كل الأشياء مواجهة الذات... الموت بالتقسيط

كل الأشياء مواجهة الذات... الموت بالتقسيط

كما‭ ‬يُقال،‭ ‬فإن‭ ‬الغلاف‭ ‬يعتبر‭ ‬العتبة‭ ‬الأولى‭ ‬لدخول‭ ‬النص‭. ‬فمنه‭ ‬تبدأ‭ ‬الخطوة‭ ‬الأولى‭ ‬لعبور‭ ‬عالَم‭ ‬الرواية،‭ ‬ومنه‭ ‬نستشفّ‭ ‬لمحة‭ ‬عن‭ ‬مضمون‭ ‬الرواية‭ ‬أو‭ ‬محتواها‭. ‬وللغلاف‭ ‬دلالاته‭ ‬التي‭ ‬تمسّ‭ ‬روح‭ ‬العمل‭ ‬الإبداعي،‭ ‬وإلّا‭ ‬فلا‭ ‬أهمية‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬أنه‭ ‬غطاء‭ ‬لورق‭ ‬الرواية‭. ‬وغلاف‭ ‬روايتنا،‭ ‬كل‭ ‬الأشياء‭ ‬تستدعي‭ ‬الوقوف‭ ‬والتأمل‭ ‬أمامه‭. ‬إنه‭ ‬غلاف‭ ‬جاذب،‭ ‬كولاج،‭ ‬يحمل‭ ‬صورًا‭ ‬لشخصيات‭ ‬معروفة،‭ ‬وكل‭ ‬تلك‭ ‬الشخصيات‭ ‬رموز‭ ‬محبوبة،‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬مكانها،‭ ‬ومكانتها،‭ ‬وزمانها،‭ ‬واهتماماتها،‭ ‬تمثّل‭ ‬قدوة‭ ‬وعلامة‭ ‬فاعلة‭ ‬ومؤثرة‭ ‬في‭ ‬حياتنا،‭ ‬وهي‭ ‬الصور‭ ‬والملصقات‭ ‬نفسها‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬شقة‭ ‬نايف‭.‬

بعض‭ ‬هذه‭ ‬الرموز‭ ‬محليّة،‭ ‬كأول‭ ‬ما‭ ‬يلامسنا،‭ ‬كون‭ ‬الرواية‭ ‬محلية،‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬حدث‭ ‬مهمّ‭ ‬ومؤثر،‭ ‬يلامس‭ ‬المجتمع‭ ‬الكويتي،‭ ‬وقعت‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2011م،‭ ‬حيث‭ ‬أعلن‭ ‬فيها‭ ‬نواب‭ ‬المعارضة‭ ‬عن‭ ‬قضايا‭ ‬فساد‭ ‬مالية‭ ‬ضد‭ ‬الحكومة‭ ‬والنواب،‭ ‬واستمرت‭ ‬الأحداث‭ ‬في‭ ‬التصاعد‭ ‬خلال‭ ‬2012/2013م،‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬الرموز‭ ‬الموجودة‭ ‬على‭ ‬الغلاف‭ ‬رموز‭ ‬كويتية‭ ‬مثل‭ ‬سمو‭ ‬الأمير‭ ‬الراحل‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالله‭ ‬السالم،‭ ‬والشاعر‭ ‬فهد‭ ‬العسكر،‭ ‬والمطربة‭ ‬عوده‭ ‬المهنا،‭ ‬وسامي‭ ‬محمد‭ ‬وتماثيله،‭ ‬وبعضها‭ ‬رموز‭ ‬عربية،‭ ‬مثل‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬وغسّان‭ ‬كنفاني،‭ ‬وطلال‭ ‬مداح،‭ ‬ومحمد‭ ‬الدرة،‭ ‬وناجي‭ ‬العلي،‭ ‬وبعضها‭ ‬عالمية‭ ‬مثل‭ ‬تشي‭ ‬غيفارا،‭ ‬وإدوارد‭ ‬دو‭ ‬غاليانو،‭ ‬وفريدا‭ ‬كاهلو،‭ ‬ومارتن‭ ‬لوثر،‭ ‬وجورج‭ ‬أورويل،‭ ‬ونعوم‭ ‬تشومسكي‭.‬

هذه‭ ‬الصور‭ ‬والشخصيات‭ ‬بعضها‭ ‬بالأبيض‭ ‬والأسود،‭ ‬وبعضها‭ ‬بالألوان،‭ ‬في‭ ‬دلالة‭ ‬على‭ ‬البُعد‭ ‬الزمني‭ ‬بينها‭. ‬تتّسق‭ ‬مع‭ ‬عنوان‭ ‬الرواية‭ ‬كل‭ ‬الأشياء،‭ ‬حيث‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الرموز‭ ‬المختلفة‭ ‬والمتشابهة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬تغري‭ ‬بالقراءة‭ ‬والاقتناء‭.‬

تدور‭ ‬الرواية‭ ‬حول‭ ‬حدَث‭ ‬مركزي،‭ ‬وهو‭ ‬عودة‭ ‬جاسم‭ ‬من‭ ‬الغربة،‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬والده‭ ‬عبدالمحسن‭ ‬العظيمي،‭ ‬عبر‭ ‬فكرة‭ ‬مواجهة‭ ‬الذات‭ ‬والآخر،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الأجيال‭ ‬حول‭ ‬المفاهيم‭ ‬السياسية‭.‬

ومن‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬الآني،‭ ‬تأخذنا‭ ‬الكاتبة‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬بين‭ ‬الحاضر‭ ‬والماضي،‭ ‬عبر‭ ‬تقنية‭ ‬الإرجاع‭ ‬الفنّي‭ ‬لمشاهد‭ ‬من‭ ‬الماضي‭ (‬الـ‭ ‬‮«‬فلاش‭ ‬باك‮»‬‭)‬،‭ ‬منذ‭ ‬الصفحات‭ ‬الأولى‭ ‬للرواية‭.‬

ووفق‭ ‬نانسي‭ ‬كريس‭ ‬في‭ ‬كتابها‭ ‬‮«‬تقنيات‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية‮»‬،‭ ‬‮«‬فإن‭ ‬حق‭ ‬الإرجاع‭ ‬الفني‭ ‬يكون‭ ‬بعد‭ ‬ذكر‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬المثيرة‭ ‬للاهتمام،‭ ‬لتثبيت‭ ‬أقدامنا‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬الحاضر‭ ‬للرواية،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تنقلنا‭ ‬إلى‭ ‬الماضي،‭ ‬وينبغي‭ ‬ألا‭ ‬يشكّل‭ ‬الإرجاع‭ ‬الفني‭ ‬المشهد‭ ‬الأول،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬يجب‭ ‬ألّا‭ ‬يعقُب‭ ‬حاضرًا‭ ‬قصيرًا‭ ‬وخاليًا‭ ‬من‭ ‬الحركة‮»‬‭. ‬

وقد‭ ‬علّق‭ ‬الكاتب‭ ‬حسين‭ ‬عبد‭ ‬علي‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬قائلًا‭ ‬إن‭ ‬بثينة‭ ‬العيسى‭ ‬اختارت‭ ‬أسهل‭ ‬الحلول‭ ‬لاستخدام‭ ‬هذه‭ ‬التقنية‭ ‬في‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬زمن‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬استخدام‭ ‬الفعلين‭ ‬‮«‬تذكّر‭ ‬وفكّر‮»‬‭ ‬بصيغ‭ ‬مختلفة‭ ‬مرات‭ ‬عدة‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬ليست‭ ‬طويلة‭ ‬جدًا‭.‬

 

اللغة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأشياء

اهتمت‭ ‬الكاتبة‭ ‬بالسرد،‭ ‬والحوار،‭ ‬وتسجيل‭ ‬الأحداث،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تحوّل‭ ‬السرد‭ ‬إلى‭ ‬أسلوب‭ ‬بلاغي‭ ‬ولغة‭ ‬معقّدة‭ ‬ومنمّقة،‭ ‬قد‭ ‬تحول‭ ‬دون‭ ‬فهم‭ ‬الحالة‭ ‬النفسية‭ ‬للشخصيات‭.‬

هذه‭ ‬البساطة‭ ‬خدمت‭ ‬الرواية،‭ ‬وأعطت‭ ‬الشخصيات‭ ‬مساحة‭ ‬كبرى‭ ‬للبوح‭ ‬بالأفكار،‭ ‬والمشاعر‭ ‬والتنفيس‭ ‬عن‭ ‬حالات‭ ‬الغضب‭ ‬والإحباط،‭ ‬والكشف‭ ‬عن‭ ‬مكنونات‭ ‬النفس‭ ‬بكل‭ ‬بساطة‭. ‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬عشقي‭ ‬للّغة،‭ ‬وإيماني‭ ‬بأهمية‭ ‬الموازنة‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬بين‭ ‬عذوبة‭ ‬اللغة‭ ‬وبراعة‭ ‬السرد،‭ ‬فإنّ‭ ‬بساطة‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأشياء‭ ‬ساعدتني‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬لشخصيات‭ ‬الرواية،‭ ‬والبحث‭ ‬فيما‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يقوله‭ ‬النص‭ ‬الروائي‭.‬

وبعيدًا‭ ‬عن‭ ‬نقد‭ ‬الكتابة‭ ‬الفنية‭ ‬المتخصصة‭ ‬في‭ ‬تحليل‭ ‬الرواية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تقنيات‭ ‬الكتابة‭ ‬والبناء‭ ‬الفني،‭ ‬والاشتغال‭ ‬على‭ ‬عناصر‭ ‬الرواية،‭ ‬ولإيماننا‭ ‬بأن‭ ‬الرواية‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬مجرّد‭ ‬سرد‭ ‬وخيال،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬عالَم‭ ‬من‭ ‬التقنيات‭ ‬والأشكال‭ ‬تُبنى‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬جمالية‭ ‬ومنطقية،‭ ‬لتواجه‭ ‬التحوّلات‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬يمرّ‭ ‬بها‭ ‬هذا‭ ‬العالم،‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬أكثر‭ ‬تعقيدًا‭ ‬وانغلاقًا،‭ ‬وأمام‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬من‭ ‬غرائب‭ ‬وعجائب‭ ‬وأسرار‭ ‬تكاد‭ ‬تأخذنا‭ ‬أخذًا‭ ‬للجنون،‭ ‬يأتي‭ ‬دور‭ ‬الرواية‭ ‬وقدرتها‭ ‬التي‭ ‬يتيحها‭ ‬لها‭ ‬السرد‭ ‬في‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬عميقة‭ ‬داخل‭ ‬النفس‭ ‬الإنسانية‭ ‬لاستخراج‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يقال،‭ ‬واكتشاف‭ ‬الوجه‭ ‬الآخر‭ ‬للإنسان،‭ ‬الوجه‭ ‬الذي‭ ‬نخفيه‭ ‬حتى‭ ‬عن‭ ‬أنفسنا،‭ ‬ثم‭ ‬نصطدم‭ ‬به‭ ‬ونواجهه،‭ ‬كمن‭ ‬يواجه‭ ‬شخصًا‭ ‬غريبًا‭ ‬لا‭ ‬يعرفه‭.‬

ندخل‭ ‬للرواية‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬لشخصية‭ ‬جاسم،‭ ‬وصراعه‭ ‬مع‭ ‬نفسه‭ (‬صراع‭ ‬الذات‭)‬،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬صراعه‭ ‬مع‭ ‬والده،‭ ‬الذي‭ ‬يمثّل‭ ‬‮«‬الصراع‭ ‬مع‭ ‬الآخر‮»‬،‭ ‬صراع‭ ‬الذات‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬تعتقده‭ ‬وما‭ ‬تعيشه‭.‬

بدأ‭ ‬صراع‭ ‬جاسم‭ ‬مع‭ ‬نفسه‭ ‬بعد‭ ‬دخوله‭ ‬السجن‭:‬

‮«‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬يدخل‭ ‬فيها‭ ‬الصاجة،‭ ‬كان‭ ‬يغادرها‭ ‬ناقصًا،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬يموت‭ ‬بالتقسيط،‭ ‬كأن‭ ‬الصاجة‭ ‬هي‭ ‬المكان‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬يقدر‭ ‬على‭ ‬استيعابه‮»‬‭.‬

 

مواجهة‭ ‬الذات

إن‭ ‬مواجهة‭ ‬الذات‭ ‬من‭ ‬أصعب‭ ‬الحروب‭ ‬التي‭ ‬يخوضها‭ ‬الإنسان،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لأيّ‭ ‬إنسان‭ ‬أن‭ ‬يتعرّف‭ ‬إلى‭ ‬ذاته‭ ‬إلّا‭ ‬بالمواجهة‭ ‬التي‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬مرعبة‭ ‬ومخيفة،‭ ‬صعبة‭ ‬ومعقّدة،‭ ‬وتترك‭ ‬آثارًا‭ ‬عميقة‭ ‬في‭ ‬النفس،‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أنت‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬مع‭ ‬نفسك‭.‬

‮«‬فكّر‭ ‬وهو‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬العنبر‭ ‬تلك‭ ‬الليلة،‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬خطته،‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬الخصم‭ ‬الجدير‭ ‬بالاحترام‭ ‬الذي‭ ‬كرّس‭ ‬نفسه‭ ‬لإنهاء‭ ‬أمره‮»‬‭.‬

يعتقد‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المواجهة‭ ‬سهلة،‭ ‬لمعرفة‭ ‬الإنسان‭ ‬بنفسه،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬يخُض‭ ‬المرء‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬حتى‭ ‬يعرف‭ ‬تمامًا‭ ‬مدى‭ ‬صعوبتها‭ ‬وقسوتها،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ - ‬بلا‭ ‬مبالغة‭ - ‬محيّرة،‭ ‬مرعبة،‭ ‬وصادمة‭.‬

إنها‭ ‬المعركة‭ ‬التي‭ ‬تضعك‭ ‬أمام‭ ‬اكتشافات‭ ‬ونتائج‭ ‬مُربكة‭ ‬ومتصدّعة،‭ ‬تشعر‭ ‬باضطراب‭ ‬وأنت‭ ‬تغوص‭ ‬داخل‭ ‬ذاتك،‭ ‬تبحث‭ ‬فيها‭ ‬عمّا‭ ‬تؤمن‭ ‬به،‭ ‬عمّا‭ ‬تدافع‭ ‬عنه‭ ‬دائمًا،‭ ‬تمارس‭ ‬الغوص‭ ‬أكثر،‭ ‬تحاول‭ ‬جاهدًا‭ ‬أن‭ ‬تكتب‭ ‬نفسك‭ ‬بجملة‭ ‬صحيحة،‭ ‬لكنك‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬نفسك‭ ‬مفككًا‭ ‬ومقطعًا‭ ‬ومنقسمًا‭.‬

تقف‭ ‬أمام‭ ‬المرآة،‭ ‬مرآة‭ ‬النفس،‭ ‬صارخًا‭ ‬أمام‭ ‬هذا‭ ‬التداخل‭ ‬في‭ ‬الأحاسيس،‭ ‬والذكريات،‭ ‬في‭ ‬الأفكار،‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬يداخل‭ ‬الخيال‭ ‬بالواقع،‭ ‬المعقول‭ ‬باللامعقول،‭ ‬الرمز‭ ‬بالمباشرة،‭ ‬تختلط‭ ‬الأصوات‭ ‬واللغات،‭ ‬الذات‭ ‬تصرخ‭ ‬وتصرخ،‭ ‬فتسمع‭ ‬أصوات‭ ‬الآخر،‭ ‬الحاضر،‭ ‬والماضي،‭ ‬حتى‭ ‬يضيع‭ ‬صوتك‭ ‬تمامًا،‭ ‬ويختفي‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬سواك‭ ‬أنت‭ ‬وذاتك‭ ‬والخوف،‭ ‬الخوف‭ ‬الذي‭ ‬يضعك‭ ‬أمام‭ ‬حقيقتك‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬تخفيها‭ ‬بالمثاليات،‭ ‬أنت‭ ‬أمام‭ ‬نفسك‭ ‬عاريًا،‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬ذاتك‭ ‬والألم‭. ‬

هكذا‭ ‬تمامًا،‭ ‬أنت‭ ‬تموت‭ ‬بالتقسيط،‭ ‬أو‭ ‬تولَد‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬‮«‬لذلك‭ ‬غادر‭ ‬جاسم‭ ‬السجن‭ ‬كافرًا‭ ‬بالرمل،‭ ‬والدم،‭ ‬وبالأرض،‭ ‬والناس،‭ ‬وفوق‭ ‬كل‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬كفر‭ ‬بها‭ ‬كان‭ ‬كافرًا‭ ‬بنفسه‮»‬‭... ‬‮«‬عرف‭ ‬بأنه‭ ‬ضحية،‭ ‬وليس‭ ‬بطلًا،‭ ‬وأن‭ ‬الهزيمة‭ ‬تنخره‭ ‬حتى‭ ‬عظامه‮»‬‭... ‬‮«‬لذا،‭ ‬حين‭ ‬حدّثته‭ ‬دانة‭ ‬عن‭ ‬الوطن،‭ ‬حدثها‭ ‬عن‭ ‬الرحيل،‭ ‬وحدثته‭ ‬عن‭ ‬الإيمان،‭ ‬حدثها‭ ‬عن‭ ‬الشكّ،‭ ‬وحين‭ ‬حدثته‭ ‬عن‭ ‬النصر،‭ ‬حدّثها‭ ‬عن‭ ‬الهزيمة‮»‬‭... ‬كان‭ ‬يؤمن‭ - ‬بعد‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬السجن‭ - ‬بأن‭ ‬الخصم‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬نتصدّى‭ ‬له‭ ‬جميعًا‭.‬

 

علاقة‭ ‬تنافسية

تقول‭ ‬بثينة‭ ‬العيسى‭ ‬في‭ ‬روايتها‭ - ‬على‭ ‬لسان‭ ‬جاسم‭ -: ‬نحن‭ ‬نخترع‭ ‬العلاقات‭ ‬لكي‭ ‬نصنع‭ ‬المعنى،‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬نعترف‭ ‬بأن‭ ‬العالم‭ ‬بلا‭ ‬معنى‭. ‬وعليه،‭ ‬فإن‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬عبدالمحسن‭ ‬العظيمي‭ ‬وابنه‭ ‬جاسم‭ ‬علاقة‭ ‬تنافسية،‭ ‬حيث‭ ‬نرى‭ ‬جاسم‭ ‬يتصرف‭ ‬بوعي‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬وعي،‭ ‬وبمحاولات‭ ‬كثيرة،‭ ‬في‭ ‬ظاهرها‭ ‬يبدو‭ ‬لنا‭ ‬أنه‭ ‬يختلف‭ ‬مع‭ ‬والده‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬إلا‭ ‬أننا‭ ‬سنرى‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬أن‭ ‬جاسم‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬صورة‭ ‬من‭ ‬أبيه،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬يعمل‭ ‬جاهدًا‭ ‬أن‭ ‬يستولي‭ ‬على‭ ‬القوة‭ ‬والسُّلطة‭ ‬والكفاءة‭ ‬التي‭ ‬يتمتع‭ ‬بها‭ ‬والده‭. ‬بعبارة‭ ‬أخرى‭: ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يُشبهه‭ ‬ويتخطاه‭. ‬

لذلك،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬الشجار‭ ‬الدائم‭ ‬بينهما،‭ ‬ومعارضة‭ ‬والده‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأمور،‭ ‬لاسيما‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بالكتابة‭ ‬والسياسة،‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬صورة‭ ‬من‭ ‬والده‭ ‬الذي‭ ‬ألهب‭ ‬قلبه‭ ‬بأخبار‭ ‬التظاهرات‭ ‬والاعتصامات،‭ ‬واجتماعهم‭ ‬كل‭ ‬اثنين‭ ‬في‭ ‬الدواوين‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عُطِّل‭ ‬البرلمان‭. ‬

في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته،‭ ‬كان‭ ‬العظيمي‭ ‬يعرف‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬ولده،‭ ‬ويريد‭ ‬أن‭ ‬يبعده‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الطريق،‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬سلكه‭ ‬الأب،‭ ‬وخبِر‭ ‬نتائجه،‭ ‬وعاش‭ ‬معاناته‭. ‬

كان‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يجنِّب‭ ‬ابنه‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬المريرة،‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تحمله‭ ‬من‭ ‬ألم‭ ‬وتعب‭ ‬واستنتاجات‭. ‬لذا،‭ ‬أخذ‭ ‬على‭ ‬عاتقه‭ ‬أن‭ ‬يسفِّه‭ ‬تصرفات‭ ‬ولده،‭ ‬ويصغِّر‭ ‬من‭ ‬شأنها‭. ‬يخبره‭ ‬بأنه‭ ‬مردم‭: ‬‮«‬كان‭ ‬أبوه‭ ‬يردد‭ ‬عيه‭ ‬مرارًا‭ ‬أن‭ ‬السياسة‭ ‬ليست‭ ‬لأمثاله،‭ ‬لأنه‭ ‬مردم،‭ ‬ولأن‭ ‬دمه‭ ‬مسمم‭ ‬بالمثاليات‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬صدم‭ ‬جاسم،‭ ‬فالعظيمي‭ - ‬بالنسبة‭ ‬له‭ - ‬فكرة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬رجلًا‭. ‬فكان‭ ‬صعبًا‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يكتشف‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬أحبها‭ ‬وآمن‭ ‬بها‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬فكرة‭ ‬زائفة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬يصرّ‭ ‬على‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬فكرته،‭ ‬ويخوض‭ ‬التجربة،‭ ‬ويعيشها‭ ‬بكل‭ ‬تفاصيلها،‭ ‬ويخرج‭ ‬منها‭ ‬بنتائجه‭ ‬الخاصة‭ ‬به‭.‬

كان‭ ‬معجبًا‭ ‬بوالده‭ ‬عبدالمحسن‭ ‬العظيمي،‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬تلبّسته‭ ‬حدّ‭ ‬الجنون،‭ ‬لكنّ‭ ‬الكأس‭ ‬المليئة‭ ‬بالماء‭ ‬انكسرت،‭ ‬وانكسرت‭ ‬معها‭ ‬كل‭ ‬الأشياء،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وجد‭ ‬والده‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬نقاشاته‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬السلطة‭. ‬وجد‭ ‬جاسم‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬الذي‭ ‬قاله‭ ‬والده‭ ‬هو‭ ‬خيانة‭ ‬للنفس،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنه‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬دانة‭ ‬ألّا‭ ‬تسمح‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬أبيه،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ - ‬بعض‭ ‬خوض‭ ‬تجربة‭ ‬السجن‭ ‬والانفراد‭ ‬في‭ ‬الصاجة‭ - ‬اكتشف‭ ‬هناك،‭ ‬حيث‭ ‬الوحدة‭ ‬والخوف‭ ‬والألم‭ ‬ومواجهة‭ ‬الذات‭ ‬القاسية،‭ ‬اكتشف‭ ‬أنهم‭ - ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬والده‭ - ‬أغبياء‭ ‬سياسيًا،‭ ‬وأن‭ ‬أفضل‭ ‬واحد‭ ‬فيهم‭ ‬يرتدي‭ ‬‮«‬حفاظة‭ ‬بامبرز‮»‬‭. ‬لذلك‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬يكفّ‭ ‬عن‭ ‬المشي،‭ ‬لأنه‭ ‬متأكد‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬وصول‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬وأنه‭ - ‬كما‭ ‬رأى‭ ‬في‭ ‬حلمه‭ - ‬إنما‭ ‬يمشي‭ ‬في‭ ‬الفراغ،‭ ‬ويواجه‭ ‬جدارًا‭ ‬أبديًا،‭ ‬زجاجيًا،‭ ‬عاكسًا،‭ ‬ينادي‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يُسمع‭ ‬صوته‭.‬

 

ما‭ ‬بعد‭ ‬السجن

خرج‭ ‬جاسم‭ ‬من‭ ‬السجن‭ ‬وقد‭ ‬قتلته‭ ‬المشنقة‭ ‬تمامًا،‭ ‬لذا‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬يهرب‭ ‬من‭ ‬نفسه،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اكتشف‭ ‬حقيقته،‭ ‬ومن‭ ‬والده‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يخشى‭ ‬أن‭ ‬يشمت‭ ‬به،‭ ‬ويذكّره‭ ‬بكلّ‭ ‬ما‭ ‬رفض‭ ‬تصديقه،‭ ‬ومن‭ ‬دانة،‭ ‬دانة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تهوّن‭ ‬عليه‭ ‬مرارة‭ ‬السجن،‭ ‬لكنّه‭ ‬كان‭ ‬يؤجّل‭ ‬مصارحتها‭ ‬بالحب‭ ‬حتى‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬السجن‭. ‬وحين‭ ‬خرج،‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬اكتشف‭ ‬ضعفه‭ ‬وجُبنه،‭ ‬وأنه‭ ‬ليس‭ ‬حديدًا‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يعتقد‭. ‬

لذا،‭ ‬كان‭ ‬الهروب‭ ‬هو‭ ‬الحلّ‭ ‬السهل‭ ‬والسريع‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬واجهه‭ ‬في‭ ‬سجنه،‭ ‬ولكل‭ ‬ما‭ ‬عرفه‭ ‬هناك‭. ‬عرف‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬بطولة‭ ‬في‭ ‬الألم،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬يؤلمنا‭ ‬ليس‭ ‬الماضي،‭ ‬بل‭ ‬المستقبل‭ ‬الذي‭ ‬
لن‭ ‬يُحدث‭ ‬كل‭ ‬الاحتمالات‭ ‬المهدرة‭ ‬لذلك‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬بإمكانك‭ ‬أن‭ ‬تكونه‭. ‬أربكته‭ ‬الأسئلة‭ ‬عن‭ ‬الوطن‭: ‬ما‭ ‬هو‭ ‬الوطن؟‭ ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬مجرد‭ ‬نظام‭ ‬للسيطرة‭ ‬عليك؟‭ ‬نظام‭ ‬كامل‭ ‬لامتلاكك،‭ ‬فعّال‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬تدفعك‭ ‬لذرف‭ ‬الدموع‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬سدد‭ ‬منتخبك‭ ‬هدفًا‭ ‬في‭ ‬مرمى‭ ‬الآخر‭. ‬عرف‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يُبعد‭ ‬إلى‭ ‬بلاده،‭ ‬وأن‭ ‬كل‭ ‬البلدان‭ ‬بعيدة،‭ ‬وأنه‭ ‬مملوك‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬
من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬يسمحون‭ ‬له‭ ‬بامتلاكه،‭ ‬وأننا‭ ‬لو‭ ‬خُيّرنا‭ ‬بين‭ ‬الخبز‭ ‬والحرية‭ ‬فسنختار‭ ‬كلُنا‭ ‬الخبز‭. ‬هرب‭ ‬بعيدًا‭ ‬ليداري‭ ‬الغريب‭ ‬الذي‭ ‬اكتشفه‭ ‬بداخله،‭ ‬ويلملم‭ ‬ما‭ ‬تبقّى‭ ‬من‭ ‬كرامته‭ ‬بالهجرة‭.‬

 

ما‭ ‬بعد‭ ‬العودة

‮«‬تساءل‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬المردم‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬قفصه‭ ‬للمرة‭ ‬الثانية‭... ‬هل‭ ‬غادر‭ ‬القفص‭ ‬أصلًا؟‭ ‬أيّ‭ ‬قفص‭ ‬منهم؟‮»‬‭.‬

عاد‭ ‬جاسم‭ ‬للوطن‭ ‬مرغمًا‭ ‬لحضور‭ ‬جنازة‭ ‬والده،‭ ‬عاد‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يداوي‭ ‬جراحَه،‭ ‬عاد‭ ‬بجراحه‭ ‬المفتوحة‭ ‬ليواجه‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هرب‭ ‬منه‭ ‬وعنه،‭ ‬عاد‭ ‬من‭ ‬غربة‭ ‬عن‭ ‬الوطن‭ ‬ليعيش‭ ‬في‭ ‬غربة‭ ‬بوطنه‭ ‬وبين‭ ‬أهله،‭ ‬وكما‭ ‬يقول‭ ‬الشاعر‭:‬

 

وما‭ ‬غربة‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬داره

ولكنّها‭ ‬في‭ ‬عيشِ‭ ‬مَن‭ ‬لا‭ ‬يُشاكله

 

كان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يحضر‭ ‬مراسم‭ ‬الدفن،‭ ‬أن‭ ‬يكبِّر‭ ‬أربع‭ ‬مرات‭ ‬في‭ ‬صلاة‭ ‬ما‭ ‬عاد‭ ‬يفهمها،‭ ‬وأن‭ ‬يأخذ‭ ‬مكانه‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الأول‭ ‬بين‭ ‬أناس‭ ‬لا‭ ‬يشبهونه‭ ‬ولا‭ ‬يشبههم،‭ ‬أن‭ ‬يستقبل‭ ‬المعزّين‭ ‬الذين‭ ‬نسي‭ ‬وجوههم‭ ‬وأسماءهم‭.‬

عاد‭ ‬ليدفن‭ ‬والده،‭ ‬أو‭ ‬ليدفن‭ ‬تلك‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬عاد‭ ‬مؤمنًا‭ ‬بها،‭ ‬لولا‭ ‬أنه‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬والده‭ ‬لا‭ ‬يموت‭. ‬فعبدالمحسن‭ ‬العظيمي‭ ‬هو‭ ‬فكرة‭ ‬أكثر‭ ‬منه‭ ‬رجلًا‭. ‬سيظل‭ ‬مشدودًا‭ ‬إلى‭ ‬أبيه‭ ‬دائمًا،‭ ‬بذلك‭ ‬الحبل‭ ‬السرّي‭ ‬المجدول‭ ‬من‭ ‬خيبة‭ ‬أمله،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬وسع‭ ‬الموت،‭ ‬أو‭ ‬الحياة،‭ ‬أن‭ ‬يفرِّقا‭ ‬بين‭ ‬اثنين‭ ‬تربط‭ ‬بينهما‭ ‬علاقة‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭.‬

 

نهاية‭ ‬ليست‭ ‬ضعيفة

كان‭ ‬جاسم‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬يؤمن‭ ‬باجتثاث‭ ‬الخطأ،‭ ‬وخلق‭ ‬الصواب‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يؤمن‭ ‬بتطويع‭ ‬الخطأ‭ ‬لخلق‭ ‬الصواب،‭ ‬أراد‭ ‬حلولًا‭ ‬جذرية،‭ ‬صنبورًا‭ ‬غير‭ ‬مكسور،‭ ‬وإمدادات‭ ‬ريّ‭ ‬بالتنقيط‭ ‬لنخلة‭ ‬الحوش،‭ ‬وحديقة‭ ‬حقيقية،‭ ‬لكنّه‭ ‬عرف‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬غباء‭ ‬سياسي،‭ ‬فوالده‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬له‭: ‬إنك‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬إسقاط‭ ‬نظام‭ ‬قائم،‭ ‬فقط‭ ‬تستطيع‭ ‬تطويره‭.‬

لماذا‭ ‬يتصالح‭ ‬الناس‭ ‬مع‭ ‬خطاياهم،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬عليهم‭ ‬إصلاحها؟‭ ‬هل‭ ‬عاد‭ ‬ليدفن‭ ‬والده،‭ ‬أم‭ ‬ليُصلح‭ ‬ما‭ ‬تركه‭ ‬خلفه‭ ‬من‭ ‬أخطاء؟‭ ‬هل‭ ‬عاد‭ ‬ليثأر‭ ‬لدانة‭ ‬التي‭ ‬غادرت‭ ‬دفاعًا‭ ‬عن‭ ‬مبادئها‭ ‬في‭ ‬محاربة‭ ‬الفساد،‭ ‬وليكفِّر‭ ‬عن‭ ‬ذنبه‭ ‬في‭ ‬تركها‭ ‬وحيدة‭ ‬تصارع‭ ‬الجبناء‭ ‬وحدها؟

قد‭ ‬نتوهّم‭ - ‬للوهلة‭ ‬الأولى‭ - ‬أن‭ ‬النهاية‭ ‬ضعيفة،‭ ‬فكيف‭ ‬يفوت‭ ‬بثينة‭ ‬العيسى‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬بطلها‭ ‬يرسلُ‭ ‬مقالته‭ ‬التي‭ ‬تكشف‭ ‬سبب‭ ‬مقتل‭ ‬دانة‭ ‬بعد‭ ‬مغادرته‭ ‬البلاد،‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬‮«‬الميديا‮»‬‭ ‬وسرعة‭ ‬وصول‭ ‬الرسائل؟‭ ‬لماذا‭ ‬يرسلها‭ ‬قبل‭ ‬المغادرة،‭ ‬ليتم‭ ‬القبض‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬المطار،‭ ‬كأيّ‭ ‬مبتدئ‭ ‬يتهجّى‭ ‬ألف‭ ‬باء‭ ‬السياسة؟‭ ‬لكنّها‭ ‬أرادت‭ ‬أن‭ ‬تؤكد‭ ‬لنا‭ ‬أنه‭ ‬مردم‭ - ‬كما‭ ‬قال‭ ‬عنه‭ ‬والده‭ - ‬عصفور،‭ ‬غبي،‭ ‬أثوَل،‭ ‬يتخبّط‭ ‬بالجدران،‭ ‬ولافتات‭ ‬الشوارع،‭ ‬عصفور‭ ‬أحمق،‭ ‬يصطاد‭ ‬نفسَه‭ ‬بنفسِه،‭ ‬يدخل‭ ‬البيوت،‭ ‬ثم‭ ‬يعجز‭ ‬عن‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الخروج،‭ ‬ويأخذ‭ ‬في‭ ‬الصراخ‭ ‬حتى‭ ‬يكتشف‭ ‬الجميع‭ ‬مكانه،‭ ‬يأتي‭ ‬صِبيةُ‭ ‬البيت‭ ‬للإمساك‭ ‬به،‭ ‬يقبضون‭ ‬عليه،‭ ‬ويُحبس‭ ‬في‭ ‬قفص‭.‬

نتساءل‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬كما‭ ‬تساءل‭ ‬جاسم‭: ‬هل‭ ‬كان‭ ‬ثائرًا‭ ‬حقًا،‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬مجرد‭ ‬عاشق؟‭■! ‬