مراثي الأبناء... نظرة طائر

مراثي الأبناء... نظرة طائر

يستغرق‭ ‬الشاعر،‭ ‬حين‭ ‬يرثي‭ ‬ولده،‭ ‬في‭ ‬مشاعر‭ ‬حزينة‭ ‬موقّعة‭ ‬بالأنغام،‭ ‬باحثًا‭ ‬عن‭ ‬السلوى،‭ ‬أو‭ ‬يائسًا‭ ‬من‭ ‬العزاء،‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬أيّة‭ ‬حال‭ ‬مشاعر‭ ‬لا‭ ‬تشوبها‭ ‬شائبة‭ ‬هوى،‭ ‬ولا‭ ‬يميل‭ ‬بها‭ ‬منزع‭ ‬من‭ ‬منازع‭ ‬الدنيا‭ ‬وما‭ ‬فيها،‭ ‬فقد‭ ‬تسخو‭ ‬عاطفة‭ ‬الشاعر‭ ‬حتى‭ ‬تفيض‭ ‬عن‭ ‬الحاجة،‭ ‬وتقارب‭ ‬الشطط‭ ‬مادحًا،‭ ‬أو‭ ‬متغزلًا،‭ ‬أو‭ ‬رائيًا‭ ‬لمجالي‭ ‬الطبيعة،‭ ‬أو‭ ‬شاكيًا،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬راثيًا‭ ‬لغير‭ ‬ذي‭ ‬قرابة‭.‬

 

أما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الفقيد‭ ‬فلذة‭ ‬من‭ ‬كبد‭ ‬الشاعر،‭ ‬فإنّ‭ ‬الشعور‭ ‬الأسيان‭ ‬كلّه‭ ‬يجيش،‭ ‬ويتحدر‭ ‬تحدُّر‭ ‬السيل‭ ‬العنيف،‭ ‬متجاوزًا‭ ‬كل‭ ‬الحسابات،‭ ‬والرغبات،‭ ‬والمنازع‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬رثى‭ ‬الشعراء‭ ‬منذ‭ ‬القديم‭ ‬أبناءهم،‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬ومطولات‭ ‬ومقطعات،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬اللون‭ ‬من‭ ‬الرثاء‭ ‬تحتشد‭ ‬مثيرات‭ ‬الحزن‭ ‬والألم،‭ ‬وتشتد‭ ‬بواعث‭ ‬الندب‭ ‬والبكاء،‭ ‬وتُستصفَى‭ ‬خصوصيات‭ ‬الحياة‭ ‬والصفات،‭ ‬ويحضر‭ ‬النّظر‭ ‬البعيد‭ ‬في‭ ‬جدلية‭ ‬الفناء‭ ‬والبقاء‭. ‬وبوسع‭ ‬هذه‭ ‬النظرات‭ ‬أن‭ ‬تميّز‭ ‬علامتين‭ ‬في‭ ‬المسيرة‭ ‬الطويلة‭ ‬لمراثي‭ ‬الأبناء‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭:‬

الأولى‭: ‬القصائد‭ ‬المفردة،‭ ‬وهي‭ ‬كثيرة،‭ ‬وتتنوع‭ ‬طولًا‭ ‬وقصرًا،‭ ‬وبواعث‭ ‬وأحوالًا،‭ ‬وعنقودها‭ ‬غزير‭ ‬الثمار،‭ ‬يضمّ‭ ‬شعراء‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬العصور،‭ ‬مثل‭ ‬قصائد‭ ‬النابغة‭ ‬الجعدي،‭ ‬وأم‭ ‬السُّليك،‭ ‬والأُبيْرِد‭ ‬اليربوعي،‭ ‬وجويرية‭ ‬بنت‭ ‬قارظ،‭ ‬ولبانة‭ ‬بنت‭ ‬الحارث‭ ‬الهلالية،‭ ‬وجرير‭ ‬الذي‭ ‬رثى‭ ‬ابنه‭ ‬سوّادة‭ ‬المتوفى‭ ‬بالشام،‭ ‬وإبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي‭ ‬الذي‭ ‬رزئ‭ ‬بابنه‭ ‬أحمد‭ ‬بالبصرة‭ (‬ويمكن‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬نماذج‭ ‬الشعراء‭ ‬المشار‭ ‬إليهم‭ ‬في‭ ‬المصادر‭ ‬الأدبية،‭ ‬مثل‭ ‬ديوان‭ ‬الحماسة‭)‬،‭ ‬وقصيدة‭ ‬أبي‭ ‬تمام‭ (‬232‭ ‬هـ‭) ‬التي‭ ‬صوّر‭ ‬فيها‭ ‬لحظات‭ ‬الاحتضار،‭ ‬ومشهد‭ ‬الختام‭ ‬الغاصّ‭ ‬بالفجيعة‭ ‬والأنين،‭ ‬والنظر‭ ‬في‭ ‬قبر‭ ‬ضمّ‭ ‬إلف‭ ‬الروح‭:‬

آخرُ‭ ‬عهدي‭ ‬به‭ ‬صَريعًا‭ ‬

‭ ‬للموت‭ ‬بالداء‭ ‬مُسْتكينا

إذا‭ ‬شكا‭ ‬غُصّةً‭ ‬وكَرْبًا‭ ‬

لاحَظَ،‭ ‬أو‭ ‬راجَعَ‭ ‬الأنينا

يُديرُ‭ ‬في‭ ‬رجْعِه‭ ‬لسانًا

يَمْنعُه‭ ‬الموتُ‭ ‬أن‭ ‬يُبينا

يَشْخصُ‭ ‬طورًا‭ ‬بناظريْه

وتارةً‭ ‬يُطبقُ‭ ‬الجفونا

ثم‭ ‬قضَى‭ ‬نَحْبَهُ‭ ‬فأمسَى

في‭ ‬جَدَثٍ‭ ‬للثَّرى‭ ‬دَفينا

بَعيدَ‭ ‬دارٍ‭ ‬قريبَ‭ ‬جارٍ

قد‭ ‬فارقَ‭ ‬الإلفَ‭ ‬والقَرينا

 

وهناك‭ ‬قصائد‭ ‬تسنّمت‭ ‬الذروة‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬الفن،‭ ‬ونالت‭ ‬ذيوعًا‭ ‬واهتمامًا‭ ‬كبيرين،‭ ‬مثل‭ ‬عينية‭ ‬أبي‭ ‬ذؤيب‭ ‬الهذلي‭ (‬ت‭. ‬28‭ ‬هـ‭) ‬في‭ ‬رثاء‭ ‬أبنائه‭ ‬الخمسة،‭ ‬وقد‭ ‬فقدهم‭ ‬تباعًا،‭ ‬بعد‭ ‬إصابتهم‭ ‬بالطاعون‭ ‬الذي‭ ‬ألمَّ‭ ‬بهم‭ ‬في‭ ‬مصر‭. ‬

وانفردت‭ ‬القصيدة‭ ‬بخطابها‭ ‬الجمعي،‭ ‬فهي‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬ابن‭ ‬واحد،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬ابَنيّب‭ ‬الذين‭ ‬أعقبوه‭ ‬غصّة‭ ‬لا‭ ‬تنقضي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يشي‭ ‬بوجود‭ ‬مسافة‭ ‬زمنية‭ ‬بين‭ ‬الموت،‭ ‬وبين‭ ‬نظم‭ ‬القصيدة،‭ ‬فالنظم‭ ‬استوى‭ ‬على‭ ‬سوقه‭ ‬بعد‭ ‬تمام‭ ‬الفجيعة‭ ‬التي‭ ‬تتابعت‭ ‬وقائعها‭ ‬خلال‭ ‬عام‭ ‬كامل،‭ ‬وانعكس‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬القصيدة،‭ ‬فجاء‭ ‬محكمًا،‭ ‬متآزرًا‭ ‬مع‭ ‬نسيج‭ ‬قصصي‭ ‬متلاحق،‭ ‬سرد‭ ‬فيه‭ ‬الشاعر‭ ‬ثلاث‭ ‬صور‭ ‬قصصية‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬الصراع‭ ‬الوجودي،‭ ‬هلك‭ ‬فيها‭ ‬حمار‭ ‬الوحش،‭ ‬والثور،‭ ‬والفارس‭ ‬البطل‭ ‬الذي‭ ‬لقي‭ ‬مصرعه‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬بطل‭ ‬آخر‭ ‬اوكلاهما‭ ‬قد‭ ‬عاش‭ ‬عيشة‭ ‬ماجدٍب،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬جملتها‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬المعادل‭ ‬الموضوعي‭ ‬لجدلية‭ ‬الموت‭ ‬والحياة،‭ ‬متخذًا‭ ‬صورة‭ ‬الصراع‭ ‬العنيف،‭ ‬وكأنه‭ ‬الصراع‭ ‬ذاته‭ ‬الذي‭ ‬كابده‭ ‬الأبناء‭ ‬الخمسة،‭ ‬ومعهم‭ ‬الأب‭ ‬المفجوع‭.‬

يقول‭ ‬أبو‭ ‬ذؤيب‭ ‬في‭ ‬افتتاحية‭ ‬القصيدة‭:‬

أَمِنَ‭ ‬المَنُونِ‭ ‬ورَيْبِها‭ ‬تَتَوَجَّعُ

والدَّهْرُ‭ ‬ليسَ‭ ‬بِمُعْتِبٍ‭ ‬مَنْ‭ ‬يَجْزَعُ

قالتْ‭ ‬أُمَيْمَةُ‭ ‬ما‭ ‬لِجِسْمِكَ‭ ‬شاحِباً‭     

مُنْذُ‭ ‬ابْتُذِلْتَ‭ ‬ومثلُ‭ ‬مالِكَ‭ ‬يَنْفَعُ؟

أَمْ‭ ‬ما‭ ‬لِجَنْبِكَ‭ ‬لا‭ ‬يُلائِمُ‭ ‬مضْجَعاً

إِلاَّ‭ ‬أَقَضَّ‭ ‬عَليكَ‭ ‬ذَاكَ‭ ‬المضْجَعُ؟

فأَجَبْتُها‭ ‬أَمَّا‭ ‬لجِسْمي‭ ‬أَنَّهُ‭ ‬

أَوْدَى‭ ‬بَنِيَّ‭ ‬منَ‭ ‬البلادِ‭ ‬فَوَدَّعُوا

أَوْدَى‭ ‬بَنِيَّ‭ ‬وأَعْقَبونِي‭ ‬غُصَّةً

بَعْدَ‭ ‬الرُّقَادِ‭ ‬وعَبْرَةً‭ ‬لا‭ ‬تُقْلِعُ

 

‭ ‬وتعد‭ ‬اداليةب‭ ‬ابن‭ ‬الرومي‭ (‬ت‭. ‬283‭ ‬هـ‭) ‬في‭ ‬رثاء‭ ‬ابنه‭ ‬الأوسط‭ ‬محمد،‭ ‬من‭ ‬عيون‭ ‬الشعر‭ ‬العربي،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬الذيوع‭ ‬بمكان،‭ ‬وابن‭ ‬الرومي‭ ‬رجل‭ ‬اختبرته‭ ‬المحن‭ ‬كثيرًا،‭ ‬فإضافة‭ ‬إلى‭ ‬فقد‭ ‬زوجه‭ ‬وأخيه،‭ ‬فقد‭ ‬ثلاثة‭ ‬من‭ ‬أبنائه،‭ ‬وفي‭ ‬مراثيه‭ ‬يتجسّد‭ ‬هول‭ ‬الفجيعة،‭ ‬وآثارها‭ ‬المؤلمة‭ ‬على‭ ‬الراثي،‭ ‬نفسًا‭ ‬وجسدًا،‭ ‬فلا‭ ‬يلبث‭ ‬القارئ‭ ‬أن‭ ‬يشاركه‭ ‬الانفعال،‭ ‬ويأسى‭ ‬للحال‭ ‬التي‭ ‬حالت‭ ‬بالشاعر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رحلت‭ ‬رياحين‭ ‬عينيه‭.‬

ولأبي‭ ‬الحسن‭ ‬التهامي‭ (‬ت‭. ‬416‭ ‬هـ‭) ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬في‭ ‬ولد‭ ‬له‭ ‬مات‭ ‬صغيرًا،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬فرائد‭ ‬المراثي،‭ ‬يقول‭ ‬من‭ ‬مطولة‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬الثمانين‭ ‬بيتًا‭:‬

أبا‭ ‬الفضل‭ ‬طال‭ ‬الليلُ‭ ‬أم‭ ‬خانني‭ ‬صبري؟

فخُيّل‭ ‬لي‭ ‬أنّ‭ ‬الكواكب‭ ‬لا‭ ‬تسري

أرى‭ ‬الرملة‭ ‬َ‭ ‬البيضاءَ‭ ‬بعدك‭ ‬أظلمتْ

فليليَ‭ ‬ليلٌ‭ ‬ليس‭ ‬يُفْضي‭ ‬إلى‭ ‬فجر

وما‭ ‬ذاك‭ ‬إلّا‭ ‬أنّ‭ ‬فيها‭ ‬وديعةً

أبى‭ ‬ربُّها‭ ‬أن‭ ‬تُستردَّ‭ ‬إلى‭ ‬الحشر

بنفسي‭ ‬هلالٌ‭ ‬كنتُ‭ ‬أرجو‭ ‬تمامَه

فعاجلَهُ‭ ‬المقدارُ‭ ‬في‭ ‬غرّة‭ ‬الشهر

أتاه‭ ‬قضاءُ‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬غُربة‭ ‬ٍ

بنفسي‭ ‬غريب‭ ‬الأصل‭ ‬والقدر‭ ‬والقبر

ووالله‭ ‬لو‭ ‬أسْطيع‭ ‬قاسمتُهُ‭ ‬الرّدى

فمتنا‭ ‬جميعًا‭ ‬أو‭ ‬لقاسمني‭ ‬عمري

 

 

ولم‭ ‬تتوقف‭ ‬مآقي‭ ‬الشعراء‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬تسكاب‭ ‬الدموع‭ ‬على‭ ‬أبنائهم،‭ ‬حين‭ ‬اختبرتهم‭ ‬الأقدار‭ ‬بأقسى‭ ‬اختبار،‭ ‬فعاشوا‭ ‬تجربة‭ ‬الفقد‭ ‬بكلّ‭ ‬أبعادها،‭ ‬وعبّروا‭ ‬عنها‭ ‬أصدق‭ ‬تعبير،‭ ‬ومن‭ ‬هؤلاء‭: ‬عائشة‭ ‬التيمورية‭ (‬ت‭. ‬1902‭ ‬م‭) ‬التي‭ ‬فقدت‭ ‬ابنتها‭ ‬توحيدة،‭ ‬ولم‭ ‬يمرّ‭ ‬على‭ ‬عرسها‭ ‬شهر‭ ‬واحد،‭ ‬فبقيت‭ ‬لسنوات‭ ‬عدّة‭ ‬ترثيها،‭ ‬وضياء‭ ‬الدين‭ ‬حمزة‭ (‬ت‭. ‬1976‭ ‬م‭) ‬الذي‭ ‬ضمّ‭ ‬ديوانه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬في‭ ‬رثاء‭ ‬ابنه‭ ‬حمزة،‭ ‬وهناك‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ (‬ت‭. ‬1998‭ ‬م‭) ‬الذي‭ ‬رثى‭ ‬ابنه‭ ‬توفيق‭ ‬بمطوّلة،‭ ‬أظهر‭ ‬فيها‭ - ‬وهو‭ ‬الشاعر‭ ‬المتدفق‭ - ‬عجز‭ ‬الكلمات‭ ‬أمام‭ ‬فجيعته‭ ‬القاسية‭.‬

‭ ‬أما‭ ‬شاعر‭ ‬مكة‭ ‬المكرمة‭ ‬محمد‭ ‬حسن‭ ‬فقي‭ (‬ت‭. ‬2004‭ ‬م‭) ‬فله‭ ‬مع‭ ‬الموت،‭ ‬ومراثي‭ ‬الأبناء‭, ‬تجربة‭ ‬كبيرة،‭ ‬عميقة‭ ‬في‭ ‬مأساتها،‭ ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬فقد‭ ‬الولد،‭ ‬يرسل‭ ‬الزفرات‭ ‬الحارّة‭ ‬في‭ ‬رثائه،‭ ‬وينتابه‭ ‬جزع‭ ‬شديد،‭ ‬وشعور‭ ‬بأنه‭ ‬امنتهٍ‭ ‬بانتهائهب،‭ ‬ثم‭ ‬يبادره‭ ‬القدر‭ ‬مرّة‭ ‬أخرى‭ ‬بفقد‭ ‬ابنته،‭ ‬ليخوض‭ ‬تجربة‭ ‬فريدة،‭ ‬حين‭ ‬يجمع‭ ‬في‭ ‬قصيد‭ ‬واحد‭ ‬رثاء‭ ‬الولد‭ ‬والبنت‭:‬

أَبُنيَّتي‭ ‬وبُنيَّ‭.. ‬هل‭ ‬أنا‭ ‬ظافرٌ

بعد‭ ‬الردى‭ ‬منكم‭ ‬بوشك‭ ‬لقاء؟

فارقْتُماني،‭ ‬فاللَّظى‭ ‬في‭ ‬مهجتي

يَرْعى‭ ‬ويَسْتَعصِي‭ ‬على‭ ‬الإطفاء

قد‭ ‬كُنتما‭ ‬ريحانَتيّ،‭ ‬فأَنْتشي‭ 

بالنَّفْحِ‭ ‬في‭ ‬الإصباحِ‭ ‬والإمساء

وذَبُلْتُما،‭ ‬وأتى‭ ‬الخريفُ‭ ‬بجَدْبِه

بعد‭ ‬الربيع‭ ‬يَعِجُّ‭ ‬بالأَنْواء

وأَراكُما،‭ ‬وأرى‭ ‬النضارةَ‭ ‬والصِّبا‭ ‬

بكما‭ ‬أضاءَا‭ ‬ظُلمتي‭ ‬وعَمائي؟

 

‭ ‬العلامة‭ ‬الأخرى؛‭ ‬الدواوين‭ ‬الكاملة‭ ‬التي‭ ‬أفردت‭ ‬لمراثي‭ ‬الأبناء،‭ ‬والظاهرة‭ ‬جديرة‭ ‬بالاحتفاء،‭ ‬لفرادتها‭ ‬في‭ ‬أبواب‭ ‬المراثي‭ ‬وعلوّ‭ ‬فنها،‭ ‬وقد‭ ‬احتفظت‭ ‬خزانة‭ ‬الشعر‭ ‬القديم‭ ‬بمثال‭ ‬مثير‭ ‬للانتباه‭ ‬في‭ ‬عنوانه،‭ ‬طريف‭ ‬في‭ ‬بنائه،‭ ‬أعني‭ ‬ديوان‭ ‬ااقتراح‭ ‬القريح‭ ‬واجتراح‭ ‬الجريحب‭ ‬لأبي‭ ‬الحسن‭ ‬علي‭ ‬الحصري‭ ‬القيرواني‭ (‬ت‭. ‬488‭ ‬هـ‭)‬،‭ ‬وجعله‭ ‬كلّه‭ ‬في‭ ‬رثاء‭ ‬طفله‭ ‬عبدالغني،‭ ‬الذي‭ ‬رزئ‭ ‬بموته،‭ ‬وعمره‭ ‬تسعة‭ ‬أعوام‭. ‬

وبُنيت‭ ‬قصائد‭ ‬الديوان‭ ‬على‭ ‬ترتيب‭ ‬حروف‭ ‬المعجم،‭ ‬وألحقت‭ ‬بها‭ ‬قصائد‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬الموضوع‭ ‬نفسه‭ ‬التزم‭ ‬فيها‭ ‬لزوم‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يلزم،‭ ‬واشتمل‭ ‬على‭ ‬تصوير‭ ‬دقيق‭ ‬لأطوار‭ ‬حياة‭ ‬طفله،‭ ‬ونبوغه،‭ ‬ومراحل‭ ‬مرضه‭ ‬وأسبابه،‭ ‬وعجز‭ ‬الأطباء‭ ‬عن‭ ‬علاجه،‭ ‬ثم‭ ‬البكاء‭ ‬الطويل‭ ‬على‭ ‬رحيله‭:‬

لستُ‭ ‬أنسى‭ ‬مقامه‭ ‬ومقامي‭    

وكلانا‭ ‬مثلُ‭ ‬القتيل‭ ‬خَضِيبا

أنفهُ‭ ‬ينثرُ‭ ‬العقيقَ‭ ‬وعيني‭     

تنثرُ‭ ‬الدمعَ‭ ‬بالعقيق‭ ‬مَشوبا

 

وكيف‭ ‬تضافر‭ ‬الشعر‭ ‬والدمع‭ ‬ليظلّ‭ ‬ضرام‭ ‬القلب‭ ‬مشتعلا؟‭:‬

ضَجَّ‭ ‬أبوكَ‭ ‬الكظيمُ‭ ‬مما

نالكَ‭ ‬والدمعُ‭ ‬لا‭ ‬يَغيضُ

ضاعفَ‭ ‬أحزانَه‭ ‬بلاءٌ

كلُّ‭ ‬صحيحٍ‭ ‬له‭ ‬مريض

ضَرَّمتَ‭ ‬في‭ ‬قلبِه‭ ‬وهيجًا

يَهِيجُهُ‭ ‬الدمعُ‭ ‬والقريض

ضُحايَ‭ - ‬حتى‭ ‬أراكَ‭ - ‬ليلٌ

وسودُ‭ ‬رأسي‭ ‬عليك‭ ‬بيضُ

 

‭ ‬ويأتي‭ ‬ديوان‭ ‬اسعادب‭ ‬شارة‭ ‬مميزة‭ ‬على‭ ‬المكانة‭ ‬العزيزة‭ ‬التي‭ ‬حظيت‭ ‬بها‭ ‬الابنة،‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬الآباء‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬وسعاد‭ ‬ابنة‭ ‬شاعر‭ ‬المهجر‭ ‬الجنوبي‭ ‬زكي‭ ‬قنصل‭ (‬ت‭. ‬1994‭ ‬م‭)‬،‭ ‬وتوفيت‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتمّ‭ ‬عامها‭ ‬الأول،‭ ‬فانكسر‭ ‬الرجاء‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الأب،‭ ‬وتدفّق‭ ‬ينبوع‭ ‬الحزن‭ ‬شعرًا،‭ ‬فكتب‭ ‬ثماني‭ ‬قصائد‭ ‬في‭ ‬بكائها‭ (‬سعاد‭ - ‬على‭ ‬ضريح‭ ‬سعاد‭ - ‬سرير‭ ‬سعاد‭ - ‬أرجوحة‭ ‬سعاد‭ - ‬لعبة‭ ‬سعاد‭ - ‬عيد‭ ‬سعاد‭ - ‬عروس‭ ‬الزهور‭ - ‬عيدها‭ ‬الأول‭)‬،‭ ‬بان‭ ‬فيها‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بالطفولة،‭ ‬وعالمها‭ ‬الآسر،‭ ‬فلفّت‭ ‬أجواء‭ ‬تلك‭ ‬القصائد‭ ‬بمفرداتها‭ ‬وتفاصيلها‭ ‬المحببة‭ ‬وصورها‭.‬

  ‬وقد‭ ‬ضمّها‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬صغير‭ ‬حمل‭ ‬اسمها،‭ ‬وكان‭ ‬الإصدار‭ ‬الأول‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1953،‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬غيابها،‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قطفت‭ ‬يد‭ ‬الموت‭ ‬زهرته‭ ‬اليانعة،‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬ضريحها‭ ‬تعتصر‭ ‬قلبه‭ ‬اللوعة‭ ‬والأسى،‭ ‬وتجتاحه‭ ‬الأسئلة‭ ‬اللاعجة‭:‬

رفَّتْ‭ ‬رفيف‭ ‬الأقحُوانةِ،‭ ‬وانطفتْ‭ ‬في‭ ‬عمرِها

ماذا‭ ‬جنتْ‭ ‬حتى‭ ‬تصيَّدَها‭ ‬الرّدى‭ ‬في‭ ‬فجرها؟

يا‭ ‬رب‭ ‬لا‭ ‬تحبِسْ‭ ‬فؤادي‭ ‬لحظةً‭ ‬عن‭ ‬ذكرها

الحبُّ‭ ‬عنديَ‭ ‬بسمةٌ‭ ‬وضّاءةٌ‭ ‬في‭ ‬ثغرها

والسحرُ‭ ‬أنفاسُ‭ ‬الجنانِ‭ ‬شذيَّةً‭ ‬من‭ ‬عطرها

 

دموع‭ ‬وأناشيد

وللشاعر‭ ‬الأردني‭ ‬محمود‭ ‬الروسان‭ ‬ديوان‭ ‬ادموع‭ ‬وأناشيد‭ ‬إلى‭ ‬عائدةب،‭ ‬وهي‭ ‬ابنته‭ ‬العروس‭ ‬التي‭ ‬غالها‭ ‬الموت‭ ‬قبل‭ ‬موعد‭ ‬زفافها،‭ ‬فاحتسبها‭ ‬شهيدة‭ ‬عند‭ ‬الله،‭ ‬لكنّ‭ ‬حسرة‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬امصباحب‭ ‬حياته‭ ‬الذي‭ ‬انطفأ،‭ ‬أملت‭ ‬عليه‭ ‬هذه‭ ‬الأشعار‭.‬

ولا‭ ‬تغفل‭ ‬هذه‭ ‬النظرات‭ ‬عن‭ ‬ذكر‭ ‬تجربتين‭ ‬وجدانيتين‭ ‬بامتياز،‭ ‬يزيد‭ ‬الفارق‭ ‬الزمني‭ ‬بينهما‭ ‬على‭ ‬ثلاثة‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬السنين؛‭ ‬لكن‭ ‬الجامع‭ ‬بينهما‭ ‬وثيق،‭ ‬ومتعدد‭ ‬الأوجه،‭ ‬تتمثّل‭ ‬التجربة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬اإليك‭ ‬يا‭ ‬ولديب‭ ‬للشاعرة‭ ‬د‭. ‬سعاد‭ ‬الصباح،‭ ‬وصدرت‭ ‬طبعته‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1982،‭ ‬واختص‭ ‬برثاء‭ ‬ولدها‭ ‬البكر،‭ ‬مبارك،‭ (‬عدا‭ ‬خمس‭ ‬قصائد‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬أجواء‭ ‬الحزن‭ ‬والفقد‭)‬،‭ ‬وقد‭ ‬عاجلته‭ ‬المنية‭ ‬في‭ ‬عمر‭ ‬الورود،‭ ‬وعمره‭ ‬اثنا‭ ‬عشر‭ ‬عامًا‭. ‬وتتمثّل‭ ‬التجربة‭ ‬الثانية‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬ارثاء‭ ‬القمرب‭ ‬للشاعر‭ ‬سالم‭ ‬عباس‭ ‬خداده،‭ ‬وصدر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2016،‭ ‬واختص‭ ‬برثاء‭ ‬ابنه‭ ‬البكر‭ ‬أحمد،‭ ‬الذي‭ ‬غاله‭ ‬المرض،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬ريعان‭ ‬الشباب،‭ ‬وعمره‭ ‬ستة‭ ‬وعشرون‭ ‬عامًا‭.‬

ولا‭ ‬يغيب‭ ‬عن‭ ‬الحسبان‭ ‬أيضًا،‭ ‬ما‭ ‬تمثّله‭ ‬التجربتان‭ ‬من‭ ‬قدَر‭ ‬معتبر‭ ‬من‭ ‬الفرادة،‭ ‬حاصل‭ ‬من‭ ‬جهتين‭: ‬جهة‭ ‬التجديد‭ ‬الشعري‭ ‬في‭ ‬الكويت،‭ ‬وجهة‭ ‬مراثي‭ ‬الأبناء‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭.‬

 

‭ ‬دلالة‭ ‬ساطعة

تقود‭ ‬وفرة‭ ‬نماذج‭ ‬رثاء‭ ‬الأبناء،‭ ‬وبعضها‭ ‬من‭ ‬المطولات،‭ ‬إلى‭ ‬دلالة‭ ‬أدبية‭ ‬ساطعة،‭ ‬تتمثّل‭ ‬في‭ ‬توفّر‭ ‬الشاعر‭ ‬الراثي‭ ‬على‭ ‬جوانب‭ ‬زاخرة،‭ ‬ومشاعر‭ ‬متجددة،‭ ‬ومآثر‭ ‬لا‭ ‬تنسى‭ ‬تغذّي‭ ‬تجربته‭ ‬الرثائية‭ ‬بأوفى‭ ‬غذاء،‭ ‬وتدفعه‭ ‬إلى‭ ‬الاستغراق‭ ‬فيها،‭ ‬والتلبّث‭ ‬عند‭ ‬دقائقها،‭ ‬والإيغال‭ ‬في‭ ‬التفاصيل‭ ‬التي‭ ‬تأخذ‭ ‬لدى‭ ‬الشاعر‭ ‬المجيد‭ ‬طابعها‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينماع‭ ‬في‭ ‬طوابع‭ ‬الآخرين‭. ‬وقد‭ ‬أضحت‭ ‬بعض‭ ‬التجارب‭ - ‬والمعاصرة‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ - ‬صورة‭ ‬حياة‭ ‬للمرثيّ،‭ ‬لا‭ ‬تتوقّف‭ ‬عند‭ ‬الإلمام‭ ‬بمشاعر‭ ‬الحزن‭ ‬والأسى‭ ‬والتفجع،‭ ‬وإنّما‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬تصوير‭ ‬معالم‭ ‬الشخصية،‭ ‬والمواقف‭ ‬الموحية،‭ ‬والمشاهد‭ ‬الحيّة‭ ‬المؤثرة،‭ ‬كما‭ ‬تسعى‭ - ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الفن‭ - ‬إلى‭ ‬توظيف‭ ‬تقنيات‭ ‬السرد‭ ‬والدراما‭.‬

‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬التفاعل‭ ‬الجمالي‭ ‬بين‭ ‬الفنون،‭ ‬وكذلك‭ ‬بين‭ ‬الموضوعات‭ ‬الشعرية،‭ ‬تشتد‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬لون‭ ‬من‭ ‬التناغم‭ ‬الحثيث‭ ‬بين‭ ‬المكونات‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يفلت‭ ‬النصّ‭ ‬من‭ ‬إطار‭ ‬وحدته‭ ‬الموضوعية‭ ‬والشعورية،‭ ‬ولهذا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نساير‭ ‬باطمئنان‭ ‬رأي‭ ‬المبرّد‭ (‬ت‭. ‬286‭ ‬هـ‭) ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬فيه‭ ‬أن‭:‬

اأحسن‭ ‬الشعر‭ ‬ما‭ ‬خلط‭ ‬مدحًا‭ ‬بتفجُّع،‭ ‬واشتكاءً‭ ‬بفضيلة،‭ ‬لأنه‭ ‬يَجْمَعُ‭ ‬التوجّع‭ ‬الموجع‭ ‬تفرُّجًا،‭ ‬والمدح‭ ‬البارع‭ ‬اعتذارًا‭ ‬من‭ ‬إفراط‭ ‬التفجُّع‭ ‬باستحقاق‭ ‬المرثيب‭. ‬

لقد‭ ‬استخدم‭ ‬المبرد‭ ‬كلمة‭ ‬اخلطب‭ ‬بتوفيق‭ ‬ظاهر،‭ ‬ليشير‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬المطلب‭ ‬اللازم،‭ ‬وهو‭ ‬التناغم‭ ‬الجامع،‭ ‬والمزج‭ ‬الفنّي‭ ‬بين‭ ‬مكونات‭ ‬النص‭ ‬الرثائي،‭ ‬فلا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬تعداد‭ ‬محامد‭ ‬المرثي،‭ ‬ولا‭ ‬ينفرد‭ ‬بمشاعر‭ ‬الراثي‭  ■