العازفة العراقية عائدة نديم: الموسيقى التركية أغنى في المقامات من العربية

عائدة نديم عازفة عراقية، أصابعها من ذهب وأحاسيسها مرهفة، وروحها هائمة بين المقامات التركية والعربية، أطلقت العنان لأصابعها، فترجمت إلى مقطوعات موسيقية أبهرت الجمهور الأوربي في الدنمارك والسويد، حتى استقرّ بها المقام في مدينة إسطنبول التي تعشقها حدّ الجنون.
التحقت عائدة بمدرسة الباليه والرقص في بغداد عند سنّ العاشرة، وتم اختيارها لتعزف على آلة «البسون/ فاكوت»، التي تستخدم في الفرق السيمفونية، ونادرًا ما تستخدم بشكل انفرادي، ثم أكملت دراستها في مدرسة الكونسرفتوار الملَكي بالعاصمة الدنماركية كوبنهاجن، ودشّنت أسلوبها الخاص في الموسيقى، الذي يقوم على مزج الموسيقى الإلكترونية بالتراث، ثم ارتحلت إلى تركيا، حيث تقيم في إسطنبول، وأبهرتها الموسيقى التركية التي ترى أنها تتفوّق على الموسيقى العربية من حيث تعدُّد المقامات، والقدرة على التطور. هنا حوار «العربي» معها:
• كيف ومتى بدأت رحلتك مع الموسيقى؟
- بدأت في سنّ مبكرة، ففي سنّ العاشرة التحقت بمدرسة الموسيقى والباليه في بغداد. بعد الاختبار تم اختياري لآلة االبسون/ فاكوتب.
أتذكّر جيدًا أن أمّي بكت في ذلك اليوم، ليس من الفرح، بل من الانزعاج، فقد كانت تأمل لابنتها الموهوبة أن تعزف الفلوت أو البيانو... فما هذه الآلة الغريبة؟
وفعلًا هي آلة غريبة، أتذكّر زملائي في المدرسة كلما رأوني قادمة بصحبة الآلة يسخرون قائلين: ها.. شوفوا... جاءت عائدة بآلتها
الـ اRBG7ب! لكنني أحببت هذه الآلة، وبرعت فيها، وكنت فخورةً بأنني أتعلّم العزف على آلة نادرة وغير مألوفة. هي آلة غير معروفة، بكلّ أسف، رغم صوتها الرخيم والشجيّ. وهي نادرًا ما تُستخدم بشكل انفرادي، لكنّها تستخدم في الفرق السيمفونية. أحببت هذه الآلة التي أصبحت رفيق درب الترحال والسفر.
وبعد إنهاء دراستي في المدرسة، التحقتُ بالفرقة السيمفونية العراقية، ومن ثمّ أكملت دراستي الموسيقية في الكونسرفتوار الملَكي في العاصمة الدنماركية كوبنهاجن، حيث حصلت على دبلوم عال.
وبعد التخرّج، قررت أن أبدأ بالتأليف الموسيقي والغناء، وأن أدشّن أسلوبي الخاص من خلال مزج الموسيقى الإلكترونية بالتراث!
من هنا، بدأت الرحلة الحقيقية ومازالت مستمرة.
٪ التراث الموسيقي والغنائي في العراق عريق وله خصوصيته المميّزة بين ألوان الغناء العربي والشرقي، إلى أي مدى استفدتِ من التراث العراقي والشرقي االكردي والتركي والفارسيب في إثراء معزوفاتك الموسيقية؟
٪ الموسيقى العربية، وبالتحديد العراقية، غنية وثريّة، الإرث الفني له صلة عميقة بالتراث الإنساني، ولذا يهمّني أن أعكس هذا الثراء والحفاظ عليه، بأداء ونمط وطراز جديد... زمن العولمة والتصحر الثقافي يحفّزني كفنانة بديلة على إبداع أسلوب يحافظ على بصمتي الإنسانية... جغرافيتنا كتاريخنا حافلة بالتنوع، وبعيدة تمامًا عن ثقافة البلاستيك التي تهدد حياتنا اليومية.
• لماذا كانت الهجرة من العراق إلى الدنمارك ثم السويد، ثم الاستقرار أخيراً في إسطنبول؟
- أسباب الهجرة تتعلّق بالظروف السياسية في العراق، لكن بعد استقراري في الدنمارك، بدأ الجدل الفلسفي الذي تخلقه حال الغربة، ما هي حالة الانتماء الجغرافي؟ ما هي هويتنا بعد الهجرة؟ وما إلى ذلك من هواجس أوصلتني إلى قناعة بأنني قادرة من خلال الموسيقى على أن أجعل العالم جزءًا من انتمائي.
فكرة الوطن - برأيي - ليست علمًا وحدودًا أو نقاط تفتيش، بل هي حالة انتماء وحب نخلقها مع النقطة الجغرافية التي نوجد بها.
ومن هذا المنطلق قررت لهويتي الموسيقية أن تكون جواز سفري واستقراري.
وعمومًا فهذا موضوع جدلي يحتاج إلى ساعات من النقاش، أمّا العالم فبكل أركانه يمكن أن يكون وطنًا.
• كيف استقبل الجمهور الأوربي موسيقاك؟ وهل هناك اختلاف بين الذائقتين العربية والأوربية في الموسيقى؟
- الأذن الأوربية بشكل عام متفتحة وتقدمية، مقارنة بالأذن الشرقية. نحن - مع الأسف - لا نتقبل الجديد بسهولة، قد يكون هذا له علاقة بالفكر الديمقراطي. كما أن ساحة الموسيقى والفن البديل في أوربا غنيّة وثريّة، وبذلك هناك فرصة لتقديم أعمال مغايرة وغير نمطية بشكل أوسع. وأنا ممتنة كثيرًا؛ لأن الساحتين الأوربية والتركية استقبلتا أعمالي بنجاح هائل.
وبالرغم من هذا، يُذكر أن الساحة العربية، وبالذات بيروت والقاهرة وتونس، تشهد حاليًا تغييرًا مذهلًا بالانفتاح الفني. ولذا أتمنّى لأعمالي أن تجد مكانها هناك أيضًا.
• ما سرّ ولعك بمدينة إسطنبول؟
- إسطنبول من بعد بغداد... هي مدينة أسطورية بالنسبة لي، بحضارتها وتاريخها العريق والمشهود بأبنيتها ومعمارها. موقعها الجغرافي ومضيقها يمنحانها خصوصية مطلقة.
أما الجانب الفني، فهذا موضوع تُكتب فيه صفحات وصفحات؛ فالموسيقى والفن التركي غنيّان عن التعريف، والذي قد لا يعرفه المستمع العربي هو الأوبرا التركية التي تمزج بين التاريخ العثماني وعصر النهضة الأوربية.
إسطنبول تُلهمني لأنها متجددة ومعاصرة بكل جوانبها وبشكل يضاهي أوربا، لكنّها في الوقت نفسه فخورة ومتمسكة بتاريخها وعراقتها، ولذا فهي كالمغناطيس، إن زرتها مرة فسوف تزورها مرات عديدة!
• تُجرين بروفاتك على شاطئ البحر.. ماذا يمثّل لك البحر؟ وما علاقة البحر بالموسيقى؟
- نعم صحيح، أنا، بشكل عام، أعشق الطبيعة وعلاقتي بالبحر والصحراء خاصة جدًّا.
بالقرب من البحر في إسطنبول لديّ مقرّ فنّي، حيث أنتج أعمالي الفنية، لكنني قررت هذا العام أن أقيم ورشات فنيّة للشباب الموسيقيين الأتراك على شاطئ البحر، وقد جاءت الفكرة كمحاولة لكسر الحدود بين الفن والمستمع، ولإتاحة الفرصة لاستلهام الطبيعة في أثناء التمرين والعزف.
نعيش في زمن غريب مليء بالخوف، وبالكراهية والحرب والعداء.. برأيي آن الأوان للفنّ لأن يخرجَ ليس فقط للشارع، بل في كل أركان الطبيعة، تذكيرًا بأن الفن هو الأبقى.
• هل تعزفين موسيقى الجغرافيا التي تعيشين فيها؟
- لا أعزفها بشكل مباشر، بل بالتأكيد أستلهم منها وأتأثر بها. في النهاية، الفن الصادق لا يعيش بين أربعة جدران، فالفنان لا بدّ أن يرى يسمع ويحسّ نغمات العالم، كل بقعة جغرافية لها خصوصيتها، وهذا لا ينعكس إلا بالفن وثقافة تلك المنطقة.
والأجمل في كل هذا، هو اكتشاف أوجه التشابه، سواء النغمية أو الإيقاعية بين كل أنماط الموسيقى في العالم، وهذا طبيعي، لأننا جميعًا ننتمي للثقافة نفسها، وهي الثقافة الإنسانية، أليس كذلك؟
• ما الفرق بين الموسيقى العربية ونظيرتها التركية؟
- لكلِ موسيقى مذاقها الخاص، فلا شيء أفضل من شيء، لكنّني شخصيًا أميل إلى الموسيقى التركية، لأنها مصقولة بأسلوب آخر، وتعبيراتها المقامية أكثر استساغة. والموسيقى التركية ثريّة بتنوّعها، فموسيقى منطقة البحر الأسود تختلف تمامًا عن موسيقى الجنوب، التي تذكّرني بموسيقى المنطقة الشمالية في العراق، حتى الموسيقى التركية الحديثة مترجمة بصورة ذكية تجذب كُل الآذان.
• هل لديك مشروعات موسيقية في تركيا؟
- نعم، السنة القادمة ستكون، بإذن الله، حافلة بالمشاريع الفنية في تركيا. بعد إصدار ألبومي هناك قبل عامين، هناك مشروع إصدار عمل فني جديد، إضافة إلى مشاريع مع التلفزيون التركي، وتنظيم ورشات عمل وحفلات موسيقية على شاطئ البحر، حيث يوجد مقرّي الفني.
• ما مصادر إلهامك في الموسيقى؟
- كثيرة، أهمها الكلمة... أنا أحبّ الشّعر، وأحرص على قراءته. الموسيقى الفولكلورية تلهمني كثيرًا، كذلك الإيماءات البصرية كالرقص والرسم، فكل شيء في الفن مرتبط ببعضه. النغمة والإيقاع هما الأساس في التأليف الموسيقي، لكنّ الإضاءة، أو إيماءة الراقص، أو حركة الفُرشاة تعدّ أطرافًا مهمة في اللحن الموسيقي.
• حدّثينا عن طريقة العزف الإلكترونية التي تقدّمينها باحتراف؟
- الموسيقى الإلكترونية ملهمة، لأنها تعكس حياتنا المّعاصرة، والفن حالة اكتشاف الذات، ولذا لا بدّ من الغوص لإيجاد الصوت الصادق ليُعبّر عن هذه الذات. الفن بالنسبة إليّ هو طراز حياة. منذ بدأت احتراف الموسيقى وبداخلي رغبة عارمة لا للشهرة التجارية، بل لخلق بصمتي الموسيقية.
في بعض الأحيان أرى هذه السنين وكأنني في مختبر موسيقي، أبحث وأعزف وأغنّي بهدف العثور على الصوت الخاص بذاتي!
• هل غاصت عائدة نديم في فضاءات الموسيقى بقدسيتها المطلقة بعيدًا عن التأثيرات الجانبية التي من شأنها أن تقتل ملكوتها الفني بعيدًا عن أيّ انتماء؟
- أعتقد أن ما ذكرته في سؤالك من أبرز إيجابيات الفن البديل، فهو ليس معبرًا للفكر الاستهلاكي أو العجلة التجارية. الفن بالنسبة إليّ، كما ذكرت سابقًا، هو طراز حياة، ما نسمعه ونعيشه في يومياتنا نطرحه عبر الفن. في حالتي، الموسيقى هي الصومعة التي تحفظني من الأكاذيب الإعلامية، ومن التخلّف الفكري الذي أصبح موضة العصر ومن آثار الغُربة، ومن جانب آخر تمنحني الأمل والإصرار على الإنتاج في أحلك الظروف. الفنّ في عالمي ليس وسيلة ترفيه ثانوية، بل هو هدف لتغيير الواقع. عندما أنتج الموسيقى، أكون في صومعتي، وذلك يمدّني بكمّ هائل من الطاقة الإيجابية، رغم واقع الظرف الحقيقي.
• لديك مشروع مع صديقتك الرسامة العراقية تمارا نوري، ما العلاقة بين الرسم والموسيقى؟
- نعم، كما ذكرت سابقًا ما يُلهمني في التأليف الموسيقي ليس فقط النغمة أو الإيقاع، بل إيقاع الحركة واللون والضوء. هذه عناصر الرسم الأساسية. أنا لا أُجيد الرسم، لكنّني أهوى - لدرجة عالية - مشاهدة وتفحُّص اللوحة، فكُل لوحة لها إيقاعها ولحنها وحروفها وكلماتها، والأجمل أن ترجمتها نسبيّة تعتمد على الظروف النفسية والاجتماعيه لكل فرد.
• ما نصيب الأطفال من أعمالك؟
- في داخل كل منا طفل مليء بفضول اكتشاف العالم. لكنّنا نتجاهل هذا المخلوق بداخلنا بشكل محزن، فنتحول إلى شخصيات رتيبة وكئيبة.
برأيي، يحتاج الفنان إلى تغذية هذا المخلوق والإصغاء إليه، لكي يستمر بالتطوير وخلق العوالم الفنية.
لهذا السبب، فأنا أعشق عالم الطفل، لأنّه حُرّ بخياله ومخيلته، فهو لا يعرف القيود ولا يخاف الجنون. سُئل بيكاسو عن طريقته الطفولية في الرسم، فأجاب: نحن الكبار نتعلّم حركة الفرشاة بسنوات، أما حركة فرشاة الطفل فتحتاج إلى العمر كله!
فعالَم الطفل معقّد ببساطته، وما يحزنني أن الأطفال بجمال عالمهم هم ضحية لقراراتنا السياسية ولانتهاكاتنا لحقوق الإنسانية.
ولذا في كّل زيارة لي إلى إسطنبول أحرص على تنظيم ورشة موسيقية في الشارع للأطفال اللاجئين السوريين، فأنا لستُ قادرة على منحهم حياة عادلة ورغيدة، لكنّني قادرة - على الأقل - على رسم الابتسامة على وجوههم ومنحهم، خلال ساعة، الفرصة لإطلاق السراح لمخيّلتهم لكي تنطلق بعيدًا عن الخوف ومآسي الحروب.
• ما هي خريطة العراق كوطن في معزوفات عائدة نديم؟
- العراق، وبالذات بغداد، منبع كل إنتاجي الفني. فهناك نطقت أول حرف، وهناك عزفت أول نغمة، وهناك تعلّمت المزج بين الدمعة والعشق المُطلق للحياة. مهما ذكرت فهو قليل بحقّ مدينتي بغداد وأصولي العراقية. كيف لي أن أكون جاحدة بعد كل هذا؟! وهل يخون الإنسان بلده؟ وإن خان، كيف يكون؟ وماذا يمكن أن يكون؟ كما قال السيّاب.
• هل لديك التزام بمدرسة موسيقية محددة؟ وهل للسياسة تأثير في أعمالك الموسيقية؟
- أنا أنتمي إلى عالم الفن والثقافة والفكر البديل دون شك، سأكتب وأعزف الموسيقى التي تُظهر مصداقيتي ومفهومي لقيم الحياة.
قد يكون هذا هو أسلوبي لمقاومة الفكر السياسي المّتخلّف الذي نعيشه. أصبحنا كقطيع الخرفان نقبل بكل الأكاذيب السياسية، نحرق ونقتل ونهدم.
نعم، أنا كإنسانة وكفنانة وكامرأة أرفض هذه الأكاذيب، وأومن - بكلّ صدق - بمجتمع عالمي تسوده العدالة، والمساواة والحب. تسألني: كيف؟ أّجيب: بالفنّ، ثم بالفنّ.
• هل تمكنت عائدة نديم من إيصال موسيقاها إلى عموم الناس، أم إلى نخبة محددة فقط؟
- حتى السنين الأخيرة، لم يكن همّي الوصول إلى عموم الناس، فالحياة منحتني - مشكورةً - فرصة تقديم أعمالي أمام جمهور متنوّع وفي دول مختلفة، إضافة إلى جوائز فنية عالمية، ولذلك لم يكن همّي التركيز على الوسائل الاجتماعية.
لكن في السنوات الأخيرة، وعلى ضوء المتغيرات السياسية، عندي رغبة عارمة في الوصول إلى عموم الناس ونشر مشروعي الموسيقي في كلّ بقعة، لا لغرض الشّهرة التجارية، بل لغرض خلق التغيير ونشر المحبة والسلام من خلال الموسيقى، ولذلك أتمنى أن يوفّقني الله في مسيرتي هذه■
لوحة فنية لعائدة نديم