مراثي الأبناء... نظرة طائر
يستغرق الشاعر، حين يرثي ولده، في مشاعر حزينة موقّعة بالأنغام، باحثًا عن السلوى، أو يائسًا من العزاء، وهي على أيّة حال مشاعر لا تشوبها شائبة هوى، ولا يميل بها منزع من منازع الدنيا وما فيها، فقد تسخو عاطفة الشاعر حتى تفيض عن الحاجة، وتقارب الشطط مادحًا، أو متغزلًا، أو رائيًا لمجالي الطبيعة، أو شاكيًا، أو حتى راثيًا لغير ذي قرابة.
أما إذا كان الفقيد فلذة من كبد الشاعر، فإنّ الشعور الأسيان كلّه يجيش، ويتحدر تحدُّر السيل العنيف، متجاوزًا كل الحسابات، والرغبات، والمنازع.
وقد رثى الشعراء منذ القديم أبناءهم، في قصائد ومطولات ومقطعات، وفي هذا اللون من الرثاء تحتشد مثيرات الحزن والألم، وتشتد بواعث الندب والبكاء، وتُستصفَى خصوصيات الحياة والصفات، ويحضر النّظر البعيد في جدلية الفناء والبقاء. وبوسع هذه النظرات أن تميّز علامتين في المسيرة الطويلة لمراثي الأبناء في الشعر العربي:
الأولى: القصائد المفردة، وهي كثيرة، وتتنوع طولًا وقصرًا، وبواعث وأحوالًا، وعنقودها غزير الثمار، يضمّ شعراء من كل العصور، مثل قصائد النابغة الجعدي، وأم السُّليك، والأُبيْرِد اليربوعي، وجويرية بنت قارظ، ولبانة بنت الحارث الهلالية، وجرير الذي رثى ابنه سوّادة المتوفى بالشام، وإبراهيم بن المهدي الذي رزئ بابنه أحمد بالبصرة (ويمكن الوقوف على نماذج الشعراء المشار إليهم في المصادر الأدبية، مثل ديوان الحماسة)، وقصيدة أبي تمام (232 هـ) التي صوّر فيها لحظات الاحتضار، ومشهد الختام الغاصّ بالفجيعة والأنين، والنظر في قبر ضمّ إلف الروح:
آخرُ عهدي به صَريعًا
للموت بالداء مُسْتكينا
إذا شكا غُصّةً وكَرْبًا
لاحَظَ، أو راجَعَ الأنينا
يُديرُ في رجْعِه لسانًا
يَمْنعُه الموتُ أن يُبينا
يَشْخصُ طورًا بناظريْه
وتارةً يُطبقُ الجفونا
ثم قضَى نَحْبَهُ فأمسَى
في جَدَثٍ للثَّرى دَفينا
بَعيدَ دارٍ قريبَ جارٍ
قد فارقَ الإلفَ والقَرينا
وهناك قصائد تسنّمت الذروة العليا في الفن، ونالت ذيوعًا واهتمامًا كبيرين، مثل عينية أبي ذؤيب الهذلي (ت. 28 هـ) في رثاء أبنائه الخمسة، وقد فقدهم تباعًا، بعد إصابتهم بالطاعون الذي ألمَّ بهم في مصر.
وانفردت القصيدة بخطابها الجمعي، فهي ليست في ابن واحد، بل في ابَنيّب الذين أعقبوه غصّة لا تنقضي، وهو ما يشي بوجود مسافة زمنية بين الموت، وبين نظم القصيدة، فالنظم استوى على سوقه بعد تمام الفجيعة التي تتابعت وقائعها خلال عام كامل، وانعكس ذلك على بناء القصيدة، فجاء محكمًا، متآزرًا مع نسيج قصصي متلاحق، سرد فيه الشاعر ثلاث صور قصصية من صور الصراع الوجودي، هلك فيها حمار الوحش، والثور، والفارس البطل الذي لقي مصرعه على يد بطل آخر اوكلاهما قد عاش عيشة ماجدٍب، وهي في جملتها أقرب إلى المعادل الموضوعي لجدلية الموت والحياة، متخذًا صورة الصراع العنيف، وكأنه الصراع ذاته الذي كابده الأبناء الخمسة، ومعهم الأب المفجوع.
يقول أبو ذؤيب في افتتاحية القصيدة:
أَمِنَ المَنُونِ ورَيْبِها تَتَوَجَّعُ
والدَّهْرُ ليسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
قالتْ أُمَيْمَةُ ما لِجِسْمِكَ شاحِباً
مُنْذُ ابْتُذِلْتَ ومثلُ مالِكَ يَنْفَعُ؟
أَمْ ما لِجَنْبِكَ لا يُلائِمُ مضْجَعاً
إِلاَّ أَقَضَّ عَليكَ ذَاكَ المضْجَعُ؟
فأَجَبْتُها أَمَّا لجِسْمي أَنَّهُ
أَوْدَى بَنِيَّ منَ البلادِ فَوَدَّعُوا
أَوْدَى بَنِيَّ وأَعْقَبونِي غُصَّةً
بَعْدَ الرُّقَادِ وعَبْرَةً لا تُقْلِعُ
وتعد اداليةب ابن الرومي (ت. 283 هـ) في رثاء ابنه الأوسط محمد، من عيون الشعر العربي، وهي من الذيوع بمكان، وابن الرومي رجل اختبرته المحن كثيرًا، فإضافة إلى فقد زوجه وأخيه، فقد ثلاثة من أبنائه، وفي مراثيه يتجسّد هول الفجيعة، وآثارها المؤلمة على الراثي، نفسًا وجسدًا، فلا يلبث القارئ أن يشاركه الانفعال، ويأسى للحال التي حالت بالشاعر بعد أن رحلت رياحين عينيه.
ولأبي الحسن التهامي (ت. 416 هـ) أكثر من قصيدة في ولد له مات صغيرًا، وهي من فرائد المراثي، يقول من مطولة تزيد على الثمانين بيتًا:
أبا الفضل طال الليلُ أم خانني صبري؟
فخُيّل لي أنّ الكواكب لا تسري
أرى الرملة َ البيضاءَ بعدك أظلمتْ
فليليَ ليلٌ ليس يُفْضي إلى فجر
وما ذاك إلّا أنّ فيها وديعةً
أبى ربُّها أن تُستردَّ إلى الحشر
بنفسي هلالٌ كنتُ أرجو تمامَه
فعاجلَهُ المقدارُ في غرّة الشهر
أتاه قضاءُ الله في دار غُربة ٍ
بنفسي غريب الأصل والقدر والقبر
ووالله لو أسْطيع قاسمتُهُ الرّدى
فمتنا جميعًا أو لقاسمني عمري
ولم تتوقف مآقي الشعراء في العصر الحديث عن تسكاب الدموع على أبنائهم، حين اختبرتهم الأقدار بأقسى اختبار، فعاشوا تجربة الفقد بكلّ أبعادها، وعبّروا عنها أصدق تعبير، ومن هؤلاء: عائشة التيمورية (ت. 1902 م) التي فقدت ابنتها توحيدة، ولم يمرّ على عرسها شهر واحد، فبقيت لسنوات عدّة ترثيها، وضياء الدين حمزة (ت. 1976 م) الذي ضمّ ديوانه أكثر من قصيدة في رثاء ابنه حمزة، وهناك نزار قباني (ت. 1998 م) الذي رثى ابنه توفيق بمطوّلة، أظهر فيها - وهو الشاعر المتدفق - عجز الكلمات أمام فجيعته القاسية.
أما شاعر مكة المكرمة محمد حسن فقي (ت. 2004 م) فله مع الموت، ومراثي الأبناء, تجربة كبيرة، عميقة في مأساتها، فبعد أن فقد الولد، يرسل الزفرات الحارّة في رثائه، وينتابه جزع شديد، وشعور بأنه امنتهٍ بانتهائهب، ثم يبادره القدر مرّة أخرى بفقد ابنته، ليخوض تجربة فريدة، حين يجمع في قصيد واحد رثاء الولد والبنت:
أَبُنيَّتي وبُنيَّ.. هل أنا ظافرٌ
بعد الردى منكم بوشك لقاء؟
فارقْتُماني، فاللَّظى في مهجتي
يَرْعى ويَسْتَعصِي على الإطفاء
قد كُنتما ريحانَتيّ، فأَنْتشي
بالنَّفْحِ في الإصباحِ والإمساء
وذَبُلْتُما، وأتى الخريفُ بجَدْبِه
بعد الربيع يَعِجُّ بالأَنْواء
وأَراكُما، وأرى النضارةَ والصِّبا
بكما أضاءَا ظُلمتي وعَمائي؟
العلامة الأخرى؛ الدواوين الكاملة التي أفردت لمراثي الأبناء، والظاهرة جديرة بالاحتفاء، لفرادتها في أبواب المراثي وعلوّ فنها، وقد احتفظت خزانة الشعر القديم بمثال مثير للانتباه في عنوانه، طريف في بنائه، أعني ديوان ااقتراح القريح واجتراح الجريحب لأبي الحسن علي الحصري القيرواني (ت. 488 هـ)، وجعله كلّه في رثاء طفله عبدالغني، الذي رزئ بموته، وعمره تسعة أعوام.
وبُنيت قصائد الديوان على ترتيب حروف المعجم، وألحقت بها قصائد أخرى في الموضوع نفسه التزم فيها لزوم ما لا يلزم، واشتمل على تصوير دقيق لأطوار حياة طفله، ونبوغه، ومراحل مرضه وأسبابه، وعجز الأطباء عن علاجه، ثم البكاء الطويل على رحيله:
لستُ أنسى مقامه ومقامي
وكلانا مثلُ القتيل خَضِيبا
أنفهُ ينثرُ العقيقَ وعيني
تنثرُ الدمعَ بالعقيق مَشوبا
وكيف تضافر الشعر والدمع ليظلّ ضرام القلب مشتعلا؟:
ضَجَّ أبوكَ الكظيمُ مما
نالكَ والدمعُ لا يَغيضُ
ضاعفَ أحزانَه بلاءٌ
كلُّ صحيحٍ له مريض
ضَرَّمتَ في قلبِه وهيجًا
يَهِيجُهُ الدمعُ والقريض
ضُحايَ - حتى أراكَ - ليلٌ
وسودُ رأسي عليك بيضُ
ويأتي ديوان اسعادب شارة مميزة على المكانة العزيزة التي حظيت بها الابنة، في نفوس الآباء في العصر الحديث، وسعاد ابنة شاعر المهجر الجنوبي زكي قنصل (ت. 1994 م)، وتوفيت دون أن تتمّ عامها الأول، فانكسر الرجاء في نفس الأب، وتدفّق ينبوع الحزن شعرًا، فكتب ثماني قصائد في بكائها (سعاد - على ضريح سعاد - سرير سعاد - أرجوحة سعاد - لعبة سعاد - عيد سعاد - عروس الزهور - عيدها الأول)، بان فيها الاحتفاء بالطفولة، وعالمها الآسر، فلفّت أجواء تلك القصائد بمفرداتها وتفاصيلها المحببة وصورها.
وقد ضمّها في ديوان صغير حمل اسمها، وكان الإصدار الأول له في عام 1953، بعد عام من غيابها، وها هو بعد أن قطفت يد الموت زهرته اليانعة، يقف على ضريحها تعتصر قلبه اللوعة والأسى، وتجتاحه الأسئلة اللاعجة:
رفَّتْ رفيف الأقحُوانةِ، وانطفتْ في عمرِها
ماذا جنتْ حتى تصيَّدَها الرّدى في فجرها؟
يا رب لا تحبِسْ فؤادي لحظةً عن ذكرها
الحبُّ عنديَ بسمةٌ وضّاءةٌ في ثغرها
والسحرُ أنفاسُ الجنانِ شذيَّةً من عطرها
دموع وأناشيد
وللشاعر الأردني محمود الروسان ديوان ادموع وأناشيد إلى عائدةب، وهي ابنته العروس التي غالها الموت قبل موعد زفافها، فاحتسبها شهيدة عند الله، لكنّ حسرة نفسه على امصباحب حياته الذي انطفأ، أملت عليه هذه الأشعار.
ولا تغفل هذه النظرات عن ذكر تجربتين وجدانيتين بامتياز، يزيد الفارق الزمني بينهما على ثلاثة عقود من السنين؛ لكن الجامع بينهما وثيق، ومتعدد الأوجه، تتمثّل التجربة الأولى في ديوان اإليك يا ولديب للشاعرة د. سعاد الصباح، وصدرت طبعته الأولى في عام 1982، واختص برثاء ولدها البكر، مبارك، (عدا خمس قصائد لا تخلو من أجواء الحزن والفقد)، وقد عاجلته المنية في عمر الورود، وعمره اثنا عشر عامًا. وتتمثّل التجربة الثانية في ديوان ارثاء القمرب للشاعر سالم عباس خداده، وصدر في عام 2016، واختص برثاء ابنه البكر أحمد، الذي غاله المرض، وهو في ريعان الشباب، وعمره ستة وعشرون عامًا.
ولا يغيب عن الحسبان أيضًا، ما تمثّله التجربتان من قدَر معتبر من الفرادة، حاصل من جهتين: جهة التجديد الشعري في الكويت، وجهة مراثي الأبناء في الشعر العربي.
دلالة ساطعة
تقود وفرة نماذج رثاء الأبناء، وبعضها من المطولات، إلى دلالة أدبية ساطعة، تتمثّل في توفّر الشاعر الراثي على جوانب زاخرة، ومشاعر متجددة، ومآثر لا تنسى تغذّي تجربته الرثائية بأوفى غذاء، وتدفعه إلى الاستغراق فيها، والتلبّث عند دقائقها، والإيغال في التفاصيل التي تأخذ لدى الشاعر المجيد طابعها الذي لا ينماع في طوابع الآخرين. وقد أضحت بعض التجارب - والمعاصرة منها على وجه الخصوص - صورة حياة للمرثيّ، لا تتوقّف عند الإلمام بمشاعر الحزن والأسى والتفجع، وإنّما تمتد إلى تصوير معالم الشخصية، والمواقف الموحية، والمشاهد الحيّة المؤثرة، كما تسعى - على صعيد الفن - إلى توظيف تقنيات السرد والدراما.
ومن خلال هذا التفاعل الجمالي بين الفنون، وكذلك بين الموضوعات الشعرية، تشتد الحاجة إلى لون من التناغم الحثيث بين المكونات حتى لا يفلت النصّ من إطار وحدته الموضوعية والشعورية، ولهذا يمكن أن نساير باطمئنان رأي المبرّد (ت. 286 هـ) الذي يرى فيه أن:
اأحسن الشعر ما خلط مدحًا بتفجُّع، واشتكاءً بفضيلة، لأنه يَجْمَعُ التوجّع الموجع تفرُّجًا، والمدح البارع اعتذارًا من إفراط التفجُّع باستحقاق المرثيب.
لقد استخدم المبرد كلمة اخلطب بتوفيق ظاهر، ليشير إلى ذلك المطلب اللازم، وهو التناغم الجامع، والمزج الفنّي بين مكونات النص الرثائي، فلا يقتصر على تعداد محامد المرثي، ولا ينفرد بمشاعر الراثي ■