الأندلس المسلمة خلال الوحدة والتفكّك
كانت حسرة المسلمين في جميع بلاد الإسلام أشدَ وأفظع حينما ضاعت الأندلس من أيديهم، فقد تركت في النفوس ندوبًا عميقة لم يمحُها الزمن ولن يستطيع محوَها، لأنها كانت درّة في جبين العالم الإسلامي، ومفخرة المسلمين في صنع مجدهم وحضارتهم وعلوّ شأنهم في العلم والبناء.
هذه الحسرة التي شعر بها المسلمون من قبل لا تماثلها إلّا حسرة ضياع فلسطين حينما احتلتها عصابة من شذاذ الآفاق ما زالوا جاثمين على صدرها يسومون أهلها سوء العذاب والاضطهاد والعنصرية والمكر والدسائس التي لم تعرف البشرية لها مثيلًا.
كان الشعر عند العرب منذ وعيهم بوجودهم هو الوسيلة التي يعبّرون بها عن همومهم وأفراحهم وآمالهم في بيئة حرمتهم من كل مُتع الحياة، فلم يكن العربيّ يستغني عن سماعه في إقامته ورحلته، لأنّه الأداة الوحيدة التي يروّح بها عن نفسه.
وظلَت للشعر هذه المكانة بعد مجيء الإسلام في المشرق والغرب الإسلامي، فمثَل في كل العصور بصورة جليَة ثقافة المجتمعات الإسلامية أفرادًا وجماعات؛ وبهذه الخاصية كان يحتلّ الصدارة في الفكر والأحاسيس والشعور والتأريخ للأحداث والوقائع، يتمثّل به اللغوي والعالم والفقيه والسياسي والقائد.
ولم يستطع فنّ آخر أن يقوم بهذا الدور، وبخاصّة الخطابة التي ظهرت في فترة مبكرة بجانب الشعر وكان لها جهابذتها.
ومن المظاهر الاجتماعية التي عبَر بها الأعراب عن شغفهم بالشعر وتقديمهم الشعراء على الخطباء إقامتهم الأفراح والحفلات إذا نبغ فيهم شاعر، أو ظهر بينهم فارس، لأنّ كليهما يحميان القبيلة ويعليان شأنها بين القبائل الأخرى، فالأول يمدح سادتها وأشرافها ويخلّد أمجادها، ويهجو كلّ من يحاول النيل من عزّتها وشرفها، والويل لكلّ من أصابته سهام الشعراء؛ والثاني يحميها بشجاعته وإقدامه لتعيش عزيزة منيعة آمنة من كل خطر.
وظلّ للشعر هذه المكانة والهيبة في النفوس حتى عندما انتشر العرب خارج جزيرتهم في البلاد التي لم تكن فيها لغة الضاد سائدة، لكنّها فرضت نفسها بقوة على كلّ من دخل الإسلام لما كان لها من خصائص متميزة عن اللغات الأخرى، فكان الفرد من العرب أو من تلك الأمم التي دخلت الإسلام حينما يصبح لسانه عربيًّا فصيحًا، وينبغ في الشعر تفتح له أبواب قصور الخلفاء والأمراء والأعيان والقادة بكل ترحيب وإجلال، وينال من الجاه والحظوة ما لا يناله غيره، وتحترم آراؤه الاجتماعية والسياسية والفكرية مثل القادة ورجال الدولة في قصور الخلفاء والأمراء.
الشعر والأدب في الأندلس المسلمة
كانت الأندلس منذ فتحها على يد العرب وإخوانهم البربر الذين أحبّوا العرب والدين الذي حملوه إليهم تعدَ درَة ثمينة في بلاد الإسلام؛ لقد عاشت قرونًا عديدة في ظل حكم عربي إسلامي، فأصبح المجتمع الأندلسي بكل أفراده عربًا وبربرًا عربيًّا صميمًا في لغته وفكره ووجدانه وأدبه؛ فقد كانوا يدركون ما للشعر من أثر ومكانة في النفوس، والبربر الذين اعتنقوا الإسلام طواعية واختيارًا أحبّوا اللغة العربية وآدابها، لأنّ كتاب الله عزّ وجل الذي قَدسوه كان بهذه اللغة، فسكنت وجدانهم وقلوبهم، فأقبلوا على تعلّمها ودراسة قواعدها بلهفة وشغف لمعرفة معاني كتاب الله وسنّة رسوله عليه السلام، وأشعار العرب ولغاتها وأخبارها حتى أن الكثير منهم أصبحوا في زمن قصير من كبار شعراء العربية وأدبائها، ولا أدلّ على ذلك من شاعرنا ابن دراج الذي ينتمي إلى أصول بربرية صميمة من قبيلة صنهاجة، فقد أصبح أكبر شاعر في عصره يملك أدوات الشعر، مثل الأعراب أهل الوبر، ولذلك لقَبوه بـ امتنبّي الأندلسب لما احتوى شعره من معانٍ رصينة ولغة جزلة وحكم دالّة وأمثال سائرة، مثل شعر المتنبي شاعر العربية الأكبر.
هكذا كان العرب والمجتمعات التي اختلطت بهم تعتبر الشعر هواء ينعش رئتيها، ونورًا يضيء طريقها، وسجلًا يوثّق أخبارها، وسفرًا يخلّد أمجاد حضارتها، ومنارة تُعلي شأنها بين الأمم؛ كلّ فرد كان يحلمُ بأن يسبح في عالم الشعر وسحر الكلمة ونُبل العواطف، وحتى الذين غلبت عليهم ثقافة العلم المحض كالفقه والتفسير ودراسة السنّة الشريفة والتاريخ والنحو والطبّ والرياضيات والفلسفة والكيمياء كانوا يجدون متنفسًا ومتعة إذا نظموا الشعر، فهو روح النفس وريحانها، به يستريحون من عناء الدرس والبحث المضني.
حالة الأندلس في عصر ابن دراج
عاش ابن دراج في القرن الرابع الهجري وبداية القرن الخامس (347 هـ - 421 هـ) وكانت الأندلس في هذه المرحلة قد بلغت أوجها في النضج الفكري والعلمي والاستقرار الاجتماعي والعيش الكريم والقوة العسكرية التي ترهب الأعداء، وبخاصة في عهد عبدالرحمن الناصري وابنه الحكم، حيث كانت ممالك النصارى في الشمال يملأها الرعب من قوّة المسلمين.
وتشاء الأقدار أن يشهد ابن دراج مرحلتين في تاريخ الأندلس المسلمة، المرحلة الأولى كانت متمثّلة في الوحدة والقوة والمنعة واطمئنان السكان على يديّ القائدين العربيين الحاجب المنصور بن أبي عامر، وابنه عبدالملك المظفر؛ والمرحلة الثانية تميّزت بالتفكك والانقسام وبداية الضعف في عهد ملوك الطوائف الذين أسهموا بقوة في إضعاف الأندلس بعد تمزيق أوصالها إلى ولايات، وإفساح المجال للأعداء كي يستجمعوا قوتهم.
وبرغم هذا الضعف السياسي، فإن شعر ابن دراج ظل يحمل سمات الأمل لعودة قوة المسلمين وعزّهم لما كانت عليه الحال من قبل.
ابن دراج يمدح الحاجب المنصور وابنه
كانت هذه المرحلة من أهم مراحل حياة ابن دراج، لكونه وجد في هذين القائدين صورة البطولة العربية مجسَدة في كل غزواتهما لحماية أرض الإسلام ونشر الأمن والاستقرار، فكلّ حروبهما مع ممالك النصارى كانت انتصارات عظيمة أعلت هامة المسلمين في بلاد الأندلس، وأذلَت الأعداء في عقر دارهم، وهي تشبه إلى حدّ كبير بطولات سيف الدولة الحمداني في المشرق التي جسَدها بالكلمة الشاعر المتنبي، فعدّت قصائده في هذا البطل من أبدع ما تغنى به المتنبي اوشعر القسطلي في الدولة العامرية يعتبر من أروع ما نظم وأحقه بالتقدير، ولاسيما ما توجّه به من مديح إلى المنصور.
والذي يقرأ شعر ابن دراج في القائد العامري لا يملك تفكيره من أن يثبَ إلى مدائح المتنبي لسيف الدولة الحمداني، فهو مدح لا يقوم فقط على الطمع، وأي امرئ شاعر أو غير شاعر تجرّد منهما؟ وإنما المصدر الأول فيه هو شعور قوي من الإعجاب بشخصية الممدوحب.
لقد جسّد ابن دراج في مدح هذين البطلين صورة البطولة العربية في الأندلس لحماية الدين والبلاد والعباد، كانت أعين المنصور العامري وابنه من بعده لا تغفل لحظة واحدة عمّا يهدد البلاد من أخطار، سواء كانت داخلية من المتمردين الذين كانوا يريدون إحداث الفتن أو من ممالك النصارى الذين كانوا يتحيّنون الفرص للانقضاض على المسلمين.
ومما نظمه ابن دراج في بيان يقظة المنصور العامري وحزمه في القضاء على الفتن الداخلية قصيدته التي أعدّ فيها هذا البطل العدة الكاملة لمواجهة زيري بن عطية الذي خرج عن الطاعة وأراد إحداث الفتنة في البلاد، فقال:
ألا في سبيل الله غزوك من غوى
وضلّ به في الناكثين سبيل
لئن صدئت ألباب قوم بمكرهم
فسيف الهدى في راحتيك صقيل
ثم وصف جيشه وعتاده:
كتائب تعتام النفاق كأنها
شآبيب في أوطانه وسيول
بكل فتى عاري الأشاجع ما له
سوى الموت في حمى الوطيس مثيل
خفيف على ظهر الجواد إذا عدا
ولكن على صدر الكميّ ثقيل
مجد وإقدام
هذا القائد العربي الذي كان له مجد في الأندلس بإقدامه وشجاعته جعل ملوك الممالك الإسبانية يأتون إليه متوددين القرب منه، وطالبين مهادنته، فهذا شانجة بن غرسية يأتي خاضعًا ذليلًا إلى قرطبة ليُعلن طاعته وخضوعه لأوامر القائد العربي، فيقول ابن دراج قصيدة واصفًا مجيء هذا الطاغية ذليلًا صاغرًا أمام المنصور:
وهذا عظيم الشرك قد جاءك خاضعًا
وألقى بكفيه إليك محكمًا
سليل ملوك الكفر في ذروة السّنا
ووارث ملك الروم أقدم أقدما
توسّط أسباب القياصر فانتمى
من الصيد والأملاك أقرب منتمى
ولمّا تقاضى غرب سيفك نفسه
وحاطت له الأقدار محتقن الدّما
ولم يستطع نحو الحياة تأخّرًا
بفوت، ولا نحو النجاة تقدّما
تداركه المقدار في قبضة الرّدى
وخاطبه حنّا عليه فأفهما
وبشّره التّأميل منك بعطفة
تلقَى بها روح الحياة تنسَما
ولم تقتصر انتصارات هذا القائد العربي على مجيء ملوك العجم خاضعين له، بل كان منهم من يقع أسيرًا بين يديه ينتظر من يفكّه من أسره، فقد وصف ابن دراج في قصيدة أسر هذا القائد العربي قومس اقشتالةب غرسية بن فردلند، وكان من أشد الأعداء. قال ابن دراج:
فيهن الدين والدنيا بشير
«بغرسية» الأعادي والعداء
بصنع أعجز الآمال قدمًا
وقصَر دونه أمد الرَجاء
ألذّ على السامع من حياة
وأنجع في النفوس من الشّفاء
فيا فتحًا لمفتتح وبُشرى
لمنتظر ويا مرأى لراء
أسير ما يعادل في فكاك
وعان ما يساوَى في فداء
هو الدّاء العياء شفيت منه
فما للدين من داء عياء
مواقف بطولية
هكذا كانت البطولة العربية مجسّدة في هذا القائد الذي نعمت الأندلس في عهده بالاستقرار والأمن والرخاء والوحدة.
وتستمر هذه المواقف البطولية المعزّة للإسلام والمذلة للكفر في الأندلس المسلمة في عهد ابن هذا القائد
عبدالملك المظفر الذي كان نموذجًا للإقدام وتحقيق الانتصارات بعد أبيه المنصور، وقد صوّر ابن دراج فتوحات هذا القائد في شعره أبدع تصوير، ومنها القصيدة التي نظمها بمناسبة إحراز هذا البطل النصر العظيم على قومس برشلونة، قال فيها:
عزّت بذكرك في البلاد صوارم
تركت رجاء عداتها مصروما
وأسنّة الخط التي خطّت على
شيع الضلال حينها المحتوما
طلعت على دين الهدى بك أسعدا
وعلى ديار المشركين رجوما
فاطلب به - والله مُسعد حظها -
حظّا من الفتح المبين جسيما
لكن هذا العز والشموخ الذي عرفته الأندلس المسلمة في هذه المرحلة سيصبح سرابًا بعدما عرفت قرطبة فتنًا واضطرابات حينما تولّى الحجابة عبدالرحمن بعد موت أخيه، فقد ظهرت بوادر الضعف والانقسام والشؤم في عهد هذا الحاجب، حتى اعتبره المؤرّخون بداية شؤم على الأندلس، فأصبح كل طامع في الحكم يحاول اقتطاع جزء منها، بعدما كانت عصيّة على كل متمرّد، وبرغم ما بذلته دولة المرابطين العتيدة من جهود وكذلك دولة الموحدين لعودة القوة والمنعة للأندلس، فإنّ هذه الجهود لم تفد في عودتها لقوتها ووحدتها، لأنّ ملوك الطوائف مزّقوا البلاد شرّ تمزيق، ومدّوا أياديهم للأعداء من أجل حماية إماراتهم.
شعر ابن دراج في مرحلة الفتنة والتفكك
لم يصمت الشاعر عن المدح في هذه المرحلة، فقد مدح ملوك الطوائف الذين أسهموا في تمزيق أوصال البلاد وإضعافها، وربما كانت غايته من هذا المدح البحث عن ملاذ آمن يحميه من غوائل الدهر، بعدما ذهب عزّ الدولة العامرية التي وجد في ظلها الأمن والاستقرار والحياة الرغيدة، فقصد األمريةب عند حاكمها خيران العامري الذي استقل بها سنة 405 هـ، وبقي عليها حتى توفي سنة 419 هـ، فمدحه بقصيدة مطلعها:
لك الخير، قد أوفى بعهدك خيران
وبشراك، قد آواك عزّ وسلطان
يقول فيها:
متى تلحظوا قصر «ألمرية» تظفروا
ببحر حصى يمناه درّ ومرجان
وتستبدلوا من موج بحر شجاكم
ببحر لكم منه لجين وعقيان
فتى سيفه للدين أمن وإيمان
ويمناه للآمال روح وريحان
تقلّد سيف الله فينا بحقّه
فبرّت عهود بالوفاء وإيمان
ثم اتّجه إلى بلنسية وكان يحكمها مبارك ومظفر، وكانا من موالي المنصور العامري، فمدحهما بمعانٍ تدلّ على العز والسلطان وحماية بلاد الإسلام، مثل مدحه للمنصور العامري، فقال:
شريكان في صدق المنى، وكلاهما
إذا بارز الأقران غير مشاركهما
سمعا دعواك يا دعوة الهدى
وقد أوثق الدهر الخؤون إسارك
وسلّا سيوفًا لم تزل تلتظي أسى
بثأرك حتى أدركا لك نارك
ويهنيك يا دار الخلافة منهما
هلالان لاحا يرفعان منارك
كلا القمرين بين ينيه غرّة
أنارت كسوفيك وجلت سرارك
فقادا إليك الخيل شعثا شوازبًا
يلبَين بالنصر العزيز انتصارك
شجاعة وإقدام
إن هذا التنقل الذي فرضته الفتنة على ابن دراج سيجعل نفسه تشعر ببعض الارتياح بسرقسطة في بلاط التجيبيين عند منذر بن يحيى التجيبي وابنه يحيى، فقد كان هذان القائدان يمثّلان صورة البطولة التي عرفها الشاعر في دولة العامريين، فمنذر وابنه كانا يدافعان عن الثغور الإسلامية بكل شجاعة وإقدام، وقد حقّقا انتصارات كثيرة على العدو مثل المنصور العامري، ومن هنا وجدنا الشاعر قد أحسَّ بأن هذه البطولات ينبغي أن يخلّدها في شعره لأنّها تستحق ذلك، وربّما كان يأمل أن تعود وحدة الأندلس على يد هذين القائدين، فمدحهما بقصائد نجد فيها الصدق والتعلّق بهما والرغبة في الاستقرار بجوارهما، من ذلك قوله في قصيدة مدح بها منذر بن يحيى يبين فيها قوة جيشه وكمال عدّته التي أرهب بها العدو:
جيش يجيش برعد الموت يقدّمه
إلى عداك قضاء جمَ واقعه
صباح بارقة لولا عجاجته
وليل هابية لولا لوامعه
دلائل اليمن في الهيجا أدلّته
وأنجم السعد بالبشرى طلائعه
لكن غربة الشاعر لم تنته في سرقسطة، برغم الارتياح الذي شعر به هناك، فقد انتقل إلى دانية عند الأمير مجاهد العامري، لعلّه يجد عنده مبتغاه ونهاية لطوافه وغربته التي أضنته، وفي الأبيات التي مدحه بها تظهر أنه كان يبحث بلهفة عن ملاذ أخير يكون آمنًا، يستريح فيه من هذا الطواف الذي أتعبه، فمن ذلك قوله فيه:
إلى أيّ ذكر غير ذكرك أرتاح
ومن أيَ بحر بعد بحرك أمتاح
إليك انتهى الرأي الذي بك ينتهي
ولاح لي الرأي الذي بك يلتاح
وفي مائك الإغداق والصفو والرّوي
وفي ظلك الريحان والروح والراح
وكل بأثمار الحياة مهدّل
وبالعطف ميّاس وبالعرف ميّاح
وقد صدقت تنبؤات الشاعر إذ كانت دانية آخر طوافه في المحنة التي عرفتها الأندلس، ويذكر المؤرخون أنه توفّي هناك بعدما أعياه التعب والتنقل وقد جاوز السبعين عامًا من عمره.
أماني وأحلام
إن الباحث في شعر ابن دراج في المرحلتين اللتين عرفتهما الأندلس المسلمة: العزّ والقوة والمنعة، والضعف والتفرّق والانقسام، يلاحظ أن ابن دراج لم يفقد الأمل في المرحلة الثانية لعودة الأندلس إلى مجدها كما عرفه في عهد الدولة العامرية، فالأشعار التي مدح بها ملوك الطوائف نجد فيها معاني القوة العسكرية وعظمة الملك وحمية هؤلاء الملوك للدفاع عن الثغور وإلحاق الهزيمة بالأعداء؛ لكنّها كانت مجرد أماني وأحلام، لأن الأندلس في هذه المرحلة بدأت في التراجع والانهيار، برغم المحاولات التي قام بها ملوك المغرب في عهد المرابطين والموحدين، فالصراع بين ملوك الطوائف لم يتوقف، والتحالفات مع الأعداء كانت سمة مميّزة لكثير من هؤلاء الملوك الذين مزّقوا الأندلس شرّ تمزيق سهّلت على العدو احتلالها وإخراج المسلمين من آخر معقل لهم في غرناطة.
إن شاعرية ابن دراج وبلاغته كانتا ثمرة ما بلغته الأندلس في تلك المرحلة من نضج واكتمال في البيان والفصاحة والبلاغة، حتى أصبحت تضاهي بلاد المشرق، وكل النقاد ومؤرخي الأدب الذين تحدثوا عن هذا الشاعر أشادوا بقوة بيانه وسحر كلماته وعمق معانيه، فهذا الشريف السبتي الشهير بالغرناطي يورد له أبياتًا بديعة في وصف حاله بعدما ودّع أولاده الصغار، وهي قوله:
وإنما تدانت للوداع وقد هفا
بصبري منها أنّة وزفير
تناشدني عهد المودة والهوى
وفي المهد مبغوم النداء صغير
عييَ بمرجوع الجواب، ولفظه
بموقع أهواء النفوس خبير
تبوَأ ممنوع القلوب، ومهَدت
له أذرع محفوفة ونحور
فذكر قبل هذه الأبيات مكانة الشاعر في البيان والبلاغة واعتبره مقدّمًا على شعراء الأندلس، فقال: اوممن سبق إلى الإحسان في ذكر الأصاغر ووصف حاله وحالهم عند الوداع بكل ما يصدع الأكباد ويطرب الجماد أبو عمر أحمد بن دراج القسطلي من بلغاء الأندلس المقدّمين على شعرائها ■