صيرورات محمد المخزنجي

صيرورات

قصص قصيرة جدا
أطياف

في صباي، عندما تأكدت ملامح مشيتي، قالوا لي إن مشيتي تشبه مشية أبي، فهو يميل بصدره قليلا إلى الأمام، كأن صدره يقود حركته كلها.

وفي شبابي، صرت أحاول - في مشيتي - أن أمنع صدري من الانكباب مزيدا إلى الأمام، لأن ذلك كان يقارب انحناءه الشيخوخة لدى أبي.

الآن، أدرك أنني أمشي محنيا باطراد، ولا أحاول مقاومة ذلك، لأنني أوغل في عمر الحكمة، وأسلم بأنني لست إلا أبي، مثلما كان أبي هو جدي.

ما نحن إلا الشخص نفسه، الطيف الذي يتجلى ثم يشف ثم يتلاشى، ثم يعود إلى التجلي من جديد.

هذا أمر محزن إن فكرنا فيه بأنانية. أما التسامح، فإنه يمنحنا نافذة واسعة بلا حدود، لنطل على جمال لا حدود له.

أجمل مدن العالم

أخيرا يمكنني الوقوف في الطابور النادر لحجز تذكرة إلى أجمل مدن العالم، مدينة الخلجان الشفافة، والتلال الخضر، والزوارق الخفيفة، والجسور، والحسان الطيعات. لكنني بدلا من الارتفاع في مكاني طائرا بخفة البهجة، أجدني مثقلا بالهموم.

فأنا في موقفي هذا أشغل نقطة من العالم بين طرفين، في أحدهما تلك المدينة السحر، وفي الآخر.. وطن نشأتي المتواضعة البائس.

إما أن أذهب إلى هذا الطرف، أو ذاك. وما أغرب أن أجد في ميزاني، كل سحر تلك المدينة، في كفة، وفي الكفة الأخرى يربض حنين ساحق لحجر كالح على عتبة بيت قديم في شارع ترابي يلهو فيه صبية حفاة، وكلاب نحيفة طليقة، ويمضي بشر متهالكون، لم أحب مثلهم أبدا لأن أحدا لم يحبني بمثل ما فعلوا.

أحمل التذكرة الغالية في يدي وأمضي إلى أجمل مدن العالم وإن في شرود. فثمة في خاطري الذاهل حجر كالح، على عتبة بيت قديم، في شارع ترابي يمتد بكل ما فيه، ويمعن في امتداد، حتى يفضي إلى أجمل مدن العالم.

الحبار

طيلة نهار أمس أبهظني شعور بحنين وافتقاد لمكان رأيته منذ زمن عند شاطئ البحر الأحمر، في ظل جرف صخري ذي مساقط هائلة منحوتة في سلسلة الجبال الوردية التي هناك. كان ظل الجرف يرتمي على خليج صغير تتدافع إليه أمواج وديعة من مياه كان لونها في هذا المستوى فيروزيا، وعند أقدام الجرف كانت الأمواج تتكسر فتستحيل إلى زبد أبيض ناصع. أما في فضاء الظل فوق المياه، وحتى الحافة التي كانت تختبئ وراءها الشمس، فقد كانت طيور بيضاء مفضضة تحوم وتحلق وكأنها تلهو في ملكوت لا نهائي الاتساع رغم محدودية المكان. ولم تكن تغادر هذا الحيز الظليل ربما اتقاء للذع الشمس الشديد في هذا الوقت وعند هذا الشاطئ.

لقد مسني هذا المكان يوم وقفت عنده بسحر غريب وكأنني اكتشفت كهفا من كهوف الأسلاف. أحسست بالجمال وبالجلال معا، ولسبب ما رجحت أنني لا أرى هذا المكان رؤية معتادة، بالمعتاد من الحواس، وفي إطار المعتاد من الزمن، وإلا ما كان تصاعد كل هذا الشعور بالسحر في داخلي.

بالأمس، وحتى اللحظات الأخيرة قبيل نعاسي، مكث هذا الإحساس بافتقاد المكان، والحنين إليه، يمضني. وكنت أتساءل مستوحشا: كيف يمكن أن تظل الأماكن موجودة دون محبيها؟ وكيف تمضي الحياة في سلسلة لا تنقطع من الفراق تلو الفراق؟

وعندما نمت، وجدتني في المكان الذي أرقني في النهار، أهو حلم؟ ولماذا لا يكون أننا نرحل في الزمان لنلاقي تلك الأمكنة، نعيش فيها وقتا وندير بها أحداث ما نظنه أحلاما؟ لقد رأيت الحافة الصخرية والجرف والمياه والزبد وتحليق الطيور، وأغرتني فيروزية المياه بالنزول، فنزلت. وإذ بالموج يعلو وئيدا وئيدا فيغمرني بكثافة شفيفة، فلا أتنفس، لكنني لا أعاني اختناقا.

كنت أدرك أنني أغرق دون عناء، وأن الروح ستنطلق في هيئة طائر أبيض مفضض، كهذه الطيور التي تحلق في ظل الجرف، لكنني ما كدت أستقر على تماوج رمال القاع البيضاء الناعمة حتى اندفع نحوي أحد الدلافين كانه انبثق من الغيب. ضربني بخطمه حتى انطويت، فحملني على ظهره وصعد بي إلى سطح الماء وقد صرت في ارتياع.

فتحت عيني مرتاعا أنهج. لا، ليست هذه رؤيا. إنها رؤية لموت أوشكت على بلوغه. مكان نفذت إليه وزمان عبرته. ولست أريد إخافة أحد من الناس، لكنني أقيم البرهان على ذلك. فلقد كنت فور استيقاظي مبتلا من أخمص قدمي حتى الرأس، وتفوح مني رائحة البحر وقد علقت بي أصداف وقواقع ورمال. وكانت هناك واحدة من أسماك الحبار تحتضر في أحد جيوبي وقد نفثت صباغها الأزرق فانتشرت بقعة كبيرة على ثيابي. كانت تلجأ إلى حيلتها التقليدية الدارجة للتمويه عند الخطر الدارج، دون إدراك أن الأمر أخطر، وأكثر تعقيدا.

رائحة الشمس

ما نحن - الرجال - إلا أطفال أمهاتنا. مهما كبرنا أو استطلنا تظل أمهاتنا حاملات أسرار لمعجزات نظل نرتجيها. ولقد كانت معجزة أمي أنها تخبئ بعضا من الشمس في ثيابنا المغسولة.

سأظل أتذكر أنها كانت تجمع الغسيل بعد جفافه عندما تبدأ الشمس رحلة هبوطها بعد العصر، وعلى الكنبة التي بركن الصالة ترتفع كومة الثياب النظيفة. وفي هذه الكومة كنت ألقي بنفسي لأغرق في رائحة الشمس، فلقد كانت الثياب النظيفة تلك تمنح أنفاسي رائحة لم تكن في وعيي غير رائحة الشمس.

راحت كومة الثياب عن كنبة الصالة. غابت إلى الأبد. وكبرت أنا إلى حد أنه حتى لو ظلت الكومة ما كنت وأستطيع أن ألقي بنفسي فيها.

وكل ما أستطيعه الآن هو، أن أوصي زوجتي بألا تجمع الغسيل المنشور إلا بعد العصر. وبزعم انني أساعدها في جمع الغسيل، ألتقط قطعة منه وأغرق وجهي فيها.

تضحك زوجتي قائلة: "كف عن الوسوسة"، تحسبني أتشمم الغسيل لأتيقن من نظافته، فهي لا تعرف أنني أبحث عن معجزة من كانت تخبئ بعضا من الشمس في ثيابنا.

... أبحث عن عطر أمي.

اقتراب

للمرة الألف أحاول. أسافر إلى تلك المدينة، وأرتب أن أصل إليها بعد منتصف الليل، وأمضي إلى ذلك الركن.

هذا هو الشارع، وهذا هو البيت، وهذا أنا، وهنا كل الأزمنة التي تنتظر عبوري إلى واحد منها أهفو إليه.

وأثق أنني سأنجح يوما ما، عندما ينام الناس ولا تسهر غير المصابيح المرتعشة في الشوارع.

أمضي وحدي فوق الأسفلت الخالي، أتذكر، وأمعن في التذكر، وأستحضر الذي كان.

هذا هو البيت، وهذا هو الطابق، وهذا هو الشباك. موصود الآن. نعم، لكنه سينفتح، لتطل منه، فيما أكون هناك، في ذلك الزمن البعيد، في هذه البقعة من الشارع، تحت البيت، تحت الشباك، وتحت إطلالة وجهها الحبيب.

الزمن الذي يمضي إلى الأمام، محولا المستقبل إلى حاضر، والحاضر إلى ماض، يمكن أن يتقهقر أيضا ويعيد إلينا ماضينا إذا كنا نريده بقوة. وأنا بأقصى قوة للاستوحاش أريده. للمرة الألف أحاول، في الوقت السري الذي كان بيننا، من الثانية بعد منتصف الليل وحتى قبيل الفجر، أحاول بإخلاص، ولن أقول إنني فشلت.

يكشفني نور الصباح الفج، نور الزمن الأحادي الحركة، الذي لن يفلح أبدا في إقناعي بأنه الاتجاه الوحيد لسريان الزمان.

لم أفشل، بدليل أنني أخرج من هذه المحاولة معبأ بكل هذا الحنين، مما يعني أنني اقتربت من ذلك الزمن البعيد المنشود.

اقتربت لحد التلامس الذي يغري بمحاولة أخرى. ولن أكف عن المحاولة، لأنني لو كففت، يا لمي، أجن، أو أستسلم للموت الذي اختطفك مني في عمر الصبا.

 

محمد المخزنجي