مهرجان الفرح الروحي في «سيمفونية السجاجيد» لنازك الملائكة

مهرجان الفرح الروحي  في «سيمفونية السجاجيد» لنازك الملائكة

الشعر رحلة روحية فنية لا تفتأ مستمرة في مضارب الكون بين الكائنات، كلّما رقي معراجًا، اشرأب برؤاه المستشرفة إلى المعراج الذي يليه، في توق دائم إلى مُكوِّنِ الكون والكائنات جميعًا، اللهِ ذي المعارج؛ ذلك بأنّ «الروح تظمأ، فتنطلق باحثة عمّا يطفئ ظمأها، فإن توقفتْ في بداية الانطلاق اكتأبتْ واضطربتْ، وإن واصلت السير، وانتهت إلى مبتغاها، هدأتْ واطمأنت. 
 وروحُ الفنان تعي هذه المفارقة، وتتذوّقها، وتجعل منها منطلقًا لصياغة الفن كيفما كان: مرئيًا يعتمد الأشكال والألوان، أو مسموعًا يعتمد الأصوات والألحان» (الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر، محمد بنعمارة، ص 68). 

إذا كانت نازك الملائكة، (1923 - 2007م)، أشهر الشواعر المعاصرات، وواحدة من أوائل النقاد الذين أصّلوا للقصيدة العربية الحديثة تنظيرًا وتطبيقًا، قد بدأت رحلتها الفنية بروح ملحدة متمردة، فإنّ فورة موجتها المضطربة لم تهدأ إلا على شاطئ الإيمان المتماسك المستقر، إلى درجة التنسّك الصوفي. فقد «كانت نازك في سني حياتها الأولى ملحدة، فقادها الإلحاد إلى عالم سوداوي تَضَبَّبَ بالتشكك، فأخرجها من دائرة الطمأنينة، وجعلها منكفئة على ذات مليئة بالضياع والتمزق والخوف.
ولعلّها أجرأ شاعرة (...) تعترف صراحة بأن في بعض مراحل حياتها إلحادًا أفضى إلى الحزن والقلق والحيرة» (م. س، 276)، حزن وقلق وحيرة ستصبح على التوالي غبطة واستقرارًا نفسيًا ويقينًا، في ظلال القرآن الكريم، كلمةِ الله الخالدة، الذي كان له الفضل الكبير - باعتراف الشاعرة نفسها - في إخراجها من ظلمات الإلحاد وتمزقه إلى نور الإيمان والتئامه.
يرصد الناقد الشاعر د. محمد بنعمارة سيرورة تخلّق رؤية الشاعرة نازك الملائكة في خمس مراحل:
- مرحلة ما قبل ديوان «عاشقة الليل» (1945/ 1946)، حيث عكس شعرُها مظاهر الضياع والشك والقلق الوجودي المطبوع بالتشاؤم والعبث والخوف من الموت والعدم.
- مرحلة ديوان «عاشقة الليل» (الصادر سنة 1947): حيث الْتمعت في بعض طيات شعرها إشراقة الإيمان متمثّلة في البحث عن منقذ من الضلال، كقصيدة «نغمات مرتعشة».
- مرحلة ديوان «قرارة الموجة» (1957): حيث تتهيأ الشاعرة لـ «مرحلة ترتدي فيها خِرقة التصوف، وتنصرف عن العالم المادي إلى ما وراء الوجود، تبحث هنالك عن السعادة التي لم تذق طعمها».
- مرحلة ديوان «شجرة القمر» (1968): وهي مرحلة البحث عن الذات، حيث تتغنى في الديوان بالشيوعية، جنبًا إلى جنب مع قصيدة «إن شاء الله» التي تترقب فيها الخلاص من القلق، والخلوص إلى السكينة الروحية.
- مرحلة ديوان «يُغيّر ألوانَه البحرُ» (1970) وما بعده: حيث وصلت الشاعرة إلى برّ الأمان، واستقر بها السفر المضني في مطلع الفجر الذي ستخوض فيه تجربة مهمة في حياتها الشعرية، عزفت خلالها على وتَر الوَجد الصوفي كثيرًا من أشعارها. 

مناجاة هائمة في الملكوت
وتزكي الشاعرة هذا التقسيم، أو على الأقل خاتمة مراحله، بقولها: «وفي هذه المرحلة، (مرحلة «يغير ألوانه البحر» وما بعده) تطوّر شعري تطورًا سرَّني، فأصبح مليئًا بالصور، واتجه اتجاهًا دينيًا صوفيًا لم أكن أعرفه في حياتي السابقة» (حياتي مع الشعر، مجلة الشِّعر، العدد 34، أبريل 1984)؛ وتضيف عن هذه المرحلة في تقديمها لديوانها الصادر عن دار العودة عام 1986: «والواقع أن آرائي المتشائمة كانت قد زالت جميعًا، وحلّ محلها الإيمان بالله، والاطمئنان إلى الحياة».
وفي هذه المرحلة جادت روح الشاعرة بقصائد أشكلَ بالمناجَيات الهائمة في الملكوت، كقصيدة «الهجرة إلى الله»، و«زنابق صوفية للرسول»، و«دكان القرَائين الصغيرة»، وصارت تدعو الله تعالى بلفظ «مليكي» و«حبيبي»، على شاكلة العارفة بالله الشاعرة رابعة العدوية، صاحبة مقام المحبة الأشهر الذي خلّد ذِكرَها، وخلدت ذِكره بأشعار سار بإنشادها المحبون عبر القرون.
وفي عام 1974م قيّض الله لنازك الملائكة أن تلبي أذان أبي الأنبياء الخالد بالحج إلى أول بيت وُضع للناس، فكان لهذه الرحلة القدسية أثر وأيّ أثر في توجيه بوصلة رحلة روح الشاعرة الشفافِ إلى السماء، حيث الانجذاب الفطري الأبدي من الفرع إلى الأصل، ومن الجزء إلى الكل، ومن المُهاجَر إلى الموطن الأصلي، موطن أبي البشر الأول.
وقد أرّخت الشاعرة لهذه التجربة الروحية الرائعة بثلاث قصائد، هي «سيمفونية السجاجيد»، و«القمر على المزدلفة»، و«الزرقاء والمدينة»، نختار أن نقف في هذا المقام مع أُولاها.

سيمفونيـة السجاجيـد
سجاجيدُ، سجاجيدُ، سجاجيـدْ 
أتتْ تزحفُ من شتَّى العوالمِ ليلةَ العيـدْ 
من الهندِ وأطرافِ الفلبِّيـنِ 
من الفُولغا، من المغربِ، من كينيا، من الصيـنِ 
سجاجيدُ، سجاجيـدْ 
على الأذرعِ والأكتافِ محمولـهْ 
بمِلحِ الدَّمعِ والتوبةِ مغسولـهْ 
وتسقطُ فوقها الأهواءُ والنزواتُ مقتولـهْ 
سجاجيدُ، سجاجيـدْ 
لقلبِ المؤمنِ الخاشعِ كأسٌ، واحةٌ، عيـدْ 
دموعٌ من عيونِ الضوءِ مذروفـهْ 
ولَوْنُ سُرادقِ الجنَّةِ، طعمُ الخلدِ، من أودية الأعراف مقطوفـهْ
وسمفونيَّة الألوانِ معزوفـهْ 
على عُود تُصلِّي فيه أوتارٌ صلاةَ سنابلٍ عطشى إلى المـاء 
سجاجيد بعطرِ المسجدِ النبويّ ملفوفـهْ 
مبقَّعة بوردِ النَّارِ حمـراء 
وأُخرى لدْنة شذريَّة الأمواجِ ملسـاء 
سجاجيدُ بلون الغيمِ كُحليِّـهْ
حواشيها رماديِّـهْ 
سجاجيد سماويِّـهْ
سجاجيدُ من الكتِّانِ صفـراء
وغاباتٌ من الأبنوسِ والصّفصافِ لفَّـاء 
سجاجيدُ عليها صورةُ الكَعْبـهْ 
مجرَّدُ لمسِها تَوبـهْ 
سجاجيدُ مُذهَّبةٌ وبيضـاء 
وأخرى كالعيونِ الخضرِ وَطْفَـاء 
تُعيد القلبَ من غربـهْ 
وتُوقد مشعلًا في غابةٍ رطبـهْ 
ومَخْملُها لمن أبحَرَ في مِلحِ الخطايا السُّودِ مينـاء 

***
وسمفونيةٌ تعزفُها في الفجرِ آلافُ السجاجيـدِ 
من الأبوابِ، تطلعُ، من ممـرَّاتِ 
يدثِّرُها السكونُ، من الحوانيتِ المضيئـاتِ 
مُصلُّونَ، مصلُّون، ومَحمولون آلافًا على أشرعـةِ العيدِ 
على أكتافهمْ، ما فوق أذرعهم مئاتٌ مِن سجاجيدِ 
*** 
سجاجيد مزارعُ للتُّقَى تُنبِتُ قمحَ التَّوبةِ البيضـاءْ 
جسورٌ تربطُ الحزنَ بشمسٍ، بازْرقاقِ سمـاءْ 
سجاجيد بلونِ البرتقال تُطلُّ فجر العيـدْ 
بلونِ الكُحلِ أحيانًا، وأحيانًا بلونِ العُشبِ والقرميـدْ 
وتسرقُني السجاجيـد 
كما تسرقُ ألوانُ الدُمَى طفلا عشيَّةَ ليلة العيـدْ 
وفي دوَّامةِ الألوانِ، في غابِ الأناشيـدْ 
أضِيعُ سليبةَ الـرُّوحِ 
إلى اللهِ أمُدُّ جبينَ مذبـوحِ 
وأنزفُ ليلةَ العيـدْ 
وتغسلُ جُرحيَ القاني السجاجيـد 
وتَحملني إلى شاطئِ ما قبلَ الجراحِ الحُمرِ آلافُ السجاجيـد 
*** 
ويصعدُ صوتُ (حيَّ على الصلاة) من المدَى والليـلْ 
يصبُّ خُشوعَه كالسيـلْ 
وتُفرشُ ألفُ سجـادهْ 
على الأرصفةِ السمراءِ، في الطرقـاتْ 
وفي المسجدِ، في الأروقةِ البيضاءِ، في الساحـاتْ 
ويُصْحي الفجـرُ أورادَه 
يُبعثِرُها، يَرشُّ على المصلين عطورَ الهيـل 
ويعرفُ قلبيَ المبهورُ في مكَّةَ ميـلادَهْ 
ومكةُ، مكةٌ للقلـبِ زُوَّادهْ 
سجاجيـدْ... 
لِمن لامسَ عطرَ اللهِ في المَسْعَى سجاجيـدْ 
سجاجيدُ، مع اللهِ حوارٌ ومواعيـدْ 
سجاجيـدْ... 
سجاجيدُ، وتهمي أدمعُ الإيمانِ آلافَ الثريَّاتِ، وآلافَ العناقيـدْ 
سجاجيـدُ 
سجاجيـدُ 
سجاجيـدْ

بلاغة التكـرار
أول ما يلاحظه القارئ في هذا النص المتدفق كالشلال الروحيّ الثجاج هو مركزية لفظة «السجاجيد» التي تتكرر في كل حين تكرارًا مُلحًا على الآذان والمشاعر في آن، إذ بلغ مجموع ترددها (30) مرة، كلها بصيغة الجمع إلا واحدة، وذلك بمعدل نحو مرتين كل سطرين شعريين، إذ إن مجموع أسطر القصيدة 64 سطرًا! 
يعتبر التكرار علامة إلحاح بارزة، وهو هنا رغبة مجنحة في الاستغراق في عالم السجود البهي المضمّخ بثريات الدموع المتلألئة، ودلالة على عطش روحي مِلحاح يبتغي العبَّ عبًّا من منهل السجود الصافي، لا مجردَ غَرفٍ من العين، أو رشفٍ من الديَم. إنه تكرار يذكر بسيمفونية التوحيد على لسان بلال بن رباح ]: «أحدٌ أحد»، وبعشق العاشقين كافة، لأنّ العشقَ مظنةُ اللهجِ بِاسم المعشوق ومتعلقاتِه. 
 وغنيّ عن الإشارة دلالة لفظة «السجاجيد» على السجود، بما هي مشتقة منه، وآلته التي جرت العادة أنه عليها يكون، وإن كانت الأرض كلها مسجدًا وطهورًا. كما لا تخفى دلالة الكثرة في صيغة منتهى الجموع «فَعاعيل»؛ إنها سيمياءُ على منتهى السجود، لا تَشِق على السمع ولا البصر. 
تستهل نازك قصيدتها، بعد رفع ذِكر السجاجيد إلى العنوان تبئيرَ تقديمٍ وتشريف، بتدفّق أفقي تجاوري للكلمة نفسها مراتٍ ثلاثًا: (سجاجيدُ، سجاجيدُ، سجاجيد)، وتختتمها كذلك باللفظة نفسها، بالعدد نفسه (3)، لكن بتدفق على ترتيبٍ عمودي تتابُعي:
سجاجيد
سجاجيد
سجاجيد
ليكون بذلك ترتيب الكلمات في المطلع تعبيرًا عن لهفة شعورية عطشَى إلى السجود مع الساجدين الذين يملأون الحرَم وما حواليه من الشوارع والمحال، وهي لهفة تعبّر عن نفسها من خلال اللهج باسم السجاجيد في متوالية أفقية متدفقة لا تطيق صبرًا على العودة إلى السطر، بما تقتضيه هذه العودة من فصلٍ بدلَ الوصل، وقطعٍ للكلام ثم الاستئنافِ، وتسكينٍ لأواخر الكلمات.
على حين تأتي الخاتمة ذات الاصطفاف العمودي للسجاجيد تعبيرًا عن استقرار العاطفة الدفاقة بعد تشبُّعها طوال رحلة القصيدة من موضوع السجود، ويقينها بامتلاكه. كما تأتي تعبيرًا عن تلذذ الشاعرة بإطالة الحديث عن موضوع خِطابها الأثير، بما يقتضيه الترتيب العمودي من تقطيع للأنفاس، واستقلالية كل كلمة على مستوى الأداء الكلامي، وإن كان التلذذ مقصدًا واضحًا خلال كل تكرار للفظة السجاجيد طوال القصيدة، إذ من المعروف أنّ «من أحب شيئًا أكثر من ذكره»، أو على حد تعبير المتنبي:
أساميًا لم تزده معرفـةٌ
وإنما لذةً ذكَرناهـا

علامة دالّة
تسمح لنا مركزية «السجاجيد» في قصيدة نازك باتخاذها علامة دالّة لرسم خريطة حركية روح الشاعرة خلال هذه التجربة الفنية الروحية المتميزة، حيث يمكن اعتماد لازمة السجاجيد محدّدًا لبداية كل مقطع ونهايته، بغضّ النظر عن الفراغات البصرية التي تركتها الشاعرة بين مقاطعه؛ إذ شتان بين العمل القصدي الذي يؤطره الوعي المباشر للشاعر، والوضع الضمني الذي يُتمثَّلُ بلا وعيٍ في كل مستويات نسيج النص، مبنى ومعنى.
وبناء على هذا يمكننا الحديث عن سبعة دوائر في القصيدة، وإنما سميناها «دوائر» لأنها في الغالب تبدأ بالسجاجيد وتنتهي بالسجاجيد في حركة دائرية، كلما أوشكت دائرة منها على الانغلاق، انفتحت على التي بعدها، وتداخلت معها تداخلاً حلَقيًا. وهي على التوالي:
- دائرة المكان والزمان: وفيها رصدٌ لزحف السجاجيد من كل مكان من المعمورة إلى مكة والمناسك ليلة العيد وفجرَه.
- دائرة الآثار: سردٌ لما يتركه السجود من آثار في النفس المؤمنة.
- دائرة الألوان والأشكال: رسمٌ لمهرجان السجاجيد بديع التنوع والثراء.
- دائرة العدد: مـتابــعـةٌ لحركية ألوف السجاجيد على أكتاف ألوف المصلين وأذرعهم.
- دائرة الانبهار: افتتان الشاعرة المرهفة بالسجاجيد، حدِّ التضحية بالروح غسلًا للجروح.
- دائرة الميلاد، ميلاد قلب الشاعرة خلال سجودها مع الساجدين غِبَّ النداء لصلاة الفجر.
وكل هاتيك الدوائر السبع، مؤطّرة بدائرة أمٍٍّ كبرى تنفتح بثلاثية السجاجيد الأفقية في السطر الأول، وتنقفل بنظيرتها العمودية في الأسطر الثلاثة الأخيرة، على الشكل الآتي:

فرح الـروح
هذه الحركية الدائرية التي من عجبٍ انتظامُها في دوائرَ سبعٍ تُماثل عددَ أشواط الطواف والسعي السبعة، وهما من مناسك الحج وخصوصياته التي لا تتوافر عليها عبادة أخرى، هي في العمق تعبير عن جذَل روحي راقص طروب من شدة فرحة الشاعرة بالاهتداء إلى كنز السجود الذي طالما كان مخبوءًا عنها، وهي في بيداء الجدب الروحي.
هذا الفرح الروحي المشتعل في القصيدة إلى حدّ الطرب الجذلان الراقص تؤكده ثلاثة أمور، هي: دلالة العنوان، والاحتفالية المهرجانية في النص، وموسيقاه التي جاءت على بحر الهزج:
- وسمت نازك قصيدتها بأنها «سيمفونية»، وفي هذا الوسم وصف مطابق للحقيقة من حيث إنها تعبير انفعالي مُموسقٌ عن درجة الغبطة التي هزّت روحها هزًّا عقب ميلادها الحق على سجادة الصلاة.
 فإذا كان «الفرح بالله أولى من الحزن بين يدي الله»، كما هو مأثور عن الشِّبلي، فإن الطرب والرقص هما أجلى مظاهر ذلك الفرح. وفي هذا السياق يرى رومان رولان، وهو بصدد تقليب النظر في دلالات السيمفونية التاسعة، أشهر تراث بيتهوفن في المجال الموسيقي الروحي، أن «موضوع هذه السيمفونية يدور حول انتصار الفرح على كُربة النفس، وتفوُّقِ الروح المتطلعة إلى النشوة المنزَّلة عليها من السماء» (نفسه، 73)، ويتساءل حسين فوزي: «ما هي السيمفونية التاسعة إن لم تكن تعبيرًا هائلًا عن البهجة، ودعوة للإنسانية إلى أن ترفع رأسها لتسبّح الخالق في عُلاه، وتحمده على عطاياه؟» (نفسه). ولا أبالغ إن قلت إن السيمفونيتين معا، سيمفونية نازك، وسيمفونية بيتهوفن، يقبسان من مشكاة واحدة.

تأثيث بديع
 أثثت الشاعرة عالَم قصيدتها تأثيثًا مهرجانيًا بديعًا، تداخلت فيه الأماكن من القارات جميعها (مكة والمدينة والهند والفلبين والفولغا والمغرب وكينيا والصين)، وكثير من الألوان (الأكحل والرمادي والأزرق والأصفر والذهبي والأخضر والأبيض والبرتقالي والأسمر والأسود)، ومزيج من الأشياء (الدموع والكؤوس والسنابل والعطر والنار والغيم وغابات الأبنوس والمخمل والقمح والثريّات والطرقات والحوانيت والعناقيد)، ولفيف من المعاني التي أتت تترى منوّهة بآثار السجود في النفس المؤمنة (غسل روح الساجد بملح دمع التوبة؛ تزكيته عن الأهواء؛ انتشاؤه بلذة كأس المحبة الإلهية؛ اغتباطه بفرحة الاتصال بالخالق؛ استبشاره بالفوز بالجنة والخلد فيها؛ سقاية الروح الظمأى؛ نهاية اغتراب القلب، وشعوره بالدفء والامتلاء؛ مداواة جروح الروح؛ ميلاد القلب من جديد؛ التقاء الألوهية والعبودية على قطيفة السجود).
والراجح أن هذا الاحتفال المهرجاني الفريد مستوحى من الصورة الإجمالية والتفصيلية لموسم الحج الذي يُعتبر بحقٍّ مؤتمرًا فسيفسائيًا فريدًا لانصهار المتعدد الكوني المختلف في الواحد العَقدي المؤتلف. 
- بحر الهزج: علاوة على الوظيفية الإيقاعية للتكرار الذي سبق أن تحدّثنا عنه، والذي يُكسب النظمَ في النص نشوة غنائية عذبة، لا تُخطئ الأذن التدفق الموسيقي الطروب في القصيدة، ومرجع ذلك بالأساس إلى بحر الهزج الذي ارتضته الشاعرة وعاء نغميًا لمشاعرها الفياضة الجذْلَى، وهو بها أليق؛ ذلك بأن هذا البحر يرتبط بالغناء ارتباطًا وثيقًا، حتى إن اشتقاقه اللغوي منه، إذ يقال: هزّج أي تغنّى وطرِب، وترنَّمَ. 

خاتمـة
إذا كان أمير الشعراء أحمد شوقي قد اعتذر عن الحج قائلًا:
ويا ربِّ هل تُغني عن العبد حَجـةٌ 
وفي العُمر ما فيه من الهفـوات؟
فإن أميرة الشواعر نازك الملائكة لبّت النداء الخالد، وأغنت حَجتُها مسيرتَها الروحية والفنية غَناء، وأي غناء! 
لقد أتت رحلة حج نازك عام 1974م تتويجًا لروعة اللقاء بالمحبوب الذي تفيض بعض قصائدها المؤرخة قريبًا من 1974 بعشقه ومناجاته الحلوة العذبة، ومنها قصيدتها الرقيقة «دكان القرائين الصغيرة»، التي تنتبه فيها انتباهًا إجماليًا خاطفًا إلى رمزية السجاجيد، قبل أن تستحوذ على عالمها الفني في هذه السيمفونية استحواذًا كليًا، ومنها أيضًا قصيدة «الهجرة إلى الله» التي ورد في مناجاتها: 
مليكي، أنتَ طعمُ الصيف في عُمـري
وأنت تألقُ الأقمـارْ
هواكَ كواكبٌ وبِحـارْ
...
لكَ الأورادُ والصلوات أنثـرُها
فِدا عينيكَ يا ملِكي يواقيتي أُكسّـرها
...
وأشعاري السماوياتُ ينبُعُ منكَ سُكِّرُها

وهكذا رقيت الشاعرة - يرحمها الله - في مِرقاة المحبة إلى أن توّجت بالحج إلى الحبيب، سفرًا للجسد نحو المكان، وللروح نحو الملكوت، وللشعر نحو المُطلق الأثير؛ إلى درجة أن الراحل بنعمارة لم يرَ فرقًا بين شخصيتي نازك الملائكة وإمامة العشق رابعة العدوية، فخصص فصلًا من كتابه المذكور لـ «اندماج نازك الملائكة في شخصية رابعة العدوية»! ■