريّة،‭ ‬مقترن‭ ‬بأسرار‭ ‬الدمِ،‭ ‬وتظاهرات‭ ‬العاطفة،‭ ‬والانتماء‭ ‬في‭ ‬لغةٍ‭ ‬بصرية‭ ‬جريئة،‭ ‬لغة‭ ‬وجدانيّة‭ ‬حميمية،‭ ‬أبجديتها‭ ‬رماد‭ ‬الجسد،‭ ‬ونبيذ‭ ‬الروح،‭ ‬لمْ‭ ‬تعُد‭ ‬‮«‬سكن‭ ‬الوجود‮»‬‭ ‬برؤى‭ ‬هايدجر‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬قدرة‭ ‬فائقة‭ ‬على‭ ‬اقتناص‭ ‬حالة‭ ‬إنسانية‭ ‬غائرة‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬النفس،‭ ‬ولغة‭ ‬غريزية‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬الأحشاء،‭ ‬ووفقًا‭ ‬لتنظيرات‭ ‬رولان‭ ‬بارت،‭ ‬فهي‭ ‬‮«‬لغة‭ ‬ملتحمة‭ ‬بحميمنا‭ ‬السّريّ،‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أقــربُ‭ ‬ما‭ ‬يكونُ‭ ‬لنا‮»‬‭!‬

الكاتبة‭/ ‬الشاعرة‭ ‬الكبيرة‭ ‬د‭. ‬سعاد‭ ‬الصباح،‭ ‬وهي‭ ‬تتفجّرُ‭ ‬نثرًا‭ ‬خُرافيًّا،‭ ‬تضيفُ‭ ‬من‭ ‬حنّاء‭ ‬يديها،‭ ‬وخمر‭ ‬غضبها‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬السياسة،‭ ‬وهي‭ ‬بإيقاع‭ ‬خطوات‭ ‬ذئبٍ‭ ‬مراوغة،‭ ‬لكنّها‭ ‬جانبٌ‭ ‬من‭ ‬الحياة،‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬يغفلُ‭ ‬ويتجاهل‭ ‬رعدَ‭ ‬وبرقَ‭ ‬وأمطارَ‭ ‬الحقيقة‭.‬

 

إيقاع‭ ‬هادئ

يقول‭ ‬ج‭. ‬م‭ ‬كوتسي‭ ‬في‭ ‬رائعته‭ ‬‮«‬يوميات‭ ‬عام‭ ‬سيّئ‮»‬‭: ‬‮«‬فالسياسة‭ ‬بطبيعتها‭ ‬لا‭ ‬تستسيغ‭ ‬الحقيقة،‭ ‬ولا‭ ‬تهضمها،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬تكنّ‭ ‬نفورًا‭ ‬لقول‭ ‬الصدق‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الظروف‭ ‬والأحوال‭ (‬ص‭ ‬17‭). ‬

والكلمات‭ ‬تقبض‭ ‬بأصابع‭ ‬من‭ ‬جمر‭ ‬على‭ ‬الحقيقة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السِّفر‭ ‬في‭ ‬إيقاعهِ‭ ‬السلمي‭ ‬الحُلمي‭ ‬الهادئ‭: ‬‮«‬وليسّ‭ ‬الخراب‭ ‬السياسي‭ ‬والعسكري‭ ‬والقومي‭ ‬الشامل‭ ‬الذي‭ ‬أصابَ‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬إلّا‭ ‬نتيجة‭ ‬ميكانيكية‭ ‬لتصغير‭ ‬حجم‭ ‬مصر،‭ ‬وسحب‭ ‬الفقرة‭ ‬الرئيسة‭ ‬من‭ ‬العمود‭ ‬الفقري‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ (‬يشيل‭) ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬بكاملها‮»‬‭ (‬ص‭ ‬7‭).‬

ولأنّنا‭ ‬مع‭ ‬الكاتبة‭/ ‬الشاعرة‭ ‬الكبيرة‭ ‬في‭ ‬تظاهرة‭ ‬حبّها‭ ‬للحقيقة،‭ ‬ولا‭ ‬نسأل‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬ستندال‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬الأحمر‭ ‬والأسود‮»‬‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬بطله‭ ‬جوليان‭ ‬سوريل‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬أحببت‭ ‬الحقيقة‭ ‬دائمًا‭... ‬أين‭ ‬هي؟‮»‬،‭ ‬لأنها‭ ‬موجودة،‭ ‬بكل‭ ‬خطواتها‭ ‬الشمسية،‭ ‬وتُقرأ‭ ‬بالعين‭ ‬والقلبِ‭ ‬معًا‭: ‬‮«‬بغياب‭ ‬مصرَ،‭ ‬أو‭ ‬تغييبها‭ ‬انفكّ‭ ‬اللحام‭ ‬الذي‭ ‬يلصق‭ ‬أجزاء‭ ‬الأمّة‭ ‬العربية،‭ ‬وتحوّلت‭ ‬المنطقة‭ ‬إلى‭ ‬غبار‭ ‬انفصالي‭ ‬وطائفي‭ ‬وشعبوي‮»‬‭ (‬ص‭ ‬8‭).‬

ولهذا‭ ‬تقولُ‭ ‬الكلمات،‭ ‬ومعها‭ ‬الكاتبة،‭ ‬ونحنُ‭ ‬بأنَّ‭ ‬اتفاقيات‭ ‬كامب‭ ‬ديفيد‭ ‬ليست‭ ‬نهاية‭ ‬وطن،‭ ‬وذهاب‭ ‬الرئيس‭ ‬عرفات‭ ‬إلى‭ ‬مصرَ‭ - ‬لما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬دور‭ ‬في‭ ‬رصّ‭ ‬لآلئ‭ ‬النجوم‭ ‬في‭ ‬السماء‭ ‬العربية‭ - ‬للوضوء‭ ‬بماء‭ ‬النيل،‭ ‬والصلاة‭ ‬للوطن،‭ ‬لأنَّ‭ ‬‮«‬الدم‭ ‬لا‭ ‬يصير‭ ‬ماء‮»‬‭ ‬و‮«‬مصر‭ ‬الحقيقة‭ ‬الكبرى‮»‬،‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬قول‭ ‬الكاتبة‭ ‬الكبيرة‭.‬

ولأنَّ‭ ‬الوطنَ‭ ‬كلمة‭ ‬ذات‭ ‬كبرياء،‭ ‬فإنَّ‭ ‬الصلاة‭ ‬على‭ ‬قِبلتهِ‭ ‬لا‭ ‬تكونُ‭ ‬قضاءً،‭ ‬والوضوء‭ ‬بنسماتهِ‭ ‬شرط‭ ‬صحة‭ ‬هذه‭ ‬الصلاة،‭ ‬ولهذا‭ ‬تهذّبُ‭ ‬الكاتبة‭ ‬الكبيرة‭ ‬من‭ ‬أسلحة‭ ‬الكلمات،‭ ‬وهي‭ ‬تدين‭ ‬التطرّف،‭ ‬وأخلاقيات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي،‭ ‬وأباطرته،‭ ‬عنوان‭ ‬التخلّف،‭ ‬الحاقدين،‭ ‬وهي‭ ‬تنفي‭ ‬عن‭ ‬عقيدة‭ ‬الإسلام‭ ‬العدوان‭ ‬والقتل،‭ ‬لأنهُ‭ ‬دين‭ ‬محبّة‭ ‬ورحمة‭ ‬وتسامح،‭ ‬وأنهُ‭: ‬‮«‬لَمِنَ‭ ‬المخيف‭ ‬حقًّا‭ ‬أنْ‭ ‬يصبح‭ ‬الإسلامُ‭ ‬قناعًا‭ ‬يتخفى‭ ‬وراءه‭ ‬الحاقدون‭ ‬والموتورون‭ ‬والمجرمون‭ ‬المحترفون‮»‬‭ (‬ص‭ ‬19‭).‬

 

تعريف‭ ‬جديد‭ ‬للعدوّ

وتفيض‭ ‬الكلمات‭ ‬بقوافي‭ ‬القصيدة‭ ‬المتمردة،‭ ‬حين‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬دهاليز‭ ‬المكان‭/ ‬الكويت‭/ ‬الوطن‭ ‬مَن‭ ‬يطاردُ‭ ‬حماماتِ‭ ‬الحريّة‭ ‬والأمان‭ ‬والسلام،‭ ‬ويغرس‭ ‬في‭ ‬قلبها‭ ‬وأجنحتها‭ ‬الذهبية‭ ‬سهام‭ ‬الذعر‭ ‬والرعب،‭ ‬ويصبح‭: ‬‮«‬الاستقرار‭ ‬الكويتي‭ ‬هوَ‭ ‬المقصود‭ ‬بالاغتيال‮»‬،‭ ‬إثر‭ ‬تفجيرات‭ ‬الكويت‭ ‬1983‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬مخلوقات‭ ‬من‭ ‬رملٍ‭ ‬وإسفلت،‭ ‬حتّى‭ ‬الشيطان‭ ‬يتبرأ‭ ‬ويستنكر‭ ‬أفعالهم‭ ‬لأنهم‭: ‬‮«‬يكرهون‭ ‬الشموع،‭ ‬ويكرهون‭ ‬الشمس‭ ‬والقمر،‭ ‬ويكرهون‭ ‬كلّ‭ ‬مصادر‭ ‬الضوء،‭ ‬وكل‭ ‬مصادر‭ ‬الفكر،‭ ‬ولأنَّ‭ ‬الجاهلية‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬مخبوءة‭ ‬في‭ ‬أعماقهم‮»‬‭ (‬ص‭ ‬22‭).‬

والكلمات‭ ‬بإيقاعها‭ ‬القومي‭/ ‬الإنسانيّ،‭ ‬وهي‭ ‬تزهو‭ ‬بفوسفور‭ ‬الشموخ،‭ ‬وتشيد‭ ‬وتفخر‭ ‬بمرح‭ ‬روح‭ ‬الانتماء،‭ ‬بالجنوب‭ ‬اللبناني‭ ‬ورجال‭ ‬المقاومة،‭ ‬وهم‭ ‬ينقلون‭ ‬ماء‭ ‬وشمس‭ ‬الإصرار‭ ‬والحياة‭ ‬لجذور‭ ‬شجرة‭ ‬المقاومة،‭ ‬وثمرها‭ ‬وأفيائها‭ ‬وعصافيرها،‭ ‬وتضع‭ ‬تعريفًا‭ ‬جديدًا‭ ‬للعدوّ‭ ‬في‭ ‬اضطراب،‭ ‬بل‭ ‬وتلاشي‭ ‬خطواته‭ ‬الأخطبوطية‭ ‬التي‭ ‬يُريدُ‭ ‬أن‭ ‬يُؤرّخ‭ ‬لها‭ ‬على‭ ‬تراب‭ ‬الأرض‭ ‬اللبنانية،‭ ‬وكل‭ ‬شجرة‭ ‬أَرز‭ ‬تسخرُ‭ ‬من‭ ‬نواياه‭ ‬الخبيثة،‭ ‬وخططه‭ ‬الفاشلة،‭ ‬وقد‭ ‬فضحتها‭ ‬ذاكرة‭ ‬الانتحاريين‭ ‬الجنوبيين،‭ ‬وأكدت‭ ‬ترهّل‭ ‬وخيبة‭ ‬كلّ‭ ‬خطوة‭ ‬آثمة‭ ‬للعدوّ‭ ‬الإسرائيلي‭.‬

وبفقه‭ ‬النّثر‭ ‬وبلاغة‭ ‬قريحة‭ ‬الكاتبة‭ ‬الكبيرة‭ ‬في‭ ‬بورتريه‭ ‬يُعيدُ‭ ‬إلى‭ ‬الروح‭ ‬العربية‭ ‬ثقتها،‭ ‬وفتوتها‭: ‬‮«‬صار‭ ‬الإسرائيليون‭ ‬يركضون‭ ‬كالأرانب‭ ‬أمام‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬يلبسون‭ ‬أكفانهم،‭ ‬ويعانقون‭ ‬الدبابة‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬وينفجرون‭ ‬بها،‭ ‬كأنهم‭ ‬يعانقون‭ ‬امرأة‭ ‬جميلة‮»‬‭ (‬ص‭ ‬26‭).‬

إنَّ‭ ‬أبجدية‭ ‬القتال‭ ‬التي‭ ‬ينقشها‭ ‬المقاتل‭ ‬الجنوبي‭ ‬اللبناني‭ ‬على‭ ‬ورق‭ ‬الواقع،‭ ‬درسٌ‭ ‬يُمكنُ‭ ‬أن‭ ‬يترجمَ‭ ‬إلى‭ ‬كلّ‭ ‬اللغات،‭ ‬للعربي‭ ‬قبل‭ ‬الأجنبي،‭ ‬وتفانيه‭ ‬وتضحيته‭ ‬دينٌ،‭ ‬بل‭ ‬إنجيل‭ ‬جديد،‭ ‬يذكّر‭ ‬مَن‭ ‬فاتته‭ ‬قراءة‭ ‬كتب‭ ‬المقاومة‭ ‬والجهاد‭: ‬‮«‬فمتى‭ ‬يفهمُ‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬يتعاملون‭ ‬مع‭ ‬الشعوب‭ ‬بالحديد‭ ‬والنار،‭ ‬أنَّ‭ ‬رحم‭ ‬الأرض‭ ‬لنْ‭ ‬يتوقف‭ ‬أبدًا‭ ‬عن‭ ‬ولادة‭ ‬البراكين‭ ‬والزلازل‭ ‬والغاضبين؟‮»‬‭ (‬ص‭ ‬30‭).‬

 

الوطن‭ ‬حريّة

تقولُ‭ ‬الكلمات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السِّفر‭ ‬الحميميّ‭ ‬الذي‭ ‬يصعبُ‭ ‬أن‭ ‬تتحرّرَ‭ ‬منهُ‭ ‬الذاكرة‭ ‬بسهولة‭: ‬إنَّ‭ ‬الوطن‭ ‬حريّة‭! ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تبتعدُ‭ ‬عن‭ ‬قول‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الفرنسي‭ ‬توكفيل‭ ‬‮«‬إنَّ‭ ‬التاريخ‭ ‬العام‭ ‬للبشرية‭ ‬موجّهُ‭ ‬إلى‭ ‬غايةٍ‭ ‬واحدةٍ،‭ ‬هي‭ ‬الحريّة‮»‬‭!‬

وتعريف‭ ‬المقاتل‭ ‬الجنوبيّ‭ ‬للوطن‭: ‬حرية‭ ‬الحرية‭...!‬

والوطن‭/ ‬الحرية‭ ‬القِبلة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يُمكن‭ ‬تغييرها،‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬ورائحة‭ ‬وغبار‭ ‬وبرق‭ ‬رصاصة‭ ‬هذا‭ ‬المقاتل‭ ‬الشرس،‭ ‬وهي‭ ‬تنهي‭ ‬كل‭ ‬تاريخ‭ ‬للعدوّ،‭ ‬وتفضح‭ ‬كلّ‭ ‬مزامير‭ ‬توراته‭ ‬الموضوعة‭ ‬المترهّلة‭ ‬الألفاظ‭ ‬والجمل،‭ ‬وهو‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬عمرِ‭ ‬العدو‭/ ‬إسرائيل‭ ‬قصيرًا،‭ ‬بلْ‭ ‬كيان‭ ‬بلا‭ ‬عُمر،‭ ‬وليس‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬‮«‬ترانزيت‮»‬‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬وأنّها‭ ‬بقانون‭ ‬المقاتل‭ ‬الجنوبي‭: ‬‮«‬لنْ‭ ‬تعرفَ‭ ‬راحة‭ ‬إلى‭ ‬يومِ‭ ‬يبعثون‮»‬‭ (‬ص‭ ‬32‭).‬

وهذا‭ ‬المقاتل‭ ‬الأسطوريّ‭ ‬وهو‭ ‬يحوّلُ‭ ‬فكرة‭ ‬القتال‭ ‬إلى‭ ‬مبدأ‭ ‬مقدّس،‭ ‬بفقهٍ‭ ‬سامٍ،‭ ‬يفوق‭ ‬في‭ ‬سحر‭ ‬عباراته‭ ‬وإعجازه‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬النثر‭ ‬والقصائد‭ ‬والملاحم،‭ ‬لتصبح‭ ‬الفكرة‭ ‬‮«‬قناة‮»‬‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬تبثّ‭ ‬برامجها‭ ‬في‭ ‬اللامكان‭ ‬واللازمان‭.‬

وإذا‭ ‬ما‭ ‬جاءَ‭ ‬صوت‭ ‬سناء‭ ‬محيدلي‭ ‬طازجًا‭ ‬موقظًا‭ ‬ساحرًا،‭ ‬فإنَّ‭ ‬الوطن‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬زفافٍ‭ ‬كوني‭ ‬لفرحٍ‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭: ‬‮«‬أثبتت‭ ‬سناء‭ ‬أنها‭ ‬الإعلامية‭ ‬الأولى،‭ ‬وأنها‭ ‬الناطقة‭ ‬باسم‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية،‭ ‬فتناقلت‭ ‬وكالات‭ ‬الأنباء‭ ‬خبر‭ ‬زفافها‭... ‬وكانَ‭ ‬الخبر‭ ‬الأول‮»‬‭ (‬ص‭ ‬36‭).‬

يقولُ‭ ‬كارلوس‭ ‬فوينتس‭ ‬في‭ ‬رائعته‭ ‬‮«‬كرسي‭ ‬النسر‮»‬،‭ ‬واضعًا‭ ‬تعريفًا‭ ‬موجزًا‭ ‬بليغًا‭ ‬لمفهوم‭ ‬السياسة‭: ‬‮«‬إنَّ‭ ‬إتقان‭ ‬السياسة‭ ‬هوَ‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تقدير‭ ‬الوقت‮»‬‭ (‬ص‭ ‬44‭).‬

 

نتيجة‭ ‬طبيعية

‭ ‬فهل‭ ‬يفعلُ‭ ‬العربُ‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬أكثر‭ ‬ممّا‭ ‬يعلنون؟‭ ‬ولا‭ ‬ينتهي‭ ‬كلّ‭ ‬إعلان‭ ‬إلّا‭ ‬إلى‭ ‬الخيال‭ ‬والوهم،‭ ‬كمَن‭ ‬يضرب‭ ‬خيمته‭ ‬في‭ ‬الفراغ،‭ ‬وإسرائيل‭/ ‬العدوّ‭ ‬التاريخي،‭ ‬الكيان‭ ‬المغتصب‭ ‬للأرض،‭ ‬وأهلها‭ ‬نيام،‭ ‬تفعلُ‭ ‬أكثر‭ ‬ممّا‭ ‬تعلن،‭ ‬وتلك‭ ‬حقيقة‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وخيال‭ ‬الخيال،‭ ‬وهي‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬اللامكان‭ ‬من‭ ‬الوطن‭ ‬المصادر‭ ‬ربيعه‭ ‬وزهوره‭ ‬وأطياره،‭ ‬وخططها‭ ‬الأخطبوطية‭ ‬الآثمة‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬زمان،‭ ‬وتبدو‭ ‬لقارئ‭ ‬صحف‭ ‬الواقع،‭ ‬قد‭ ‬هضمت‭ ‬أيديولوجيتها‭ ‬العدوانية‭ ‬التوسعية‭ ‬كلّ‭ ‬شبرٍ‭ ‬في‭ ‬الخريطة‭ ‬العربية‭ ‬الشاحبة‭ ‬المدن‭ ‬والمحطات‭ ‬والأنهار‭ ‬والبحار‭: ‬‮«‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬كلهُ‭ ‬من‭ ‬الخليج‭ ‬إلى‭ ‬المحيط‭ ‬صارَ‭ ‬فندقًا‭ ‬محجوزًا‭ ‬لإسرائيل‭ ‬طوال‭ ‬أيام‭ ‬السنة‭... ‬تنزل‭ ‬فيه‭ ‬حين‭ ‬تشاء،‭ ‬وتغادرهُ‭ ‬حين‭ ‬تشاء‭... ‬فالإرهاب‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬أصبحَ‭ ‬كلاسيكيًا‮»‬‭ (‬ص‭ ‬37‭).‬

وعدم‭ ‬تقدير‭ ‬الوقت‭ ‬لدى‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬والحرب‭ ‬معًا،‭ ‬رفعَ‭ ‬من‭ ‬مقياس‭ ‬ترمومتر‭ ‬هذه‭ ‬الفرعنة‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬وزاد‭ ‬من‭ ‬حرارة‭ ‬هذا‭ ‬الاستئساد‭ ‬والتفاخر‭ ‬بالقوة،‭ ‬وهو‭ ‬نتيجة‭ ‬طبيعية‭ ‬للضعف‭ ‬العربي،‭ ‬والتبعية،‭ ‬والاتكال،‭ ‬والفرقة،‭ ‬والتشرذم،‭ ‬وغطرسة‭ ‬الحاكمين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يرون‭ ‬إلا‭ ‬أنفسهم‭ ‬في‭ ‬مرآة‭ ‬الواقع،‭ ‬وهي‭ ‬مهشمة،‭ ‬وليس‭ ‬لأحلامهم‭ ‬من‭ ‬حدود‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬كراسيهم‭:‬

‮«‬وطالما‭ ‬أن‭ ‬أصحاب‭ ‬الفندق‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬يقولون‭ ‬لإسرائيل‭: ‬لا‭! ‬ولا‭ ‬يشكّلون‭ ‬نقابة‭ ‬واحدة‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬بوابتهم،‭ ‬ولا‭ ‬يقاتلون‭ ‬حتى‭ ‬بأسنانهم،‭ ‬فإنّ‭ ‬الطائرات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬ستزورهم‭ ‬مرارًا،‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬شواطئ‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬شواطئ‭ ‬المحيط‭ ‬الأطلسي،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬شواطئ‭ ‬المحيط‭ ‬الهندي،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬شواطئ‭ ‬الأنانية‭ ‬والبغضاء‮»‬‭ (‬ص‭ ‬38‭).‬

حتى‭ ‬أضحى‭ ‬الوطن‭ ‬لا‭ ‬وطن،‭ ‬بلْ‭ ‬أحزاب،‭ ‬وعشائر،‭ ‬وعائلات،‭ ‬وميليشيات،‭ ‬كلّ‭ ‬واحدٍ‭ ‬يحتفظ‭ ‬بسلاحه،‭ ‬ليفاخر‭ ‬به‭ ‬أخاه‭ ‬العربي،‭ ‬يُقلقُ‭ ‬ليله،‭ ‬وأطفاله،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يقدمَ‭ ‬على‭ ‬غزوهِ،‭ ‬وحربه،‭ ‬وفق‭ ‬إيعاز‭ ‬الآخر‭ ‬الخفيّ‭ ‬والظاهر‭.‬

 

ذاكرة‭ ‬عدوانية

هل‭ ‬إسرائيل‭ ‬ولاية‭ ‬أمريكية؟‭ ‬استفهام‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬إنكاريًّا،‭ ‬بل‭ ‬مؤكّد،‭ ‬كلّ‭ ‬أوراق‭ ‬الواقع،‭ ‬ببلاغة‭ ‬حروفها‭ ‬الرصينة‭ ‬تقولُ‭ ‬ذلك‭!... ‬والاثنان‭ ‬توأمان،‭ ‬قذف‭ ‬بهما‭ ‬رحم‭ ‬الشيطان،‭ ‬وأرضعهما‭ ‬إكسير‭ ‬الجبروت‭ ‬والقوة‭ ‬والطغيان،‭ ‬وهما‭ ‬يتغذيّان‭ ‬من‭ ‬شريان‭ ‬دمٍ‭ ‬فاسدٍ‭ ‬واحدٍ،‭ ‬ونبض‭ ‬قلبٍ‭ ‬واحدٍ‭ ‬بذاكرة‭ ‬عدوانية‭ ‬صدئة‭: ‬‮«‬طبعًا‭! ‬إذا‭ ‬وضعت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬كلّ‭ ‬خدماتها‭ ‬اللوجستية،‭ ‬وقواعدها،‭ ‬وأسطولها‭ ‬السادس،‭ ‬وراداراتها،‭ ‬وحاملات‭ ‬طائراتها‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭ ‬تحت‭ ‬تصرُّف‭ ‬قيادة‭ ‬الأركان‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬فإن‭ ‬كلّ‭ ‬شيءٍ‭ ‬مُمكن‮»‬‭ (‬ص‭ ‬43‭).‬

‭ ‬ولا‭ ‬تبدو‭ ‬السياسة‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬إلا‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬‮«‬الكوميديا‭ ‬المأساوية‭ ‬السياسية‮»‬،‭ ‬وفق‭ ‬تعبير‭ ‬فيكتور‭ ‬برومبت،‭ ‬هي‭ ‬تحذير‭ ‬مستمر‭ ‬بشأن‭ ‬مخاطر‭ ‬الانحطاط‭ ‬البشري‭... ‬وتمثّل‭ ‬لنا‭ ‬بمنطق‭ ‬الخيال‭ ‬والوهم‭ ‬صديقًا،‭ ‬وهي‭ ‬تتنفس‭ ‬من‭ ‬رئة‭ ‬واحدة‭ ‬مع‭ ‬عدوّنا‭ ‬التاريخي‭/ ‬إسرائيل،‭ ‬وبهذا‭ ‬تعلن‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬العرب‭. ‬

وفي‭ ‬رؤياها‭ ‬الشيطانية‭ ‬ترى‭ ‬كلّ‭ ‬غارة‭ ‬تقوم‭ ‬بها‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬عربية‭ (‬مشروعة‭ ‬وعمل‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬النفس‭)‬،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬معضلة‭ ‬وصعوبة‭ ‬فهمٍ،‭ ‬حتى‭ ‬الطفل‭ ‬يُدرك‭ ‬أنّ‭ ‬أمريكا‭ ‬هي‭ ‬إسرائيل‭ ‬والعكس‭ ‬صحيح،‭ ‬وصداقة‭ ‬أمريكا‭ ‬للعرب‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬الخيال،‭ ‬وهي‭ ‬تصطاف‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬العربية‭ ‬بثوب‭ ‬شيطان،‭ ‬كلّ‭ ‬خيط‭ ‬فيه‭ ‬لون‭ ‬لكارثة‭ ‬قادمة‭.‬

يقولُ‭ ‬هنري‭ ‬ميللر‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬ربيع‭ ‬أسود‮»‬‭ ‬واصفًا‭ ‬أمريكا‭ ‬وأتباعها‭ ‬ككيان‭ ‬أخطبوطيّ‭ ‬مقيت‭: ‬‮«‬وأمريكا‭ ‬والعالم‭ ‬الحديث‭ ‬بأكملهِ‭ ‬قصرُ‭ ‬نظر،‭ ‬مصحوبًا‭ ‬بنوبات‭ ‬من‭ ‬الضحك،‭ ‬لا‭ ‬نجوم‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬الأفق،‭ ‬بل‭ ‬كوارث‭... ‬مجرّد‭ ‬كوارث‮»‬‭ (‬ص‭ ‬20‭).‬

 

خلاصة‭ ‬مسرح‭ ‬العَبَث

أما‭ ‬السياسة‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬فهي‭ ‬خلاصة‭ ‬مسرح‭ ‬العبث‭ ‬واللامعقول،‭ ‬بكل‭ ‬تقنياته‭ ‬المستفِزة،‭ ‬المحفزة‭ ‬على‭ ‬الدمار‭ ‬والخراب،‭ ‬لبلوغ‭ ‬السيادة‭ ‬والنفوذ‭ ‬والوجود‭ ‬القسري‭... ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تكتفي‭ ‬بمراوغة‭ ‬الغيم‭ ‬والمطر‭ ‬والشجر‭ ‬والوقت‭ ‬والأرض‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬هذا‭ ‬النفوذ‭ ‬والوجود‭ ‬المقيت،‭ ‬بل‭ ‬تراوغ‭ ‬ساخرة‭ ‬من‭ ‬مسلّات‭ ‬وكاتدرائيات‭ ‬الحقّ‭ ‬والعدل‭ ‬والمساواة‭ ‬وهُم‭ ‬‮«‬يشاركون‭ ‬في‭ ‬هندسة‭ ‬العالم‮»‬،‭ ‬وفق‭ ‬تعبير‭ ‬أنطونيو‭ ‬تابوكي‭.‬

المفاوضات‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل‭ ‬لا‭ ‬تبدو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬زُخرفٍ‭ ‬لفظي،‭ ‬لعبٌ‭ ‬في‭ ‬الكلمات‭ ‬والوقت‭ ‬معًا،‭ ‬سيرك‭ ‬خادع،‭ ‬والحبال‭ ‬مهترئة،‭ ‬يرقصُ‭ ‬عربُنا‭ ‬الطيبون‭ ‬المخدوعون‭ ‬على‭ ‬إيقاعه،‭ ‬وهم‭ ‬يعرفون‭ ‬أنه‭ ‬إيقاع‭ ‬حزين،‭ ‬كارثي‭ ‬مثبّط‭ ‬للعزائم،‭ ‬وما‭ ‬تلك‭ ‬المفاوضات،‭ ‬والحماس‭ ‬الزخرفي‭ ‬لمن‭ ‬يرعاها،‭ ‬كمَن‭ ‬يضربُ‭ ‬خيمته‭ ‬في‭ ‬الفراغ‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬صارَ‭ ‬معروفًا‭ ‬لدى‭ ‬العالم‭ ‬كله،‭ ‬أنَّ‭ ‬إسرائيل‭ ‬بحزبيها‭ ‬الرئيسين،‭ ‬العمل‭ ‬والليكود‭ ‬لنْ‭ ‬تعيدَ‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬احتلتها‭ ‬عام‭ ‬1967،‭ ‬ولن‭ ‬تعترفَ‭ ‬بحقوق‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬ولا‭ ‬بالدولة‭ ‬الفلسطينية‮»‬‭ (‬ص‭ ‬62‭).‬

‭ ‬ومن‭ ‬فصول‭ ‬السياسة‭ ‬الأمريكية‭ ‬المأساوية،‭ ‬أنها‭ ‬تجدُ‭ ‬نفسها‭ ‬حاكمة‭ ‬الكون،‭ ‬وعلى‭ ‬مكتب‭ ‬رئيسها‭ ‬جهاز‭ ‬التحكّم،‭ ‬وكبس‭ ‬الزر‭ ‬للدمار‭ ‬والفوضى‭ ‬والحروب‭ ‬المبرمجة‭ ‬متى‭ ‬يشاء،‭ ‬وفي‭ ‬أيّ‭ ‬مكانٍ‭ ‬من‭ ‬العالم،‭ ‬حَلُمَ‭ ‬بهِ‭ ‬ذات‭ ‬ليلةٍ‭ ‬تعيسة‭ ‬من‭ ‬لياليه،‭ ‬ونجومها‭ ‬تخبر‭ ‬بكوابيس‭ ‬فرض‭ ‬السيطرة،‭ ‬وتأكيد‭ ‬الوجود،‭ ‬وهذا‭ ‬أحد‭ ‬مظاهر‭ ‬الانحطاط‭ ‬الإنساني‭ ‬التي‭ ‬حذّر‭ ‬منها‭ ‬الفيلسوف‭ ‬فيكتور‭ ‬برومبرت‭.‬

  ‬والكاتبة‭ ‬الكبيرة‭ ‬وهي‭ ‬تشير‭ ‬إليها‭ ‬بعبقرية‭ ‬رؤى،‭ ‬وشجاعة‭ ‬قلم،‭ ‬متوّجة‭ ‬بنبضٍ‭ ‬وطني‭ ‬قومي‭ ‬إنساني،‭ ‬تجسّده‭ ‬عبارات‭ ‬وجُمل‭ ‬سطت‭ ‬سلميًا‭ ‬على‭ ‬قوافي‭ ‬القصيدة،‭ ‬ثمرة‭ ‬قريحة‭ ‬صافية،‭ ‬صفاء‭ ‬سماء‭ ‬الوطن،‭ ‬وأصابع‭ ‬لا‭ ‬ترتعش‭ ‬كرئةٍ‭ ‬شجرة‭ ‬ترتّب‭ ‬خضرة‭ ‬أغصانها،‭ ‬وعطر‭ ‬ثمرها،‭ ‬وأفياء‭ ‬أطيارها‭... ‬وهي‭ ‬تنتصرُ‭ ‬لبلدِها‭ ‬الكويت‭ ‬تارة،‭ ‬وتارة‭ ‬أخرى‭ ‬لفلسطين،‭ ‬ولبنان،‭ ‬وليبيا‭: ‬‮«‬إنَّ‭ ‬السياسة‭ ‬الليبية‭ ‬ليست‭ ‬سياسة‭ ‬مشاعة‭ ‬أو‭ ‬مجانية‭ ‬لتناقشها‭ ‬أمريكا‭ ‬على‭ ‬طريقتها‭ ‬الخاصة،‭ ‬ولكنّها‭ ‬حالة‭ ‬خاصة،‭ ‬يجب‭ ‬احترامها‭ ‬قبل‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬صراعٍ‭ ‬معها‮»‬‭ (‬ص‭ ‬69‭).‬

 

بين‭ ‬السياسة‭ ‬والإرادة

ووفقًا‭ ‬لعبارة‭ ‬ستندال‭ ‬بأنَّ‭ ‬‮«‬السياسة‭ ‬مجرّد‭ ‬عائق‭ ‬أمام‭ ‬الإرادة‮»‬،‭ ‬فإنَّ‭ ‬الكاتبة‭ ‬بفيض‭ ‬قريحة‭ ‬تضع‭ ‬أصبعها‭ ‬على‭ ‬الخريطة‭ ‬العربية‭ ‬بوعي،‭ ‬مشيرةً‭ ‬إلى‭ ‬العثرات‭ ‬التي‭ ‬وضعتها‭ ‬الأجندات‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬طريقنا‭... ‬منها‭ ‬العزل‭ ‬والإقصاء‭ ‬بقرارات‭ ‬عاطفية‭ ‬انفعالية،‭ ‬كما‭ ‬حصل‭ ‬لمصرَ‭ ‬العروبة،‭ ‬بعد‭ ‬اتفاقيات‭ ‬كامب‭ ‬ديفيد‭ ‬الهزيلة،‭ ‬وهي‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬أثقلَ‭ ‬الحياة‭ ‬العربية،‭ ‬وكان‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬الكوارث،‭ ‬والهزائم،‭ ‬والخلافات،‭ ‬والفرقة،‭ ‬والنزاعات‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬أدى‭ ‬إخراج‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬المسرح‭ ‬السياسي‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الدّوار‭ ‬والترنّح‭ ‬والغثيان،‭ ‬لا‭ ‬نزال‭ ‬نعانيها‭ ‬حتى‭ ‬الآن‮»‬‭ (‬ص‭ ‬78‭).‬

‭ ‬والنظرُ‭ ‬بعيون‭ ‬الكلمات‭ ‬البركانية،‭ ‬فإنَّ‭ ‬الوطن‭ ‬أرضٌ‭ ‬وشعبٌ‭ ‬وليس‭ ‬حاكمًا‭ ‬أو‭ ‬رئيسًا،‭ ‬وعودة‭ ‬مصر‭ ‬إلى‭ ‬الصف‭ ‬العربي،‭ ‬هي‭ ‬عودة‭ ‬طبيعية،‭ ‬هي‭ ‬انتصار‭ ‬عربي‭/ ‬إنساني‭/ ‬حضاري،‭ ‬وهل‭ ‬يُعاقب‭ ‬الأبناء‭ ‬البارّون‭ ‬أمّهم‭ ‬الحنون؟‭: ‬‮«‬وبإسقاط‭ ‬دورها‭ ‬العربي‭ ‬سقطنا‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الانحطاط‭ ‬السياسي‭ ‬العسكري‭ ‬والقومي‮»‬‭ (‬ص‭ ‬78‭).‬

  ‬في‭ ‬روايتهِ‭ ‬‮«‬ربيع‭ ‬أسود‮»‬‭ ‬أيضًا‭ ‬يكتبُ‭ ‬الروائي‭ ‬المتمرّد‭ ‬هنري‭ ‬ميللر‭: ‬‮«‬أرى‭ ‬أمريكا‭ ‬تنشرُ‭ ‬الدمار،‭ ‬أرى‭ ‬أمريكا‭ ‬لعنة‭ ‬سوداء‭ ‬على‭ ‬العالم،‭ ‬أرى‭ ‬ليلًا‭ ‬طويلًا‭ ‬يحلّ،‭ ‬وذاك‭ ‬الفطرُ‭ ‬الذي‭ ‬سمّ‭ ‬العالم‭ ‬يذوي‭ ‬من‭ ‬جذورهِ‮»‬‭ (‬ص‭ ‬21‭).‬

‭ ‬وهذه‭ ‬ليست‭ ‬نبوءة،‭ ‬لأنها‭ ‬بالفعل‭ ‬لعنة،‭ ‬وجرحٌ‭ ‬غائرٌ‭ ‬في‭ ‬لحمِ‭ ‬الواقع،‭ ‬فإرهاب‭ ‬إسرائيل‭ ‬هو‭ ‬بعدَ‭ ‬الإرهاب،‭ ‬بفقهِ‭ ‬التوراة‭ ‬المزيّفة،‭ ‬وأبجديتها‭ ‬الدم‭ ‬والجثث‭ ‬والدخان‭ ‬والتوسّع‭ ‬والطغيان‭ ‬والاحتلال‭: ‬‮«‬منذ‭ ‬تشكيل‭ ‬عصابات‭ ‬شتير‭ ‬والهاغانا‭ ‬والأرغون‭ ‬في‭ ‬الأربعينيات‭ ‬حتى‭ ‬تشكيل‭ (‬جيش‭ ‬الدفاع‭ ‬الإسرائيلي‭) ‬لم‭ ‬تختلف‭ ‬الأساليب،‭ ‬ولا‭ ‬طرق‭ ‬الممارسة،‭ ‬وإنما‭ ‬تحوّل‭ ‬الإرهاب‭ ‬من‭ ‬إرهاب‭ ‬فردي‭ ‬إلى‭ ‬إرهاب‭ ‬رسمي‮»‬‭ (‬ص‭ ‬80‭).‬

 

عالم‭ ‬منحاز

وخريطة‭ ‬الإرهاب‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬وأجندة‭ ‬القتل‭ ‬اليومي،‭ ‬والدمار‭ ‬والمذابح‭ ‬بلا‭ ‬حدود‭ ‬من‭ ‬دير‭ ‬ياسين،‭ ‬وقبية،‭ ‬وكفر‭ ‬قاسم،‭ ‬وليس‭ ‬انتهاء‭ ‬بصبرا‭ ‬وشاتيلا‭... ‬وغزة‭ ‬وجنين‭ ‬وبقية‭ ‬المدن‭ ‬الفلسطينية‭ ‬الآمنة،‭ ‬ترفع‭ ‬شكواها‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬أفعال‭ ‬العصابات‭ ‬الصهيونية‭ ‬الدموية‭: ‬‮«‬الإرهاب‭ ‬بالنسبة‭ ‬لإسرائيل‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬تشكيلها‭ ‬العضوي‭ ‬والوراثي،‭ ‬وجزء‭ ‬من‭ ‬غرائزها‭ ‬الأولى‮»‬‭ (‬ص‭ ‬81‭).‬

وداعم‭ ‬هؤلاء‭ ‬الإرهابيين‭ ‬الأزليين،‭ ‬وفيتامين‭ ‬بشاعتهم‭ ‬مصدره‭ ‬‮«‬اللعنة‭ ‬السوداء‭ ‬على‭ ‬العالم‮»‬،‭ ‬أمريكا،‭ ‬حامية‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭ ‬السرطاني‭ ‬بإصرار،‭ ‬وهي‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬انتشار‭ ‬فيروسه‭ ‬اللعين‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬بقعة‭ ‬من‭ ‬الجسد‭ ‬الفلسطيني‭ ‬العربي‭...!‬

إنَّ‭ ‬إسرائيل‭ ‬دولة‭ ‬عنصرية،‭ ‬نازية‭ ‬مكشوفة،‭ ‬هدفها‭ ‬واضح‭ ‬وضوح‭ ‬الشمس،‭ ‬وبقوة‭ ‬أبجدية‭ ‬الحق‭ ‬والعدالة‭... ‬وتحت‭ ‬ميكروسكوب‭ ‬العالم‭ ‬المنحاز‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬أنَّ‭ ‬أمن‭ ‬إسرائيل‭ ‬واجب‭ ‬قوميّ،‭ ‬وأنَّ‭ ‬كلّ‭ ‬فعلٍ‭ ‬شيطاني‭ ‬لها‭ ‬مشروع،‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬سوى‭ ‬الحمامة‭ ‬الوديعة،‭ ‬تدافع‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬بجناحين‭ ‬منكسرين‭ ‬من‭ ‬هجمات‭ ‬واعتداءات‭ ‬الصقر‭ ‬العربي‭! ‬‮«‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬مُنجّم‭ ‬هندي‭ ‬لاكتشاف‭ ‬نواياها‭ ‬ومخططاتها‭ ‬القريبة‭ ‬والبعيدة،‭ ‬فهي‭ ‬تطبّق‭ ‬كل‭ ‬تجاربها‭ ‬العرقية‭ ‬والتوسعية‭ ‬والفاشستية‭ ‬علينا‭ ‬منذ‭ ‬عشرات‭ ‬السنين،‭ ‬بنسقٍ‭ ‬واحدٍ‭ ‬مكرّر،‭ ‬يُشبهُ‭ ‬دقات‭ ‬الساعة‮»‬‭ (‬ص‭ ‬83‭).‬

في‭ ‬رائعته‭ ‬‮«‬كرسي‭ ‬النّسر‮»‬‭ ‬أيضًا،‭ ‬كتبَ‭ ‬كارلوس‭ ‬فوينتس‭: ‬‮«‬يعتقدُ‭ ‬صاحبُ‭ ‬السلطة‭ ‬دائمًا‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬حقّ،‭ ‬وأنَّ‭ ‬مَن‭ ‬يعارضهُ‭ ‬خائن،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬أقلّ‭ ‬تقدير‭ ‬شخص‭ ‬لا‭ ‬لزوم‭ ‬لهُ‮»‬‭ (‬ص‭ ‬44‭).‬

 

مرآة‭ ‬صدئة

وليسَ‭ ‬لصاحب‭ ‬السلطة‭ ‬من‭ ‬تعريف‭ ‬أدقّ‭ ‬من‭ ‬‮«‬الدكتاتور‮»‬،‭ ‬ووفق‭ ‬الروائي‭ ‬ماريو‭ ‬فراجاس‭ ‬يوسا،‭ ‬فإن‭ ‬‮«‬الدكتاتورية‭ ‬غريزة‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬على‭ ‬تدمير‭ ‬العقل‭ ‬البشري،‭ ‬وتدمير‭ ‬المبادئ‭ ‬والقيم،‭ ‬وتحويل‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬وحوشٍ‭ ‬صغيرة‮»‬،‭ ‬وما‭ ‬جاء‭ ‬بهِ‭ ‬العبقري‭ ‬جورج‭ ‬أوريل‭ ‬في‭ ‬‮«‬مزرعة‭ ‬الحيوانات‮»‬‭ ‬كيمياء‭ ‬إمبراطورية‭ ‬‮«‬الأخ‭ ‬الكبير‮»‬‭/ ‬الدكتاتور،‭ ‬وهي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬مآسي‭ ‬السياسة‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬‮«‬تجعلُ‭ ‬أكثرَ‭ ‬الرجال‭ ‬قُبحًا‭ ‬جميلًا‮»‬،‭ ‬وفق‭ ‬تعبير‭ ‬فوينتس‭ ‬أيضًا‭... ‬وهو‭ ‬يقوم‭ ‬بقتل‭ ‬أحلامنا،‭ ‬واختصار‭ ‬أزماننا،‭ ‬ولا‭ ‬يرى‭ ‬إلّا‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬مرآة‭ ‬الواقع‭ ‬الصدئة‭ ‬المتصدعة،‭ ‬وهي‭ ‬تجسّد‭ ‬خطواته‭ ‬الطاووسية،‭ ‬ونواياه‭ ‬وخططه‭ ‬الجحيمية‭... ‬ودخول‭ ‬دكتاتور‭ ‬العراق‭ ‬الكويت،‭ ‬والعبث‭ ‬بأحلام‭ ‬وحياة‭ ‬شعبها‭ ‬الآمن‭ ‬خطأ‭ ‬فادح،‭ ‬بل‭ ‬ذنب،‭ ‬وشاطئ‭ ‬المغفرة‭ ‬بعيد،‭ ‬وهو‭ ‬بداية‭ ‬تصدّع،‭ ‬وتمزّق،‭ ‬وتشرذُم‭ ‬هذا‭ ‬الوطن،‭ ‬وابتلائه‭ ‬بجراح‭ ‬نازفة‭ ‬مميتة‭ ‬حتى‭ ‬انتهاء‭ ‬الزمان‭: ‬‮«‬وإذا‭ ‬استمرَ‭ (‬الرجل‭ ‬الواحد‭/ ‬الدكتاتور‭) ‬يُقرّر‭ ‬وحده‭ ‬مصائر‭ ‬البشر،‭ ‬ومصائر‭ ‬الشجر،‭ ‬ويلغي‭ ‬دولًا‭ ‬بمرسوم‭ ‬جمهوري،‭ ‬ويزحزحُ‭ ‬الحدود‭ ‬الدولية‭ ‬كما‭ ‬يزحزح‭ ‬حجارة‭ ‬الشطرنج‭... ‬إذا‭ ‬استمرَ‭ ‬الرجلُ‭ ‬الواحد‭ ‬يقولُ‭ ‬للتاريخ‭ ‬كنْ‭ ‬فيكون،‭ ‬فلن‭ ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬دولة‭ ‬عربية‭ ‬واحدة‭ ‬على‭ ‬الخريطة‮»‬‭ (‬ص‭ ‬89‭).‬

الناسُ‭ ‬أحلام‭... ‬يقولُ‭ ‬النثرُ‭ ‬الخرافيّ‭ ‬ذلكَ‭!!‬

وتؤكّد‭ ‬ذلك‭ ‬الكتابة‭/ ‬الضد‭... ‬والكتابة‭/ ‬الحياة‭... ‬والكتابة‭/ ‬الخلخلة‭!!‬

و«مرّت‭ ‬السنوات‭... ‬ومازالت‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الكلمات‮»‬‭ ‬برقّة‭ ‬جُملهِ،‭ ‬وسحر‭ ‬مفرداته‭ ‬يقولُ‭ ‬ذلك‭ ‬أيضًا‮»‬‭!‬

والكاتبة‭ ‬الكبيرة‭ ‬د‭. ‬سعاد‭ ‬الصباح‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السِّفر‭/ ‬النزيف‭ ‬الروحي،‭ ‬ومفرداته‭ ‬البركانية،‭ ‬صدىً‭ ‬لأوركسترا‭ ‬كونية،‭ ‬تُراهنُ‭ ‬على‭ ‬الحُلم‭ ‬المصادر‭/ ‬الوحدة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬إيقاع‭ ‬خيال‭ ‬الواقع‭...!  ‬وفي‭ ‬الواقع‭/ ‬الخيال‭ ‬فإننا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬هذا‭ ‬الحُلم‭ ‬لسنا‭ ‬سوى‭ ‬صدىً‭ ‬لبطل‭ ‬كارلوس‭ ‬فوينتس‭ ‬في‭ ‬روايته‭ (‬الغرنغو‭ ‬العجوز‭) ‬وهو‭ ‬يصرخُ‭: ‬‮«‬إنّنا‭ ‬لا‭ ‬شيء‭... ‬ولا‭ ‬أحد‭!‬‮»‬‭.‬

 

حديث‭ ‬ذو‭ ‬شجون‭ 

‭ ‬والوحدة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السِّفر‭ ‬الشفاف،‭ ‬حديث‭ ‬ذو‭ ‬شجون‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭  ‬والحاضر‭... ‬بينَ‭ ‬الزهو‭ ‬بالماضي،‭ ‬حيث‭ ‬شموخ‭ ‬شجرة‭ ‬الكبرياء‭ ‬والعزّة،‭ ‬والحاضر‭ ‬القاتم‭ ‬والحزين،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬إيقاع‭ ‬مقيت‭ ‬من‭ ‬الفرقة‭ ‬والتناحر،‭ ‬وعودة‭ ‬للثارات‭ ‬التغلبية،‭ ‬بين‭ ‬حماسة‭ ‬‮«‬كليب‮»‬‭ ‬وغدر‭ ‬‮«‬جسّاس‮»‬‭ ‬ورعونته،‭ ‬وكأنَّ‭ ‬ناقة‭ ‬‮«‬البسوس‮»‬‭ ‬لمْ‭ ‬يُؤخذ‭ ‬بثأرها‭ ‬بعدُ‭: ‬‮«‬فالأقطار‭ ‬العربية‭ ‬تبدو‭ ‬الآن‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الجُزر‭ ‬النائية،‭ ‬المتقاتلة،‭ ‬المتناحرة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يجمع‭ ‬بينها‭ ‬شيء،‭ ‬إنّها‭ ‬جزر‭ ‬يتجسّد‭ ‬فيها‭ ‬الإحساس‭ ‬القطري‭ ‬بأعلى‭ ‬أشكاله،‭ ‬كما‭ ‬تتجلى‭ ‬فيها‭ ‬الأنانية‭ ‬وعبادة‭ ‬الذات‭ ‬وإيثار‭ ‬المصلحة‭ ‬القطرية‭ ‬الضيقة‭ ‬على‭ ‬المصلحة‭ ‬القومية‭ ‬العُليا‮»‬‭ (‬ص‭ ‬114‭).‬

والوحدة‭ ‬العربية‭ ‬بفقهِ‭ ‬نثر‭ ‬الكاتبة‭ ‬الكبيرة‭ ‬
د‭. ‬سعاد‭ ‬الصباح‭ ‬موجودة‭ ‬وراسخة‭ ‬في‭ ‬أحاسيس‭ ‬الشعوب،‭ ‬وهي‭ ‬وليمة‭ ‬عظمى،‭ ‬ولا‭ ‬أجندة‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬حسابات‭ ‬الحاكمين‭ ‬المتغطرسين‭ - ‬الذين‭ ‬ترتعدُ‭ ‬فرائصهم‭ ‬خوفًا‭ ‬على‭ ‬كراسيهم‭ - ‬إلّا‭ ‬ألفاظًا‭ ‬مترهّلة‭ ‬في‭ ‬الخطب‭ ‬والمؤتمرات‭ ‬وهي‭ ‬صور‭ ‬للذكرى،‭ ‬ومضيعة‭ ‬وقت‭ ‬ثمين‭ ‬في‭ ‬حسابات‭ ‬الشعوب‭: ‬‮«‬فالجماهير‭ ‬العربية‭ ‬هي‭ ‬وحدوية‭ ‬بالفطرة،‭ ‬بينما‭ ‬أكثر‭ ‬الحكومات‭ ‬العربية‭ ‬هي‭ ‬انفصالية‭ ‬مع‭ ‬الإصرار‭ ‬والتصميم‮»‬‭ (‬ص‭ ‬115‭).‬

نحنُ‭ ‬والغرب‭ ‬على‭ ‬طاولة‭ ‬التاريخ،‭ ‬وعبر‭ ‬شطحات‭ ‬أقلام‭ ‬رواتهِ،‭ ‬وصفحاته‭ ‬الصفراء‭... ‬في‭ ‬مفترقِ‭ ‬طرق‭!‬

وحسب‭ ‬نبض‭ ‬ذاكرة‭ ‬الكاتبة‭ ‬الكبيرة،‭ ‬التي‭ ‬يسخرُ‭ ‬نسيجها‭ - ‬وهو‭ ‬بكيمياء‭ ‬زهرة‭ ‬تتشكّلُ‭ - ‬من‭ ‬غزوات‭ ‬النسيان،‭ ‬التاريخُ‭ ‬يُحاكمُ،‭ ‬برُواتهِ،‭ ‬وصفحاته،‭ ‬وحروفه،‭ ‬فالغرب‭ ‬هو‭ ‬الصانع‭ ‬الأمهر‭ ‬للأكاذيب‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تمتّ‭ ‬بصلةٍ‭ ‬إلى‭ ‬الإنسانية‭ ‬والحضارة‭... ‬وكذبة‭ ‬
الـ‭ ‬‮«‬دياسبورا‮»‬‭/ ‬يهود‭ ‬الشتات،‭ ‬صوغ‭ ‬مريب‭  ‬فقط‭ ‬لتمكين‭ ‬شذّاذ‭ ‬الآفاق‭ ‬التوراتيين‭ ‬من‭ ‬احتلال‭ ‬أرض‭ ‬عربية،‭ ‬شعبها‭ ‬يتقيأ‭ ‬خطاهم‭ ‬الآثمة،‭ ‬وقد‭ ‬أصبحوا‭ ‬كيانًا‭ ‬مؤيدًا‭ ‬بعالم‭ ‬بضميرٍ‭ ‬كارتوني،‭ ‬صارَ‭ ‬صاحب‭ ‬الأرض‭ ‬ظلمًا،‭ ‬وأصحابها‭ ‬الشرعيون‭ ‬مَن‭ ‬سقوها‭ ‬بدموعهم‭ ‬وعرَقهم،‭ ‬في‭ ‬عراء‭ ‬التاريخ‭ ‬و‮«‬دياسبورا‮»‬‭ ‬من‭ ‬نوعٍ‭ ‬آخر‭: ‬‮«‬فقد‭ ‬اختفت‭ ‬كلمة‭ ‬دياسبورا‭ ‬من‭ ‬القاموس‭ ‬العبري،‭ ‬لتدخل‭ ‬القاموس‭ ‬العربي،‭ ‬ولم‭ ‬يعُد‭ ‬التاريخ‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬الشتات‭ ‬اليهودي،‭ ‬والتيه‭ ‬اليهودي،‭ ‬والضياع‭ ‬اليهودي،‭ ‬وإنّما‭ ‬صار‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬ولادة‭ (‬دياسبورا‭ ‬عربية‭) ‬جديدة،‭ ‬تحملُ‭ ‬حقائبها‭ ‬وأطفالها‭ ‬وأحزانها‭ ‬على‭ ‬أكتافها،‭ ‬وتتسكّع‭ ‬على‭ ‬أرصفة‭ ‬المدن‭ ‬الغربية،‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬فتات‭ ‬الخبز،‭ ‬وفتات‭ ‬الحرية‮»‬‭ (‬ص‭ ‬123‭).‬

 

أبجدية‭ ‬جديدة

هذه‭ ‬خلاصة‭ ‬التاريخ‭ ‬بأبجدية‭ ‬جديدة،‭ ‬متعثّرة‭ ‬الحروف‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬إنسكلوبيديا‭ ‬الواقع‭/ ‬التاريخ‭ ‬الذي‭ ‬يكتبهُ‭ ‬الغرب‭ ‬المنحاز‭ ‬منذ‭ ‬الأزل،‭ ‬ومع‭ ‬الأسف‭ ‬يراهُ‭ ‬فوكو

ياما‭: ‬‮«‬هو‭ ‬التاريخ‭ ‬الجوهري‭ ‬المستمر،‭ ‬بينما‭ ‬تواريخ‭ ‬العالم‭ ‬الآخر‭ ‬مجرّد‭ ‬تواريخ‭ ‬سطحية‭ ‬عابرة،‭ ‬يُمكنُ‭ ‬القفز‭ ‬عليها‮»‬‭ (‬نهاية‭ ‬التاريخ‭ ‬وخاتم‭ ‬البشر‭ ‬–‭ ‬ص‭ ‬126‭).‬

وينتهي‭ ‬هذا‭ ‬السِّفر‭ ‬الحُلميّ‭ ‬بالأملِ‭/ ‬المستحيل‭...!!‬

والكاتبة‭ ‬د‭. ‬سعاد‭ ‬الصباح‭ ‬ولحظات‭ ‬مرحِ‭ ‬روحٍ‭ ‬صوفي،‭ ‬تنساب‭ ‬الكلمات‭ ‬على‭ ‬أصابعها،‭ ‬بنشوة‭ ‬لحظات‭ ‬زفاف‭ ‬كوني،‭ ‬حين‭ ‬تمطرُ‭ ‬سُحبُ‭ ‬الأمل،‭ ‬ويُؤرّخُ‭ ‬للبطولة،‭ ‬وتسطعُ‭ ‬شمسُ‭ ‬الشجاعة‭ ‬والجرأة‭ ‬لتلوّن‭ ‬الأرض‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬عادتها،‭ ‬في‭ ‬ضفائر‭ ‬من‭ ‬ذهب،‭ ‬وضوء‭ ‬من‭ ‬كريستال،‭ ‬ونهار‭ ‬طازج‭ ‬الخطوات‭ ‬فوق‭ ‬أرض‭ ‬فلسطين،‭ ‬لحظات‭ ‬غضب‭ ‬الأرض‭/ ‬الحبّ،‭ ‬وهي‭ ‬تثورُ‭ ‬بزيتونها،‭ ‬وبرتقالها،‭ ‬وتاريخها‭ ‬الكنعاني،‭ ‬وإنسانها‭ ‬الصابر،‭ ‬لتُجدّد‭ ‬الذاكرة‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬ترهّل‭ ‬نسيجها‭ ‬لكثرة‭ ‬ما‭ ‬غطّاها‭ ‬الصدأ‭ ‬والغبار‭ ‬والظلمة‭... ‬وكان‭ ‬قائد‭ ‬هذه‭ ‬البطولة‭ ‬الأسطورية‭ ‬–‭ ‬الطفلُ‭ ‬الفلسطينيّ،‭ ‬إلهُ‭ ‬الانتفاضة،‭ ‬وصانع‭ ‬سيمفونيا‭ ‬البطولة‭ ‬التي‭ ‬فاقت‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬اختزنته‭ ‬أصابع‭ ‬بيتهوفن‭ ‬وموزارت‭ ‬من‭ ‬جنونٍ‭ ‬ضروري‭... ‬في‭ ‬انتفاضة‭ ‬للحق‭ ‬والعدل‭ ‬والأرض،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬‮«‬زلزال‭ ‬ديسمبري‮»‬‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬غير‭ ‬كلّ‭ ‬السنين،‭ ‬1987،‭ ‬حيث‭ ‬ظهور‭ ‬الطفل‭ ‬الفلسطيني‭ ‬كمسيح‭ ‬جديد،‭ ‬وهو‭ ‬يسأل‭ ‬أمّهُ‭ ‬الأرض،‭ ‬سؤال‭ ‬‮«‬أوريو‮»‬‭ ‬بطل‭ ‬كالروس‭ ‬فوينتس‭ ‬للكولونيل‭ ‬في‭ (‬الغرنغو‭ ‬العجوز‭): ‬‮«‬لكنّني‭ ‬أسألك‭ ‬أيهما‭ ‬أكثر‭ ‬أهمية‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬بها‭ ‬نعيش‭ ‬أم‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬بها‭ ‬نموت؟‭ ‬ويجيب‭: ‬‮«‬بالطبع‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬يموت‭ ‬بها‭ ‬المرء‮»‬‭ (‬ص‭ ‬82‭).‬

واختار‭ ‬الطفلُ‭ ‬الفلسطينيّ‭/ ‬المسيح‭ ‬الجديد‭ ‬أن‭ ‬يُؤلّف‭ ‬سيمفونيا‭ (‬الموت‭ - ‬الحياة)‭‬،‭ ‬وهو‭ ‬يجدّد‭ ‬الأمل‭/ ‬الفرح‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬الأرض‭/ ‬الوطن ‭: ‬‮«‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬نسمّيها‭ (‬السيمفونية‭ ‬الغزاوية‭) ‬تلك‭ ‬السيمفونية‭ ‬الرائعة‭ ‬التي‭ ‬انطلقت‭ ‬من‭ ‬شوارع‭ ‬غزة،‭ ‬لتوقظ‭ ‬ضمير‭ ‬العالم‭ ‬بضربات‭ ‬طبولها،‭ ‬وهدير‭ ‬آلاتها‭ ‬النحاسية،‭ ‬ومهارة‭ ‬عازفيها‮»‬‭ (‬ص‭ ‬147‭) .‬

الكاتبة‭ ‬الكبيرة‭ ‬د‭. ‬سعاد‭ ‬الصباح‭ ‬في‭ ‬‮«‬مرّت‭ ‬السنوات‭... ‬ومازالت‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الكلمات‮»‬‭ ‬تنتقلُ‭ ‬ببراعة،‭ ‬بصفحات‭ ‬تاريخنا‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬اللغة (‬المكتوبة)‭ ‬و(‬المنطوقة‭( ‬إلى‭ ‬اللغة‭ )‬البصرية) ... ‬ وهي‭ ‬تعيد‭ ‬تشكيل‭ ‬الحُلم،‭ ‬وتوقظ،‭ ‬وتذكّر،‭ ‬تحكُّ‭ ‬على‭ ‬الجرح،‭ ‬تُحاكمُ،‭ ‬وتراهنُ‭ ‬على‭ ‬الأمل‭/ ‬المستحيل‭!..‬■

د‭. ‬سعاد‭ ‬الصباح‭ ‬مشاركة‭ ‬في‭ ‬ندوة‭ ‬‮«‬حوار‭ ‬المشارقة‭ ‬والمغاربة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أقامتها‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2004