فنانة الباندو حنان بارودي: أصنع للبيت من الخبز وردًا

الصبية ذات الضفائر الطويلة، التي تجلس بجوار جدتها، في بيتهم الكبير، تراقبها بشغف، وهي تصنع من شرانق دودة الحرير لوحة، تعلّقها عرائس طرابلس لبنان على جدران بيوتهنّ، لم تكن الصبية ذات العيون الملوّنة تعرف، وقتها، أن جدّتها أودعت في روحها جذوة من فنّ، يستلهم من طبيعة طرابلس لبنان الساحرة، الفكرة والوسيلة، إنها سيّدة الفن البيئي في لبنان، فنانة الباندو حنان بارودي، التي جعلت من بيتها الفخم الأنيق في ضواحي طرابلس، مشغلًا لتعليم النسوة، فن الجِدَّات الجميلات الساحرات.
• متى بدأت علاقتك بالباندو؟
- كنت في رحلة عمل إلى نيويورك، بدعوة من السفارة اللبنانية، لإقامة معرضي بالفن الذي تخصّصت به، وبرعت في تنسيق أجمل الباقات لأفخم الفنادق والمنازل، وهو صناعة الأزهار والنباتات من القماش، والنباتات المجففة، وفي تلك الأيام لم تكن هناك المصانع المنتجة لهذه الأشياء، التي اشتهرت بها الصين وإيطاليا، بل تعلّمتها يدويًا من العائلة، أي من الجدات وأمي، ثم في مراكز خاصة في مدينتي طرابلس في لبنان، كانت تأتي إلينا مُدَرّسة أجنبية مختصة.
وقد لفت نظر والدي التربوي مدير التعليم العالي في طرابلس، إبداعي بهذا الفن، فأصبح يتابعني، وأخذ الموضوع بجدية، ليكافئني في العطل المدرسية، بسفرات لخارج لبنان، لتعلُّم ما هو جديد في هذا الفن، والحرف اليدوية خاصة، هذه كانت قصّتي مع صناعة وتنسيق الأزهار من القماش، وهذا ما أخذني لمعرض في السفارة اللبنانية في أمريكا، هناك خلال المعرض تعرّفت إلى زوجة سفير اليابان، من خلال افتتاح معرضي في سفارتنا، وأخبرتني عن مَدْرَسة يابانية لفنانة مشهورة جدًا في اليابان، في صناعة الأزهار من عجينة الباندو (عجينة الخبز)، من هنا بدأت قصتي مع تلك المادة في بداية ثمانينيات القرن الماضي من نيويورك.
السفر إلى اليابان
أنهيت معرضي في نيويورك ولم أعد إلى لبنان، ودخلت ذلك المعهد وتعلّمت فنًّا يابانيًّا، ما أروعه، واندمجت جدًا وأبدعت، لأن عملي الأساسي، في الأصل، هو بالأزهار، ومتخرّجة في اختصاص الرسم والديكور، لكنّني أخذت صناعة وتنسيق الأزهار مهنتي، التي كنت أعيش منها، واختارتني المَدْرَسة اليابانية في نيويورك، لأتابع الاختصاص في طوكيو، وأحمل شهادة اختصاص وتعليم لهذا الفن.
لم أتردد في الذهاب إلى اليابان، لأنّ بلدي لبنان كان في حالة حرب، والوضع سيئ جدًّا بالنسبة إلى العمل، وصلت إلى اليابان، وبقيت سنتين كانتا الأروع في حياتي، لأنّني تعلّمت من رفيقات المعهد، وطريقة حياتهن، وطبيعة البلد أكثر مما تعلّمته في المعهد.
كل ساعة في تلك البلاد مهمة، إذ لا ضياع للوقت! في كل شارع شيء يلفتك أو يهمّك، عندما ننتهي من اليوم الدراسي في المعهد، كنت أرافق إحدى الصديقات للشارع الذي تسكنه، لاحتساء الشاي عند إحدى الجارات، وهناك كانت المفاجأة، حيث رأيت ما لا نعرفه في بلادنا، لا شيشة ولا نميمة ولا مضيعة للوقت!
للشاي هناك جلسة خاصة، واحترام في طريقة تقديمه، طاولة خاصة تشبه جلسة أجدادنا على الأرض حول االطبليّةب، ولما انتهينا من شرب الشاي، وبينما اجتمع أهل الشارع، المهتمون بما ستقدمه صاحبة المنزل من فنّ خاص بها، بتّ متشوقة، ماذا سأرى أكثر مما رأيت؟
رأيت في زاوية مجموعة مختلفة من أغصان الشجر، وأوراقًا وأزهارًا جميلة جدًا، وأدوات أخرى أعرفها بأشكال أخرى في بلدي لبنان.
انتقلنا إلى تلك الزاوية، وبدأت صاحبة المنزل بتنسيق تلك الأشياء على طريقتها الخاصة، التي سجّلتها باسمها في البلدية، لتُعفى من ضريبة السكن، هذا ما عرفته فيما بعد، لو شاركت جيرانًا فيما تعرفه من أعمال يدوية مسجّلة باسمك، تكافأ من بلديّتك!، وأصبحت كل يوم أرافق رفيقة في صفّي، لأتعلّم شيئًا جديدًا من منطقتها، أو من الشارع الذي تسكنه.
العودة إلى لبنان
عدت إلى بلدي، وجعبتي مملوءة بفنون وأفكار وحبّ للعمل، ربما أشارك في بناء وطن يشبه ما عشته هناك، افتتحت مؤسستي الخاصة، وبدأت العمل بالجدية التي عشتها في اليابان، فبدأت أجمع سيّدات المنطقة، التي أعيش فيها بطرابلس، وأعلّم هذا الفن في بلدي، فذاع صيتي، وانتشر االباندوب بأنحاء الوطن، وفي أكثر من محطة تلفزيونية، معارضي من جديد تلفّ حول العالم، لكن بمادة جديدة هي الباندو.
• احكي لنا عن سرّ الباندو مع جداتك الجميلات الساحرات.
- قصتي مع عجينة الباندو وصناعتها كانت متعبة جدًا، في اليابان كنت أشتريها، وهي غالية الثمن بالنسبة إلى عملتنا، ولها سرّ لم نتعلّمه هناك، إنهم يخفون سرّ صناعتها، وكأنها سرّ حربي!
فبدأت بنفسي بعد عودتي إلى لبنان باكتشاف هذا السر، وحاولت كثيرًا، وتعبت، لأنّه لو ضرب التسوس الأزهار المصنوعة من الباندو، سيذهب عملك وتعبك بالهواء، وبعد جهد جهيد وصلت إلى السر، من خلال خبرات الجدات، جداتي الجميلات الساحرات اللاتي غرسن فيّ حب الفن، وجيل المونة في الحروب، كنّا في جلسة عائلية بالمصيف، حيث تكون العائلة جميعها مجتمعة في أعالي الجبال للاستمتاع بالجو اللطيف، والهواء العليل، والفواكه على أنواعها في الشجر على امتداد النظر.
جدتي ظهيرة
وكانت جلسة نسوية ترأسها جدتي لوالدي (ظهيرة)، نتكلّم بخصوص الحفاظ على عجينة الباندو، لتعيش دون أن ينخرها السّوس، وفي كلمة واحدة من جميع الجدات المجتمعات: الملح يا تيتا...، فهو يسحب الرطوبة من الطحين والحبوب، لأنّهن في أيامهن، وأيام الحروب، كنّ يحتفظن ويحافظن على تموين المنازل من الحبوب والطحين.
وهكذا توصلت إلى اكتشاف السر، من جلسة رأستها جدتي ظهيرة، وكانت فنانة تلقائية، ذات موهبة ومشهورة جدًا في أيامها، بصناعة اللوحات من شرانق دودة الحرير التي اشتهرت منطقتنا في طرابلس لبنان بتربيتها، وكانت هذه اللوحات ترافق كل عروس إلى بيتها الزوجي، وعلى قول المثل اللبناني: ايلّي ما عنده كبير لا يملك شيء من الحكمةب.
وبعدها توصلت إلى مكونات العجينة المثالية، للاشتغال عليها فنيًّا، وكانت المواد على الشكل التالي اطحين - نشاء الذرة - غراءب.
أما المواد الحافظة التي أخذت فكرتها من عائلتي، فهي كمية ملح مناسبة لحجم الكوب، للتخلص من الرطوبة، ويمكن إضافة مادة الفورمالين، لتعيش العجينة مدة أطول، وتُخلط تلك المواد وتعجن، لتكون عجينة مرنة غير لاصقة، وتحفظ في بلاستيك شفاف، وفي كيس آخر، بعد أن ترتاح من العجن مدة ساعة تقريبًا، لتكون جاهزة للعمل فيها.
الزهور ألوان... والألوان ذوق وخبرة
يتم اختيار لون العجينة حسب نوع الأزهار، ويمكننا استعمال أي لون حسب عمر الدارس في الورشة التدريبية، الذي يشتغل على العجينة، أو حسب عمر طالب الورد، أو المكان الذي ستوضع فيه باقة الورد في البيت، ومن الممكن استعمال ألوان الطعام، كيلا تتلوّن اليدان، لكن للوصول إلى الإتقان، نستخدم الألوان الزيتية المستعملة في رسوم اللوحات.
صناعة ورد البيت تبدأ بالهرم
لتكوين أي نوع ورد من الباندو بداية واحدة، البداية دائمًا تبدأ بالهرم، فمثلًا لصناعة زهرة الأقحوان، نكوّن الهرم بين الكفين وبواسطة المقص، نقصّ قاعدة الهرم خمسة أجزاء، ولصناعة زهرة النرجس نقصّ رأس الهرم ستة أجزاء، ولو أردنا صناعة وردة جورية، نكون عدّة أهرام، ونحوّل كلًّا منها إلى مثّلث، بعد الضغط عليه بيدنا أو بأي آلة أخرى.
إلامَ أوصلتك تجربتك مع الباندو؟
- وظّفت تجربتي مع الباندو، فيما بعد، لاكتشاف الفن الخاص بي، الإبداع من البيئة، أصبحت أصنع المزهرية التي سأنسق أزهاري فيها من عبوات المشروبات، بدل أن أشتريها، وأصمّم الطاولة التي سأضع المزهرية عليها من الصناديق الفارغة، مثل صندوق المكيّف أو التلفزيون، أو أيّ شيء آخر، وكان أول معرض لي، جمع الفن الياباني والإبداع البيئي خاصّتي، في أواخر التسعينيات، وكان عنوانه االباندو في خدمة البيئةب، وبدأت مرحلة جديدة في حياتي، الإبداع في البيئة، لتكون مادة أدرّسها بالجامعات في وطني لبنان■
الباندو من أعمال الفنانة حنان البارودي