استقلال النَّص ولذَّة قراءته في النَّقد العربي القديم

استقلال النَّص ولذَّة قراءته في النَّقد العربي القديم

الأفضل‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نُنتج‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬نستهلك،‭ ‬هذه‭ ‬مقولة‭ ‬صحيحة‭ ‬تقتضي،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الصُّدور‭ ‬عن‭ ‬النَّص‭ ‬موضوع‭ ‬الدِّراسة،‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬تراثنا‭ ‬النَّقدي‭ ‬الذي‭ ‬طالت‭ ‬قطيعتنا‭ ‬المعرفيَّة‭ ‬به‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬سنحاول‭ ‬القيام‭ ‬به‭ ‬فيما‭ ‬يأتي‭.‬

يختلف‭ ‬مسار‭ ‬الثقافة‭ ‬العربيَّة‭ ‬عن‭ ‬مسار‭ ‬الثقافة‭ ‬الغربيَّة،‭ ‬فقد‭ ‬عرف‭ ‬النَّقد‭ ‬العربي‭ ‬الكثير‭ ‬ممَّا‭ ‬دعت‭ ‬إليه‭ ‬نظريات‭ ‬اما‭ ‬بعد‭ ‬البنيويَّةب،‭ ‬مثل‭ ‬استقلال‭ ‬النَّص‭ ‬عن‭ ‬مؤلّفه‭ ‬وسياقه‭ ‬والتَّناص‭ ‬ولذَّة‭ ‬القراءة،‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المصطلحات،‭ ‬وإنّما‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المفاهيم،‭ ‬ووضع‭ ‬لكلّ‭ ‬مفهوم‭ ‬مصطلحاتٍ‭ ‬كثيرة،‭ ‬وصنَّفه‭ ‬في‭ ‬أنواع‭ ‬عديدة‭ ‬لم‭ ‬يخلُ‭ ‬كتاب‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬النَّقد‭ ‬العربيَّة‭ ‬القديمة‭ ‬المعتبرة‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬الوافي‭ ‬فيها،‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬النظرة‭ ‬الأدبيَّة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬انطلقت‭ ‬النظرة‭ ‬الغربيَّة،‭ ‬من‭ ‬النظرة‭ ‬اللغوية‭ ‬الحديثة،‭ ‬إضافةً‭ ‬إلى‭ ‬تمييز‭ ‬النَّقد‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬بين‭ ‬أنواع‭ ‬حضور‭ ‬النُّصوص‭ ‬في‭ ‬نصِّ‭ ‬أدبي،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬لم‭ ‬يُميِّز‭ ‬النَّقد‭ ‬الغربي‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الأنواع،‭ ‬وإنَّما‭ ‬عدَّ‭ ‬كل‭ ‬حضور‭ ‬تناصًّا،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬اقتباسًا‭ ‬وتضمينًا‭ ‬وأخذًا‭.‬

وفي‭ ‬ما‭ ‬يتعلَّق‭ ‬بما‭ ‬سُمّي‭ ‬االتَّناصب،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقدِّم‭ ‬نماذج‭ ‬من‭ ‬الأقوال‭ ‬تتحدَّث‭ ‬عن‭ ‬امتصاص‭ ‬النَّص‭ ‬لنصوص‭ ‬أخرى،‭ ‬وتسرُّبها‭ ‬إليه‭ ‬وحضورها‭ ‬فيه‭. ‬هذه‭ ‬الأقوال‭ ‬لكلٍ‭ ‬من‭:‬

 

‭- ‬امرئ‭ ‬القيس‭:‬

عوجا‭ ‬على‭ ‬الطَّلل‭ ‬القديم‭ ‬لعلّنا

نبكي‭ ‬الدِّيار‭ ‬كما‭ ‬بكى‭ ‬ابن‭ ‬حذام

‭- ‬عنترة‭: ‬

هل‭ ‬غادر‭ ‬الشُّعراء‭ ‬من‭ ‬متردَّم

أم‭ ‬هل‭ ‬عرفت‭ ‬الدَّار‭ ‬بعد‭ ‬توهمُّ؟

‭- ‬كعب‭ ‬بن‭ ‬زهير‭:‬

‭ ‬ما‭ ‬أرانا‭ ‬نقول‭ ‬إلّا‭ ‬رجيعًا

ومــــعادًا‭ ‬مـــن‭ ‬قـــــولنا‭ ‬مـــكرورا

‭- ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬طالب‭: ‬

‮«‬لولا‭ ‬أنَّ‭ ‬الكلام‭ ‬يُعاد‭ ‬لنفد‮»‬‭.‬

‭- ‬محمَّد‭ ‬بن‭ ‬سلَّام‭ ‬الجمحي‭ (‬ت‭. ‬231‭ ‬هـ‭) ‬عن‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭: ‬اما‭ ‬قال‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يقولوا؛‭ ‬لكنَّه‭ ‬سبق‭ ‬العرب‭ ‬إلى‭ ‬أشياء‭ ‬ابتدعها،‭ ‬واستحسنها‭ ‬العرب،‭ ‬واتبعته‭ ‬فيها‭ ‬الشعراءب‭.‬

‭- ‬أبو‭ ‬تمَّام‭: ‬اكم‭ ‬ترك‭ ‬الأوَّل‭ ‬للآخرب‭.‬

شاعر‭: ‬

احفظ‭ ‬تقُل‭ ‬ما‭ ‬شئته

إن‭ ‬الكلام‭ ‬من‭ ‬الكلام

في‭ ‬هذا‭ ‬السِّياق،‭ ‬نذكر‭ ‬هذا‭ ‬الخبر‭ ‬الدَّال‭: ‬جاء‭ ‬أبو‭ ‬نوَّاس‭ ‬إلى‭ ‬خلف‭ ‬الأحمر‭ ‬يستأذنه‭ ‬في‭ ‬نظم‭ ‬الشِّعر،‭ ‬فقال‭ ‬له‭ ‬خلف‭: ‬اذهب‭ ‬واحفظ‭ ‬ألف‭ ‬مقطوع‭ ‬للعرب،‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬أرجوزة‭ ‬ومقطوعة‭ ‬وقصيدة،‭ ‬فذهب‭ ‬أبو‭ ‬نوَّاس،‭ ‬وحفظها،‭ ‬وجاء‭ ‬إلى‭ ‬خلف،‭ ‬فأنشدها،‭ ‬فقال‭ ‬له‭ ‬خلف‭: ‬اذهب‭ ‬فانسها،‭ ‬فلمَّا‭ ‬نسيها،‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬خلف‭: ‬الآن،‭ ‬انظم‭ ‬الشعر‭.‬

ولعلَّ‭ ‬أبلغ‭ ‬ما‭ ‬يدلُّ‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬سمِّي‭ ‬االتَّناصب‭ ‬حديَث‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬عن‭ ‬تحصيل‭ ‬الملكة‭ ‬التي‭ ‬تنسج‭ ‬الشِّعر،‭ ‬فتتشكَّل‭ ‬القريحة‭ ‬التي‭ ‬اتدرُّهب،‭ ‬ويشبِّهها‭ ‬بـ‭ ‬االضَّرعب‭ ‬الذي‭ ‬يدرُّ‭ ‬الحليب‭.‬

وقد‭ ‬ميَّز‭ ‬النَّقد‭ ‬العربيُّ‭ ‬القديم‭ ‬بين‭ ‬حضورين‭ ‬للنُّصوص‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬النَّصِّ‭ ‬الأدبي‭: ‬أوَّلهما‭ ‬السِّرقة‭ ‬وأنواعها،‭ ‬ويكون‭ ‬الحضور‭ ‬فيها‭ ‬مقصودًا‭ ‬واعيًا‭ ‬واضحًا‭ ‬مباشرًا‭... ‬وثانيهما‭ ‬متنوِّع‭ ‬الأشكال،‭ ‬ويكون‭ ‬غير‭ ‬مقصود‭ ‬وغير‭ ‬واعٍ‭ ‬وغير‭ ‬واضح‭ ‬وغير‭ ‬مباشر،‭ ‬وأعطى‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬أسماء‭ ‬كثيرة،‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬مفهوم‭ ‬التَّناص،‭ ‬منها‭: ‬الاستيحاء،‭ ‬الإشارة،‭ ‬التلميح،‭ ‬التضمين،‭ ‬الاقتباس،‭ ‬الاستمداد،‭ ‬التوليد،‭ ‬الأخذ‭.‬

والنصوص‭ ‬التي‭ ‬تتحدَّث‭ ‬عن‭ ‬دور‭ ‬المتلقِّي‭ ‬واستقلال‭ ‬النَّص‭ ‬عن‭ ‬مؤلِّفه‭ ‬وسياقه،‭ ‬في‭ ‬النَّقد‭ ‬الأدبي‭ ‬العربي‭ ‬القديم،‭ ‬كثيرة،‭ ‬نذكر‭ ‬منها،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭:‬

يرى‭ ‬حسَّان‭ ‬بن‭ ‬ثابت‭ ‬أنَّ‭ ‬الشِّعر‭ ‬إنَّما‭ ‬هو‭ ‬خلاصة‭ ‬فهم‭ ‬المرء‭ ‬العقليِّ‭/ ‬الوجدانيِّ‭ ‬للعالم،‭ ‬يعرضه‭ ‬على‭ ‬المجالس،‭ ‬أي‭ ‬يقدِّمه‭ ‬للمتلقَّي،‭ ‬أيًّا‭ ‬يكن‭ ‬نوعه‭: ‬كيْسًا‭ ‬أو‭ ‬حُمقًا،‭ ‬وما‭ ‬يمثِّل‭ ‬شعريَّته‭ ‬هو‭ ‬حكم‭ ‬المتلقِّي‭ ‬عليه،‭ ‬أي‭ ‬إنتاجه‭ ‬له،‭ ‬فحسَّان‭ ‬ينظر،‭ ‬هنا،‭ ‬إلى‭ ‬الاكتشاف‭ ‬المفاجئ‭ ‬الذي‭ ‬يعلنه‭ ‬المتلقِّي،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يبعث‭ ‬فيه‭ ‬الشِّعر‭ ‬الإحساس‭ ‬بالمتعة‭/ ‬اللَّذة‭ ‬الدافعة‭ ‬إلى‭ ‬قول‭ ‬الحكم‭. ‬

 

يقول‭ ‬حسَّان‭:‬

وإنَّما‭ ‬الشِّعر‭ ‬لبُّ‭ ‬المرء‭ ‬يعرضه

على‭ ‬المجالس،‭ ‬إن‭ ‬كَيْسا‭ ‬وإن‭ ‬حُمُقا

وإنَّ‭ ‬أشعـــــر‭ ‬بيتٍ‭ ‬أنت‭ ‬قــــائـــلُه

بيتٌ‭ ‬يُقال‭ ‬إذا‭ ‬أنشدته‭: ‬صَدَقا

دور‭ ‬المتلقِّي

يرى‭ ‬الأخطل‭ ‬اأنَّ‭ ‬العالم‭ ‬بالشِّعر‭ ‬لا‭ ‬يبالي‭...‬،‭ ‬إذا‭ ‬مرَّ‭ ‬به‭ ‬البيت‭ ‬المُعَايَر‭. (‬ويُروى،‭ ‬أيضاً،‭ ‬العاثر‭)‬،‭ ‬السَّائر‭ ‬الجيِّد،‭ ‬أمسلمٌ‭ ‬قاله‭ ‬أم‭ ‬نصرانيُّ‭...‬ب‭.‬

فالشاعر‭ ‬الأخطل‭ ‬يقرِّر،‭ ‬وهو‭ ‬الخبير‭ ‬بحقائق‭ ‬الشِّعريَّة‭ ‬العربيَّة،‭ ‬أنَّ‭ ‬العالم‭ ‬بالشعر،‭ ‬ولنقل‭ ‬المتلقِّي‭ ‬الذي‭ ‬يجيد‭ ‬قراءته،‭ ‬لا‭ ‬يهتمّ‭ ‬بمن‭ ‬يقول‭ ‬هذا‭ ‬الشعر،‭ ‬فما‭ ‬يعنيه‭ ‬هو‭ ‬الجودة‭ ‬التي‭ ‬تفرض‭ ‬سيرورته،‭ ‬فحسب،‭ ‬ويمكن‭ ‬فهم‭ ‬سيرورة‭ ‬الشِّعر‭ ‬هنا‭ ‬كثرة‭ ‬القراءات‭ ‬التي‭ ‬تتبيَّن‭ ‬الجودة‭ ‬وتتذوقَّها‭ ‬ويلتذُّ‭ ‬صاحبها‭ ‬بذلك‭.‬

وهذه‭ ‬نظرةٌ‭ ‬إلى‭ ‬النَّص‭ ‬نفسه‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬مؤلِّفه،‭ ‬أيًّا‭ ‬يكن‭ ‬انتماؤه‭. ‬ومن‭ ‬نماذج‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬سؤال‭ ‬النَّقاد‭ ‬عن‭ ‬شعريَّة‭ ‬النقائض،‭ ‬على‭ ‬الرُّغم‭ ‬من‭ ‬معرفة‭ ‬مساوئ‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الشِّعر‭ ‬المجتمعيَّة‭. ‬

ويتحدَّث‭ ‬الجاحظ‭ ‬عن‭ ‬دور‭ ‬المتلقِّي،‭ ‬فيقول‭: ‬االبيان‭ ‬اسم‭ ‬جامعٌ‭ ‬لكلِّ‭ ‬شيءٍ‭ ‬كشف‭ ‬لك‭ ‬قناع‭ ‬المعنى،‭ ‬وهتك‭ ‬الحجب‭ ‬دون‭ ‬الضمير،‭ ‬حتَّى‭ ‬يفضي‭ ‬السَّامع‭ ‬إلى‭ ‬حقيقته،‭ ‬ويهجم‭ ‬على‭ ‬محصولهب‭.‬

ويمكن‭ ‬للباحث‭ ‬تبيُّن‭ ‬مفهوم‭ ‬قراءة‭ ‬المتلقِّي‭ ‬للنَّص‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬مؤلِّفه‭ ‬وقصده‭ ‬في‭ ‬الخبر‭ ‬الآتي‭: ‬وقف‭ ‬أبو‭ ‬نوَّاس‭ ‬مرَّة‭ ‬قرب‭ ‬مجلس‭ ‬راويةٍ‭ ‬ناقدٍ‭ ‬يقرأ‭ ‬نصًّا‭ ‬له‭ ‬هو‭: ‬

 

ألا‭ ‬فاسقني‭ ‬خمرًا،‭ ‬وقل‭ ‬لي‭: ‬هي‭ ‬الخمرُ

ولا‭ ‬تسقني‭ ‬سرَّاً‭ ‬إذا‭ ‬أمكن‭ ‬الجهرُ

 

فسأل‭ ‬أحد‭ ‬الطلاَّب‭: ‬لماذا‭ ‬يريد‭ ‬الشَّاعر‭ ‬أن‭ ‬يسمع،‭ ‬وأن‭ ‬يجهر‭ ‬بشربه‭ ‬للخمرة؟‭ ‬فقال‭ ‬الرَّاوية‭ ‬النَّاقد‭: ‬إن‭ ‬الشاعر‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يُشرك‭ ‬جميع‭ ‬حواسِّه‭ ‬في‭ ‬التلذُذ‭ ‬بالخمر،‭ ‬فلمَّا‭ ‬بقي‭ ‬السَّمع‭ ‬عاطلًا‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬اللذَّة‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يدخله‭ ‬في‭ ‬جوقتها‭. ‬فضحك‭ ‬أبو‭ ‬نوَّاس،‭ ‬وتعجَّب‭ ‬وقال‭: ‬تأويل‭ ‬لم‭ ‬أقصده،‭ ‬ولم‭ ‬يخطر‭ ‬لي‭ ‬ببال‭.‬

أمَّا‭ ‬الكلام‭ ‬على‭ ‬لذَّة‭ ‬النَّص،‭ ‬فنقدِّم‭ ‬مثالًا‭ ‬لها‭ ‬هو‭ ‬قول‭ ‬أبي‭ ‬تمَّام‭ (‬ت‭. ‬238‭ ‬هـ‭):‬

 

والشِّعرُ‭ ‬فرجٌ‭ ‬ليست‭ ‬خصيصتُه

طولَ‭ ‬اللَّيالي،‭ ‬إلاَّ‭ ‬لمفترعه

يفيد‭ ‬قول‭ ‬أبي‭ ‬تمَّام‭ ‬أنَّ‭ ‬من‭ ‬يمتلك‭ ‬مزيَّة‭ ‬الشِّعر‭ ‬البكر‭ ‬هو‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬اافتراعهب،‭ ‬أي‭ ‬إزالة‭ ‬بكارته،‭ ‬وبتعبير‭ ‬آخر‭: ‬إجادة‭ ‬إنتاجه،‭ ‬أو‭ ‬إبداعه‭. ‬ويُفهم‭ ‬أنَّ‭ ‬من‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬الشَّاعر‭ ‬والمتلقِّي،‭ ‬وإذ‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬أيٌّ‭ ‬منهما‭ ‬يشعر‭ ‬بلذَّة‭ ‬الافتراع‭/ ‬الوصال‭/ ‬البكر‭.‬

 

صورةً‭ ‬تشعُّ‭ ‬بالدَّلالات

في‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬التي‭ ‬ينطق‭ ‬بها‭ ‬بيت‭ ‬أبي‭ ‬تمَّام،‭ ‬يكون‭ ‬الشَّاعر‭ ‬العربي‭ ‬قد‭ ‬سبق‭ ‬ابارتب‭ ‬في‭ ‬رؤيته‭ ‬إلى‭ ‬دور‭ ‬المتلقِّي‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬النَّص‭ ‬ولذّته‭ ‬التي‭ ‬تقرب‭ ‬من‭ ‬لذَّة‭ ‬الوصال،‭ ‬لدى‭ ‬إجراء‭ ‬هذه‭ ‬العمليَّة‭ ‬التي‭ ‬أعطاها‭ ‬الشاعر‭ ‬العربي‭ ‬المبدع‭ ‬صورةً‭ ‬تشعُّ‭ ‬بالدَّلالات،‭ ‬وجعل‭ ‬االمفترع‭ ‬ممتلكًا‭ ‬للإبداعب‭. ‬

وقد‭ ‬يقرأ‭ ‬آخر‭ ‬هذا‭ ‬البيت،‭ ‬وينتج‭ ‬دلالة‭ ‬أخرى،‭ ‬وقد‭ ‬تتعدَّد‭ ‬القراءات‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭. ‬ويكرِّر‭ ‬أبو‭ ‬تمَّام‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية،‭ ‬مستخدمًا‭ ‬تسمية‭ ‬أخرى‭ ‬لممتلك‭ ‬الخصيصة‭ ‬الشعريَّة‭ ‬هي‭ ‬امجتليةب،‭ ‬فيقول‭:‬

 

هي‭ ‬السُّحر‭ ‬الحلال‭ ‬لمجتليه

ولم‭ ‬أرَ‭ ‬قبلها‭ ‬سحرًا‭ ‬حلالا

 

ويقرِّر‭ ‬المتنبَّي،‭ ‬في‭ ‬نظرة‭ ‬نافذة‭ ‬إلى‭ ‬جوهر‭ ‬القراءة،‭ ‬أنَّ‭ ‬الأَدْرَى‭ ‬بالشِّعر‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يحبُّه‭ ‬ويعقله‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬إذ‭ ‬يُروى‭ ‬أنَّه‭ ‬قال‭: ‬اإنَّ‭ ‬ابن‭ ‬جنِّي‭ ‬أدرى‭ ‬بشعري‭ ‬منِّي،‭ ‬لأنَّه‭ ‬يحبُّ‭ ‬ويعقلب‭.‬

ويتحدَّث‭ ‬القاضي‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬الجرحاني‭ (‬ت‭ ‬392‭ ‬هـ‭) ‬عن‭ ‬الإحساس‭/ ‬الطَّرب‭ ‬والنَّشوة‭ ‬الذي‭ ‬يحسُّ‭ ‬به‭ ‬المتلقِّي‭ ‬لدى‭ ‬تلقٍّيه‭ ‬الشعر،‭ ‬وهو‭ ‬ايفترعهب،‭ ‬فيقول‭: ‬ا‭... ‬تفقَّد‭ ‬ما‭ ‬يتداخلك‭ ‬من‭ ‬الارتياح،‭ ‬ويستخفُّك‭ ‬من‭ ‬الطرب‭ ‬إذا‭ ‬سمعتهب‭. ‬ويستشهد‭ ‬بقول‭ ‬الشَّاعر‭:‬

 

إذا‭ ‬الشِّعر‭ ‬لم‭ ‬يهزُزك‭ ‬عند‭ ‬سماعه

فليس‭ ‬خليقًا‭ ‬أن‭ ‬يُقال‭ ‬له‭ ‬شعر

 

جيِّد‭ ‬الشِّعر‭ ‬يبقى

وتلفت‭ ‬رؤية‭ ‬دعبل‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬الخزاعي‭ (‬ت‭. ‬246‭ ‬هـ‭) ‬القائلة‭: ‬إن‭ ‬جيِّد‭ ‬الشِّعر‭ ‬يبقى،‭ ‬وإن‭ ‬مات‭ ‬قائله،‭ ‬فمن‭ ‬يبقيه،‭ ‬كما‭ ‬يُفهم‭ ‬من‭ ‬البيتين‭ ‬الآتيين،‭ ‬هو‭ ‬المتلقِّي‭ ‬الذي‭ ‬يدرك‭ ‬خصيصته‭ ‬وينتجها‭:‬

يموت‭ ‬رديء‭ ‬الشِّعر،‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أهله

وجيُّده‭ ‬يبقى،‭ ‬وإن‭ ‬مات‭ ‬قائله

إنِّي،‭ ‬إذا‭ ‬قلت‭ ‬بيتًا‭ ‬مات‭ ‬قائله

ومن‭ ‬يقال‭ ‬به،‭ ‬والبيت‭ ‬لم‭ ‬يمُت

وعن‭ ‬تعدُّد‭ ‬المدلول‭ ‬يقول‭ ‬عبدالقاهر‭ ‬الجرجاني‭: ‬انعني‭ ‬بالمعنى‭ ‬المفهوم‭ ‬من‭ ‬ظاهر‭ ‬اللفظ،‭ ‬والذي‭ ‬تصل‭ ‬إليه‭ ‬بغير‭ ‬واسطة،‭ ‬وبمعنى‭ ‬المعنى‭ ‬أن‭ ‬تعقل‭ ‬من‭ ‬اللَّفظ‭ ‬معنى،‭ ‬ثمَّ‭ ‬يفضي‭ ‬بك‭ ‬ذلك‭ ‬المعنى‭ ‬إلى‭ ‬معنى‭ ‬آخر‭. ‬ومن‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬نلحظ‭ ‬دلالة‭ ‬كلمة‭ ‬اتعقلب‭ ‬على‭ ‬الدَّور‭ ‬الذي‭ ‬يؤدِّيه‭ ‬المتلقِّي‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬امعنى‭ ‬المعنىب‭.‬

ونجد،‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬البحوث‭ ‬البلاغيَّة‭ ‬العربيَّة،‭ ‬رؤية‭ ‬إلى‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬اللفظ‭ ‬ومعناه،‭ ‬أي‭ ‬الدَّال‭ ‬والمدلول،‭ ‬في‭ ‬التسمية‭ ‬الحديثة،‭ ‬فيقول‭: ‬يحيى‭ ‬بن‭ ‬حمزة،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭: ‬االحقيقة‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬الألفاظ‭ ‬إنَّما‭ ‬هي‭ ‬للدَّلالة‭ ‬على‭ ‬المعاني‭ ‬الذِّهنيَّة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الموجودات‭ ‬الخارجيةب‭.‬

وهكذا،‭ ‬كما‭ ‬يبدو،‭ ‬كان‭ ‬للنَّقد‭ ‬الأدبي‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬رؤاه‭ ‬إلى‭ ‬مسائل‭ ‬نقديَّة‭ ‬رأت‭ ‬إليها‭ ‬نظريات‭ ‬اما‭ ‬بعد‭ ‬البنيويَّةب،‭ ‬لكن‭ ‬كان‭ ‬لكلِّ‭ ‬نقدٍ‭ ‬مصطلحاته‭ ‬ومنهجه‭ ‬وسياقه‭ ‬التاريخي،‭ ‬وإنَّه‭ ‬لمن‭ ‬المجدي‭ ‬أن‭ ‬نعيد‭ ‬الصِّلة‭ ‬بتراثنا‭ ‬الأدبي‭ ‬والنَّقدي،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قطعنا‭ ‬معه‭ ‬الصّلة‭ ‬المعرفية‭ ‬مدَّة‭ ‬طويلة،‭ ‬فما‭ ‬يعيدنا‭ ‬إلى‭ ‬الحضور‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬النَّقد‭ ‬الأدبي‭ ‬العالمي،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المجالات،‭ ‬هو‭ ‬الإنتاج‭ ‬وليس‭ ‬الاستهلاك‭ ‬الذي‭ ‬يكون‭ ‬أشدَّ‭ ‬سوءًا‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬المكوِّن‭ ‬الوحيد‭ ‬للتَّجربة‭ ‬الشخصيَّة،‭ ‬وليس‭ ‬مكوِّنًا‭ ‬من‭ ‬مكوِّناتها،‭ ‬وبخاصَّة‭ ‬في‭ ‬حيِّز‭ ‬الإجراءات‭ ‬التطبيقيَّة‭ ‬المرنة‭. ‬نخلُص‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الرَّأي،‭ ‬ونحن‭ ‬مطمئنون‭ ‬إلى‭ ‬صوابه‭ ‬وجدواه‭ ■