استقلال النَّص ولذَّة قراءته في النَّقد العربي القديم

الأفضل لنا أن نُنتج لا أن نستهلك، هذه مقولة صحيحة تقتضي، إضافة إلى الصُّدور عن النَّص موضوع الدِّراسة، العودة إلى تراثنا النَّقدي الذي طالت قطيعتنا المعرفيَّة به. وهذا ما سنحاول القيام به فيما يأتي.
يختلف مسار الثقافة العربيَّة عن مسار الثقافة الغربيَّة، فقد عرف النَّقد العربي الكثير ممَّا دعت إليه نظريات اما بعد البنيويَّةب، مثل استقلال النَّص عن مؤلّفه وسياقه والتَّناص ولذَّة القراءة، ليس على مستوى المصطلحات، وإنّما على مستوى المفاهيم، ووضع لكلّ مفهوم مصطلحاتٍ كثيرة، وصنَّفه في أنواع عديدة لم يخلُ كتاب من كتب النَّقد العربيَّة القديمة المعتبرة من البحث الوافي فيها، انطلاقًا من النظرة الأدبيَّة، في حين انطلقت النظرة الغربيَّة، من النظرة اللغوية الحديثة، إضافةً إلى تمييز النَّقد العربي القديم بين أنواع حضور النُّصوص في نصِّ أدبي، في حين لم يُميِّز النَّقد الغربي بين هذه الأنواع، وإنَّما عدَّ كل حضور تناصًّا، وإن كان اقتباسًا وتضمينًا وأخذًا.
وفي ما يتعلَّق بما سُمّي االتَّناصب، يمكن أن نقدِّم نماذج من الأقوال تتحدَّث عن امتصاص النَّص لنصوص أخرى، وتسرُّبها إليه وحضورها فيه. هذه الأقوال لكلٍ من:
- امرئ القيس:
عوجا على الطَّلل القديم لعلّنا
نبكي الدِّيار كما بكى ابن حذام
- عنترة:
هل غادر الشُّعراء من متردَّم
أم هل عرفت الدَّار بعد توهمُّ؟
- كعب بن زهير:
ما أرانا نقول إلّا رجيعًا
ومــــعادًا مـــن قـــــولنا مـــكرورا
- الإمام علي بن أبي طالب:
«لولا أنَّ الكلام يُعاد لنفد».
- محمَّد بن سلَّام الجمحي (ت. 231 هـ) عن امرئ القيس: اما قال ما لم يقولوا؛ لكنَّه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، واستحسنها العرب، واتبعته فيها الشعراءب.
- أبو تمَّام: اكم ترك الأوَّل للآخرب.
شاعر:
احفظ تقُل ما شئته
إن الكلام من الكلام
في هذا السِّياق، نذكر هذا الخبر الدَّال: جاء أبو نوَّاس إلى خلف الأحمر يستأذنه في نظم الشِّعر، فقال له خلف: اذهب واحفظ ألف مقطوع للعرب، ما بين أرجوزة ومقطوعة وقصيدة، فذهب أبو نوَّاس، وحفظها، وجاء إلى خلف، فأنشدها، فقال له خلف: اذهب فانسها، فلمَّا نسيها، قال له خلف: الآن، انظم الشعر.
ولعلَّ أبلغ ما يدلُّ على ما سمِّي االتَّناصب حديَث ابن خلدون عن تحصيل الملكة التي تنسج الشِّعر، فتتشكَّل القريحة التي اتدرُّهب، ويشبِّهها بـ االضَّرعب الذي يدرُّ الحليب.
وقد ميَّز النَّقد العربيُّ القديم بين حضورين للنُّصوص الأخرى في النَّصِّ الأدبي: أوَّلهما السِّرقة وأنواعها، ويكون الحضور فيها مقصودًا واعيًا واضحًا مباشرًا... وثانيهما متنوِّع الأشكال، ويكون غير مقصود وغير واعٍ وغير واضح وغير مباشر، وأعطى هذا الحضور أسماء كثيرة، تشير إلى مفهوم التَّناص، منها: الاستيحاء، الإشارة، التلميح، التضمين، الاقتباس، الاستمداد، التوليد، الأخذ.
والنصوص التي تتحدَّث عن دور المتلقِّي واستقلال النَّص عن مؤلِّفه وسياقه، في النَّقد الأدبي العربي القديم، كثيرة، نذكر منها، على سبيل المثال:
يرى حسَّان بن ثابت أنَّ الشِّعر إنَّما هو خلاصة فهم المرء العقليِّ/ الوجدانيِّ للعالم، يعرضه على المجالس، أي يقدِّمه للمتلقَّي، أيًّا يكن نوعه: كيْسًا أو حُمقًا، وما يمثِّل شعريَّته هو حكم المتلقِّي عليه، أي إنتاجه له، فحسَّان ينظر، هنا، إلى الاكتشاف المفاجئ الذي يعلنه المتلقِّي، بعد أن يبعث فيه الشِّعر الإحساس بالمتعة/ اللَّذة الدافعة إلى قول الحكم.
يقول حسَّان:
وإنَّما الشِّعر لبُّ المرء يعرضه
على المجالس، إن كَيْسا وإن حُمُقا
وإنَّ أشعـــــر بيتٍ أنت قــــائـــلُه
بيتٌ يُقال إذا أنشدته: صَدَقا
دور المتلقِّي
يرى الأخطل اأنَّ العالم بالشِّعر لا يبالي...، إذا مرَّ به البيت المُعَايَر. (ويُروى، أيضاً، العاثر)، السَّائر الجيِّد، أمسلمٌ قاله أم نصرانيُّ...ب.
فالشاعر الأخطل يقرِّر، وهو الخبير بحقائق الشِّعريَّة العربيَّة، أنَّ العالم بالشعر، ولنقل المتلقِّي الذي يجيد قراءته، لا يهتمّ بمن يقول هذا الشعر، فما يعنيه هو الجودة التي تفرض سيرورته، فحسب، ويمكن فهم سيرورة الشِّعر هنا كثرة القراءات التي تتبيَّن الجودة وتتذوقَّها ويلتذُّ صاحبها بذلك.
وهذه نظرةٌ إلى النَّص نفسه بمعزل عن مؤلِّفه، أيًّا يكن انتماؤه. ومن نماذج هذه الرؤية سؤال النَّقاد عن شعريَّة النقائض، على الرُّغم من معرفة مساوئ هذا النوع من الشِّعر المجتمعيَّة.
ويتحدَّث الجاحظ عن دور المتلقِّي، فيقول: االبيان اسم جامعٌ لكلِّ شيءٍ كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجب دون الضمير، حتَّى يفضي السَّامع إلى حقيقته، ويهجم على محصولهب.
ويمكن للباحث تبيُّن مفهوم قراءة المتلقِّي للنَّص بمعزل عن مؤلِّفه وقصده في الخبر الآتي: وقف أبو نوَّاس مرَّة قرب مجلس راويةٍ ناقدٍ يقرأ نصًّا له هو:
ألا فاسقني خمرًا، وقل لي: هي الخمرُ
ولا تسقني سرَّاً إذا أمكن الجهرُ
فسأل أحد الطلاَّب: لماذا يريد الشَّاعر أن يسمع، وأن يجهر بشربه للخمرة؟ فقال الرَّاوية النَّاقد: إن الشاعر يريد أن يُشرك جميع حواسِّه في التلذُذ بالخمر، فلمَّا بقي السَّمع عاطلًا عن هذه اللذَّة أراد أن يدخله في جوقتها. فضحك أبو نوَّاس، وتعجَّب وقال: تأويل لم أقصده، ولم يخطر لي ببال.
أمَّا الكلام على لذَّة النَّص، فنقدِّم مثالًا لها هو قول أبي تمَّام (ت. 238 هـ):
والشِّعرُ فرجٌ ليست خصيصتُه
طولَ اللَّيالي، إلاَّ لمفترعه
يفيد قول أبي تمَّام أنَّ من يمتلك مزيَّة الشِّعر البكر هو القادر على اافتراعهب، أي إزالة بكارته، وبتعبير آخر: إجادة إنتاجه، أو إبداعه. ويُفهم أنَّ من يفعل ذلك هو الشَّاعر والمتلقِّي، وإذ يفعل ذلك أيٌّ منهما يشعر بلذَّة الافتراع/ الوصال/ البكر.
صورةً تشعُّ بالدَّلالات
في هذه الرؤية التي ينطق بها بيت أبي تمَّام، يكون الشَّاعر العربي قد سبق ابارتب في رؤيته إلى دور المتلقِّي في إعادة إنتاج النَّص ولذّته التي تقرب من لذَّة الوصال، لدى إجراء هذه العمليَّة التي أعطاها الشاعر العربي المبدع صورةً تشعُّ بالدَّلالات، وجعل االمفترع ممتلكًا للإبداعب.
وقد يقرأ آخر هذا البيت، وينتج دلالة أخرى، وقد تتعدَّد القراءات إلى ما لا نهاية. ويكرِّر أبو تمَّام هذه الرؤية، مستخدمًا تسمية أخرى لممتلك الخصيصة الشعريَّة هي امجتليةب، فيقول:
هي السُّحر الحلال لمجتليه
ولم أرَ قبلها سحرًا حلالا
ويقرِّر المتنبَّي، في نظرة نافذة إلى جوهر القراءة، أنَّ الأَدْرَى بالشِّعر هو الذي يحبُّه ويعقله في آن، إذ يُروى أنَّه قال: اإنَّ ابن جنِّي أدرى بشعري منِّي، لأنَّه يحبُّ ويعقلب.
ويتحدَّث القاضي علي بن عبد العزيز الجرحاني (ت 392 هـ) عن الإحساس/ الطَّرب والنَّشوة الذي يحسُّ به المتلقِّي لدى تلقٍّيه الشعر، وهو ايفترعهب، فيقول: ا... تفقَّد ما يتداخلك من الارتياح، ويستخفُّك من الطرب إذا سمعتهب. ويستشهد بقول الشَّاعر:
إذا الشِّعر لم يهزُزك عند سماعه
فليس خليقًا أن يُقال له شعر
جيِّد الشِّعر يبقى
وتلفت رؤية دعبل بن علي الخزاعي (ت. 246 هـ) القائلة: إن جيِّد الشِّعر يبقى، وإن مات قائله، فمن يبقيه، كما يُفهم من البيتين الآتيين، هو المتلقِّي الذي يدرك خصيصته وينتجها:
يموت رديء الشِّعر، من قبل أهله
وجيُّده يبقى، وإن مات قائله
إنِّي، إذا قلت بيتًا مات قائله
ومن يقال به، والبيت لم يمُت
وعن تعدُّد المدلول يقول عبدالقاهر الجرجاني: انعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى أن تعقل من اللَّفظ معنى، ثمَّ يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر. ومن المهم أن نلحظ دلالة كلمة اتعقلب على الدَّور الذي يؤدِّيه المتلقِّي في إنتاج امعنى المعنىب.
ونجد، في ثنايا البحوث البلاغيَّة العربيَّة، رؤية إلى العلاقة بين اللفظ ومعناه، أي الدَّال والمدلول، في التسمية الحديثة، فيقول: يحيى بن حمزة، على سبيل المثال: االحقيقة في وضع الألفاظ إنَّما هي للدَّلالة على المعاني الذِّهنيَّة من دون الموجودات الخارجيةب.
وهكذا، كما يبدو، كان للنَّقد الأدبي العربي القديم رؤاه إلى مسائل نقديَّة رأت إليها نظريات اما بعد البنيويَّةب، لكن كان لكلِّ نقدٍ مصطلحاته ومنهجه وسياقه التاريخي، وإنَّه لمن المجدي أن نعيد الصِّلة بتراثنا الأدبي والنَّقدي، بعد أن قطعنا معه الصّلة المعرفية مدَّة طويلة، فما يعيدنا إلى الحضور في ميدان النَّقد الأدبي العالمي، كما في مختلف المجالات، هو الإنتاج وليس الاستهلاك الذي يكون أشدَّ سوءًا إن كان المكوِّن الوحيد للتَّجربة الشخصيَّة، وليس مكوِّنًا من مكوِّناتها، وبخاصَّة في حيِّز الإجراءات التطبيقيَّة المرنة. نخلُص إلى هذا الرَّأي، ونحن مطمئنون إلى صوابه وجدواه ■