الأندلس المسلمة خلال الوحدة والتفكّك

 الأندلس المسلمة خلال الوحدة والتفكّك

كانت‭ ‬حسرة‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬بلاد‭ ‬الإسلام‭ ‬أشدَ‭ ‬وأفظع‭ ‬حينما‭ ‬ضاعت‭ ‬الأندلس‭ ‬من‭ ‬أيديهم،‭ ‬فقد‭ ‬تركت‭ ‬في‭ ‬النفوس‭ ‬ندوبًا‭ ‬عميقة‭ ‬لم‭ ‬يمحُها‭ ‬الزمن‭ ‬ولن‭ ‬يستطيع‭ ‬محوَها،‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬درّة‭ ‬في‭ ‬جبين‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي،‭ ‬ومفخرة‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬مجدهم‭ ‬وحضارتهم‭ ‬وعلوّ‭ ‬شأنهم‭ ‬في‭ ‬العلم‭ ‬والبناء‭. ‬

هذه‭ ‬الحسرة‭ ‬التي‭ ‬شعر‭ ‬بها‭ ‬المسلمون‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬لا‭ ‬تماثلها‭ ‬إلّا‭ ‬حسرة‭ ‬ضياع‭ ‬فلسطين‭ ‬حينما‭ ‬احتلتها‭ ‬عصابة‭ ‬من‭ ‬شذاذ‭ ‬الآفاق‭ ‬ما‭ ‬زالوا‭ ‬جاثمين‭ ‬على‭ ‬صدرها‭ ‬يسومون‭ ‬أهلها‭ ‬سوء‭ ‬العذاب‭ ‬والاضطهاد‭ ‬والعنصرية‭ ‬والمكر‭ ‬والدسائس‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬البشرية‭ ‬لها‭ ‬مثيلًا‭.‬

 

كان‭ ‬الشعر‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬منذ‭ ‬وعيهم‭ ‬بوجودهم‭ ‬هو‭ ‬الوسيلة‭ ‬التي‭ ‬يعبّرون‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬همومهم‭ ‬وأفراحهم‭ ‬وآمالهم‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬حرمتهم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مُتع‭ ‬الحياة،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬العربيّ‭ ‬يستغني‭ ‬عن‭ ‬سماعه‭ ‬في‭ ‬إقامته‭ ‬ورحلته،‭ ‬لأنّه‭ ‬الأداة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬يروّح‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭. ‬

وظلَت‭ ‬للشعر‭ ‬هذه‭ ‬المكانة‭ ‬بعد‭ ‬مجيء‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬المشرق‭ ‬والغرب‭ ‬الإسلامي،‭ ‬فمثَل‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬العصور‭ ‬بصورة‭ ‬جليَة‭ ‬ثقافة‭ ‬المجتمعات‭ ‬الإسلامية‭ ‬أفرادًا‭ ‬وجماعات؛‭ ‬وبهذه‭ ‬الخاصية‭ ‬كان‭ ‬يحتلّ‭ ‬الصدارة‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬والأحاسيس‭ ‬والشعور‭ ‬والتأريخ‭ ‬للأحداث‭ ‬والوقائع،‭ ‬يتمثّل‭ ‬به‭ ‬اللغوي‭ ‬والعالم‭ ‬والفقيه‭ ‬والسياسي‭ ‬والقائد‭. ‬

ولم‭ ‬يستطع‭ ‬فنّ‭ ‬آخر‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬بهذا‭ ‬الدور،‭ ‬وبخاصّة‭ ‬الخطابة‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬مبكرة‭ ‬بجانب‭ ‬الشعر‭ ‬وكان‭ ‬لها‭ ‬جهابذتها‭.‬

ومن‭ ‬المظاهر‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬عبَر‭ ‬بها‭ ‬الأعراب‭ ‬عن‭ ‬شغفهم‭ ‬بالشعر‭ ‬وتقديمهم‭ ‬الشعراء‭ ‬على‭ ‬الخطباء‭ ‬إقامتهم‭ ‬الأفراح‭ ‬والحفلات‭ ‬إذا‭ ‬نبغ‭ ‬فيهم‭ ‬شاعر،‭ ‬أو‭ ‬ظهر‭ ‬بينهم‭ ‬فارس،‭ ‬لأنّ‭ ‬كليهما‭ ‬يحميان‭ ‬القبيلة‭ ‬ويعليان‭ ‬شأنها‭ ‬بين‭ ‬القبائل‭ ‬الأخرى،‭ ‬فالأول‭ ‬يمدح‭ ‬سادتها‭ ‬وأشرافها‭ ‬ويخلّد‭ ‬أمجادها،‭ ‬ويهجو‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬يحاول‭ ‬النيل‭ ‬من‭ ‬عزّتها‭ ‬وشرفها،‭ ‬والويل‭ ‬لكلّ‭ ‬من‭ ‬أصابته‭ ‬سهام‭ ‬الشعراء؛‭ ‬والثاني‭ ‬يحميها‭ ‬بشجاعته‭ ‬وإقدامه‭ ‬لتعيش‭ ‬عزيزة‭ ‬منيعة‭ ‬آمنة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬خطر‭.‬

وظلّ‭ ‬للشعر‭ ‬هذه‭ ‬المكانة‭ ‬والهيبة‭ ‬في‭ ‬النفوس‭ ‬حتى‭ ‬عندما‭ ‬انتشر‭ ‬العرب‭ ‬خارج‭ ‬جزيرتهم‭  ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬فيها‭ ‬لغة‭ ‬الضاد‭ ‬سائدة،‭ ‬لكنّها‭ ‬فرضت‭ ‬نفسها‭ ‬بقوة‭ ‬على‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬دخل‭ ‬الإسلام‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬خصائص‭ ‬متميزة‭ ‬عن‭ ‬اللغات‭ ‬الأخرى،‭ ‬فكان‭ ‬الفرد‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأمم‭  ‬التي‭ ‬دخلت‭ ‬الإسلام‭ ‬حينما‭ ‬يصبح‭ ‬لسانه‭ ‬عربيًّا‭ ‬فصيحًا،‭ ‬وينبغ‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬تفتح‭ ‬له‭ ‬أبواب‭ ‬قصور‭ ‬الخلفاء‭ ‬والأمراء‭ ‬والأعيان‭ ‬والقادة‭ ‬بكل‭ ‬ترحيب‭ ‬وإجلال،‭ ‬وينال‭ ‬من‭ ‬الجاه‭ ‬والحظوة‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يناله‭ ‬غيره،‭ ‬وتحترم‭ ‬آراؤه‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬والفكرية‭ ‬مثل‭ ‬القادة‭ ‬ورجال‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬قصور‭ ‬الخلفاء‭ ‬والأمراء‭.‬

 

الشعر‭ ‬والأدب‭ ‬في‭ ‬الأندلس‭ ‬المسلمة‭ ‬

كانت‭ ‬الأندلس‭ ‬منذ‭ ‬فتحها‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬العرب‭ ‬وإخوانهم‭ ‬البربر‭ ‬الذين‭ ‬أحبّوا‭ ‬العرب‭ ‬والدين‭ ‬الذي‭ ‬حملوه‭ ‬إليهم‭ ‬تعدَ‭ ‬درَة‭ ‬ثمينة‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الإسلام؛‭ ‬لقد‭ ‬عاشت‭ ‬قرونًا‭ ‬عديدة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬حكم‭ ‬عربي‭ ‬إسلامي،‭ ‬فأصبح‭ ‬المجتمع‭ ‬الأندلسي‭ ‬بكل‭ ‬أفراده‭ ‬عربًا‭ ‬وبربرًا‭ ‬عربيًّا‭ ‬صميمًا‭ ‬في‭ ‬لغته‭ ‬وفكره‭ ‬ووجدانه‭ ‬وأدبه؛‭ ‬فقد‭ ‬كانوا‭ ‬يدركون‭ ‬ما‭ ‬للشعر‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬ومكانة‭ ‬في‭ ‬النفوس،‭ ‬والبربر‭ ‬الذين‭ ‬اعتنقوا‭ ‬الإسلام‭ ‬طواعية‭ ‬واختيارًا‭ ‬أحبّوا‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وآدابها،‭ ‬لأنّ‭ ‬كتاب‭ ‬الله‭ ‬عزّ‭ ‬وجل‭ ‬الذي‭ ‬قَدسوه‭ ‬كان‭ ‬بهذه‭ ‬اللغة،‭ ‬فسكنت‭ ‬وجدانهم‭ ‬وقلوبهم،‭ ‬فأقبلوا‭ ‬على‭ ‬تعلّمها‭ ‬ودراسة‭ ‬قواعدها‭  ‬بلهفة‭ ‬وشغف‭ ‬لمعرفة‭ ‬معاني‭ ‬كتاب‭ ‬الله‭ ‬وسنّة‭ ‬رسوله‭ ‬عليه‭ ‬السلام،‭ ‬وأشعار‭ ‬العرب‭ ‬ولغاتها‭ ‬وأخبارها‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬الكثير‭ ‬منهم‭ ‬أصبحوا‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬قصير‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬شعراء‭ ‬العربية‭ ‬وأدبائها،‭ ‬ولا‭ ‬أدلّ‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬شاعرنا‭ ‬ابن‭ ‬دراج‭ ‬الذي‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬أصول‭ ‬بربرية‭  ‬صميمة‭ ‬من‭ ‬قبيلة‭ ‬صنهاجة،‭ ‬فقد‭ ‬أصبح‭ ‬أكبر‭ ‬شاعر‭ ‬في‭ ‬عصره‭ ‬يملك‭ ‬أدوات‭ ‬الشعر،‭ ‬مثل‭ ‬الأعراب‭ ‬أهل‭ ‬الوبر،‭ ‬ولذلك‭ ‬لقَبوه‭ ‬بـ‭ ‬امتنبّي‭ ‬الأندلسب‭ ‬لما‭ ‬احتوى‭ ‬شعره‭ ‬من‭ ‬معانٍ‭ ‬رصينة‭  ‬ولغة‭ ‬جزلة‭ ‬وحكم‭ ‬دالّة‭ ‬وأمثال‭ ‬سائرة،‭ ‬مثل‭ ‬شعر‭ ‬المتنبي‭ ‬شاعر‭ ‬العربية‭ ‬الأكبر‭.‬

هكذا‭ ‬كان‭ ‬العرب‭ ‬والمجتمعات‭ ‬التي‭ ‬اختلطت‭ ‬بهم‭ ‬تعتبر‭ ‬الشعر‭ ‬هواء‭ ‬ينعش‭ ‬رئتيها،‭ ‬ونورًا‭ ‬يضيء‭ ‬طريقها،‭ ‬وسجلًا‭ ‬يوثّق‭ ‬أخبارها،‭ ‬وسفرًا‭ ‬يخلّد‭ ‬أمجاد‭ ‬حضارتها،‭ ‬ومنارة‭ ‬تُعلي‭ ‬شأنها‭ ‬بين‭ ‬الأمم؛‭ ‬كلّ‭ ‬فرد‭ ‬كان‭ ‬يحلمُ‭ ‬بأن‭ ‬يسبح‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الشعر‭ ‬وسحر‭ ‬الكلمة‭ ‬ونُبل‭ ‬العواطف،‭ ‬وحتى‭ ‬الذين‭ ‬غلبت‭ ‬عليهم‭ ‬ثقافة‭ ‬العلم‭ ‬المحض‭ ‬كالفقه‭ ‬والتفسير‭ ‬ودراسة‭ ‬السنّة‭ ‬الشريفة‭ ‬والتاريخ‭ ‬والنحو‭ ‬والطبّ‭ ‬والرياضيات‭ ‬والفلسفة‭ ‬والكيمياء‭ ‬كانوا‭ ‬يجدون‭ ‬متنفسًا‭ ‬ومتعة‭ ‬إذا‭ ‬نظموا‭ ‬الشعر،‭ ‬فهو‭ ‬روح‭ ‬النفس‭ ‬وريحانها،‭ ‬به‭ ‬يستريحون‭ ‬من‭ ‬عناء‭ ‬الدرس‭ ‬والبحث‭ ‬المضني‭.‬

 

حالة‭ ‬الأندلس‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬ابن‭ ‬دراج‭ ‬

عاش‭ ‬ابن‭ ‬دراج‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬الهجري‭ ‬وبداية‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ (‬347‭ ‬هـ‭ - ‬421‭ ‬هـ‭) ‬وكانت‭ ‬الأندلس‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬قد‭ ‬بلغت‭ ‬أوجها‭ ‬في‭ ‬النضج‭ ‬الفكري‭ ‬والعلمي‭ ‬والاستقرار‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والعيش‭ ‬الكريم‭ ‬والقوة‭ ‬العسكرية‭ ‬التي‭ ‬ترهب‭ ‬الأعداء،‭ ‬وبخاصة‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬الناصري‭ ‬وابنه‭ ‬الحكم،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬ممالك‭ ‬النصارى‭ ‬في‭ ‬الشمال‭ ‬يملأها‭ ‬الرعب‭ ‬من‭ ‬قوّة‭ ‬المسلمين‭.‬

وتشاء‭ ‬الأقدار‭ ‬أن‭ ‬يشهد‭ ‬ابن‭ ‬دراج‭ ‬مرحلتين‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الأندلس‭ ‬المسلمة،‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولى‭ ‬كانت‭ ‬متمثّلة‭ ‬في‭ ‬الوحدة‭ ‬والقوة‭ ‬والمنعة‭ ‬واطمئنان‭ ‬السكان‭ ‬على‭ ‬يديّ‭ ‬القائدين‭ ‬العربيين‭ ‬الحاجب‭ ‬المنصور‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬عامر،‭ ‬وابنه‭ ‬عبدالملك‭ ‬المظفر؛‭ ‬والمرحلة‭ ‬الثانية‭ ‬تميّزت‭ ‬بالتفكك‭ ‬والانقسام‭ ‬وبداية‭ ‬الضعف‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬ملوك‭ ‬الطوائف‭ ‬الذين‭ ‬أسهموا‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬إضعاف‭ ‬الأندلس‭ ‬بعد‭ ‬تمزيق‭ ‬أوصالها‭ ‬إلى‭ ‬ولايات،‭ ‬وإفساح‭ ‬المجال‭ ‬للأعداء‭ ‬كي‭ ‬يستجمعوا‭ ‬قوتهم‭.‬

وبرغم‭ ‬هذا‭ ‬الضعف‭ ‬السياسي،‭ ‬فإن‭ ‬شعر‭ ‬ابن‭ ‬دراج‭ ‬ظل‭ ‬يحمل‭ ‬سمات‭ ‬الأمل‭ ‬لعودة‭ ‬قوة‭ ‬المسلمين‭ ‬وعزّهم‭ ‬لما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬الحال‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

 

ابن‭ ‬دراج‭ ‬يمدح‭ ‬الحاجب‭ ‬المنصور‭ ‬وابنه‭ ‬

كانت‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬مراحل‭ ‬حياة‭ ‬ابن‭ ‬دراج،‭ ‬لكونه‭ ‬وجد‭ ‬في‭ ‬هذين‭ ‬القائدين‭ ‬صورة‭ ‬البطولة‭ ‬العربية‭ ‬مجسَدة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬غزواتهما‭ ‬لحماية‭ ‬أرض‭ ‬الإسلام‭ ‬ونشر‭ ‬الأمن‭ ‬والاستقرار،‭ ‬فكلّ‭ ‬حروبهما‭ ‬مع‭ ‬ممالك‭ ‬النصارى‭ ‬كانت‭ ‬انتصارات‭ ‬عظيمة‭ ‬أعلت‭ ‬هامة‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الأندلس،‭ ‬وأذلَت‭ ‬الأعداء‭ ‬في‭ ‬عقر‭ ‬دارهم،‭ ‬وهي‭ ‬تشبه‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬كبير‭ ‬بطولات‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬الحمداني‭ ‬في‭ ‬المشرق‭ ‬التي‭ ‬جسَدها‭ ‬بالكلمة‭ ‬الشاعر‭ ‬المتنبي،‭ ‬فعدّت‭ ‬قصائده‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البطل‭ ‬من‭ ‬أبدع‭ ‬ما‭ ‬تغنى‭ ‬به‭ ‬المتنبي‭ ‬اوشعر‭ ‬القسطلي‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العامرية‭ ‬يعتبر‭ ‬من‭ ‬أروع‭ ‬ما‭ ‬نظم‭ ‬وأحقه‭ ‬بالتقدير،‭ ‬ولاسيما‭ ‬ما‭ ‬توجّه‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬مديح‭ ‬إلى‭ ‬المنصور‭. ‬

والذي‭ ‬يقرأ‭ ‬شعر‭ ‬ابن‭ ‬دراج‭ ‬في‭ ‬القائد‭ ‬العامري‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬تفكيره‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يثبَ‭ ‬إلى‭ ‬مدائح‭ ‬المتنبي‭ ‬لسيف‭ ‬الدولة‭ ‬الحمداني،‭ ‬فهو‭ ‬مدح‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬الطمع،‭ ‬وأي‭ ‬امرئ‭ ‬شاعر‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬شاعر‭ ‬تجرّد‭ ‬منهما؟‭ ‬وإنما‭ ‬المصدر‭ ‬الأول‭ ‬فيه‭ ‬هو‭ ‬شعور‭ ‬قوي‭ ‬من‭ ‬الإعجاب‭ ‬بشخصية‭ ‬الممدوحب‭.‬

لقد‭ ‬جسّد‭ ‬ابن‭ ‬دراج‭ ‬في‭ ‬مدح‭ ‬هذين‭ ‬البطلين‭ ‬صورة‭ ‬البطولة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الأندلس‭ ‬لحماية‭ ‬الدين‭ ‬والبلاد‭ ‬والعباد،‭ ‬كانت‭ ‬أعين‭ ‬المنصور‭ ‬العامري‭ ‬وابنه‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬لا‭ ‬تغفل‭ ‬لحظة‭ ‬واحدة‭ ‬عمّا‭ ‬يهدد‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬أخطار،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬داخلية‭ ‬من‭ ‬المتمردين‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يريدون‭ ‬إحداث‭ ‬الفتن‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬ممالك‭ ‬النصارى‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يتحيّنون‭ ‬الفرص‭ ‬للانقضاض‭ ‬على‭ ‬المسلمين‭.‬

ومما‭ ‬نظمه‭ ‬ابن‭ ‬دراج‭ ‬في‭ ‬بيان‭ ‬يقظة‭ ‬المنصور‭ ‬العامري‭ ‬وحزمه‭ ‬في‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬الفتن‭ ‬الداخلية‭ ‬قصيدته‭ ‬التي‭ ‬أعدّ‭ ‬فيها‭ ‬هذا‭ ‬البطل‭ ‬العدة‭ ‬الكاملة‭ ‬لمواجهة‭ ‬زيري‭ ‬بن‭ ‬عطية‭ ‬الذي‭ ‬خرج‭ ‬عن‭ ‬الطاعة‭ ‬وأراد‭ ‬إحداث‭ ‬الفتنة‭ ‬في‭ ‬البلاد،‭ ‬فقال‭:‬

‭ ‬

ألا‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الله‭ ‬غزوك‭ ‬من‭ ‬غوى

وضلّ‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الناكثين‭ ‬سبيل

لئن‭ ‬صدئت‭ ‬ألباب‭ ‬قوم‭ ‬بمكرهم‭ ‬

فسيف‭ ‬الهدى‭ ‬في‭ ‬راحتيك‭ ‬صقيل

 

ثم‭ ‬وصف‭ ‬جيشه‭ ‬وعتاده‭:‬

كتائب‭ ‬تعتام‭ ‬النفاق‭ ‬كأنها‭             

شآبيب‭ ‬في‭ ‬أوطانه‭ ‬وسيول‭    

بكل‭ ‬فتى‭ ‬عاري‭ ‬الأشاجع‭ ‬ما‭ ‬له

سوى‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬حمى‭ ‬الوطيس‭ ‬مثيل

خفيف‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬الجواد‭ ‬إذا‭ ‬عدا‭ 

ولكن‭ ‬على‭ ‬صدر‭ ‬الكميّ‭ ‬ثقيل‭ 

 

مجد‭ ‬وإقدام

هذا‭ ‬القائد‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬مجد‭ ‬في‭ ‬الأندلس‭ ‬بإقدامه‭ ‬وشجاعته‭ ‬جعل‭ ‬ملوك‭ ‬الممالك‭ ‬الإسبانية‭ ‬يأتون‭ ‬إليه‭ ‬متوددين‭ ‬القرب‭ ‬منه،‭ ‬وطالبين‭ ‬مهادنته،‭ ‬فهذا‭ ‬شانجة‭ ‬بن‭ ‬غرسية‭ ‬يأتي‭ ‬خاضعًا‭ ‬ذليلًا‭ ‬إلى‭ ‬قرطبة‭ ‬ليُعلن‭ ‬طاعته‭ ‬وخضوعه‭ ‬لأوامر‭ ‬القائد‭ ‬العربي،‭ ‬فيقول‭ ‬ابن‭ ‬دراج‭ ‬قصيدة‭ ‬واصفًا‭ ‬مجيء‭ ‬هذا‭ ‬الطاغية‭ ‬ذليلًا‭ ‬صاغرًا‭ ‬أمام‭ ‬المنصور‭: ‬

 

وهذا‭ ‬عظيم‭ ‬الشرك‭ ‬قد‭ ‬جاءك‭ ‬خاضعًا‭  

وألقى‭ ‬بكفيه‭ ‬إليك‭ ‬محكمًا‭ ‬

سليل‭ ‬ملوك‭ ‬الكفر‭ ‬في‭ ‬ذروة‭ ‬السّنا‭   

ووارث‭ ‬ملك‭ ‬الروم‭ ‬أقدم‭ ‬أقدما‭       

توسّط‭ ‬أسباب‭ ‬القياصر‭ ‬فانتمى

من‭ ‬الصيد‭ ‬والأملاك‭ ‬أقرب‭ ‬منتمى

ولمّا‭ ‬تقاضى‭ ‬غرب‭ ‬سيفك‭ ‬نفسه‭ 

وحاطت‭ ‬له‭ ‬الأقدار‭ ‬محتقن‭ ‬الدّما‭ ‬

ولم‭ ‬يستطع‭ ‬نحو‭ ‬الحياة‭ ‬تأخّرًا

بفوت،‭ ‬ولا‭ ‬نحو‭ ‬النجاة‭ ‬تقدّما

تداركه‭ ‬المقدار‭ ‬في‭ ‬قبضة‭ ‬الرّدى

وخاطبه‭ ‬حنّا‭ ‬عليه‭ ‬فأفهما

وبشّره‭ ‬التّأميل‭ ‬منك‭ ‬بعطفة

تلقَى‭ ‬بها‭ ‬روح‭ ‬الحياة‭ ‬تنسَما‭ ‬

 

ولم‭ ‬تقتصر‭ ‬انتصارات‭ ‬هذا‭ ‬القائد‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬مجيء‭ ‬ملوك‭ ‬العجم‭ ‬خاضعين‭ ‬له،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬يقع‭ ‬أسيرًا‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬ينتظر‭ ‬من‭ ‬يفكّه‭ ‬من‭ ‬أسره،‭ ‬فقد‭ ‬وصف‭ ‬ابن‭ ‬دراج‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬أسر‭ ‬هذا‭ ‬القائد‭ ‬العربي‭ ‬قومس‭ ‬اقشتالةب‭ ‬غرسية‭ ‬بن‭ ‬فردلند،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أشد‭ ‬الأعداء‭. ‬قال‭ ‬ابن‭ ‬دراج‭:‬

 

فيهن‭ ‬الدين‭ ‬والدنيا‭ ‬بشير‭  

‮«‬بغرسية‮»‬‭ ‬الأعادي‭ ‬والعداء‭ ‬

بصنع‭ ‬أعجز‭ ‬الآمال‭ ‬قدمًا‭ ‬

وقصَر‭ ‬دونه‭ ‬أمد‭ ‬الرَجاء‭ ‬

ألذّ‭ ‬على‭ ‬السامع‭ ‬من‭ ‬حياة

وأنجع‭ ‬في‭ ‬النفوس‭ ‬من‭ ‬الشّفاء

فيا‭ ‬فتحًا‭ ‬لمفتتح‭ ‬وبُشرى

لمنتظر‭ ‬ويا‭ ‬مرأى‭ ‬لراء‭ ‬

أسير‭ ‬ما‭ ‬يعادل‭ ‬في‭ ‬فكاك‭ ‬

وعان‭ ‬ما‭ ‬يساوَى‭ ‬في‭ ‬فداء‭ ‬

هو‭ ‬الدّاء‭ ‬العياء‭ ‬شفيت‭ ‬منه

فما‭ ‬للدين‭ ‬من‭ ‬داء‭ ‬عياء‭ ‬

 

 

مواقف‭ ‬بطولية

‭ ‬هكذا‭ ‬كانت‭ ‬البطولة‭ ‬العربية‭ ‬مجسّدة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬القائد‭ ‬الذي‭ ‬نعمت‭ ‬الأندلس‭ ‬في‭ ‬عهده‭ ‬بالاستقرار‭ ‬والأمن‭ ‬والرخاء‭ ‬والوحدة‭.‬

وتستمر‭ ‬هذه‭ ‬المواقف‭ ‬البطولية‭ ‬المعزّة‭ ‬للإسلام‭ ‬والمذلة‭ ‬للكفر‭ ‬في‭ ‬الأندلس‭ ‬المسلمة‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬ابن‭ ‬هذا‭ ‬القائد

عبدالملك‭ ‬المظفر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬نموذجًا‭ ‬للإقدام‭ ‬وتحقيق‭ ‬الانتصارات‭ ‬بعد‭ ‬أبيه‭ ‬المنصور،‭ ‬وقد‭ ‬صوّر‭ ‬ابن‭ ‬دراج‭ ‬فتوحات‭ ‬هذا‭ ‬القائد‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬أبدع‭ ‬تصوير،‭ ‬ومنها‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬نظمها‭ ‬بمناسبة‭ ‬إحراز‭ ‬هذا‭ ‬البطل‭ ‬النصر‭ ‬العظيم‭ ‬على‭ ‬قومس‭ ‬برشلونة،‭ ‬قال‭ ‬فيها‭:‬

 

عزّت‭ ‬بذكرك‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬صوارم

تركت‭ ‬رجاء‭ ‬عداتها‭ ‬مصروما

وأسنّة‭ ‬الخط‭ ‬التي‭ ‬خطّت‭ ‬على‭    

شيع‭ ‬الضلال‭ ‬حينها‭ ‬المحتوما

طلعت‭ ‬على‭ ‬دين‭ ‬الهدى‭ ‬بك‭ ‬أسعدا‭   

وعلى‭ ‬ديار‭ ‬المشركين‭ ‬رجوما

فاطلب‭ ‬به‭ - ‬والله‭ ‬مُسعد‭ ‬حظها‭ -    

حظّا‭ ‬من‭ ‬الفتح‭ ‬المبين‭ ‬جسيما‭ ‬

‭ ‬

لكن‭ ‬هذا‭ ‬العز‭ ‬والشموخ‭ ‬الذي‭ ‬عرفته‭ ‬الأندلس‭ ‬المسلمة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬سيصبح‭ ‬سرابًا‭ ‬بعدما‭ ‬عرفت‭ ‬قرطبة‭ ‬فتنًا‭ ‬واضطرابات‭ ‬حينما‭ ‬تولّى‭ ‬الحجابة‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بعد‭ ‬موت‭ ‬أخيه،‭ ‬فقد‭ ‬ظهرت‭ ‬بوادر‭ ‬الضعف‭ ‬والانقسام‭ ‬والشؤم‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬هذا‭ ‬الحاجب،‭ ‬حتى‭ ‬اعتبره‭ ‬المؤرّخون‭ ‬بداية‭ ‬شؤم‭ ‬على‭ ‬الأندلس،‭ ‬فأصبح‭ ‬كل‭ ‬طامع‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬يحاول‭ ‬اقتطاع‭ ‬جزء‭ ‬منها،‭ ‬بعدما‭ ‬كانت‭ ‬عصيّة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬متمرّد،‭ ‬وبرغم‭ ‬ما‭ ‬بذلته‭ ‬دولة‭ ‬المرابطين‭ ‬العتيدة‭ ‬من‭ ‬جهود‭ ‬وكذلك‭ ‬دولة‭ ‬الموحدين‭ ‬لعودة‭ ‬القوة‭ ‬والمنعة‭ ‬للأندلس،‭ ‬فإنّ‭ ‬هذه‭ ‬الجهود‭ ‬لم‭ ‬تفد‭ ‬في‭ ‬عودتها‭ ‬لقوتها‭ ‬ووحدتها،‭ ‬لأنّ‭ ‬ملوك‭ ‬الطوائف‭ ‬مزّقوا‭ ‬البلاد‭ ‬شرّ‭ ‬تمزيق،‭ ‬ومدّوا‭ ‬أياديهم‭ ‬للأعداء‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حماية‭ ‬إماراتهم‭.‬

 

شعر‭ ‬ابن‭ ‬دراج‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الفتنة‭ ‬والتفكك‭ 

لم‭ ‬يصمت‭ ‬الشاعر‭ ‬عن‭ ‬المدح‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة،‭ ‬فقد‭ ‬مدح‭ ‬ملوك‭ ‬الطوائف‭ ‬الذين‭ ‬أسهموا‭ ‬في‭ ‬تمزيق‭ ‬أوصال‭ ‬البلاد‭ ‬وإضعافها،‭ ‬وربما‭ ‬كانت‭ ‬غايته‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المدح‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬ملاذ‭ ‬آمن‭ ‬يحميه‭ ‬من‭ ‬غوائل‭ ‬الدهر،‭ ‬بعدما‭ ‬ذهب‭ ‬عزّ‭ ‬الدولة‭ ‬العامرية‭ ‬التي‭ ‬وجد‭ ‬في‭ ‬ظلها‭ ‬الأمن‭ ‬والاستقرار‭ ‬والحياة‭ ‬الرغيدة،‭ ‬فقصد‭ ‬األمريةب‭ ‬عند‭ ‬حاكمها‭ ‬خيران‭ ‬العامري‭ ‬الذي‭ ‬استقل‭ ‬بها‭ ‬سنة‭ ‬405‭ ‬هـ،‭ ‬وبقي‭ ‬عليها‭ ‬حتى‭ ‬توفي‭ ‬سنة‭ ‬419‭ ‬هـ،‭ ‬فمدحه‭ ‬بقصيدة‭ ‬مطلعها‭:‬

 

لك‭ ‬الخير،‭ ‬قد‭ ‬أوفى‭ ‬بعهدك‭ ‬خيران‭ ‬

وبشراك،‭ ‬قد‭ ‬آواك‭ ‬عزّ‭ ‬وسلطان

 

‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭:‬

 

متى‭ ‬تلحظوا‭ ‬قصر‭ ‬‮«‬ألمرية‮»‬‭ ‬تظفروا‭ 

ببحر‭ ‬حصى‭ ‬يمناه‭ ‬درّ‭ ‬ومرجان

وتستبدلوا‭ ‬من‭ ‬موج‭ ‬بحر‭ ‬شجاكم‭ ‬

ببحر‭ ‬لكم‭ ‬منه‭ ‬لجين‭ ‬وعقيان

فتى‭ ‬سيفه‭ ‬للدين‭ ‬أمن‭ ‬وإيمان

ويمناه‭ ‬للآمال‭ ‬روح‭ ‬وريحان

تقلّد‭ ‬سيف‭ ‬الله‭ ‬فينا‭ ‬بحقّه

فبرّت‭ ‬عهود‭ ‬بالوفاء‭ ‬وإيمان‭ ‬ 

 

ثم‭ ‬اتّجه‭ ‬إلى‭ ‬بلنسية‭ ‬وكان‭ ‬يحكمها‭ ‬مبارك‭ ‬ومظفر،‭ ‬وكانا‭ ‬من‭ ‬موالي‭ ‬المنصور‭ ‬العامري،‭ ‬فمدحهما‭ ‬بمعانٍ‭ ‬تدلّ‭ ‬على‭ ‬العز‭ ‬والسلطان‭ ‬وحماية‭ ‬بلاد‭ ‬الإسلام،‭ ‬مثل‭ ‬مدحه‭ ‬للمنصور‭ ‬العامري،‭ ‬فقال‭:‬

 

شريكان‭ ‬في‭ ‬صدق‭ ‬المنى،‭ ‬وكلاهما

إذا‭ ‬بارز‭ ‬الأقران‭ ‬غير‭ ‬مشاركهما

سمعا‭ ‬دعواك‭ ‬يا‭ ‬دعوة‭ ‬الهدى

وقد‭ ‬أوثق‭ ‬الدهر‭ ‬الخؤون‭ ‬إسارك

وسلّا‭ ‬سيوفًا‭ ‬لم‭ ‬تزل‭ ‬تلتظي‭ ‬أسى‭ ‬

بثأرك‭ ‬حتى‭ ‬أدركا‭ ‬لك‭ ‬نارك

ويهنيك‭ ‬يا‭ ‬دار‭ ‬الخلافة‭ ‬منهما‭ ‬

هلالان‭ ‬لاحا‭ ‬يرفعان‭ ‬منارك

كلا‭ ‬القمرين‭ ‬بين‭ ‬ينيه‭ ‬غرّة

أنارت‭ ‬كسوفيك‭ ‬وجلت‭ ‬سرارك‭ ‬

فقادا‭ ‬إليك‭ ‬الخيل‭ ‬شعثا‭ ‬شوازبًا

يلبَين‭ ‬بالنصر‭ ‬العزيز‭ ‬انتصارك‭ ‬

 

شجاعة‭ ‬وإقدام

‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬التنقل‭ ‬الذي‭ ‬فرضته‭ ‬الفتنة‭ ‬على‭ ‬ابن‭ ‬دراج‭ ‬سيجعل‭ ‬نفسه‭ ‬تشعر‭ ‬ببعض‭ ‬الارتياح‭ ‬بسرقسطة‭ ‬في‭ ‬بلاط‭ ‬التجيبيين‭ ‬عند‭ ‬منذر‭ ‬بن‭ ‬يحيى‭ ‬التجيبي‭ ‬وابنه‭ ‬يحيى،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬هذان‭ ‬القائدان‭ ‬يمثّلان‭ ‬صورة‭ ‬البطولة‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬العامريين،‭ ‬فمنذر‭ ‬وابنه‭ ‬كانا‭ ‬يدافعان‭ ‬عن‭ ‬الثغور‭ ‬الإسلامية‭ ‬بكل‭ ‬شجاعة‭ ‬وإقدام،‭ ‬وقد‭ ‬حقّقا‭ ‬انتصارات‭ ‬كثيرة‭ ‬على‭ ‬العدو‭ ‬مثل‭ ‬المنصور‭ ‬العامري،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬وجدنا‭ ‬الشاعر‭ ‬قد‭ ‬أحسَّ‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬البطولات‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يخلّدها‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬لأنّها‭ ‬تستحق‭ ‬ذلك،‭ ‬وربّما‭ ‬كان‭ ‬يأمل‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬وحدة‭ ‬الأندلس‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬هذين‭ ‬القائدين،‭ ‬فمدحهما‭  ‬بقصائد‭ ‬نجد‭ ‬فيها‭ ‬الصدق‭ ‬والتعلّق‭ ‬بهما‭ ‬والرغبة‭ ‬في‭ ‬الاستقرار‭ ‬بجوارهما،‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬قوله‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬مدح‭ ‬بها‭ ‬منذر‭ ‬بن‭ ‬يحيى‭ ‬يبين‭ ‬فيها‭  ‬قوة‭ ‬جيشه‭ ‬وكمال‭ ‬عدّته‭ ‬التي‭ ‬أرهب‭ ‬بها‭ ‬العدو‭:‬

 

جيش‭ ‬يجيش‭ ‬برعد‭ ‬الموت‭ ‬يقدّمه‭ ‬

إلى‭ ‬عداك‭ ‬قضاء‭ ‬جمَ‭ ‬واقعه‭ ‬

صباح‭ ‬بارقة‭ ‬لولا‭ ‬عجاجته‭      

وليل‭ ‬هابية‭ ‬لولا‭ ‬لوامعه‭ ‬

دلائل‭ ‬اليمن‭ ‬في‭ ‬الهيجا‭ ‬أدلّته‭     

وأنجم‭ ‬السعد‭ ‬بالبشرى‭ ‬طلائعه‭  

 

لكن‭ ‬غربة‭ ‬الشاعر‭ ‬لم‭ ‬تنته‭ ‬في‭ ‬سرقسطة،‭ ‬برغم‭ ‬الارتياح‭ ‬الذي‭ ‬شعر‭ ‬به‭ ‬هناك،‭ ‬فقد‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬دانية‭ ‬عند‭ ‬الأمير‭ ‬مجاهد‭ ‬العامري،‭ ‬لعلّه‭ ‬يجد‭ ‬عنده‭ ‬مبتغاه‭ ‬ونهاية‭ ‬لطوافه‭ ‬وغربته‭ ‬التي‭ ‬أضنته،‭ ‬وفي‭ ‬الأبيات‭ ‬التي‭ ‬مدحه‭ ‬بها‭ ‬تظهر‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يبحث‭ ‬بلهفة‭ ‬عن‭ ‬ملاذ‭ ‬أخير‭ ‬يكون‭ ‬آمنًا،‭ ‬يستريح‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الطواف‭ ‬الذي‭ ‬أتعبه،‭ ‬فمن‭ ‬ذلك‭ ‬قوله‭ ‬فيه‭:‬

 

إلى‭ ‬أيّ‭ ‬ذكر‭ ‬غير‭ ‬ذكرك‭ ‬أرتاح‭ 

ومن‭ ‬أيَ‭ ‬بحر‭ ‬بعد‭ ‬بحرك‭ ‬أمتاح‭ ‬

إليك‭ ‬انتهى‭ ‬الرأي‭ ‬الذي‭ ‬بك‭ ‬ينتهي

ولاح‭ ‬لي‭ ‬الرأي‭ ‬الذي‭ ‬بك‭ ‬يلتاح‭ ‬

وفي‭ ‬مائك‭ ‬الإغداق‭ ‬والصفو‭ ‬والرّوي

وفي‭ ‬ظلك‭ ‬الريحان‭ ‬والروح‭ ‬والراح

وكل‭ ‬بأثمار‭ ‬الحياة‭ ‬مهدّل‭      

وبالعطف‭ ‬ميّاس‭ ‬وبالعرف‭ ‬ميّاح‭       

‭ ‬

وقد‭ ‬صدقت‭ ‬تنبؤات‭ ‬الشاعر‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬دانية‭ ‬آخر‭ ‬طوافه‭ ‬في‭ ‬المحنة‭ ‬التي‭ ‬عرفتها‭ ‬الأندلس،‭ ‬ويذكر‭ ‬المؤرخون‭ ‬أنه‭ ‬توفّي‭ ‬هناك‭ ‬بعدما‭ ‬أعياه‭ ‬التعب‭ ‬والتنقل‭ ‬وقد‭ ‬جاوز‭ ‬السبعين‭ ‬عامًا‭ ‬من‭ ‬عمره‭.‬

أماني‭ ‬وأحلام

إن‭ ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬ابن‭ ‬دراج‭ ‬في‭ ‬المرحلتين‭ ‬اللتين‭ ‬عرفتهما‭ ‬الأندلس‭ ‬المسلمة‭: ‬العزّ‭ ‬والقوة‭ ‬والمنعة،‭ ‬والضعف‭ ‬والتفرّق‭ ‬والانقسام،‭ ‬يلاحظ‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬دراج‭ ‬لم‭ ‬يفقد‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانية‭ ‬لعودة‭ ‬الأندلس‭ ‬إلى‭ ‬مجدها‭ ‬كما‭ ‬عرفه‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الدولة‭ ‬العامرية،‭ ‬فالأشعار‭ ‬التي‭ ‬مدح‭ ‬بها‭ ‬ملوك‭ ‬الطوائف‭ ‬نجد‭ ‬فيها‭ ‬معاني‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬وعظمة‭ ‬الملك‭ ‬وحمية‭ ‬هؤلاء‭ ‬الملوك‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬الثغور‭ ‬وإلحاق‭ ‬الهزيمة‭ ‬بالأعداء؛‭ ‬لكنّها‭ ‬كانت‭ ‬مجرد‭ ‬أماني‭ ‬وأحلام،‭ ‬لأن‭  ‬الأندلس‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬التراجع‭ ‬والانهيار،‭ ‬برغم‭ ‬المحاولات‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬ملوك‭ ‬المغرب‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬المرابطين‭ ‬والموحدين،‭ ‬فالصراع‭ ‬بين‭ ‬ملوك‭ ‬الطوائف‭ ‬لم‭ ‬يتوقف،‭ ‬والتحالفات‭ ‬مع‭ ‬الأعداء‭ ‬كانت‭ ‬سمة‭ ‬مميّزة‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الملوك‭ ‬الذين‭ ‬مزّقوا‭ ‬الأندلس‭ ‬شرّ‭ ‬تمزيق‭ ‬سهّلت‭ ‬على‭ ‬العدو‭ ‬احتلالها‭ ‬وإخراج‭ ‬المسلمين‭ ‬من‭ ‬آخر‭ ‬معقل‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬غرناطة‭.‬

إن‭ ‬شاعرية‭ ‬ابن‭ ‬دراج‭ ‬وبلاغته‭ ‬كانتا‭ ‬ثمرة‭ ‬ما‭ ‬بلغته‭ ‬الأندلس‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬من‭ ‬نضج‭ ‬واكتمال‭ ‬في‭ ‬البيان‭ ‬والفصاحة‭ ‬والبلاغة،‭ ‬حتى‭ ‬أصبحت‭ ‬تضاهي‭ ‬بلاد‭ ‬المشرق،‭ ‬وكل‭ ‬النقاد‭ ‬ومؤرخي‭ ‬الأدب‭ ‬الذين‭ ‬تحدثوا‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬أشادوا‭ ‬بقوة‭ ‬بيانه‭ ‬وسحر‭ ‬كلماته‭ ‬وعمق‭ ‬معانيه،‭ ‬فهذا‭ ‬الشريف‭ ‬السبتي‭ ‬الشهير‭ ‬بالغرناطي‭ ‬يورد‭ ‬له‭ ‬أبياتًا‭ ‬بديعة‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬حاله‭ ‬بعدما‭ ‬ودّع‭ ‬أولاده‭ ‬الصغار،‭ ‬وهي‭ ‬قوله‭:‬

 

وإنما‭ ‬تدانت‭ ‬للوداع‭ ‬وقد‭ ‬هفا‭ 

بصبري‭ ‬منها‭ ‬أنّة‭ ‬وزفير‭ ‬

تناشدني‭ ‬عهد‭ ‬المودة‭ ‬والهوى

وفي‭ ‬المهد‭ ‬مبغوم‭ ‬النداء‭ ‬صغير

عييَ‭ ‬بمرجوع‭ ‬الجواب،‭ ‬ولفظه‭    

بموقع‭ ‬أهواء‭ ‬النفوس‭ ‬خبير

تبوَأ‭ ‬ممنوع‭ ‬القلوب،‭ ‬ومهَدت‭   

له‭ ‬أذرع‭ ‬محفوفة‭ ‬ونحور‭ ‬

 

فذكر‭ ‬قبل‭ ‬هذه‭ ‬الأبيات‭ ‬مكانة‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬البيان‭ ‬والبلاغة‭ ‬واعتبره‭ ‬مقدّمًا‭ ‬على‭ ‬شعراء‭ ‬الأندلس،‭ ‬فقال‭: ‬اوممن‭ ‬سبق‭ ‬إلى‭ ‬الإحسان‭ ‬في‭ ‬ذكر‭ ‬الأصاغر‭ ‬ووصف‭ ‬حاله‭ ‬وحالهم‭ ‬عند‭ ‬الوداع‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يصدع‭ ‬الأكباد‭ ‬ويطرب‭ ‬الجماد‭ ‬أبو‭ ‬عمر‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬دراج‭ ‬القسطلي‭ ‬من‭ ‬بلغاء‭ ‬الأندلس‭ ‬المقدّمين‭ ‬على‭ ‬شعرائها ■