حمام الدار بلاغة الراوي ونرجسية السرد

حمام الدار بلاغة الراوي ونرجسية السرد

تبرز‭ ‬نرجسية‭ ‬السرد‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬الكاتب‭ ‬الكويتي‭ ‬سعود‭ ‬السنعوسي‭ (‬حمام‭ ‬الدار‭ ‬أُحجيَة‭ ‬ابن‭ ‬أزرق،‭ ‬الدار‭ ‬العربية‭ ‬للعلوم‭ ‬ناشرون‭ ‬2017‭) ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التفات‭ ‬السرد‭ ‬إلى‭ ‬ذاته‭ ‬داخل‭ ‬النص،‭ ‬بحيث‭ ‬تتجسّد‭ ‬عملية‭ ‬الكتابة‭ ‬بوصفها‭ ‬جزءًا‭ ‬أساسيًّا‭ ‬منه؛‭ ‬لتعبّر‭ ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬مضعف‭ ‬بعملية‭ ‬الكتابة؛‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬توسيع‭ ‬الهوّة‭ ‬بين‭ ‬النص‭ ‬ومنتجه‭ ‬الأصلي،‭ ‬حتى‭ ‬كأنّه‭ ‬يتحلّل‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬حمولاته‭ ‬الفكرية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافية،‭ ‬ولعلّ‭ ‬هذا‭ ‬التحلل‭ ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬‮«‬ميتاسرد‮»‬‭ ‬يتشكّل‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬الوعي‭ ‬بهذا‭ ‬الأمر،‭ ‬فتساؤلات‭ ‬الراوي‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬السّرد‭ ‬الخارجي‭ ‬المؤطّر‭ ‬للرواية‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬حيرته‭ ‬من‭ ‬بطل‭ ‬روايته‭ ‬ابن‭ ‬أزرق،‭ ‬ولماذا‭ ‬لم‭ ‬يدعه‭ ‬ينتحر،‭ ‬فاستبطان‭ ‬الراوي‭ ‬لذاته‭ ‬حيال‭ ‬تلك‭ ‬الشخصية‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يُحيل‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬قواعد‭ ‬مسبقة،‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬النص‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬لعبة‭ ‬الميتاسرد‭ ‬في‭ ‬دفقة‭ ‬واحدة‭ ‬استمرت‭ ‬اثنتي‭ ‬عشرة‭ ‬ساعة،‭ ‬فإن‭ ‬وصفه‭ ‬لنصّه‭ ‬باللقيط‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬اكتماله،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬نتاج‭ ‬خروج‭ ‬على‭ ‬قواعد‭ ‬ونظم‭ ‬مسبقة‭.‬

تحمل‭ ‬الرواية‭ ‬كل‭ ‬ملامح‭ ‬سرد‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة،‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬العنوان‭ ‬واستخدام‭ ‬مفردة‭ ‬الأحجية‭ ‬بحمولاتها‭ ‬الدلالية‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالاستغلاق‭ ‬الدلالي‭ ‬في‭ ‬اللفظ‭ ‬أو‭ ‬المعنى،‭ ‬أو‭ ‬الطبيعة‭ ‬الملغزة‭ ‬بوصفها‭ ‬لُغْزًا‭ ‬يتبارى‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬حَلِّه،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬هو‭ ‬أقرب‭ ‬للتسلية،‭ ‬واللعب،‭ ‬وللعب‭ ‬أهمّيته‭ ‬القصوى‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬التحول‭ ‬الذي‭ ‬طرأ‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬الرواية‭ ‬عَبر‭ ‬مرحلتي‭ ‬الحداثة‭ ‬وما‭ ‬بعدها،‭ ‬فبدلًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الرواية‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬المعنى‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬ذاتها‭ ‬انتهينا‭ ‬إلى‭ ‬الرواية‭/ ‬اللعبة‭ ‬أو‭ ‬الرواية‭/ ‬الأحجية،‭ ‬أو‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬تقود‭ ‬القارئ‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬سردابًا‭ ‬يعجّ‭ ‬بالمفاجآت‭ ‬والألعاب‭ ‬ينفتح‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬غرّة‭ ‬أمام‭ ‬القارئ،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬التزمه‭ ‬السنعوسي‭ ‬في‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬صيغتين‭ ‬من‭ ‬السرد‭: ‬السرد‭ ‬المباشر‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬تمثُّل‭ ‬شخصيات‭ ‬بشرية‭ ‬من‭ ‬لحم‭ ‬ودم،‭ ‬وهي‭ ‬ورقيّة‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬لكنّ‭ ‬مقروئيتها‭ ‬تجعل‭ ‬التّقدمة‭ ‬للطبيعة‭ ‬البشرية،‭ ‬إذ‭ ‬يظهر‭ ‬الخيال‭ ‬الروائي‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬أوضح‭ ‬من‭ ‬الطبيعة‭ ‬الورقية‭ ‬لكل‭ ‬شخصية،‭ ‬لكنّه‭ ‬في‭ ‬لعبة‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬ميتاسرد‮»‬‭ ‬يبرز‭ ‬الجانب‭ ‬الورقي‭ ‬المتخيّل‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الشخصية‭ ‬المتخيلة،‭ ‬بحيث‭ ‬تكون‭ ‬الأسبقية‭ ‬للطبيعة‭ ‬الورقية‭.‬

ويتمحور‭ ‬الخطاب‭ ‬في‭ ‬وجود‭ ‬مبدع‭ ‬أعلى‭ ‬يحرّكها‭ ‬بخيوط‭ ‬وهي‭ ‬دُمى‭ ‬في‭ ‬يديه،‭ ‬لكنّها‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬ذات‭ ‬وعي‭ ‬مفارق‭ ‬يجعلها‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬متخيّله‭ ‬السردي‭ ‬ذات‭ ‬طبيعة‭ ‬بشرية‭ ‬واعية،‭ ‬أو‭ ‬ذات‭ ‬وعي‭ ‬روائي‭ ‬منبعه‭ ‬الأصيل‭ ‬في‭ ‬كلتا‭ ‬الحالتين‭ ‬وعي‭ ‬الكاتب‭ ‬وثقافته‭.                                                                      

 

سرد‭ ‬شفّاف

يتجاوز‭ ‬الراوي‭ ‬دوره‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬السنعوسي،‭ ‬فهو‭ ‬ليس‭ ‬مجرّد‭ ‬فاعلية‭ ‬تتحدث‭ ‬أو‭ ‬قناة‭ ‬ناقلة‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬دورها‭ ‬عملية‭ ‬نقل‭ ‬الأحداث‭ ‬وتوصيلها،‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬بالأمر‭ ‬الهيّن،‭ ‬لكن‭ ‬ينتج‭ ‬عنها‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬السرد‭ ‬بالسّرد‭ ‬الشفّاف‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعنى‭ ‬بغير‭ ‬النقل،‭ ‬ويتوارى‭ ‬الراوي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تماهيه‭ ‬مع‭ ‬الأحداث‭ ‬والشخصيات‭.‬

بمعنى‭ ‬آخر‭ ‬لا‭ ‬يصطنع‭ ‬مسافة‭ ‬سردية‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬راويًا،‭ ‬ولا‭ ‬يقوم‭ ‬بتعالٍ‭ ‬سردي‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬مؤلفًا‭ ‬ضمنيًا،‭ ‬وفي‭ ‬كلّ‭ ‬الأحوال‭ ‬يبرز‭ ‬إلى‭ ‬الرواية‭ ‬بوصفه‭ ‬شخصًا‭ ‬واعيًا‭ ‬ومدركًا‭ ‬لما‭ ‬يسرده،‭ ‬لينقل‭ ‬لنا‭ ‬القصة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سرد‭ ‬كثيف،‭ ‬يشير‭ ‬فيه‭ ‬الراوي‭ ‬إلى‭ ‬نفسه‭ ‬علنًا،‭ ‬باعتباره‭ ‬منتجًا‭ ‬للنص،‭ ‬وما‭ ‬يترتب‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬كسر‭ ‬الإيهام‭ ‬بالواقع‭ ‬عن‭ ‬قصد،‭ ‬لذلك‭ ‬تظهر‭ ‬شخصية‭ ‬الراوي‭ ‬المتأمل‭ ‬لسرده‭ ‬والمعبّر‭ ‬عن‭ ‬معاناته؛‭ ‬ليقوم‭ ‬بوظيفة‭ ‬تأويلية‭ ‬تتبنى‭ ‬موقفًا‭ ‬شخصيًّا،‭ ‬ويتحوّل‭ ‬الراوي‭ ‬إلى‭ ‬شخصية‭ ‬والعكس،‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬بندولية‭ ‬يتماسّ‭ ‬فيها‭ ‬الراوي‭ ‬مع‭ ‬المؤلف‭ ‬الضمني،‭ ‬وينسب‭ ‬إلى‭ ‬نفسه‭ ‬صراحة‭ ‬كتابة‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬اللقيط،‭ ‬وصفة‭ ‬اللقيط‭ ‬توحي‭ ‬النقصان‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬وعدم‭ ‬الاعتراف‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬

إنه‭ ‬يتنكّر‭ ‬لنصّه‭ ‬كما‭ ‬يتنكر‭ ‬أحد‭ ‬الأبوين‭ ‬لابنه،‭ ‬فتتغيّر‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬الوظائف‭ ‬والمهام‭ ‬المنوط‭ ‬بها‭ ‬الراوي‭ ‬التقليدي،‭ ‬مع‭ ‬احتفاظه‭ ‬بوظائفه‭ ‬الأساسية؛‭ ‬ليقدّم‭ ‬لنا‭ ‬سردًا‭ ‬تكراريًا‭ ‬في‭ ‬عهدين،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬نصّين‭ ‬يسردان‭ ‬القصة‭ ‬الواحدة‭ ‬مع‭ ‬اختلاف‭ ‬في‭ ‬التفاصيل،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الراوي‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬اكتمال‭ ‬النص،‭ ‬فإنّها‭ ‬حيلة‭ ‬فنية،‭ ‬هذه‭ ‬الحيلة‭ ‬تتعامل‭ ‬مع‭ ‬القارئ‭ ‬الموازي‭ ‬لها،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يتحقق‭ ‬هذا‭ ‬الاكتمال‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬النص‭ ‬ومع‭ ‬حلّ‭ ‬خيوطه‭ ‬وعُقده‭ ‬المختلفة‭.‬

 

كائنات‭ ‬ورقيّة

‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬السنعوسي،‭ ‬نحن‭ ‬أمام‭ ‬كائنات‭ ‬ورقيّة‭ ‬بمعنى‭ ‬الكلمة،‭ ‬حيث‭ ‬نتابع‭ ‬عملية‭ ‬خلقه،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عملية‭ ‬إيهام‭ ‬بعدم‭ ‬معرفة‭ ‬الراوي‭ ‬لشخصية‭ ‬عرزال‭ ‬بن‭ ‬الأزرق‭ ‬بطل‭ ‬روايته،‭ ‬وزعم‭ ‬فنّي‭ ‬بنقص‭ ‬درايته‭ ‬بشخصيات‭ ‬الرواية،‭ ‬وكيف‭ ‬دخل‭ ‬إليه‭ ‬وفي‭ ‬أي‭ ‬جذر‭ ‬متمركز‭ ‬في‭ ‬ذاكرته،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الحيلة‭ ‬الفنية‭ ‬يتحلّل‭ ‬الراوي‭ ‬مناورًا‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬تبعيات‭ ‬روايته،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬مقربة‭ ‬من‭ ‬القراء‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬صفّهم‭.‬

يمارس‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬السّرد‭ ‬دورًا‭ ‬رئيسًا‭ ‬في‭ ‬انفتاح‭ ‬النص‭ ‬على‭ ‬عوالم‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬الواقعي‭ ‬والمتخيل،‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬مساءلة‭ ‬ودمجهما‭ ‬في‭ ‬وحدة‭ ‬واحدة‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الميثاق‭ ‬السردي‭. ‬فتتحوّل‭ ‬الشخصيات‭ ‬من‭ ‬شخوص‭ ‬ورقيّة‭ ‬إلى‭ ‬كائنات‭ ‬من‭ ‬لحم‭ ‬ودم،‭ ‬يجلس‭ ‬إليها‭ ‬الراوي،‭ ‬ويعيد‭ ‬بناءها‭ ‬وفقًا‭ ‬لرؤيته‭ ‬الخاصة،‭ ‬‮«‬أطلب‭ ‬منها‭ ‬الجلوس‭ ‬على‭ ‬المقعد‭ ‬أمامي،‭ ‬نتحلّق‭ ‬جميعنا‭ ‬في‭ ‬جلسة‭ ‬أرضية‭. ‬أتفحّص‭ ‬ملامحها‭ ‬متوتّرة‭ ‬في‭ ‬حضرتي‭. ‬أمنحها‭ ‬سمات‭ ‬وملامح‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬مخيلتي‭ ‬قبلًا،‭ ‬أزيل‭ ‬شامة‭ ‬من‭ ‬وجنة‭ ‬عجوز‭ ‬متصابية،‭ ‬أرسمها‭ ‬أسفل‭ ‬شفة‭ ‬فتاة‭ ‬متدلّلة،‭ ‬أمنح‭ ‬غلظة‭ ‬لصوت‭ ‬شيخ‭ ‬تهبه‭ ‬توازنًا‭ ‬يشبه‭ ‬شخصيته‭ ‬أثقل‭ ‬لسان‭ ‬ثرثرة‭ ‬أبتليها‭ ‬بتأتأة،‭ ‬أفرغ‭ ‬من‭ ‬تشكيل‭ ‬الشخصيات‭... ‬أحادثها‭ ‬أستجوبها‮»‬،‭ ‬وهكذا‭ ‬تنفتح‭ ‬عمليّة‭ ‬التمثيل‭ ‬السردي‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬درجاتها‭ ‬في‭ ‬إبداع‭ ‬الشخصيات،‭ ‬ومحاولة‭ ‬أن‭ ‬تستوي‭ ‬في‭ ‬صورتها‭ ‬الكاملة‭ ‬مع‭ ‬اكتمال‭ ‬كتابة‭ ‬النص‭ ‬على‭ ‬الورق‭. 

 

خطاب‭ ‬تعليقي

من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬السرد‭ ‬الواعي‭ ‬لذاته‭ ‬يقف‭ ‬الراوي‭ ‬من‭ ‬سرده‭ ‬على‭ ‬مسافة،‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬مسافة‭ ‬سردية‭ ‬واعية‭ ‬يقفها‭ ‬الراوي‭ ‬من‭ ‬سرده،‭ ‬إنّما‭ ‬هي‭ ‬سمة‭ ‬لخطابه‭ ‬القولي،‭ ‬لا‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬أفعال‭ ‬الشخصيات‭ ‬داخل‭ ‬البنية‭ ‬السردية،‭ ‬إنمّا‭ ‬في‭ ‬تعليقاته‭ ‬على‭ ‬مواقف‭ ‬تلك‭ ‬الشخصيات‭ ‬وأدوارها‭ ‬وأفكارها،‭ ‬وما‭ ‬يصدر‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬أقوال‭ ‬وأفعال‭ ‬يفسرها‭ ‬هو،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬أول‭ ‬مؤشر‭ ‬لبلاغة‭ ‬الراوي‭ ‬هو‭ ‬خطابه‭ ‬التعليقي‭ ‬المتعالي‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬الشخصيات‭ ‬وموقفه‭ ‬منها،‭ ‬إذ‭ ‬يرسم‭ ‬الراوي‭, ‬كونًا‭ ‬له‭ ‬مفرداته‭ ‬الخاصة‭, ‬ماء‭ ‬وفضاء‭ ‬وشخصيات‭ ‬كلّها‭ ‬بلون‭ ‬أزرق،‭ ‬حتى‭ ‬اسم‭ ‬البطل‭ ‬سقط‭ ‬في‭ ‬أتون‭ ‬هذا‭ ‬اللون،‭ ‬فهو‭ ‬ابن‭ ‬أزرق،‭ ‬هذا‭ ‬الأب‭ ‬المتسلّط‭ ‬الذي‭ ‬يمارس‭ ‬صنوف‭ ‬القهر‭ ‬على‭ ‬مجمل‭ ‬شخصيات‭ ‬الرواية،‭ ‬فلم‭ ‬يسلَم‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬جبروته،‭ ‬الأزرق‭ ‬ترتبط‭ ‬بالإجرام‭ ‬ومآل‭ ‬المجرمين،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬نعرف‭ ‬في‭ ‬تراثنا‭ ‬الديني،‭ ‬يقول‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬العزيز‭ ‬‮«‬ونحشر‭ ‬المجرمين‭ ‬يومئذ‭ ‬زرقًا‮»‬‭ (‬سورة‭ ‬طه‭ - ‬من‭ ‬الآية‭ ‬102‭).‬

‭ ‬وفي‭ ‬عملية‭ ‬الخلق‭ ‬الروائي‭ ‬يقوم‭ ‬الراوي‭ ‬بعملية‭ ‬تمديد‭ ‬للزمن،‭ ‬وتقصيره‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عملية‭ ‬تشظٍّ‭ ‬متعمّدة‭ ‬للزمن،‭ ‬فالزمن‭ ‬النفسي‭ ‬له‭ ‬القدح‭ ‬المعلى‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬رغم‭ ‬تقسيمه‭ ‬إلى‭ ‬صباحات‭ ‬زمنية‭ ‬اعتيادية،‭ ‬لكنّ‭ ‬مقاييس‭ ‬الزمن‭ ‬تختلّ‭ ‬لدى‭ ‬شخصية‭ ‬عزرال‭ ‬وتأخذ‭ ‬طابعًا‭ ‬تكراريًا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته،‭ ‬فهو‭ ‬يسير‭ ‬ولا‭ ‬يسير،‭ ‬يتكرر‭ ‬ولا‭ ‬يتكرر،‭ ‬‮«‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬يستفيق‭ ‬عزرال‭ ‬بن‭ ‬الأزرق‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬منذ‭ ‬أمس‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬إطار‭ ‬هذه‭ ‬التكرارية‭ ‬تتكرر‭ ‬المشاهد‭ ‬والصيغ‭ ‬مرات‭ ‬عدّة،‭ ‬لكنّها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬مع‭ ‬شخصيات‭ ‬أخرى،‭ ‬فعبارة‭ ‬محورية‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الحمام‭ ‬لا‭ ‬والأفعى‭ ‬لا‭ ‬تخون‮»‬‭ ‬تقف‭ ‬بوصفها‭ ‬بؤرة‭ ‬أساسية‭ ‬يتحلّق‭ ‬من‭ ‬حولها‭ ‬السرد،‭ ‬ومن‭ ‬التكرار‭ ‬تنبع‭ ‬المفارقة،‭ ‬ويبرز‭ ‬دور‭ ‬التناصات‭ ‬التي‭ ‬مارسها‭ ‬السنعوسي‭ ‬لينتج‭ ‬نصًا‭ ‬روائيًا‭ ‬يحمل‭ ‬كل‭ ‬ملامح‭ ‬سرد‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة■