الفراغات والخرق اللغوي بلاغةُ الصّمت في روايات إسماعيل الفهد

الفراغات والخرق اللغوي بلاغةُ الصّمت في روايات إسماعيل الفهد

عبر مسيرة إبداعية تجاوزت نصف القرن، وتمخّضت عن نحو ثلاثين رواية، إضافة إلى عدد من المسرحيات والكتب النقدية والبحثية، كرّس الكاتب إسماعيل فهد إسماعيل اسمه كنجم روائي لامع في سماء المشهد الثقافي العربي، عدا عن كونه من الرواد الذين أسسوا لفنّ الرواية في الكويت، في وقت ما كان يتجاوز عدد الروايات فيه عدد أصابع اليد الواحدة. وقد لا أجانب الصواب إذ أقول إنه رائد الرواية الكويتية، حين الحديث عنها كفنّ يعتمد الحكاية كعنصر من عناصر عديدة يقوم عليها الفن الروائي.

إن المتابع للمنجز الروائي لإسماعيل الفهد يستطيع بسهولة ملاحظة أنه لم يبدأ مقلدًا، بل مجربًا ومغامرًا منذ روايته الأولى «كانت السماء زرقاء»، التي كتبها عام 1965 ولم تنشر إلّا في عام 1970، وبدت كخطوة أولى في طريق طويل من الجرأة والتجريب. فمثلما انفتحت رواياته فكريًا على القضايا العربية، انفتحت على التجريب الفني من أوسع أبوابه. ورواية بعد أخرى اتضح أنه خلق لنفسه كونًا روائيًا خاصًا بات يميزه ويُعرف به، ومن علائمه تيار الوعي، والمونتاج السينمائي، ومسرحة الرواية.
أما الأهم والأميز من كل ذلك فهو اللغة، حيث لم يَقُصر الفهد مغامرته في التجريب على التقنيات السردية الجديدة، بل تجرّأ أكثر وغامر في اللعب على اللغة، في محاولة حثيثة ومتواصلة لجعلها تقنية من تقنيات البناء الفني الروائي، ونقلها من قطبها الاعتيادي في التوصيل النفعي المباشر إلى كون مشبّع بالتأويل والدلالات، فراح يعتمد الفراغ وصولًا إلى الامتلاء، والاختصار، وصولًا إلى الإضافة، والتضييق وصولًا إلى الاتساع، حتى غدا الصمت أكثر بلاغة من الكلام. وقد عوّل في ذلك على القارئ كثيرًا، إذ اعتبره شريكًا رئيسًا في صياغة لغة لن تنجز مهمتها الجمالية بدونه.
عن ذلك قال الكاتب، كما ورد في كتاب د. مرسل العجمي، «إسماعيل فهد إسماعيل... ارتحالات كتابية»: «لا بدّ من الاعتراف هنا بأن الكتابة باتت صعبة أكثر، فقد أصبح أمامي مجموعة أهداف من بينها دوري - بصفتي كاتبًا - في الاشتغال على اللغة كي أبقي لنفسي على صوتي الخاص، وسط التطور الذي بلغته الرواية العربية عمومًا بوصولها إلى مستوى العالمية» (ص 17). كما قال في شهادة روائية وثّقها الجزء الثاني من كتاب «الرواية العربية... ممكنات السرد»: «... واللغة - كما تحلم بها - ليست موازيًا لعدسة كاميرا تكتفي بنقل صورة ما أو وصفها، وإنّما هي منحى لأن تصبح حاملًا دراميًا يشتبك من داخله بعلاقات جدلية نامية، تتمثّل عالمًا حيًا يحتوي الشخوص والأزمنة والأمكنة والأحداث بحضور كثيف». (ص 245).

الفراغ والتأويل
منذ البداية حاول أن يبني عالمه اللغوي الخاص، مستعينًا بتقنيات الحذف والتكثيف والاختصار، بغية الاستحواذ على القدر الأكبر من الشحن والتوتر والتركيز. وما فتئ ذلك يظهر منذ روايته الأولى «كانت السماء زرقاء»، ويتطور أكثر فأكثر في رواياته اللاحقة.
ونرصد ذلك بسهولة في الرواية الأولى، سواء من خلال الحوار الذي يدور بين بطل الرواية والضابط الجريح، أو من خلال مونولوجات البطل التي تنفتح على مراحل مفصلية من حياته. وكمثال على ذلك نقرأ: «اقفز!!... الأسلاك!» (ص 8)، «مادامت... فلأكن...» (ص 26)، «كل شيء... حتى الهدف الذي رميت... من جراء كسب...» (ص 73)، «وإن كنت أمتّ لك بصلة من القرابة البعيدة... لكنّي مطلّق ومن غير المعقول ...» (ص 80).
يشكّل هذا اللعب على الفراغ طلبًا ملحًا للقارئ للمشاركة في ملئه، فعدا عن أنه يثير مكامن التأويل، فهو ينضح العالم الجواني للشخصية المتكلمة. ومن خلال التصاق القارئ بأجواء الحكاية يغدو المحذوف، المتمثل بنقاط متتالية، أكثر حضورًا من التصريح به. فهو يدفع القارئ إلى تقمّص الشخصية الروائية من جهة، ويحفزه على تمثّل أكثر من تأويل له من جهة أخرى. وهو بهذه الحال يكون أكثر حضورًا وامتلاء من التصريح، الذي لو أعلن عنه لحدّد المعنى، وأغلق أفق التأويل.
 مثل هذا الفراغ الظاهري يظهر بجلاء أكثر في رواية «ملف الحادثة 67»، التي جاءت كرواية ممسرَحة غلبت عليها تقنية الحوار. إنها عبارة عن تحقيق مفتوح تجريه السلطات الأمنية مع متهم بالقتل، مما أعطى للحوار دورًا بارزًا، لكنّ ذلك لم يمنع من اتكاء المؤلف على المونولوج الداخلي الذي ما فتئ المتهم المعتقل يلجأ إليه لتفتح الذاكرة كوىً على خلفيته الشخصية وملابسات الجريمة. 

دلالات متعددة
في كلتا التقنيتين نلمس بشكل واضح تعمّد الكاتب بتر الجمل والاتكاء على البياض/ الفراغ، حيث نقرأ: «عندما... عليك... تسكت...» (ص 13)، «أنا... أنتم... لو...» (ص 18)، «هو مجرد كلب... صحيح هو كبير ... لكنه بالرغم ... يا إلهي!» 
(ص 35)، «أنا... هي... أطفالي... الغربة... هي جنت... لماذا أنا هنا؟!» (ص 74).
مما لا شك فيه أن هذا الحذف يعكس حالة المتهم النفسية المتخمة بالخوف والتشتت، لكنّه يكشف في الوقت ذاته عمّا أضمره هذا الحذف من خلال تحفيز القارئ على استحضاره. وبالتالي يبدو هذا الحذف في أحد جوانبه استغناء عن بدهيات لا داعي لذكرها، كأن نملأ الفراغات في عبارة «عندما... عليك... تسكت» لتبدو «عندما يتكلم المحقق عليك أن تسكت»، لكنه في جانب آخر يأتي كتكثيف لحمولات دلالية عميقة، فالحذف في قوله: «أنا... هي ... أطفالي... الغربة ... هي جنت ... لماذا أنا هنا؟!» لا يختصر كما يبدو شكليًا، بل يفتح المجال أمام القارئ لسدّ الفراغات بدلالات متعددة ما كانت ستثار في ذهن القارئ لو عمد الكاتب إلى سدها، لأنه يكون بذلك قد وضع دلالة واحدة محددة لا غير.
لكن في أحيان كثيرة كانت الفراغات تأتي كمحاولة للحفاظ على رشاقة النص، عن طريق الاستغناء عمّا يفترض أنه بدهيات، يمكن لأي قارئ أن يحدسها، فيملأ تلك الفراغات آليًا. بيد أن ذلك لا يمنعنا من الوقوف على حقيقة تعمّدها إسماعيل الفهد، وهي عدم الانتقاص من ملكات القارئ، بل تحفيزه لإعمالها عن طريق التحول من وضعية القارئ المستهلك السلبي إلى وضعية القارئ المنتج.
 وهكذا، رأينا الكاتب يمارس الحذف المتعمد في رواية «الطيور والأصدقاء» بغية عدم إتخام النص بكلام يمكن إسقاطه مباشرة، واستحضاره بشكل غير مباشر بالاعتماد على الجو العام للحكاية، وعلى المتبقي من الجمل التي كان يفترض تضمينها ذلك الكلام المحذوف.
 
تكثيف المعنى
إذًا هو الابتعاد عن إثقال الجملة بمعنى يمكن إنجازه عفويًا من خلال تأويل محدد يذهب إليه المتلقي فور قراءته الجملة في سياقها. وهذا ما يمكن أن نتلمّسه في الفراغات التي تركها الكاتب في الكثير من جمل رواية «الطيور والأصدقاء»، التي انعقدت حكايتها حول سهرة فنية أقيمت في أحد الفنادق وحضرها البطل وصديقته، ومجموعة من التجار وعدد من الفنانين، وكان الحوار سيّد الجلسات. 
فببساطة يمكن للقارئ أن يعرف حين يقرأ «ليست مشكلة... أستطيع وأنا أغادر الحفلة...» (ص 13)، أن المتكلم يعرض على الآخر توصيله بسيارته، وأن المحذوف في «أيها... الكريم» هو «الحضور» أو «الجمهور»، كما يعرف عجز البيت الذي يكتفي الكاتب بذكر صدره «ما كل ما يتمنّى المرء يدركه...»
(ص 57)، وكذا الحال مع «مناسبة سعيدة... أنت مدعو... وإن شئت يمكنك أن...» (ص 74)، و«لم يكن مجرد عقب... كان أكبر من النصف ... ولولا...» (ص 79). 
الوظائف ذاتها في الـتأويل، واستحضار العالم الداخلي للشخصية، وتكثيف المعنى تحملها النقاط في الجمل المبتورة الواردة في رواية «يحدث أمس». فمن السجن المغلق الذي انتهت إليه الشخصيات الرئيسة الثلاث تحملنا الحوارات إلى الفضاء الحياتي المفتوح في الخارج، فنتعرّف من خلال بوحها المباشر، أو المحمول على جناحي الذاكرة، على الحيوات الماضية لكل منهم، والظروف المحيطة التي أوصلتهم إلى هذا السجن.

توحّد الراوي والبطل
يتبدى هذا أكثر من خلال حوارات ومونولوجات بطل الرواية سليمان يوسف، الذي يعود من الكويت إلى البصرة بعد غياب دام سبع سنوات، فيستقل سيارة أجرة إلى قريته.
 وفي أثناء المسير لا يتورع السائق عن تعاطي الكحول عبر طريق يتضمن سبع منعطفات حادة ضمن مسافة تقل عن كيلومتر واحد. وعلى وقع الخوف يناجي سليمان نفسه: «لو أن السيارة...» (ص 11)، ويتذكر طفولته: «طعام الغداء لم يكن قد... فسارعت إلى مخزون التمر...» (ص 20)، ويشلّه الارتباك خلال التحقيق: «سيدي... رحلاتي... لم تكن...» (ص 71)، ويستقرئ الراوي ما يدور في ذهن سليمان حين أزمع البيك توظيفه «لو أن أباه لم...» (ص 88)، وهكذا الحال مع الشخصيات الأخرى في الرواية. 
ما يجدر الانتباه إليه أن استخدام هذا الأسلوب لم يقتصر على الشخصيات في حواراتها أو مونولوجاتها في النصوص الروائية، بل تعدّى ذلك ليكون أسلوبًا للرواة الذين يتولون دفة السرد حتى لو لم يكونوا شخصيات مشاركة في الروايات. 
ففي رواية «بعيدًا إلى هنا» نجد الراوي يقرأ أفكار سعود، بينما يقود سيارته عائدًا من وظيفته: «دقائق ... بعدها... البيت» (ص 7)، ويشرح علاقته بزميل دراسته عبدالحميد الذي صار يشغل رئاسة مخفر السرة: «رغم انخراط الأخير... بزّة عسكرية... إلا أن أواصر صحبتهما... » (ص 7). تمامًا مثل أسلوب سعود في رده على زوجته دلال: «نقودنا التي ادّخرناها لتغطية مصاريف سفرتنا بالكاد...» 
(ص 14)، وأسلوب الخادمة كوماري التي اتهمتها دلال بسرقة عقدها الثمين، وانتهى بها الأمر إلى السجن: «النوم... يستعصي... غالبًا...» (ص 64)، وكذا حين تتذكر أباها في سريلانكا «أبي ... السرطان... عملية جراحية...» (ص 71). 
وعلى الرغم من توحّد الراوي والبطل في شخصية واحدة في رواية «الكائن الظل»، ومن إدراك أن الشخصية الرئيسة الثانية في الرواية تعود إلى العصر العباسي، فإن الأسلوب انسحب على الشخصيتين.

أفق فانتازي
نحن أمام رواية اتخذت من الفانتازيا أفقًا لها من خلال ظهور حرامي بغداد أيام الحكم العباسي، حمدون بن حمدي، لبطل الرواية الطالب الجامعي، الذي كان يعد رسالة بعنوان «بواعث العجب في حياة أشهر لصوص العرب». يتواصل الحوار بين الشخصيتين من بداية الرواية حتى نهايتها، ويتخلل ذلك انفراجات فانتازية تتمثّل بانبثاق شاشة سينمائية تُظهر مشاهد مصورة لمواقف جرت في العصر العباسي. 
مسافات وتواريخ متباعدة وبيئات مختلفة، لكنّ الأسلوب يبقى واحدًا، يستخدمه الطالب الجامعي، ويستخدمه حمدون بن حمدي، وكذا الشخصيات التاريخية العابرة عبر الشاشة السينمائية. 
   فحين يفاجأ الطالب الجامعي بظهور بن حمدي يقول: «لم أتشكك بقواي العقلية لأن الظواهر الحسية المصاحبة...» (ص 21)، وحين تنفتح الشاشة على امرأة من العصر العباسي نسمعها تحاور زوجها: «نضيع ألف دينار ذهبًا!... هذا عدا...» 
(ص 29)، ويردّ زوجها: «لن أقول: عصفور في اليد...» 
(ص 30)، وحين يقرأ الطالب صفحات من المخطوط الذي أحضره بن حمدي نسمعه يُسارِر نفسه: «لو أن متنفذي عصرنا...» (ص 45)، وكذا الحال مع بن حمدي ذاته: «الذي يهمنا أكثر...» (ص 27)، و«زمننا ذاك...» (ص 34)، و«بقي أن تعرف موقع البيت من الحي... من الساحة التي...» (ص 60)، أو «حين لا تملك ما تفقده...» (ص 77). 
الحال ذاتها مع أغلب الروايات اللاحقة للكاتب، وربما جاء ذلك بحسب ما ذهب إليه د. صلاح صالح في كتابه «مشارق الحكي... أبحاث في ظاهرة القص الكويتي»، بقصد «تخليص النص من أثقال لغوية زائدة يمكن الاستغناء عنها، إضافة إلى جعل ما ذكرناه ملمحًا من ملامح الشخوص خلال استغراقها في عوالمها الداخلية، وعجزها عن اكتناه تلك العوالم، أو جعله تصويرًا لحالات التردد، وعدم الوثوق، والجهل التي يؤدي اجتماعها إلى جعل الشخصية تنطق نصف عبارة، وتبقي التتمة معلّقة في الظنون والنوايا، مع إمكانية جعل ذلك أيضًا سبيلًا لإشراك المتلقي في استكمال الحوار، واستكمال العمل الروائي بكامله» (ص 66 - 67).

الخرق اللغوي
 ما يجدر الوقوف عنده هو الخرق اللغوي الذي يصرّ الكاتب على اتخاذه لازمةً تتكرر في عدد من رواياته دون مسوغ نحوي، أو اقتضاء يفرضه ميزان النص، كما يحدث أحيانًا مع بعض أبيات الشعر. 
 فقد عمد في كثير من جمله إلى الاستغناء عن أدوات الربط وحروف الجر وأدوات التأكيد، إضافة إلى استئناسه استخدام الأفعال بشكل تعاقبي دون أي فاصل أو رابط. 
ومن السهل على القارئ ملاحظة ذلك في روايات عديدة للمؤلف، كأن نقرأ في رواية «يحدث أمس»: «كان يعشق يجيء يزورها يوم الخميس» (ص 8)، و«أصرّت ترافقه مشروع تسوقه هداياه» (ص 9)، و«يؤلمه يتركه هكذا ملقى على ظهره» (ص 30)، و«من أين له، وهو يهمّ يدلف باب الهوى بعد غياب سبع سنوات، يستوعب فكرة يُفاجأ يُستوقف يُفتش يُساق يُجاء به حيث هنا؟»... (ص 45)، و«يجب يكون عند مستوى المسؤولية» (ص 91)، و«يجب تسافر لندن ليومين...» (ص 97).
مثل هذه التراكيب نلمسها في «بعيد إلى هنا»، حيث «كان في باله يتصبّر شهره هذا لما تحل إجازته» (ص 7)، و«بادرت دعوت أصدقاءنا الخلّص» (ص 13)، و«كنت أحرص أحفظ جواهري هناك» (ص 20)، و«إصراره يوليك رعايته» (ص 74)، و«لُذت صمتك» (ص 82). 
 وفي «الكائن الظل» نقرأ: «عاد همس بجدّيته إياها» (ص 8)، و«حرص الرجل يلتفت يمنة ويسرة» (ص 35)، و«أدريني جازفت سايرت لصًا...» 
(ص 113)، و«قبل أن أتحول أتطلع لجاري الحامل رفوف كتبي» (ص 128).
  كما نقع على مثل هذه التراكيب في رواية «مسك»، إذ نقرأ: «تنبهت أمسكت أنّة أوشكت تفلت منك» 
(ص 15)، و«اكتفت رفعت وجهها إلى أعلى» (ص 24)، و«مادمنا عقر دارهم» (ص 30)، و«أجرى اتصالات هاتفية ألغى حجوزات...» (ص 78)، و«سارعوا وفّروا له سيارة باص صغيرة» (ص 97).

دور حركيّ
لا شك في أن للأفعال دورًا حركيًّا كبيرًا في تسريع وتيرة السرد، كما أن لتكثيفها دورًا حاسمًا في تأجيج التوتر الدرامي، لكن كان يمكن لذلك أن يتم كما اشتهى الكاتب دون تعمّده حذف حروف الجر والعطف وأدوات التأكيد وغيرها.
ومثلما نجح في تمثّل ونضح العوالم الداخلية للشخصيات، وتكثيف واختصار زمني الحكاية والخطاب من خلال بتر الجمل، كان بإمكانه تحفيز التوتر وتسريع السرد دون اللجوء إلى الخرق اللغوي، الذي جاء - حسب اعتقادي - بنتيجة عكسية لتمخّضه عن صدمات أجبرت القارئ على قطع حبل السرد، والوقوف عندها مليًّا قبل استئناف متابعة السرد مجددًا، وهو ما عطّل التركيز، وخفف من حدة الشحن الدرامي عند القارئ.
لكنّ هذا التجريب اللغوي والابتكار المستحدث أخذا منحنى خطيرًا عند المتشددين الذين ينصبون من أنفسهم حماة للغة، ويرفضون أية محاولة لتجاوز مسلّماتها بقصد التطوير، فراحوا يلصقون بالكاتب تهمًا تهدّ الجبال.
 وهذا تمامًا ما أشار إليه الكاتب في شهادته الواردة بكتاب «الرواية العربية... ممكنات السرد» سالف الذكر، حين أورد حكاية أستاذ في أحد المعاهد التطبيقية اقترح على طلبته دراسة إحدى روايات إسماعيل الفهد، دون أن يقرأها هو ذاته، لكنّه اكتشف بعد فوات الأوان أنها غير مفهومة بالمرة. بل إنه عاتب الكاتب في إحدى المناسبات قائلًا: «إن كانت حال كتاباتك معي - وأنا الأستاذ المتخصص - هكذا، فكيف مع الطلبة المساكين؟!». والأفدح، كما جاء في الشهادة، أن هذا الأستاذ صدح في أحد المجالس متهمًا الكاتب: «كاتب متطرف... يهدف إلى تدمير لغتنا العربية... عن جهل، أو بقصد، سيّان» (ص 246) ■

 

لقاء يجمع بين إسماعيل الفهد ونجيب محفوظ