ربيعة جلطي: تجارب الكُتّاب المغاربة والخليج أنقذت الأدب العربيّ من فخّ التكرار

لا ينجبُ الرمل سوى التميّز، هكذا تعلّمنا مُذ كان الأدب العربي ابن الخيمة والأمطار، وضيفتنا في مجلة العربي تعرّف عن نفسها بقولها: أنا بنت الرملين؛ رمل الصحراء لأمي، ورمل البحر الأبيض المتوسط لأبي، وقد وُلدت في عمق الصحراء. إنها د. ربيعة جلطي، الأديبة والروائية الجزائرية ذات النزعة الإنسانية في كتاباتها، صاحبة «قوارير شارع جميلة بوحيرد»، و«تضاريس لوجه غير باريس»، وغيرهما من المؤلّفات الأدبية التي اقترنت باسمها.
وأكدت د. جلطي، خلال اللقاء، أنها منذ أن اكتشفت القراءة في سنواتها الأولى كانت على عجلة لاكتشاف مكتبة والدها المنزلية، موضّحة أن الشعر ابن الحياة المتجددة بجنون، ومضيفة: «أتصور الأدب حقلًا كبيرًا مترامي الأطراف». وأشارت إلى أن الجائزة تخطئ استراتيجيتها في ترقية النصوص وفضاءاتها الأدبية، وأن كلّ أدب له ذاكرته التاريخية التي تميّزه، وأن الأدب الجزائري باللغة الفرنسية عرف العالمية منذ خمسينيات القرن الماضي.
• حدثينا عن البيئة والنشأة التي صاغت د. ربيعة جلطي.
- أنا بنت الرملين؛ رمل الصحراء لأمي، ورمل البحر الأبيض المتوسط لأبي، وُلدتُ في عمق الصحراء، في مكان لا أعرفه، لم أزره منذ طفولتي الأولى، وأعلم فقط أنه يقع في الخط الفاصل بين مدينتي بوعنان وبشار، حيث يتعانق الشقيقان الجزائر والمغرب في غفلة من عين الغريم السياسي الباردة الفارغة.
منذ البدء كانت الأسفار قدَري، إلى أن بلغت سنّ الدخول إلى المدرسة، وكأن الرحيل توأمي يقاسمني يُتمي، فما إن كان وجداني يهدأ في حضن جدي لأمي سيدي امحمد سليل الصوفي سيدي امحمد بن بوزيان، في بيته العامر بستّ خالات وخال واحد اسمه التاقي، بيت مليء بالحياة والحكايات والأحداث السعيدة منها والمؤلمة، حتى أٌنقل بعد أشهر قليلة إلى بيت والدي الأستاذ والمترجم والمثقف وعاشق اللغات والكتب والأدب العربي والآداب العالمية، وجدتي لالة فاطمة الزهراء الأندلسية الصارمة في تربيتها.
بيت على ضفة البحر الأبيض المتوسط. وما إن تنشف مخدة الطفلة اليتيمة من دموع الفقدان والفراق، وتتآلف مع المكان وتعود ابتسامتها، حتى تُنتشل من جديد إلى رحلة طويلة جدًا نحو الرمل الساخن أو الرمل الرطب.
لست أدري إن كانوا في بيت جدي لأمي أو بيت أبي، يدركون في غمرة حبّهم الكبير لابنتهم، تلك الطفلة التي كنتُها، وفي دفاعهم عن حقهم في الاحتفال بها، ما كانت تلك الأسفار الطويلة الممتدة بين الرملين والمكانين والعالمين تتركه في صدرها الصغير الهشّ، من تمزُّق داخلي وجروح غائرة. جروح رقّقت زجاج الروح منها كثيرًا، وما زالت قائمة حتى الساعة. جروح لم تتنازل عن حقها في الإيلام بالتقادم.
ومنذ أن اكتشفت القراءة في السنوات الأولى، حتى كنت على عجلة لاكتشاف مكتبة والدي المنزلية، فأصبحت الرّحم الذي أركن فيه وإليه.
عصر الرواية
• يقال بأننا نعيش عصر الرواية، فمتى في منظورك يستعيد الشعر مكانته كفنٍّ عربي أول؟
- الشعر يقتله محبّوه وعاشقوه والغيورون مرَضيًّا عليه، تمامًا مثل أمّ تبالغ في الخوف على صغيرها، تعزله عن الحياة، فيمسي ضعيفًا وسلبيًا، حراس الشعر يطوون رقعته كما تركها الخليل بن أحمد الفراهيدي، يعلّبونه ويضعونه في متحف الحنين المقدس، بينما الرواية سفينة مفتوحة على المخاطرة لجميع الغرقى والمغامرين في هذا العصر الطوفاني الصعب، مفتوحة على كل الثقافات واللغات والفلسفات والمعتقدات والسياسات والموسيقات والجغرافيات وتواريخ الأمم المختلفة.
من السذاجة التاريخية أن ننتظر أن يستعيد الشعر مجده القديم، لأنّه مثل النهر لا يعود أدراجه، ينجرف مع سيول الحياة نحو القادم المجهول، ولأنّ كل مستقبل هو ماضٍ قادم، فإنّ الشعر يسبق هذا الماضي القادم إلى ما قبله، إنه ابن الحياة المتجددة بجنون.
حين نتأمل الإيقاع الذي كان يُموسق ملاحم هوميروس أو هيرودوت أو صوفوكل، أو أشعار التروبادور أو امرئ القيس أو أبي تمّام أو المتنبي أو الخيّام أو فيكتور هيجو أو خوان رامون خيمينيث، أو غيرهم من شعراء الإنسانية، نجده جميلًا ومدهشًا، لأنّه يتناغم مع إيقاع آلات زمنه الموسيقية، أومن لو أنّ المتنبي أو هيرودوت نشرا من جديد في هذا العصر لكتبا شعرًا مختلفًا.
رقم قياسي
• تنقلتِ بين صنوف الأدب المختلفة، فهل هذا يثري تجربة المبدع، أم أنه يعرقل تميّزه في صنف بعينه؟
- أتصور الأدب حقلًا كبــيرًا مترامي الأطراف، وكل مربع منه يملؤه شجر مثمر مختلف عن غيره، أتنقل بين الرواية والشعر والمقالة والقصة بكثــير من الحــريّة والمرونة، أومن أن الكتابة في صنـــوف مختلفــة تزيد الكاتب مرونة وتمرسًا وقوة ونباهة وذكاء وعمقًا، تمامًا مثل الرياضي الذي يتــدرّب على أكثر من نوع، فهو لا يزيد جسده إلّا مــــرونة وقوة وقدرة على تحدّي نفســــه قــــبل الآخــــرين.
وهذا سؤال عادة ما يتكرّر عندنا، لكنّه لا يشكّل هاجسًا بالنسبة للكتابة عند الكتّاب في لغات وثقافات أخرى، بحيث لا يعني الشاعر والروائي فيكتور هيجو صاحب رواية االبؤساءب التي مازالت تشكّل الرقم القياسي في تحويلها إلى أفلام ومسرحيات وأفلام كرتون للأطفال ولوحات موسيقية وراقصة وترجمات عالمية، ولا غابرييل غارثيا ماركيز الذي بدأ صحفيًّا قبل أن يصبح روائيًا.
ثم كيف ننســــى تجربـــة نجيب محفوظ الحائز الوحيد في عالمنا هذا على جائــزة نوبل؟
محفوظ الذي كتب الرواية والقصة والسيناريو، المبدع الموهوب والجاد والمثقف حيثما مدّ يده يشعر بمسؤولية أن يكون متميزًا.
مرحلة البيات الإبداعي
• ماذا تمثّل الجوائز بالنسبة إلى المبدع؟
- أعتقد أن جـــلّ الجوائـــز في العالم العربي تحمل كثيرًا أو قليلًا من جينــــات إدموند دو غونكور الذي كــــتب وصيّته عن طيـــب خاطــــر في نهاية القرن الثامن عشـــر لنذر ثروته الكبيرة لجائزة أدبية سمّيت باسمه، لأنه كان - كما أعتقد أيضًا - يدرك أن الكاتب لا يستطيع أن يحيا بأدبه، وكذلك الشأن بالنسبة للكيميائي السويدي ألفريد نوبل صاحب جائزة نوبل، وجائزة غونكور، وجائزة فيميــــنا، وإنتراليي، ورونودو، وميديسيس، وجائزة البوكر البريطانية، وبعض الجوائز المقلدة لها في العالم الأنجلوفوني.
إلّا أنني مازلت أجد في الجوائز العربية، على الرغم من كرمها، صورة االيد العليا واليد السفلىب، فكثير من الأسماء الحائزة عليها بدل أن تلقم الساحة الأدبية العربية بعمل جديد مدهش، بالعكس من ذلك تمامًا، تُدخلها الجائزة الكريمة البيات الإبداعي، وبذلك تخطئ الجائزة استراتيجيتها في ترقية النصوص وفضاءاتها الأدبية، وفي إيقاظ حسّ المقاومة الفنية وإثراء الساحة الأدبية بالتحف الخالدة.
ملامح الأدب الجزائري المعاصر
• ما هي أبرز ملامح الأدب الجزائري المعاصر وتأثيره وتأثره في الحركة الأدبية العربية؟
- لعلّ أول ملمح للأدب الجزائري هو التعدّد اللغوي، فهناك كتّاب باللغة العربية وآخرون بالفرنسية، وفريق ثالث باللغة الأمازيغية، كل أدب له ذاكرته التاريخية التي تميّزه، وله مرجعياته الجمالية القادمة من تقاليد كل لغة.
ولأنّ الكتّاب يعيشون في فضاء ثقافي واحد، فإنّ كل فريق يؤثر ويتأثر بالآخر، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وإذا كان الأدب الجزائري باللغة الفرنسية قد عرف العالمية منذ الخمسينيات، منذ جيل كاتب ياسين ومحمد ديب ومالك حداد وآسيا جبار ومولود معمري، فإن هذه العالمية تكرست مع الأجيال المتلاحقة من رشيد بوجدرة إلى بوعلام صنصال وياسمينة خضرا وأمين الزاوي وكمال داود وغيرهم.
أما الأدب المكتوب بالعربية، بعد أن كان في بدايته متأثرًا بتجارب مشرقية، مثل نجيب محفوظ وإميل حبيبي وإدوار الخراط وحنّا مينا وغيرهم، إلا أنه في السنوات العشر الأخيرة أصبح يحقّق حضورًا متميزًا، ويؤثر في صناعة رؤية جمالية جديدة ناتجة عن تقاطعه بشكل مباشر مع الأدب المكتوب بالفرنسية.
أعتقد أن القارئ العربي أضحى يبحث عن قراءة الأدب الجزائري، وقد لاحظت هذا من خلال مشاركاتي في معارض الكتب العربية، ومن خلال ما يصلني من مراسلات خاصة. كما أن الجامعات العربية والمغاربية بدأت تعير اهتمامًا للأدب الجزائري من حيث الدراسة، ومن حيث الأطروحات الجامعية التي تقام على متونه الروائية أو الشعرية في السنوات الأخيرة.
إن جماليات الأدب في العالم العربي اليوم تتمثّل فيما تحمله التجارب الجديدة القادمة مما كان يسمّى بالهامش، خاصة تجارب الكتّاب المغاربيين وكتّاب منطقة الخليج. هاتان التجربتان استطاعتا أن تنقذا الأدب العربي سردًا وشعرًا من التكرار، ومن عطب المركزية الثقافية التي عرفها العالم العربي على مدى القرن العشرين تقريبًا.
بيات شتوي
• كيف تقيّمين المؤسسات الثقافية في الجزائر وأثرها ومتطلباتها، كونك إحدى المهتمات بالحركة الثقافية محليًا وإقليميًّا؟
- المؤسسات الثقافية في الجزائر شأنها شأن مثيلاتها في البلدان العربية والمغاربية، الثقافة آخر ما يُهتمّ به، فبعد أن تحقّق نوع من الزخم تمثّل في اقتطاع ميزانية مهمة لقطاع الثقافة في الجزائر ما بين 2000 و2010، أي في العشرية الأولى من الألفية الثالثة، وهذا نظرًا لـ االبحبوحةب المالية التي عرفتها البلاد، والتي تعود إلى ارتفاع سعر البترول، إلا أن هذا الدعم لم يؤسس لإقلاع ثقافي متين على الرغم من بناء عديد من المكتبات وبعض المسارح ودور الثقافة، وأقيمت الأنشطة الثقافية المحلية والعــربـــية والـــدولـــية، إلا أنــها ظلت ذات طــابــع فلكلوري، خالية من استراتيجية بعيدة المدى.
وبعد أن انتهت فترة السنوات السمان وحلّت محلها العجاف، بدت المؤسسات التي شيّدت وكأنها في بيات شتوي طويل، وتلاشت الأنشطة الثقافية ذات الطابع العربي والدولي، ولم تبقَ سوى جمعيات المجتمع المدني التي عادت إلى المجتمع الثقافي بقوة، فالمقاهي الأدبية أصبحت تقليدًا جزائريًا بامتياز، يلتقي فيه الكتّاب قراءهم بالمدن الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، بل وحتى في القرى، إنها الظاهرة الصحية الوحيدة اليوم بعد تراجُع عمل المؤسسات الثقافية التابعة للدولة أو هجرة المواطن لها، لأنّها مرتبطة بنظام سياسي معيّن، جعلت الجمعيات الثقافية من الثقافة حصانها النضالي القوي، وأصبحت هي التي تتولى اليوم الفعل الثقافي الجاد، على مستوى الكتاب بشكل خاص.
مفصل أساسي
• كون شريكك كاتبًا أو أديبًا، ما مدى تأثير ذلك على كلا الطرفين؟ وحدّثينا عن تجربتك الشخصية.
- منذ الصغر في بيت والدي كانت الثقافة والكتاب والنقاش الأدبي مفصلًا أساسيًا في حياة العائلة وحول مائدة الطعام أو بين أدراج مكتبة أبي المنزلية. تواصل الأمر مع زوجي الأديب أمين الزاوي، ثم مع أولادنا الذين ترعرعوا في هذا الجو؛ ابنتنا عاشقة اللغات الفنانة لينا دوران، وولدينا إلياس وهزار المتخصصين في البحوث العلمية والذكاء الاصطناعي. مع الوقت توسّع النقاش ليشمل الأدب والعلوم والفنون. ليس من شأن هذا أن يثري تجربة كل واحد منّا فقط، بل أيضًا يمتن العلاقة الطيبة بين أفراد العائلة ■