الشاعر التونسي منصف الوهايبي: الكتابة الإبداعيّة مرجَلٌ يغلي ولا يتلاشى بُخارُه

الشاعر التونسي منصف الوهايبي:  الكتابة الإبداعيّة مرجَلٌ يغلي  ولا يتلاشى بُخارُه

‮«‬يداه‭ ‬إلى‭ ‬الغيم‭ ‬مبسوطتان‭... ‬وعيناه‭ ‬للبرق‭... ‬هذا‭ ‬الفتى‭ ‬التونسي‭ ‬الذي‭ ‬تورق‭ ‬العربية‭ ‬بين‭ ‬يديه‮»‬،‭ ‬هي‭ ‬أبيات‭ ‬لشاعر‭ ‬اليمن‭ ‬الكبير‭ ‬د‭. ‬عبدالعزيز‭ ‬المقالح‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الأصدقاء‮»‬‭ ‬منذ‭ ‬عشرين‭ ‬عامًا،‭ ‬يصف‭ ‬شاعر‭ ‬تونس‭ ‬الكبير‭ ‬د‭. ‬منصف‭ ‬الوهايبي‭.  ‬وما‭ ‬تزال‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬تورق‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الفتى‭ ‬السبعيني‭ ‬الوهايبي،‭ ‬في‭ ‬تمثُّلات‭ ‬متعددة،‭ ‬شعرًا‭ ‬ونقدًا‭ ‬ورواية‭ ‬وفيلمًا‭ ‬تسجيليًا،‭ ‬ويبقى‭ ‬الشعر‭ ‬تَوَرُّقُه‭ ‬الأكبر،‭ ‬في‭ ‬شجرة‭ ‬إبداع،‭ ‬جذورها‭ ‬متأصلة‭ ‬في‭ ‬‮«‬القيروان‮»‬،‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬وتنتهي‭ ‬عندها‭ ‬كل‭ ‬حكاية‭ ‬عربية‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭.‬

إنه‭ ‬حوار‭ ‬مؤجل‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬مع‭ ‬الشاعر‭ ‬التونسي‭ ‬منصف‭ ‬الوهايبي،‭ ‬وكأنّه‭ ‬كان‭ ‬ينتظر‭ ‬لحظة‭ ‬تتويج‭ ‬عربية‭ ‬فخمة‭ ‬ومستحقة،‭ ‬وقد‭ ‬حدث،‭ ‬إنها‭ ‬جائزة‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ ‬للإبداع‭ ‬العربي‭ ‬فرع‭ ‬الآداب،‭ ‬لهذا‭ ‬العام‭ ‬2020م‭ ‬،‭ ‬عن‭ ‬ديوانه‭ ‬ابالكأس‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الأخيرةب،‭ ‬وفي‭ ‬ما‭ ‬يلي‭ ‬نص‭ ‬الحوار‭.‬

 

حاجب‭ ‬العيون

‭• ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكوينك‭ ‬الثقافي‭ ‬والأدبي‭ ‬العربي‭ ‬تأسس‭ ‬فيها،‭ ‬وكانت‭ ‬مركز‭ ‬تفتُّح‭ ‬وعيك‭ ‬الكوني،‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يرد‭ ‬اسمها‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬قصائدك،‭ ‬واستعضت‭ ‬عنها‭ ‬بالاسم‭ ‬الروماني‭ ‬ماسكيليان‭. ‬احكِ‭ ‬لنا‭ ‬عن‭ ‬حاجب‭ ‬العيون؟

‭- ‬الحقّ‭ ‬أنا‭ ‬ابن‭ ‬ريف‭ ‬حاجب‭ ‬العيون،‭ ‬ومن‭ ‬أسرة‭ ‬فلاحيّة،‭ ‬كانت‭ ‬تمتهن‭ ‬غراسة‭ ‬الأشجار،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬الزيتون‭ ‬واللوز،‭ ‬وزراعة‭ ‬الحبوب،‭ ‬وتربية‭ ‬الماشية‭. ‬وكانت‭ ‬طفولتي‭ ‬الأولى‭ ‬بهذا‭ ‬الريف‭ ‬حيث‭ ‬نشأت‭ ‬ودرجت،‭ ‬ثمّ‭ ‬بحاجب‭ ‬العيون‭ ‬عام‭ ‬1955،‭ ‬عندما‭ ‬ألحقني‭ ‬والدي،‭ ‬يرحمه‭ ‬الله،‭ ‬بمدرستها‭ ‬الابتدائيّة‭ ‬الوحيدة،‭ ‬مع‭ ‬عمّي‭ ‬وهو‭ ‬أخوه‭ ‬الأصغر،‭ ‬وابن‭ ‬عمّتي،‭ ‬وأجّر‭ ‬لنا‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬المستودع‭ ‬الصغير؛‭ ‬وكنّا‭ ‬نسمّيه‭ ‬االحانوتب‭ ‬حيث‭ ‬أقمنا؛‭ ‬نعدّ‭ ‬كلّ‭ ‬شيء‭ ‬بأنفسنا‭ ‬من‭ ‬طبخ‭ ‬على‭ ‬الوابور‭ ‬وغسيل‭. ‬وخلال‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬اكتشفت‭ ‬حاجب‭ ‬العيون،‭ ‬وأحببتها،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬واحة‭ ‬جميلة‭ ‬جدًّا‭: ‬عيون‭ ‬ماء‭ ‬وبساتين‭ ‬كأنّها‭ ‬اشِعب‭ ‬بوّانب‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬المتنبّي‭ ‬الشهيرة‭. ‬على‭ ‬أنّي‭ ‬لم‭ ‬أذكرها‭ ‬بالاسم‭ ‬إلّا‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬واحد‭ ‬أدرته‭ ‬على‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬اللَّعب‭ ‬اللغوي‭ (‬الحاجب‭/ ‬العيون‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬هضبة‭ ‬تحيط‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬أطرافها،‭ ‬وتحجب‭ ‬عيون‭ ‬الماء‭ ‬التي‭ ‬تجري‭ ‬في‭ ‬أسفلها‭: ‬

كلّما‭ ‬قلتُ‭ ‬أوغرتني‭ ‬ظنوني

كنت‭ ‬يا‭ ‬حاجبَ‭ ‬العيونِ،‭ ‬عيوني

وقد‭ ‬استعضت‭ ‬منذ‭ ‬ديواني‭ ‬أو‭ ‬كتابي‭ ‬الشعري‭ ‬امخطوط‭ ‬تمبكتوب،‭ ‬بالاسم‭ ‬الروماني‭ ‬القديم‭ ‬امسكليانيب‭ ‬أو‭ ‬امسكيلنيايب‭ ‬أو‭ ‬امازوفياناب‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬البعض‭. ‬وهي‭ ‬أسماء‭ ‬ذهب‭ ‬بها‭ ‬الزمان،‭ ‬وطواها‭ ‬فيما‭ ‬طوى،‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬استقرّ‭ ‬بها‭ ‬العرب‭ ‬الفاتحون‭ ‬عام‭ ‬27هـ‭ /‬647م،‭ ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬سيطروا‭ ‬على‭ ‬مدينة‭ ‬سبيطلة‭ ‬اسفيطلةب‭ ‬الرومانيّة،‭ ‬بقيادة‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬سرح‭. ‬أملت‭ ‬عودتي‭ ‬إلى‭ ‬الاسم‭ ‬الروماني‭ ‬جملة‭ ‬عوامل،‭ ‬من‭ ‬أظهرها‭ ‬سياق‭ ‬الديوان‭ ‬امخطوط‭ ‬تمبكتوب،‭ ‬فمداره‭ ‬على‭ ‬مدن‭ ‬تونسيّة‭ ‬مثل‭ ‬اتكاباسب‭ (‬قابس‭)‬،‭ ‬وارسبيناب‭ (‬المنستير‭) ‬واهيبوزاريتب‭ (‬بنزرت‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬يحضر‭ ‬المكان‭ ‬أو‭ ‬االفضاء‭ ‬المدينيب‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬الملتبسة‭ ‬بالماضي‭ ‬والحاضر‭ ‬معًا،‭ ‬أي‭ ‬االحالب،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يسمّيه‭ ‬نحاة‭ ‬العرب،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الزمنيّة‭ ‬الخطيّة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تناسب‭ ‬الزمنيّة‭ ‬الشعريّة؛‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الديوان،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬كتبي‭ ‬الشعريّة‭ ‬الأخرى،‭ ‬حاضر‭ ‬أبديّ‭. ‬إنّ‭ ‬إعادة‭ ‬قراءة‭ ‬تاريخ‭ ‬المتوسّط،‭ ‬توقفنا‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬الماءَ‭ ‬المِلْحَ‭ ‬الذي‭ ‬يصل‭ ‬بين‭ ‬الضفّتين؛‭ ‬هو‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭ ‬غير‭ ‬سفر‭ ‬رحلات‭ ‬أوليس‭. ‬إنّه‭ ‬باختصار‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتعهّد‭ ‬فيه‭ ‬مستقبلنا‭ ‬جميعًا،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬تعهّده‭ ‬تونسيّ‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يذكره‭ ‬اليوم،‭ ‬ويدين‭ ‬له‭ ‬المسرح‭ ‬الروماني‭ ‬الشعريّ‭ ‬بنشأته،‭ ‬هو‭ ‬طيرنسيوس،‭ ‬الكاتب‭ ‬المسرحي،‭ ‬أو‭ ‬تيرنس،‭ ‬كما‭ ‬ينطقه‭ ‬الفرنسيّون،‭ ‬وقد‭ ‬تأثّره‭ ‬موليار،‭ ‬وتأثّر‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬مسرحيّاته‭. ‬وهو‭ ‬صاحب‭ ‬المقولة‭ ‬التي‭ ‬اشتُهِرتْ‭ ‬أكثر‭ ‬منه‭: ‬اأنا‭ ‬إنسان،‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬ممّا‭ ‬هو‭ ‬إنسانيّ،‭ ‬بغريب‭ ‬عنّيب‭. ‬ثمّ‭ ‬طوى‭ ‬النسيان‭ ‬هذا‭ ‬الاسم،‭ ‬كما‭ ‬يطوي‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬لا‭ ‬تنتظم‭ ‬في‭ ‬سلك‭ ‬مشاغلنا،‭ ‬ولا‭ ‬نحن‭ ‬نرصد‭ ‬لها‭ ‬أوقاتنا‭.‬

 

القيروان

‭• ‬‮«‬زمان‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬مكان‮»‬،‭ ‬هكذا‭ ‬وصفت‭ ‬القيروان‭. ‬لمدينة‭ ‬التي‭ ‬يتجلى‭ ‬فيها‭ ‬العمق‭ ‬التونسي،‭ ‬وأنت‭ ‬تتحدث‭ ‬بمتحف‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬في‭ ‬رام‭ ‬الله‭.‬‭.. ‬ماذا‭ ‬فعل‭ ‬الزمن‭ ‬القيرواني‭ ‬بقصيدتك؟

‭- ‬منذ‭ ‬ستّين‭ ‬سنة‭ ‬وأنا‭ ‬أقيم‭ ‬بالقيروان،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أقطع‭ ‬صلتي‭ ‬بحاجب‭ ‬العيون‭ ‬وريفها؛‭ ‬وأنا‭ ‬أكاديمي،‭ ‬ولكنّي‭ ‬افلاّحب‭ ‬أيضًا،‭ ‬ولم‭ ‬أفرّط‭ ‬في‭ ‬إرث‭ ‬والدي‭ ‬من‭ ‬الأرض،‭ ‬بل‭ ‬أنا‭ ‬أسعى‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬الاستقرار‭ ‬بالريف‭. ‬القيروان‭ ‬مثل‭ ‬كلّ‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬سُرّةَ‭ ‬العالم،‭ ‬وهي‭ ‬المدينة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬بناها‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬الشمال‭ ‬الإفريقي،‭ ‬وكانت‭ ‬عاصمتهم‭ ‬الدينيّة‭ ‬والأدبيّة‭ ‬والعلميّة‭. ‬على‭ ‬أنّي‭ ‬أكاد‭ ‬أقول‭ ‬إنّ‭ ‬الكلام‭ ‬على‭ ‬مدينة‭ ‬كالقيروان،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحسنه‭ ‬ويجوّد‭ ‬أداءه،‭ ‬إلّا‭ ‬فنّان‭ ‬تشكيلي،‭ ‬حتى‭ ‬يعدو‭ ‬النصّ‭ ‬مجرّد‭ ‬الحمل‭ ‬إلى‭ ‬اتحقيقب‭ ‬المدينة‭ ‬واتخريجهاب،‭ ‬أي‭ ‬جعل‭ ‬المرئي‭ ‬مرئيًا،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬بول‭ ‬كلي‭ ‬الذي‭ ‬زار‭ ‬القيروان‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬عام‭ ‬1914‭. ‬وقد‭ ‬وظّفت‭ ‬بعض‭ ‬لوحاته‭ ‬وخاصّة‭ ‬اعند‭ ‬أبواب‭ ‬القيروانب‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬قصائدي،‭ ‬وفي‭ ‬شريط‭ ‬سينمائي‭ ‬قصير‭ ‬عنوانه‭ ‬امدينة‭ ‬تشبهنيب،‭ ‬وكتبت‭ ‬السيناريو‭ ‬بالاشتراك‭ ‬مع‭ ‬المخرج‭ ‬هشام‭ ‬الجربي،‭ ‬ومثّلت‭ ‬فيه‭. ‬

لكأنّ‭ ‬القيروان‭ - ‬وأقصد‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬عرفت‭ ‬في‭ ‬طفولتي‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬أوّل‭ ‬عهدي‭ ‬بها‭ - ‬على‭ ‬وشيحة‭ ‬عجيبة‭ ‬بفنّ‭ ‬االتّوريقب‭ ‬العربي‭ (‬الأرابيسك‭). ‬

وأقدّر‭ ‬أنّ‭ ‬أكثر‭ ‬قصائدي‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬فيها‭ ‬القيروان‭ ‬صورة‭ ‬من‭ ‬مقولة‭ ‬ابن‭ ‬عربي،‭ ‬حيث‭ ‬المكان‭ ‬زمن‭ ‬متجمّد،‭ ‬والزمان‭ ‬مكان‭ ‬سائل‭. ‬ولذا‭ ‬قلت‭ ‬ما‭ ‬قلت‭ ‬عنها‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬متحف‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬برام‭ ‬الله‭ ‬عام‭ ‬2013،‭ ‬حيث‭ ‬تمّ‭ ‬تكريمي،‭ ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬أقول‭ ‬ذلك‭. ‬بل‭ ‬فصّلت‭ ‬فيه‭ ‬القول‭ ‬في‭ ‬محاولاتي‭ ‬الروائيّة‭ ‬الثلاث‭ ‬اعشيقة‭ ‬آدمب‭ ‬واهل‭ ‬كان‭ ‬بورقيبة‭ ‬يخشى‭ ‬حقّا‭ ‬معيزفة‭ ‬بنت‭ ‬الضاوي؟ب،‭ ‬واليلة‭ ‬الإفكب‭. ‬وأفعل‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬محاولتي‭ ‬الروائيّة‭ ‬الرابعة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬قيد‭ ‬الكتابة‭ ‬اجمهوريّة‭ ‬جربةب،‭ ‬حيث‭ ‬أصوّر‭ ‬هذه‭ ‬الجزيرة‭ ‬التونسيّة‭ ‬اجزيرة‭ ‬الأحلامب‭ ‬كما‭ ‬يقال‭ ‬عنها،‭ ‬وقد‭ ‬انساحت‭ ‬في‭ ‬البحر؛‭ ‬وأخذت‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬مالطة‭.‬

 

وقفة‭ ‬تاريخية

‭• ‬‮«‬أنت‭ ‬إذًا‭... ‬ربما‭ ‬أنت‭ ‬أيتها‭ ‬التونسية‭ ‬بنت‭ ‬الأمازيغ‭ ‬والعرب‭ ‬الفاتحين‮»‬،‭ ‬هكذا‭ ‬تصف‭ ‬القيروان‭ ‬في‭ ‬قصيدتك‭... ‬لماذا‭ ‬القيروان‭ ‬قادرة‭ ‬ثقافيًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تقدم‭ ‬الإجابة‭ ‬الصحيحة‭ ‬حول‭ ‬جدل‭ ‬الأمازيغية‭ ‬والعروبة‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬المغاربية‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا؟

‭- ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬هي‭ ‬صورة‭ ‬تزاوج‭ ‬بين‭ ‬المرأة‭ ‬والمدينة‭. ‬وتونس‭ ‬كلّها‭ ‬محصّلة‭ ‬تاريخ،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬عربيّة‭ ‬وغير‭ ‬عربيّة‭ ‬كثيرة‭. ‬وأنا‭ ‬أحبّ‭ ‬هذا‭ ‬التنوّع‭ ‬فيها؛‭ ‬وهو‭ ‬مصدر‭ ‬غنى‭ ‬ثقافي‭ ‬لها‭. ‬والحقّ‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬هنا‭ ‬من‭ ‬وقفة‭ ‬تاريخيّة،‭ ‬توضّح‭ ‬خصوصيّة‭ ‬الثقافة‭ ‬المغاربيّة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الاصطلاح‭ ‬القديم‭ ‬هو‭ ‬إطلاق‭ ‬موريتانيا‭ ‬على‭ ‬المغرب‭ ‬الأقصى،‭ ‬ونوميديا‭ ‬على‭ ‬الجزائر،‭ ‬وزوجيتان‭ ‬على‭ ‬تونس،‭ ‬وكان‭ ‬بين‭ ‬المغرب‭ ‬والجزائر‭ ‬قطر‭ ‬صغير‭ ‬يسمى‭ ‬املفاب‭ ‬وبينها‭ ‬وتونس‭ ‬قطر‭ ‬يسمى‭ ‬اتوسكاب‭. ‬أما‭ ‬يرقة‭ ‬فتسمّى‭ ‬مرنيكا‭ ‬وينطاليوليس‭ ‬أي‭ ‬المدن‭ ‬الخمس‭. ‬

أما‭ ‬قارة‭ ‬إفريقيا‭ ‬فكان‭ ‬اسمها‭ ‬ليبيا،‭ ‬وإفريقيا‭ ‬تطلق‭ ‬على‭ ‬تونس‭ ‬وطرابلس،‭ ‬وهذا‭ ‬الاصطلاح‭ ‬يوناني‭ ‬قبل‭ ‬الرومان‭ ‬بكثير‭. ‬وذكر‭ ‬الأستاذ‭ ‬ميكيل‭ ‬طارديل‭ ‬في‭ ‬بحثه‭ ‬اعصر‭ ‬الفنيقيين‭ ‬بالمغربب‭ ‬أنّ‭ ‬المدن‭ ‬ليبكسوس‭ ‬وقادس‭ ‬وأوتيكاهي‭ ‬أقدم‭ ‬المؤسسات‭ ‬في‭ ‬غرب‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭.‬

وهذا‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يسوق‭ ‬إلى‭ ‬التريّث‭ ‬والحيطة،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يتمّ‭ ‬تعميم‭ ‬االنموذج‭ ‬القبائليب‭ ‬على‭ ‬مجمل‭ ‬مناطق‭ ‬المغرب‭ ‬العربي؛‭ ‬أو‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬أحابيل‭ ‬اتعدّديّةب‭ ‬لغويّة‭ ‬في‭ ‬الآداب‭ ‬المغاربيّة؛‭ ‬لا‭ ‬ينهض‭ ‬لها‭ ‬سند‭ ‬علميّ،‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬المغاربيّة‭ ‬ومن‭ ‬ثقافتها؛‭ ‬وشعراء‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭ ‬وكتّابه‭ ‬يكتبون‭ ‬بإحدى‭ ‬اللغتين‭: ‬العربيّة‭ ‬أو‭ ‬الفرنسيّة‭ ‬أو‭ ‬بهما‭ ‬معًا‭. ‬ومهما‭ ‬يكن‭ ‬عدد‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬يحتفظون‭ ‬بهوّيّتهم‭ ‬الأصليّة‭ ‬أو‭ ‬بلهجاتهم،‭ ‬فإنّهم‭ ‬يظلّون‭ ‬أقلّ‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الناطقين‭ ‬بالعربيّة‭ ‬أو‭ ‬اللهجات‭ ‬العربيّة‭ ‬المحلّيّة‭. ‬وبلاد‭ ‬المغرب‭ ‬عرفت‭ ‬تاريخيًّا‭ ‬عمليّة‭ ‬تعريب‭ ‬بطيئة؛‭ ‬والأقرب‭ ‬إلى‭ ‬الحقّ‭ ‬أنّها‭ ‬تمّت‭ ‬مع‭ ‬الغزو‭ ‬الهلالي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬للهجرة‭ (‬11م‭). ‬

وهو‭ ‬ما‭ ‬يعزّز‭ ‬من‭ ‬وجاهة‭ ‬الرأي‭ ‬القائل‭ ‬بأنّ‭ ‬الأغلبيّة‭ ‬من‭ ‬الناطقين‭ ‬بالعربيّة‭ ‬اليوم‭ ‬هم‭ ‬عرب‭ ‬واأمازيغ‭ ‬معرّبونب‭ ‬كان‭ ‬أجدادهم‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬المغرب‭ ‬والصحراء‭ ‬يتكلّمون‭ ‬الأمازيغيّة،‭ ‬ثمّ‭ ‬تحوّلوا‭ ‬إلى‭ ‬العربيّة‭ ‬لأسباب‭ ‬لغويّة‭ ‬وثقافيّة‭ ‬معيشيّة‭ ‬أيضًا،‭ ‬وليست‭ ‬دينيّة‭ ‬فحسب،‭ ‬كما‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬الظنّ‭ ‬عادة‭. ‬ويذكر‭ ‬سالم‭ ‬شاكر،‭ ‬وهو‭ ‬عالم‭ ‬لسانيّات،‭ ‬أنّ‭ ‬البونيقيّة‭ ‬وهي‭ ‬لغة‭ ‬ساميّة‭ ‬من‭ ‬أخوات‭ ‬العربيّة،‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬من‭ ‬العوامل‭ ‬التي‭ ‬ساعدت‭ ‬على‭ ‬ترسيخ‭ ‬العربيّة‭ ‬في‭ ‬منطقتين‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬المغرب‭ ‬هما‭ ‬تونس‭ ‬والشمال‭ ‬القسطنطيني‭. ‬فالعربيّة‭ ‬لم‭ ‬تحلّ‭ ‬دائمًا‭ ‬محلّ‭ ‬الأمازيغيّة،‭ ‬بل‭ ‬محلّ‭ ‬البونيقيّة‭. ‬وهذه‭ ‬أطروحة‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬شأن‭ ‬في‭ ‬الخمسينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬عند‭ ‬علماء‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬قزال‭ ‬وغوتيي،‭ ‬وكانت‭ ‬مثار‭ ‬جدال‭ ‬بين‭ ‬االأمازيغاويّينب‭ ‬واالبونيقاويّينب،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬كورتوا‭ ‬ينبّه‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬مصطلح‭ ‬ابونيقيب‭ ‬كان‭ ‬يستعمل‭ ‬مرادفًا‭ ‬لـ‭ ‬اأهليب‭ ‬أو‭ ‬امحلّيب‭ ‬مقارنة‭ ‬بـ‭ ‬الاتيني‭/ ‬رومانيب‭. ‬وهذا‭ ‬قد‭ ‬يفيد‭ ‬بأنّ‭ ‬كلمة‭ ‬ابونيقيب‭ ‬إنّما‭ ‬كان‭ ‬يُقصد‭ ‬بها‭ ‬اأمازيغيب‭. ‬

وهذه‭ ‬مسألة‭ ‬يصعب‭ ‬أن‭ ‬نقطع‭ ‬فيها‭ ‬برأي؛‭ ‬خاصّة‭ ‬أنّ‭ ‬الحجج‭ ‬المقدّمة‭ ‬تخدم‭ ‬الأطروحتين‭ ‬المتدافعتين‭ ‬كلتيهما،‭ ‬وتصلح‭ ‬لهما‭ ‬معًا‭. ‬ويوضّح‭ ‬سالم‭ ‬شاكر‭ ‬أنّه‭ ‬من‭ ‬المستبعد،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬المحتمل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬العرب‭ ‬الفاتحون‭ ‬قد‭ ‬وجدوا‭ ‬عند‭ ‬دخولهم‭ ‬إفريقيّة‭ (‬تونس‭) ‬وبلاد‭ ‬المغرب‭ ‬عامّة‭ ‬أنّ‭ ‬االبونيقيّة‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬القوم‭ ‬هناكب‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يذكروا‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مصنّفاتهم‭ ‬العديدة‭ ‬الدقيقة‭ ‬حول‭ ‬بلاد‭ ‬المغربب‭. ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬المصادر‭ ‬العربيّة‭ ‬القديمة‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تُعنى‭ ‬بشتّى‭ ‬تفاصيل‭ ‬بلاد‭ ‬المغرب‭ ‬وشواردها؛‭ ‬يجيز‭ ‬لنا‭ ‬القول‭ ‬بأنّه‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬الشمال‭ ‬الإفريقي‭ ‬واقع‭ ‬لغويّ‭ ‬آخر‭ ‬غير‭ ‬الأمازيغيّة،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬اللاتينيّة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الحضري‭ ‬الروماني‭ ‬والمسيحي‭. ‬ومن‭ ‬اللافت‭ ‬حقًّا‭ ‬أن‭ ‬يشير‭ ‬الباحث‭ ‬إلى‭ ‬القرابة‭ ‬اللغويّة‭ ‬البعيدة‭ ‬االملتبسةب‭ (‬والنعت‭ ‬لنا‭) ‬بين‭ ‬الأمازيغيّة‭ ‬والعربيّة؛‭ ‬حيث‭ ‬الموازنات‭ ‬البنائيّة‭ ‬بين‭ ‬اللغتين‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬من‭ ‬العوامل‭ ‬التي‭ ‬مهّدت‭ ‬السبيل‭ ‬لعمليّة‭ ‬التعريب‭ ‬اومن‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬لسانيّة‭ ‬محضة،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬على‭ ‬الأمازيغي‭ ‬أن‭ ‬ينتقل‭ ‬من‭ ‬لغته‭ ‬إلى‭ ‬العربيّة،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬لغته‭ ‬إلى‭ ‬اللاتينيّةب‭. ‬

ونعرف‭ ‬أيضًا‭ ‬أنّ‭ ‬اللاتينيّة‭ ‬لم‭ ‬تتمكّن‭ ‬من‭ ‬الانتشار‭ ‬إلّا‭ ‬في‭ ‬بقايا‭ ‬هند‭ ‬أوربيّة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنّ‭ ‬العربيّة‭ ‬لم‭ ‬تنتشر‭ ‬إلّا‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬الساميّة‭ ‬أو‭ ‬الساميّة‭ - ‬الحاميّة‭. ‬وهذا‭ ‬ممّا‭ ‬يعزّز‭ ‬من‭ ‬وجاهة‭ ‬الفرضيّة‭ ‬التي‭ ‬ساقها‭ ‬الباحث‭. ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬هناك‭ ‬عوامل‭ ‬أخرى‭ ‬حافظت‭ ‬على‭ ‬االتنوّع‭ ‬اللغويب‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬المغرب،‭ ‬وهي‭ ‬جغرافيّة‭ (‬عزلة‭ ‬المناطق‭ ‬الجبليّة‭) ‬وديمغرافيّة‭ (‬الكثافة‭ ‬السكانيّة‭) ‬واقتصاديّة‭ (‬عوامل‭ ‬نظام‭ ‬الإنتاج‭ ‬وامتلاك‭ ‬الأرض‭).‬

‭• ‬القيروان‭... ‬لوحة‭ ‬الأحد‭ ‬الكبيرة،‭ ‬قصيدة‭ ‬أصلها‭ ‬لوحة‭ ‬تشكيلية‭... ‬كيف‭ ‬حدث‭ ‬ذلك؟‭ ‬

‭- ‬لوحة‭ ‬الأحد‭ ‬الكبيرة‭ ‬هي‭ ‬لوحة‭ ‬شهيرة‭ ‬لجورج‭ ‬سيرا‭ (‬1891‭/ ‬1958‭)‬،‭ ‬واسمها‭ ‬اذات‭ ‬أحد‭ ‬بعد‭ ‬الظهر‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬لاغراند‭ ‬جاتب‭. ‬وكانت‭ ‬حافزًا‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬المركّبة،‭ ‬إذ‭ ‬أذكت‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭ ‬عالم‭ ‬القيروان‭ ‬القديم‭ ‬والجديد؛‭ ‬أي‭ ‬هي‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬بواعث‭ ‬الكتابة‭ ‬لا‭ ‬غير‭. ‬وكلّ‭ ‬ما‭ ‬حاولته‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬أقيم‭ ‬عالمًا‭ ‬شعريًا‭ ‬موازيًا‭ ‬لعالم‭ ‬الرسم‭. ‬وليس‭ ‬بالمستغرب‭ ‬أن‭ ‬نلحق‭ ‬الشعر‭ ‬بالرسم،‭ ‬والصوت‭ ‬بالعين‭. ‬وهما‭ ‬يتحدّران‭ ‬من‭ ‬أرومة‭ ‬واحدة‭ ‬هي‭ ‬الكتابة‭ (‬الخطّ‭)‬؛‭ ‬بل‭ ‬ينضويان‭ ‬على‭ ‬جنس‭ ‬واحد‭ ‬جماعُه‭ ‬الكلمة‭ ‬والعين،‭ ‬خاصّة‭ ‬الإيقاع‭ ‬مسموعًا‭ ‬مرئيًّا،‭ ‬حتى‭ ‬أنّ‭ ‬البعض‭ ‬يشبّه‭ ‬الرسم‭ ‬بالموسيقى‭.‬

 

سؤال‭ ‬الشعر‭ ‬

‭• ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الشعر‭ ‬ليس‭ ‬تهويمات‭ ‬استعارية‭ ‬كما‭ ‬تقول‭... ‬فماذا‭ ‬يكون؟

‭- ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬الثقافات‭ ‬أو‭ ‬جلّها‭ ‬هو‭ ‬فنّ‭ ‬رمزيّ‭ ‬اكنائيب‭ ‬مداره‭ ‬على‭ ‬ملامسة‭ ‬العالم‭ ‬وأشيائه‭ ‬ومفرداته،‭ ‬باللغة‭. ‬وهو‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬التداخل،‭ ‬منشدّ‭ ‬إلى‭ ‬نفسه‭ ‬مثلما‭ ‬هو‭ ‬منشدّ‭ ‬إلى‭ ‬سابقه،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬لاحقه؛‭ ‬إذ‭ ‬هو‭ ‬ينشأ‭ ‬اقرائيّا‭ ‬أي‭ ‬وهو‭ ‬يَقْرأ‭ ‬موادّه‭ ‬وخاماتِه‭ ‬وكلّ‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬فضائه،‭ ‬بحسب‭ ‬ما‭ ‬تمليه‭ ‬عليه‭ ‬طبيعة‭ ‬جنسه،‭ ‬وبحسب‭ ‬ما‭ ‬يستعيره‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬من‭ ‬الأجناس‭ ‬الأخرى،‭ ‬مثل‭ ‬الملحمة‭ ‬والدراما‭ ‬خاصّة‭. ‬ومادام‭ ‬الشعر‭ ‬يتّسع‭ ‬لهذه‭ ‬الظواهر‭ ‬أو‭ ‬الأجناس،‭ ‬سواء‭ ‬تعلّقت‭ ‬بشعريّة‭ ‬الدال‭ ‬أو‭ ‬بشعريّة‭ ‬المدلول،‭ ‬فلا‭ ‬ضير‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬الشاعر‭ ‬بعضها‭ ‬ببعض‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬منبتها‭ ‬الأصلي‭ ‬هو‭ ‬الشعر‭ ‬نفسه‭. ‬أحاول‭ ‬كلّما‭ ‬تعلّق‭ ‬الأمر‭ ‬بالشعر‭ ‬وتلقّيه،‭ ‬أن‭ ‬أميّز‭ ‬بين‭ ‬نظامين‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬يكشفان‭ ‬عن‭ ‬خطّتي‭ ‬تلفّظ‭ ‬مختلفتين‭: ‬كتابة‭ ‬متجرّدة‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬جسمانيّة،‭ ‬سواء‭ ‬أكانت‭ ‬أيقونيّة‭ ‬أم‭ ‬قوليّة‭ ‬كلـّما‭ ‬جرت‭ ‬المسموعات‭ ‬من‭ ‬الأسماع‭ ‬مجرى‭ ‬المرئيّات‭ ‬من‭ ‬البصر‭ ‬بعبارة‭ ‬حازم‭ ‬القرطاجنّي‭. ‬وهذا‭ ‬ليس‭ ‬مخصوصًا‭ ‬بالقديم‭ ‬أو‭ ‬اقصيدة‭ ‬البيتب‭ ‬أواالقصيدة‭ ‬العموديّةب‭ ‬وهي‭ ‬تسمية‭ ‬غير‭ ‬دقيقة،‭ ‬وإنّما‭ ‬يشمل‭ ‬أيضًا‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬المعاصرة‭ ‬التي‭ ‬أستعير‭ ‬لها‭ ‬هذه‭ ‬الكناية‭ ‬اللطيفة‭ ‬اباب‭ ‬بدفّتينب،‭ ‬وقد‭ ‬تلقّفتها‭ ‬من‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬في‭ ‬لقاء‭ ‬بالقاهرة؛‭ ‬وهو‭ ‬يسألني‭ ‬عن‭ ‬شاعر‭ ‬صديق‭ ‬عاد‭ ‬بقوّة‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭ ‬الشطرين‭: ‬صدر‭ ‬وعَجُز‭. ‬وأكثرها‭ ‬تهويمات‭ ‬استعاريّة‭ ‬أو‭ ‬انسج‭ ‬على‭ ‬منوالب‭. ‬وأنا‭ ‬أشاطر‭ ‬هنري‭ ‬ميشونيك‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬اتشعيرب‭ ‬وليس‭ ‬شعرًا‭. ‬

هذا‭ ‬النمط‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬تقديري‭ ‬أقرب‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬إلى‭ ‬االبيكتوغرامب‭ ‬أو‭ ‬االتصويريّةب،‭ ‬حيث‭ ‬يمكن‭ ‬فصل‭ ‬الكلمة‭ ‬عن‭ ‬الصورة،‭ ‬ويتحقّق‭ ‬االاختلاق‭ ‬الإمكانيب‭ ‬أو‭ ‬الخيال‭ ‬التصّوري،‭ ‬ويكون‭ ‬للـ‭ ‬االحقائقب‭ ‬أصل‭ ‬في‭ ‬الأعيان‭ ‬وسند‭ ‬من‭ ‬الواقع‭. ‬فلا‭ ‬غرابة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬قام‭ ‬التصوير‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬قام‭ ‬عليه‭ ‬عمود‭ ‬الشّعـر،‭ ‬أي‭ ‬على‭ ‬ركنين‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬عنهما،‭ ‬هما‭ ‬الإصابة‭ ‬في‭ ‬الوصف‭ ‬والمقاربة‭ ‬في‭ ‬التّشبيه؛‭ ‬إذ‭ ‬يحتفظ‭ ‬االشّيءب‭ ‬في‭ ‬هذين‭ ‬الأسلوبين‭ ‬بوضوحه‭ ‬وتمايزه‭ ‬أو‭ ‬بانتسابه‭ ‬إلى‭ ‬عالَم‭ ‬الأشياء‭. ‬وما‭ ‬انشداده‭ ‬إلى‭ ‬االمرئيّب‭ ‬حيث‭ ‬الكلمة‭ ‬لا‭ ‬تحجب‭ ‬عن‭ ‬الشّيء،‭ ‬بل‭ ‬تجلوه‭ ‬وتفصح‭ ‬عنه،‭ ‬إلّا‭ ‬دلالة‭ ‬على‭ ‬ماديّة‭ ‬الصّورة‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وعلى‭ ‬نظريّة‭ ‬في‭ ‬الإدراك‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬التمثّـل؛‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬ندرك‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬نسمّي‭ ‬الأشياء‭ ‬أو‭ ‬نعرّفها‭. ‬وهذه‭ ‬الأشياء‭ ‬أو‭ ‬شبحها‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬االنـّقد‭ ‬العموديّب‭ ‬المخصوص‭ ‬بالشعر‭ - ‬إن‭ ‬جاز‭ ‬أن‭ ‬نسمّيه‭ ‬هكذا‭ - ‬ينشده‭ ‬في‭ ‬الصّورة‭ ‬ويظفر‭ ‬به‭ ‬أو‭ ‬يتهيّأ‭ ‬له‭ ‬ذلك‭.‬

‭ ‬حتّى‭ ‬إذا‭ ‬أخذت‭ ‬الصّورة‭ ‬تتحوّل‭ ‬من‭ ‬امسموعب‭ ‬إلى‭ ‬امكتوبب،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬العالم‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬له‭ ‬نفس‭ ‬الفضاء؛‭ ‬بدأنا‭ ‬نشهد‭ ‬ولادة‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬تُعالج‭ ‬فيها‭ ‬الإشارة‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬وظيفتها‭ ‬الدّلاليّة‭ ‬التـّواضعيّة‭ ‬أو‭ ‬المرجعيّة‭ ‬أو‭ ‬التـّوصيليّة‭. ‬فهي‭ ‬دليل‭ ‬لغويّ‭ ‬ينبتُّ‭ ‬عن‭ ‬الصّورة،‭ ‬بالمعنى‭ ‬الذي‭ ‬استتبّ‭ ‬لها‭ ‬عند‭ ‬المتقبّلين‭ ‬عامّة،‭ ‬ويخون‭ ‬رابطة‭ ‬العقد‭ ‬بين‭ ‬المنشئ‭ - ‬الكاتب‭ ‬والسّامع‭/ ‬القارئ‭. ‬على‭ ‬أنّه‭ ‬دليل‭ ‬فاعل‭ ‬في‭ ‬نسيج‭ ‬النصّ‭ ‬المكتوب،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يجعله‭ ‬أشبه‭ ‬بـ‭ ‬االباب‭ ‬الدوّارب‭ ‬أو‭ ‬بـ‭ ‬االإيديوغرامب‭ (‬رسم‭ ‬الفكرة‭)‬،‭ ‬فالرّمز‭ ‬فيه‭ ‬متحرّك‭ ‬غير‭ ‬ثابت؛‭ ‬بحيث‭ ‬يصعب‭ ‬أن‭ ‬نحدّه‭ ‬استئناسًا‭ ‬بمدلوله،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشّأن‭ ‬في‭ ‬الكلمة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬تمثّل‭ ‬قبل‭ ‬كلّ‭ ‬شيء،‭ ‬وإنّما‭ ‬في‭ ‬ظهوره‭ ‬المباشر‭ ‬الذي‭ ‬يَنشدُ‭ ‬إحداث‭ ‬أثر‭ ‬ما،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نسمّيه‭ ‬اأثر‭ ‬الرّمزب،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشّأن‭ ‬في‭ ‬االأيقونةب‭ ‬التي‭ ‬تتميّز‭ ‬بطابعها‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬منها‭ ‬دالًّا،‭ ‬حتّى‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬موضوعه‭ ‬غير‭ ‬موجود؛‭ ‬أي‭ ‬بالقدرة‭ ‬على‭ ‬استدعاء‭ ‬حقيقة‭ ‬غير‭ ‬متوقّعة‭.‬

‭ ‬إنّ‭ ‬الكتابة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هي‭ ‬تسجيل‭ ‬للكلام‭ ‬أو‭ ‬تقييد،‭ ‬اتصلّبب‭ ‬الكلمة،‭ ‬شأنها‭ ‬شأن‭ ‬كلّ‭ ‬كلمة‭ ‬خطـّية،‭ ‬وتخصّها‭ ‬بوضع‭ ‬مستقـلّ،‭ ‬وتقـيّد‭ ‬الزّمن‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الدّال‭ ‬اشعرب‭ ‬الذي‭ ‬يندّ‭ ‬عن‭ ‬الحدّ‭ ‬ويستعصي‭ ‬عليه‭. ‬ويتوضّح‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬غير‭ ‬قليلة،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هي‭ ‬عدول‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ومن‭ ‬حيث‭ ‬هي‭ ‬تعاقد،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬

‭ ‬أمّا‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬عدول‭ ‬فغير‭ ‬نظاميّ‭ ‬ولا‭ ‬نسقيّ،‭ ‬أو‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬معياريّ‭ ‬أي‭ ‬لا‭ ‬يُقاس‭ ‬عليه‭. ‬وهو‭ ‬مباغت‭ ‬يحدّ‭ ‬من‭ ‬التوقّع‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يخيّبه‭. ‬وأمّا‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬تعاقد،‭ ‬فنظاميّ‭ ‬نسقيّ‭ ‬غير‭ ‬مباغت،‭ ‬وحصوله‭ ‬منتظر‭. ‬ومردّ‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬أسباب‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬أهمّها‭ ‬تدارك‭ ‬عوز‭ ‬اللّغة،‭ ‬وغايات‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬هدم‭ ‬نظام‭ ‬الخطاب‭ ‬الشّعريّ‭ ‬القائم‭ ‬قادحها‭. ‬ونعني‭ ‬به‭ ‬النّظام‭ ‬العموديّ‭ ‬المنشدّ‭ ‬إلى‭ ‬رواسم‭ ‬متعاودة‭ ‬ونماذج‭ ‬جاهزة؛‭ ‬فلا‭ ‬غرابة‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الخطاب‭ ‬محكومًا،‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬لافت‭ ‬منه،‭ ‬بالوظيفة‭ ‬التّنبيهيّة‭ ‬التي‭ ‬تستجلب‭ ‬مزايا‭ ‬الشّفهيّ‭ ‬في‭ ‬أشكالها‭ ‬الأشدّ‭ ‬تراخيًا‭ ‬في‭ ‬القدم،‭ ‬والأكثر‭ ‬اطّرادًا‭ ‬في‭ ‬الاستعمال‭. ‬ولعلّها‭ ‬محاولة‭ ‬من‭ ‬الذّات‭ ‬للظـّفر‭ ‬بـــ‭ ‬اهويّـتهاب‭ ‬وبيان‭ ‬موقعها‭. ‬

وهذه‭ ‬الوظيفة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تثبّت‭ ‬الاتّصال‭. ‬وأكثر‭ ‬الوظائف‭ ‬الأخرى‭ - ‬على‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ - ‬تنهض‭ ‬لها‭ ‬وتعزّزها‭. ‬وقد‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬الظنّ‭ ‬أنّ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬ملتقى‭ ‬البابين‭: ‬باب‭ ‬الدفّتين‭ ‬والباب‭ ‬الدوّار‭ ‬أو‭ ‬اقصيدة‭ ‬النثرب،‭ ‬وطبعًا‭ ‬هناك‭ ‬استثناءات‭ ‬وهي‭ ‬قليلة‭ ‬جدًّا؛‭ ‬وأنا‭ ‬نفسي‭ ‬جرّبتها‭ ‬في‭ ‬كتابي‭ ‬اميتافيزيقا‭ ‬وردة‭ ‬الرملب‭ (‬حاصل‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬أبي‭ ‬القاسم‭ ‬الشابي‭). ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬جماليّة‭ ‬االدوّارب‭ ‬الرّاجعة‭ ‬إلى‭ ‬الشّكل‭ ‬المستحدث‭ ‬أي‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬للعرب‭ ‬به‭ ‬سابق‭ ‬عهد،‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تجلب‭ ‬الانتباه‭ ‬وتشدّه‭. ‬وهي‭ ‬من‭ ‬ثمّة‭ ‬تعالق‭ ‬وظيفة‭ ‬أخرى‭ ‬حافـّة‭ ‬تشبُّع‭ ‬اذاتيّةب‭ ‬الشاعر‭ ‬أو‭ ‬اأناهب،‭ ‬فيستغرقه‭ ‬التجريب‭ ‬الاستعاري،‭ ‬وينسى‭ ‬أنّ‭ ‬الشعر‭ ‬تلفّظ‭ ‬حيّ،‭ ‬وأنّ‭ ‬له‭ ‬مرجعيّته‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يستجب‭ ‬للتـّوقّعات،‭ ‬أو‭ ‬كان‭ ‬بابًا‭ ‬دوّارًا،‭ ‬لا‭ ‬ننفذ‭ ‬منه‭ ‬ولا‭ ‬نجوز‭ ‬إلى‭ ‬داخل؛‭ ‬إلّا‭ ‬بعنتٍ‭ ‬وصعوبة‭.‬

 

تجاوز‭ ‬الشابي

‭• ‬ألم‭ ‬تخشَ‭ ‬العواقب‭ ‬عندما‭ ‬صرّحت‭ ‬بأن‭ ‬شعراء‭ ‬تونس‭ ‬تجاوزوا‭ ‬الشابي؟‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬حيثيات‭ ‬هذا‭ ‬التجاوز؟

‭- ‬عام‭ ‬1996‭ ‬عندما‭ ‬شاركت‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬القاهرة‭ ‬الشعري،‭ ‬وقد‭ ‬اختيرت‭ ‬اعاصمةب‭ ‬للثقافة‭ ‬العربيّة،‭ ‬وقرأت‭ ‬في‭ ‬الأمسية‭ ‬الأولى‭ ‬مع‭ ‬شعراء‭ ‬مشهورين‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬أحمد‭ ‬عبدالمعطي‭ ‬حجازي‭ ‬ومحمود‭ ‬درويش‭ ‬وسعدي‭ ‬يوسف‭ ‬وسامي‭ ‬مهدي‭ ‬وعبداللطيف‭ ‬اللعبي‭... ‬وكان‭ ‬لقصيدتي‭ ‬صدى،‭ ‬فقد‭ ‬كتب‭ ‬عنّي‭ ‬الراحل‭ ‬الكبير‭ ‬فاروق‭ ‬شوشة‭ ‬مقالًا‭ ‬في‭ ‬الأهرام‭ ‬االوهايبي‭... ‬شاعريّة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الشابيب،‭ ‬ونبّه‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬هناك‭ ‬شعرًا‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭ ‬يُعتدّ‭ ‬به‭. ‬وحتى‭ ‬أكون‭ ‬امنصفًاب‭ ‬لا‭ ‬يفوتني‭ ‬أن‭ ‬أشير‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬للشابي‭ ‬أثرًا‭ ‬بعيدًا‭ ‬في‭ ‬الشعريّة‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭ ‬االرومنطيقيّةب‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إنكاره‭. ‬وفي‭ ‬سياق‭ ‬هذه‭ ‬الشعريّة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقرأه‭ ‬حقًا،‭ ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬للشابي‭ ‬صلة‭ ‬تُذكر‭ ‬بالشعر‭ ‬التونسي‭ ‬في‭ ‬الثلث‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وإنّما‭ ‬علاقات‭ ‬بأفراد‭ ‬يقاسمونه‭ ‬رؤيته‭ ‬بنسبة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭. ‬وأقربهم‭ ‬إليه‭ ‬وهو‭ ‬محمد‭ ‬الحليوي‭ (‬وهو،‭ ‬يرحمه‭ ‬الله،‭ ‬من‭ ‬أساتذتي‭ ‬الذين‭ ‬أدين‭ ‬لهم‭ ‬بالكثير‭ ‬في‭ ‬الثانوي؛‭ ‬فهو‭ ‬الذي‭ ‬أطلعنا‭ ‬على‭ ‬شعراء‭ ‬المهجر‭ ‬خاصة‭... ‬بل‭ ‬على‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ ‬والسيّاب‭ ‬أيضًا‭ ‬وآخرين‭)‬،‭ ‬كان‭ ‬مثقفًا‭ ‬وناقدًا‭ ‬جرّب‭ ‬الشعر،‭ ‬ولكنّه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬انقطع‭ ‬عنه،‭ ‬ولعلّه‭ ‬أدرك‭ ‬أنّه‭ ‬فنّ‭ ‬صعب‭ ‬ليس‭ ‬بميسور‭ ‬واحد‭ ‬مثله‭ ‬أنه‭ ‬يطاول‭ ‬فيه‭ ‬الشابي‭ ‬أو‭ ‬يجاذبه‭ ‬مكانته‭ ‬الشعرية‭.‬

كان‭ ‬الشابي‭ ‬إذن‭ ‬شاعرًا‭ ‬عربيًا‭ ‬بالمعنى‭ ‬الثقافي‭ ‬العميق‭ ‬للكلمة،‭ ‬وليس‭ ‬بالمعنى‭ ‬السياسي‭ ‬أو‭ ‬القومي‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعنيه‭ ‬في‭ ‬شيء‭. ‬وخير‭ ‬دليل‭ ‬لذلك‭ ‬أعماله‭ ‬الشعرية‭ ‬والنثرية‭. ‬فكتابه‭ ‬اأغاني‭ ‬الحياةب،‭ ‬وأنا‭ ‬أصرّ‭ ‬على‭ ‬كلمة‭ ‬اكتابب‭ ‬بدل‭ ‬اديوانب،‭ ‬عمل‭ ‬شعريّ‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬حميمة‭ ‬بين‭ ‬الرؤية‭ ‬والتصوّر،‭ ‬وليس‭ ‬مجرّد‭ ‬قصائد‭ ‬متناثرة‭ ‬لا‭ ‬رابط‭ ‬بينها،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬مجاميع‭ ‬الشعر‭ ‬عندنا‭. ‬

وأقدّر‭ ‬أنّ‭ ‬الشابي‭ ‬أدرك‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الوضوح‭. ‬ولذلك‭ ‬ربط‭ ‬تجربته‭ ‬بالتجارب‭ ‬الشعرية‭ ‬الرائدة‭ ‬في‭ ‬عصره‭: ‬تجربة‭ ‬شعراء‭ ‬المهجر‭ ‬وجبران‭ ‬تحديدًا،‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬ظل‭ ‬معاصروه‭ ‬من‭ ‬التونسيين‭ ‬يكتبون‭ ‬بلغة‭ ‬انيّئةب‭ ‬لم‭ ‬تمسسها‭ ‬نار‭ ‬العصر‭. ‬ولعل‭ ‬كتابه‭ ‬االخيال‭ ‬الشعري‭ ‬عند‭ ‬العربب‭ ‬يضمر‭ ‬ردًّا‭ ‬على‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬تعقّلوا‭ ‬الشعر‭ ‬تعقّل‭ ‬العقول‭ ‬المنتظمة‭ ‬بحسب‭ ‬المتعارف‭ ‬أو‭ ‬المأثور‭ ‬في‭ ‬نظريّة‭ ‬العمود‭ ‬الشعري‭.‬

ربّما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الشابي‭ ‬جريئًا،‭ ‬فلم‭ ‬يذكرهم‭ ‬بالأسماء،‭ ‬ولكن‭ ‬يكاد‭ ‬لا‭ ‬يساورني‭ ‬شكّ‭ ‬في‭ ‬أنّه‭ ‬كان‭ ‬يعنيهم‭. ‬وممّا‭ ‬يؤكّد‭ ‬ذلك‭ ‬مقدّمته‭ ‬لديوان‭ ‬المصري‭ ‬أحمد‭ ‬زكي‭ ‬أبو‭ ‬شادي‭ ‬االينبوعب،‭ ‬بطلب‭ ‬منه؛‭ ‬ونصّ‭ ‬آخر‭ ‬للشابي‭ ‬قلّما‭ ‬تنبّه‭ ‬إليه‭ ‬الدارسون‭ ‬وهو‭ ‬محاضرته‭ ‬عن‭ ‬اشعراء‭ ‬المغرب‭ ‬الأقصىب‭. ‬وهذه‭ ‬المحاضرة‭ ‬تعزّز‭ ‬رأيًا‭ ‬لي‭ ‬ذكرته‭ ‬منذ‭ ‬سنوات،‭ ‬وهو‭ ‬يتعلّق‭ ‬باطّلاع‭ ‬الشابي‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يُنشر‭ ‬بالجزائر‭ ‬خاصّة‭. ‬والصلة‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الجزائري‭ ‬رمضان‭ ‬حمّود‭ (‬1906‭ - ‬1923‭) ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬ابذور‭ ‬الحياةب‭ ‬لا‭ ‬تخفى‭ ‬عن‭ ‬القارئ‭ ‬البصير‭.‬

أعدّ‭ ‬الشابي‭ ‬محاضرته‭ ‬هذه،‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬قراءته‭ ‬لكتاب‭ ‬محمد‭ ‬بلعبّاس‭ ‬القبّاج‭ ‬االأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬الأقصىب‭ ‬الصادر‭ ‬عام‭ ‬1929،‭ ‬وأشاحَ‭ ‬عن‭ ‬تقديم‭ ‬الجزء‭ ‬الأوّل‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬المخصوص‭ ‬بـ‭ ‬اطائفة‭ ‬من‭ ‬شيوخ‭ ‬المغرب‭ ‬الأقصىب،‭ ‬وكأنّه‭ ‬كان‭ ‬يشيح‭ ‬عن‭ ‬شيوخ‭ ‬الشعر‭ ‬التونسيّين‭ ‬في‭ ‬عصره،‭ ‬لأنّه‭ ‬كان‭ ‬ينشد‭ ‬االعظمة‭ ‬الشعرية‭ ‬المنتجة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬ترضى‭ ‬بغير‭ ‬العالم‭ ‬مقعدًا،‭ ‬وبغير‭ ‬الإنسانيّة‭ ‬أتباعًاب‭ ‬بعبارته‭. ‬وكتب‭ ‬اسأتحدّث‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الجزء‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬الكتاب،‭ ‬هذا‭ ‬الجزء‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يفيض‭ ‬إلا‭ ‬بنزعات‭ ‬الشبيبة‭ ‬وأحلامها،‭ ‬هذا‭ ‬الجزء‭ ‬الذي‭ ‬يمثّل‭ ‬لنا‭ ‬الحياة‭ ‬المغربية‭ ‬الحاضرة‭ ‬بما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬مطامح‭ ‬وآمال‭ ‬ورغبات‭ ‬ونوازع،‭ ‬هذا‭ ‬الجزء‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يضمّ‭ ‬إلّا‭ ‬أشعار‭ ‬الشباب‭ ‬المغربي‭ ‬الطموح‭: ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أتكلّم‭ ‬عنه‭ ‬الليلة‭ ‬بما‭ ‬أستطيع،‭ ‬لأنّ‭ ‬أغاني‭ ‬الشباب‭ ‬وأحلامه‭ ‬هي‭ ‬عنوان‭ ‬حياة‭ ‬الشعوبب‭. ‬

حقًا‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬الشابي‭ ‬أسئلته‭ ‬الحارقة‭. ‬ومنها‭ ‬أتعلّم‭ ‬شخصيًا،‭ ‬ولي‭ ‬كتاب‭ ‬سيصدر‭ ‬عنه‭ ‬قريبًا‭ ‬وسمته‭ ‬بـ‭ ‬احياة‭ ‬الأغانيب‭ ‬وجمعت‭ ‬فيه‭ ‬قصائد‭ ‬الشابي‭ ‬النثريّ؛‭ ‬كيف‭ ‬تنعقد‭ ‬الآصرة‭ ‬بين‭ ‬االلهبب‭ ‬أو‭ ‬النظام‭ ‬الصّادر‭ ‬عن‭ ‬فوضى‭ ‬الأشياء‭ ‬واالبلّورب‭ ‬أو‭ ‬النظام‭ ‬المنظم‭ ‬ذاتيًّا‭. ‬فربّما‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الميزان‭ ‬الذي‭ ‬حفظ‭ ‬لشعر‭ ‬الشابي‭ ‬شعريّته‭! ‬ربّما‭.‬

 

دلالة‭ ‬المحبة

‭• ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬تحضر‭ ‬المرأة‭ ‬غزلًا‭ ‬في‭ ‬قصيدتك؟‭ ‬

‭- ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬الحبّ‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬قَدْرٍ‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬اللَّبْسِ،‭ ‬هو‭ ‬عينه‭ ‬القدر‭ ‬الذي‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬القراءة‭ ‬في‭ ‬الحبّ؛‭ ‬وهو‭ ‬لبس‭ ‬مأتاه‭ ‬التّعميم‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يشوب‭ ‬مفردة‭ ‬الحبّ،‭ ‬حيث‭ ‬تُحمل‭ ‬في‭ ‬معنى‭ ‬عامّ‭ ‬على‭ ‬دلالة‭ ‬مطلق‭ ‬الرّغبة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشّيء‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬دلالة‭ ‬المحبّة‭ ‬بما‭ ‬هي‭ ‬توادد‭ ‬بين‭ ‬البشر‭.‬

والحبّ‭ ‬عاطفة‭ ‬يتداخل‭ ‬فيها‭ ‬النّفسيّ‭ ‬والجسديّ‭ ‬في‭ ‬منحى‭ ‬يخفّف‭ ‬من‭ ‬المغالاة‭ ‬في‭ ‬روحنة‭ ‬الحبّ،‭ ‬وهو‭ ‬يتجلّى‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬أسمّيه‭ ‬االحبّ‭ ‬الحضريب‭ ‬وفي‭ ‬التّعفّف‭ ‬عن‭ ‬شهوانيّة‭ ‬الجسد،‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬أسمّيه‭ ‬االحبّ‭ ‬البدويّب،‭ ‬حيث‭ ‬التغنّي‭ ‬بالجسد‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬نصوص‭ ‬الشّعر‭ ‬العذريّ‭ ‬وتكثيف‭ ‬الاستعارة‭ ‬بشأن‭ ‬بعض‭ ‬أعضائه،‭ ‬مناسبة‭ ‬لكشف‭ ‬شوق‭ ‬يغلب‭ ‬على‭ ‬النّفس،‭ ‬أكثر‭ ‬ممّا‭ ‬يغلب‭ ‬على‭ ‬ميول‭ ‬الجسد،‭ ‬فكأنّما‭ ‬نحن‭ ‬بصدد‭ ‬أيروتيكا‭ ‬روحيّة،‭ ‬تصاحبها‭ ‬عطالة‭ ‬جنسيّة‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬أيروتيكا‭ ‬جسديّة‭. ‬ولكنّه‭ ‬يحاول‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬يحدّ‭ ‬من‭ ‬شطط‭ ‬الغلمة‭ ‬في‭ ‬عماها‭ ‬الغريزيّ،‭ ‬دونما‭ ‬توجيه‭ ‬أتيقيّ‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬الاحتفاء‭ ‬الشّبقيّ‭ ‬بالجسد،‭ ‬ومقايسة‭ ‬جماليّته‭ ‬بمقياس‭ ‬طواعيّته‭ ‬للممارسة‭ ‬الحسيّة‭ ‬دون‭ ‬سواه،‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬ممّا‭ ‬يجدر‭ ‬أن‭ ‬تتعلّق‭ ‬به‭ ‬همّة‭ ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬البلاغة،‭ ‬سعيًا‭ ‬إلى‭ ‬ترسُّم‭ ‬ملامح‭ ‬االتّحويل‭ ‬البلاغيب‭ ‬التي‭ ‬تسم‭ ‬كلّ‭ ‬ضرب‭ ‬مستجدّ‭ ‬من‭ ‬ضروب‭ ‬الأدب‭ ‬أو‭ ‬الفنّ،‭ ‬حيث‭ ‬القوانين‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬فعل‭ ‬الإبداع‭ ‬لا‭ ‬تعدو‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬غير‭ ‬قوانين‭ ‬االمعاودة‭ ‬والاختلافب،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تمثّلنا‭ ‬بمفاهيم‭ ‬جيل‭ ‬دولوز‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الحيّز‭ ‬يمثل‭ ‬الحبّ‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬لي،‭ ‬موصولًا‭ ‬بالمكان‭ ‬واليومي‭ ‬والمعيش،‭ ‬وايتضايفب‭ ‬فيه‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬ذكرته‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬النفس‭ ‬في‭ ‬علاقتنا‭ ‬بالمرأة‭.‬

‭• ‬‮«‬مخطوط‭ ‬تمبكتو‮»‬‭... ‬لماذا‭ ‬تمبكتو؟‭ ‬وماذا‭ ‬دوّنت‭ ‬في‭ ‬مخطوطها؟

‭- ‬تخيّرت‭ ‬تمبكتو،‭ ‬لأسباب‭ ‬تاريخيّة‭ ‬شتّى،‭ ‬واتخذتها‭ ‬امعادلًا‭ ‬موضوعيًاب‭ ‬للقيروان‭. ‬هي‭ ‬لا‭ ‬تمثّل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الديوان،‭ ‬وإنّما‭ ‬طيفها‭ ‬ممتزجًا‭ ‬بالقيروان،‭ ‬أي‭ ‬الفضاء‭ ‬الإفريقي‭ ‬وهو‭ ‬فضاؤنا‭ ‬أيضًا‭. ‬وهي‭ ‬مثل‭ ‬القيروان‭ ‬بوّابة‭ ‬إفريقيّة‭ ‬قديمة،‭ ‬وملتقى‭ ‬القوافل‭ ‬البريّة‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬الصحراء،‭ ‬وعالَم‭ ‬التجارة‭ ‬وخاصّة‭ ‬تجارة‭ ‬الملح‭. ‬والحقّ‭ ‬هي‭ ‬فسحت‭ ‬لي‭ ‬مجال‭ ‬القول‭ ‬الشعري‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬غير‭ ‬معهود‭ ‬عندي،‭ ‬وربّما‭ ‬عند‭ ‬غيري‭.‬

 

سؤال‭ ‬النقد

‭• ‬‮«‬أبناء‭ ‬قوس‭ ‬قزح‮»‬‭... ‬كتابك‭ ‬الذي‭ ‬فرّقت‭ ‬فيه‭ ‬بين‭ ‬شعر‭ ‬القصائد‭ ‬وشعر‭ ‬التجارب،‭ ‬وأنت‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭ ‬التونسي‭ ‬المعاصر‭... ‬حدّد‭ ‬لنا‭ ‬علَامَ‭ ‬ارتكزت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التفريق‭.‬

‭- ‬اأبناء‭ ‬قوس‭ ‬قزحب‭ ‬هو‭ ‬كتاب‭ ‬لي‭ ‬صدر‭ ‬باليمن‭ ‬عام‭ ‬2014،‭ ‬وكان‭ ‬بطلب‭ ‬من‭ ‬الأستاذ‭ ‬الشاعر‭ ‬الكبير‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬المقالح،‭ ‬ليكون‭ ‬إحدى‭ ‬مفردات‭ ‬الاحتفال‭ ‬بصنعاء‭ ‬اعاصمة‭ ‬للثقافة‭ ‬العربيّةب‭. ‬وهو‭ ‬متخيّر‭ ‬يضمّ‭ ‬حوالي‭ ‬ثلاثين‭ ‬شاعرًا‭ ‬تونسيًا‭. ‬وقد‭ ‬سوّغت‭ ‬اختياري‭ ‬بجملة‭ ‬دواع‭ ‬مثل‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬شاعر‭ ‬التجربة‭ ‬وشاعر‭ ‬القصيدة،‭ ‬استئناسًا‭ ‬بنصوص‭ ‬هؤلاء‭. ‬وهي‭ ‬ككل‭ ‬شعر‭ ‬تتفاوت‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الشعريّة‭ ‬أو‭ ‬القيمة‭. ‬وهي‭ ‬سواء‭ ‬انضوت‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭ ‬التفعيلة‭ ‬أو‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬على‭ ‬قلق‭ ‬التسميتين،‭ ‬تتفاوت،‭ ‬فمدار‭ ‬بعضها‭ ‬على‭ ‬توصيل‭ ‬موضوع‭ ‬وجداني‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬مأنوسة؛‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يتخلّى‭ ‬بعضها‭ ‬عن‭ ‬الموضوع‭ ‬ويُحلّ‭ ‬محلّه‭ ‬بناءً‭ ‬لغويًا‭ ‬خاصًا،‭ ‬أو‭ ‬هو‭ ‬يقوّض‭ ‬االمعنى‭ ‬المنطقيب‭ ‬الذي‭ ‬ينهض‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬الفهم،‭ ‬ويستخدم‭ ‬لغة‭ ‬المعيش‭ ‬واليومي،‭ ‬ويستولد‭ ‬صورًا‭ ‬تذكّر‭ ‬بالسرياليّين‭.‬

صحيح‭ ‬أنّ‭ ‬االتّهجينب‭ ‬ضرورة‭ ‬حداثيّة‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬الشعريّة،‭ ‬وصحيح‭ ‬أنّ‭ ‬التّراشح‭ ‬بين‭ ‬الخطابات‭ ‬والأجناس‭ ‬يوفّر‭ ‬دفقًا‭ ‬تجديديًا‭ ‬لها؛‭ ‬إلّا‭ ‬أنّ‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يعني،‭ ‬بالمقابل،‭ ‬انتفاء‭ ‬تخوم‭ ‬الأجناس‭ ‬أو‭ ‬الاتجاهات،‭ ‬وإنّما‭ ‬يعني‭ ‬ارسمهاب‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬رخْوٍ‭ ‬مرِنٍ‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬أمارة‭ ‬قوّتها‭ ‬لا‭ ‬ضعفها‭. ‬والكتابة‭ ‬ورشة‭ ‬كبرى‭ ‬مُشرعة‭ ‬على‭ ‬موارد‭ ‬شتَّى،‭ ‬وتجسيد‭ ‬لأجناس‭ ‬وأنواع‭ ‬مختلفة‭ ‬وتشبيك‭ ‬بين‭ ‬نصوص‭ ‬متباينة‭ ‬الأزمنة‭ ‬والأنساب‭ ‬تتعالق‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها‭ ‬على‭ ‬نحْو‭ ‬ملتبس؛‭ ‬فهي‭ ‬متماهية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هي،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬متجاورة؛‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هي،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬أيضًا،‭ ‬متحَاورة‭. ‬ومن‭ ‬حيث‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬تتفاصلُ‭ ‬ليتجاوز‭ ‬بعضها‭ ‬بعضًا‭. ‬إذن‭ ‬أقول‭ ‬إنّ‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعيّة‭ ‬مرجل‭ ‬يغلي‭ ‬لا‭ ‬غطاء‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬يتلاشى‭ ‬بُخاره‭. ‬ولكنّي‭ ‬أقف‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬شعراء‭ ‬التجارب‭ ‬أو‭ ‬أصحاب‭ ‬المشروع‭ ‬الشعري‭. ‬

‭• ‬أبو‭ ‬تمام‭ ‬موضوعك‭ ‬الذي‭ ‬اشتغلت‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬دكتوراه‭ ‬الدولة،‭ ‬وأدونيس‭ ‬في‭ ‬دكتوراه‭ ‬الحلقة،‭ ‬هل‭ ‬فرّط‭ ‬أدونيس‭ - ‬كما‭ ‬يُقال‭ - ‬في‭ ‬إرث‭ ‬أبو‭ ‬تمام؟

‭- ‬إنّ‭ ‬تأسيس‭ ‬علميّة‭ ‬ابويطولوجياب‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬أدونيس‭ ‬دون‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬العربيّة‭ ‬المعاصرين،‭ ‬أمر‭ ‬ممكن‭ ‬جدًّا؛‭ ‬بل‭ ‬ضرورة‭ ‬علميّة‭ ‬تقتضيها‭ ‬أيّ‭ ‬محاولة‭ ‬لإعادة‭ ‬ترتيب‭ ‬علاقتنا‭ ‬بالشعر‭ ‬العربي،‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬برح‭ ‬مألوف‭ ‬مداراته‭ ‬في‭ ‬الثلث‭ ‬الأوّل‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬والحقّ‭ ‬أنّنا‭ ‬لا‭ ‬نأتي‭ ‬بدعة‭ ‬بتأسيس‭ ‬عِلم‭ ‬بشعريّة‭ ‬أدونيس،‭ ‬فقد‭ ‬استحدث‭ ‬العرب‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬للهجرة‭ (‬التاسع‭ ‬الميلادي‭) ‬هذا‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬كلامهم‭ ‬على‭ ‬أبي‭ ‬تمّام‭ ‬امذهب‭ ‬الطائيب‭ ‬وما‭ ‬سمّيته‭ ‬االطّائيّةب‭ ‬في‭ ‬رسالتي‭ ‬دكتوراه‭ ‬الدولة؛‭ ‬وقد‭ ‬شدّهم‭ ‬ما‭ ‬ينطوي‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬غريب‭ ‬يحسر‭ ‬الفكر‭ ‬ويكدّ‭ ‬الذّهن،‭ ‬فحاولوا‭ ‬أنصارًا‭ ‬وخصومًا‭ ‬أن‭ ‬يوطّئوا‭ ‬السّبيل‭ ‬إليه،‭ ‬وأن‭ ‬يفسحوا‭ ‬مساربه‭ ‬ومضايقه‭. ‬ولسنا‭ ‬نعرف،‭ ‬في‭ ‬شعرنا‭ ‬القديم،‭ ‬أشدّ‭ ‬منها‭ ‬عنتًا‭ ‬وضيقًا‭ ‬حيث‭ ‬يقع‭ ‬شعره‭ ‬في‭ ‬خسوف‭ ‬ذاك‭ ‬االقديمب‭ ‬الغابر‭. ‬

‭ ‬اكان‭ ‬الشعر‭ ‬قبلَه‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬التّعوّد‭ ‬والألفة،‭ ‬فصار‭ ‬بعدَه‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬التغرّب‭ ‬والمفاجأة‭...‬ب‭ ‬بعبارة‭ ‬أدونيس،‭ ‬وكأنّه‭ ‬يتحدّث‭ ‬عن‭ ‬تجربته‭ ‬هو‭ ‬أيضًا‭.‬

‭ ‬واستحدث‭ ‬هذا‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يخصّ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬شاعر‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الغرب‭. ‬ويكفي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬أن‭ ‬نستحضر‭ ‬هولدرلين،‭ ‬وكيف‭ ‬خصّه‭ ‬النّقد‭ ‬الألمانيّ‭ ‬بنظريّة‭ ‬علميّة‭ ‬في‭ ‬الشّعر‭.‬

 

سؤال‭ ‬الحداثة

‭• ‬وصفت‭ ‬الحداثة‭ ‬الغربية‭ ‬بوحيد‭ ‬القرن‭... ‬وأنت‭ ‬ترصد‭ ‬لهجومها‭ ‬علي‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬منذ‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭... ‬ماذا‭ ‬فعل‭ ‬وحيد‭ ‬القرن‭ ‬بمسار‭ ‬النقد‭ ‬العربي؟

‭- ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬القصيدة‭ ‬إلى‭ ‬االعملب‭ ‬الشعري،‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يقرّره‭ ‬المعاصرون؛‭ ‬وفي‭ ‬كلامهم‭ ‬مقدار‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الصواب،‭ ‬أحد‭ ‬أظهر‭ ‬إبدالات‭ ‬الحداثة‭ ‬وملامحها‭. ‬وليست‭ ‬الحداثة‭ ‬مفهومًا‭ ‬كما‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬ظن‭ ‬كثير‭ ‬أو‭ ‬قليل‭ ‬منّا،‭ ‬بل‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬قوانين‭ ‬ولا‭ ‬نظريّة‭ ‬إذ‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬كذلك‭ ‬لأصبح‭ ‬بإمكان‭ ‬أيّ‭ ‬منّا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬حديثًا،‭ ‬بمجرد‭ ‬الاحتكام‭ ‬إلى‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬القواعد‭ ‬والأحكام‭ ‬أو‭ ‬القوانين‭.‬

وتاريخ‭ ‬الفن‭ ‬يعلّمنا‭ ‬أنّ‭ ‬الاحتكام‭ ‬إلى‭ ‬نظرية‭ ‬لا‭ ‬ينجم‭ ‬عنه‭ ‬سوى‭ ‬االغرق‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬الميكانيكيب‭. ‬إنّما‭ ‬الحداثة‭ ‬سمات‭ ‬وملامح‭ ‬ومنطق‭. ‬وأقدّر‭ ‬أنّ‭ ‬مسألة‭ ‬الذاتيّة‭ ‬تظلّ‭ ‬شرط‭ ‬إمكان‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬كونيّة‭ ‬الشعر‭ ‬أي‭ ‬حداثته،‭ ‬باعتبارها‭ ‬مشاركة‭ ‬تقتضي‭ ‬إسهامًا‭ ‬معرفيًا،‭ ‬وقد‭ ‬أشرنا‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬الذات‭ ‬حدّ‭ ‬معرفيّ‭. ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬المعرفة‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬الذي‭ ‬نحن‭ ‬به‭ ‬مذوّبة‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬شعريّ،‭ ‬أو‭ ‬هي‭ ‬متمثّلة‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬جماليّ،‭ ‬حتّى‭ ‬لا‭ ‬ينحرف‭ ‬الفهم‭ ‬إلى‭ ‬اعتبار‭ ‬الخطاب‭ ‬الشعري‭ ‬في‭ ‬اإرادة‭ ‬الحياةب،‭ ‬مجرّد‭ ‬قناع‭ ‬لمضمون‭ ‬معرفيّ‭ ‬أو‭ ‬فلسفي،‭ ‬أو‭ ‬فلنكنّ‭ ‬عن‭ ‬حضور‭ ‬المعرفة‭ ‬شعريًا‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬أبي‭ ‬القاسم،‭ ‬بالنّسغ‭ ‬الطريّ‭ ‬الذي‭ ‬يملأ‭ ‬شرايينها‭.‬

إنّنا‭ ‬نستعمل‭ ‬مقولة‭ ‬االكونيّةب‭ ‬ضدّ‭ ‬مقولة‭ ‬االعولمةب‭. ‬فالأولى‭ ‬في‭ ‬تقديرنا‭ ‬أفقٌ‭ ‬محمودٌ‭ ‬يجدر‭ ‬بالشاعر‭ ‬أن‭ ‬ينخرط‭ ‬فيه،‭ ‬والكونيّة‭ ‬قيمة‭ ‬إنسانيّة‭ ‬تتناسب‭ ‬وثراء‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني‭ ‬أو‭ ‬غناه؛‭ ‬لأنّها‭ ‬لا‭ ‬تلغي‭ ‬الاختلاف‭ ‬والتعدّد،‭ ‬بل‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬إدماجهما‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬من‭ ‬التناغم،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬العولمة،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬يصرّفها‭ ‬أهل‭ ‬السياسة‭ ‬وتقنيو‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي،‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬المجانسة‭ ‬والتنميط‭ ‬ومحو‭ ‬تاريخ‭ ‬طويل‭ ‬صرفت‭ ‬فيه‭ ‬الشعوب‭ ‬حياتها‭ ‬وأفنت‭ ‬مصائرها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إغناء‭ ‬تنوّعها‭ ‬وتطوير‭ ‬اختلافها،‭ ‬وخلافها‭ ‬أيضًا‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ينبغي‭ ‬التصدّي‭ ‬له،‭ ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬ضمن‭ ‬فضاء‭ ‬العولمة،‭ ‬بل‭ ‬ضمن‭ ‬فضاء‭ ‬الكونيّة‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يحوّل‭ ‬الاختلاف‭ ‬إلى‭ ‬خلاف،‭ ‬وإنّما‭ ‬يجعله‭ ‬شرط‭ ‬إمكان‭ ‬الحوار‭.‬

وباختصار،‭ ‬مخلّ‭ ‬لا‭ ‬ريب،‭ ‬فإنّ‭ ‬الكونيّة‭ ‬أفق‭ ‬وجود‭ ‬والعالميّة‭ ‬استيطان‭ ‬مقنّع‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الآخر‭. ‬ونقدّر‭ ‬أنّ‭ ‬اإرادة‭ ‬الحياةب‭ ‬لعمقها‭ ‬الأخلاقي‭ (‬الأخلاق‭ ‬باعتبارها‭ ‬قيمًا‭ ‬إنسانية‭ ‬تدور‭ ‬مدار‭ ‬الحرية‭ ‬والمراهنة‭ ‬على‭ ‬السعادة،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬كونها‭ ‬آدابَ‭ ‬سلوك‭)‬،‭ ‬تدور‭ - ‬دونما‭ ‬إرادة‭ ‬من‭ ‬الشاعر‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ - ‬على‭ ‬مقولة‭ ‬الكونيّة،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تنهض‭ ‬بها‭ ‬ذات‭ ‬إدراكيّة‭ ‬تنخرط‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نسمّيه‭ ‬علاقة‭ ‬اتذاوتب‭ ‬مع‭ ‬موضوعات‭ ‬إدراكها،‭ ‬فليس‭ ‬بالعسير‭ ‬على‭ ‬القارئ‭ ‬أن‭ ‬يتبيّن‭ ‬الخيط‭ ‬الواصل‭ ‬بين‭ ‬الذات‭ ‬ومفردات‭ ‬الكون‭ ‬الرومنطيقي،‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬أشرنا‭ ‬إليه،‭ ‬ولو‭ ‬في‭ ‬خطف‭ ‬كالنبض‭.‬

لعلّ‭ ‬هذا‭ ‬البُعد‭ ‬الكوني‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬استدعى‭ ‬إليها‭ ‬ما‭ ‬يسمّى‭ ‬الوظيفة‭ ‬المؤسطرة‭ ‬للأدب‭. ‬على‭ ‬أن‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬الأسطرة‭ ‬ها‭ ‬هنا،‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬صلتها‭ ‬بالجانب‭ ‬العقدي‭ ‬من‭ ‬الأسطورة،‭ ‬وإنّما‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬االتجسيدب‭ ‬أو‭ ‬االإحيائيّةب،‭ ‬أي‭ ‬إضفاء‭ ‬خصائص‭ ‬الكائن‭ ‬الحيّ‭ ‬المريد‭ ‬والمالك‭ ‬لقصديّة‭ ‬على‭ ‬كائن‭ ‬أو‭ ‬شيء‭ ‬لا‭ ‬يتوفّر‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الخصائص‭. ‬وبعبارة‭ ‬أخرى،‭ ‬فإنّ‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬داخل‭ ‬القصيدة‭ ‬حوار‭ ‬بين‭ ‬ذاتيّة‭ ‬الشاعر‭ ‬وذوات‭ ‬أخرى؛‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬كائنات‭ ‬بشريّة‭ ‬أو‭ ‬حيوانات‭ ‬أو‭ ‬أشياء‭ ‬خرساء،‭ ‬أو‭ ‬حتّى‭ ‬علامات‭ ‬لغويّة‭.‬

 

سؤال‭ ‬الرواية‭ ‬

‭• ‬الكومار‭ ‬الذهبي‭ ‬الذي‭ ‬حازته‭ ‬روايتك‭ ‬الثانية‭ ‬‮«‬عشيقة‭ ‬آدم‮»‬‭ ‬عام‭ ‬2012،‭ ‬بمنزلة‭ ‬صكّ‭ ‬أدبي‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬لم‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬الرواية‭ ‬متطفلًا‭. ‬كيف‭ ‬استدرجتك‭ ‬معيوفة‭ ‬بنت‭ ‬الضاوي‭ ‬لكي‭ ‬تكتب‭ ‬روايتك‭ ‬الأولى‭ ‬عام‭ ‬2011؟‭ ‬ولماذا‭ ‬لم‭ ‬تستمر‭ ‬بعد‭ ‬روايتك‭ ‬الثالثة‭ ‬‮«‬ليلة‭ ‬الإفك‮»‬‭ ‬عام‭ ‬2015؟

‭- ‬نشرت‭ ‬ثلاث‭ ‬محاولات‭ ‬روائيّة‭ ‬هي‭ ‬اعشيقة‭ ‬آدمب،‭ ‬وقد‭ ‬فازت‭ ‬بالكومار‭ ‬الذهبي‭ ‬2012،‭ ‬وأصدرها‭ ‬أستاذنا‭ ‬الراحل‭ ‬توفيق‭ ‬بكّار،‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬اعيون‭ ‬المعاصرةب‭. ‬وقد‭ ‬كتبتها‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬2009‭ ‬و2010،‭ ‬ووظّفت‭ ‬فيها‭ ‬التقنيات‭ ‬الفيسبوكيّة‭. ‬والثانية‭ ‬هي‭ ‬اهل‭ ‬كان‭ ‬بورقيبة‭ ‬يخشى‭ ‬حقًا‭ ‬معيوفة‭ ‬بنت‭ ‬الضاوي؟ب،‭ ‬وقد‭ ‬حاولت‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬أرسم‭ ‬صورة‭ ‬الزعيم‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬باني‭ ‬دولة‭ ‬الاستقلال،‭ ‬في‭ ‬المخيال‭ ‬الشعبي،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬تاريخي‭ ‬أو‭ ‬سياسي‭. ‬والثالثة‭ ‬هي‭ ‬اليلة‭ ‬الإفكب،‭ ‬وهي‭ ‬تعالج‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬2010‭ ‬إلى‭ ‬عام‭ ‬2014،‭ ‬وجلّ‭ ‬شخصيّاتها‭ ‬بأسمائهم‭ ‬الحقيقيّة‭. ‬ولديّ‭ ‬محاولة‭ ‬رابعة‭ ‬بعنوان‭ ‬اجمهوريّة‭ ‬جربةب‭ ‬الجزيرة‭ ‬التونسيّة‭ ‬الشهيرة،‭ ‬وتخيّلتها‭ ‬وقد‭ ‬انفصلت‭ ‬عن‭ ‬تونس؛‭ ‬وساحت‭ ‬في‭ ‬البحر؛‭ ‬وأخذت‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬مالطة‭... ‬وعسى‭ ‬أن‭ ‬أنهيها‭ ‬هذا‭ ‬العام‭.‬

الحقّ‭ ‬أنا‭ ‬لستُ‭ ‬روائيًا،‭ ‬ولا‭ ‬أدّعي‭ ‬ذلك‭. ‬إنّما‭ ‬أنا‭ ‬قارئ‭ ‬للرواية؛‭ ‬ويكاد‭ ‬لا‭ ‬يفوتني‭ ‬منها‭ ‬شيء‭ ‬عربيًّا‭ ‬وعالميًا‭. ‬لأقل‭ ‬إنّي‭ ‬قارئ‭ ‬يكتب‭ ‬الرواية،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يفيض‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭. ‬ولكن‭ ‬بلُغة‭ ‬الرواية‭. ‬فأنا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أظنّ‭ ‬أعرف‭ ‬بحكم‭ ‬قراءتي‭ ‬للروائيّين‭ ‬العالميّين‭ ‬الكبار،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬جيمس‭ ‬جويس،‭ ‬كيف‭ ‬أكفّ‭ ‬عن‭ ‬كوني‭ ‬شاعرًا؛‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬أشرع‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬السرد‭ ‬الروائي‭. ‬

‭ ‬وأدرك‭ ‬كيف‭ ‬ينهض‭ ‬القول‭ ‬السردي‭ ‬برواية‭ ‬قصّة‭ ‬أو‭ ‬مغامرة‭ ‬تنتظمها‭ ‬حبكة،‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭ ‬شخوص‭ ‬يتحرّكون‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬وزمان‭ ‬مخصوصيْن‭. ‬وهم‭ ‬يؤدّون‭ ‬القصّة‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬الممكنات‭ ‬السرديّة‭ ‬وما‭ ‬يتعلّق‭ ‬منها‭ ‬بالتغييرات‭ ‬الزمنيّة‭ ‬وإدارة‭ ‬فنّ‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬العالَم‭ ‬المحكيّ،‭ ‬سواء‭ ‬أقيّدته‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬داخليّة‭ ‬أم‭ ‬لم‭ ‬تقيّده‭. ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يتسنّى‭ ‬في‭ ‬النصّ‭ ‬الشعري،‭ ‬إلّا‭ ‬نادرًا؛‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬لي‭ ‬قصائد‭ ‬مركّبة‭ ‬ذات‭ ‬منحى‭ ‬سردي؛‭ ‬ولكن‭ ‬شتّان‭ ‬بين‭ ‬السرد‭ ‬الشعري‭ ‬المكثّف‭ ‬والسرد‭ ‬الروائي‭ ‬المفصّل‭.‬

 

‮«‬نوبل‮»‬‭ ‬ونزار‭ ‬وحكايات‭ ‬أخرى

‭• ‬‮«‬البنك‭ ‬التونسي‮»‬‭ ‬و«الكومار‭ ‬الذهبي‮»‬‭ ‬و«شاعر‭ ‬عكاظ‮»‬‭ ‬و«مؤسسة‭ ‬البابطين‮»‬‭ ‬و«المتوسّط‭ ‬للشعر‮»‬‭ ‬وجائزة‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ ‬للإبداع‭ ‬العربي‭... ‬جوائز‭ ‬مرموقة‭ ‬حُزتها‭. ‬هل‭ ‬أنت‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬العرب‭ ‬الطامحين‭ ‬لـ«نوبل»؟‭ ‬وماذا‭ ‬فعل‭ ‬نوبل‭ ‬بالأدب‭ ‬العربي؟

‭- ‬لستُ‭ ‬واهمًا‭ ‬حتى‭ ‬يكون‭ ‬لديّ‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الطموح‭. ‬وأنا‭ ‬أعرف‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬ما‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬الجائزة‭ ‬العالميّة‭ ‬المرموقة،‭ ‬إنّما‭ ‬تُسند‭ ‬لكتّاب‭ ‬وشعراء‭ ‬يدعمهم‭ ‬أدبهم‭ ‬لا‭ ‬شكّ،‭ ‬ولكن‭ ‬تروّج‭ ‬لهم‭ ‬مؤسّسات‭ ‬يتواصل‭ ‬فيها‭ ‬الإعلام‭ ‬والنقد‭ ‬والاقتصاد‭. ‬وقد‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬دُعيت‭ ‬إلى‭ ‬استوكهولم‭ ‬وإلى‭ ‬مؤسّسة‭ ‬نوبل،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ترجمت‭ ‬بالاشتراك‭ ‬مع‭ ‬الشاعر‭ ‬التونسي‭ ‬محمد‭ ‬الغزّي‭ ‬ديوان‭ ‬الشاعر‭ ‬السويدي‭ ‬أوستون‭ ‬شوستراند‭ ‬اتحت‭ ‬برج‭ ‬الدلوب،‭ ‬وهو‭ ‬عضو‭ ‬لجنة‭ ‬نوبل‭ (‬توفّي‭ ‬منذ‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭). ‬وهذه‭ ‬شهادة‭ ‬من‭ ‬الدكتورة‭ ‬سلمى‭ ‬الخضراء‭ ‬الجيوسي‭ ‬وقد‭ ‬كنت‭ ‬برفقتها‭ ‬عام‭ ‬1984‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل؛‭ ‬في‭ ‬ملتقى‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬السويدي،‭ ‬حيث‭ ‬وقفنا‭ ‬على‭ ‬حالة‭ ‬شعرنا‭ ‬وأدبنا‭ ‬نحن‭ ‬العرب،‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬العالمي‭. ‬وفيها‭ ‬ما‭ ‬يشفي‭ ‬الغليل‭.‬

 

‭ ‬عزيزي‭ ‬المنصف‭ ‬

يجيء‭ ‬ذكرك‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬لحظة‭ ‬اكتشافنا‭ ‬خلوّ‭ ‬مكتبة‭ ‬أكاديمية‭ ‬نوبل‭ ‬من‭ ‬إبداعنا‭! ‬ألا‭ ‬تذكر‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬فتح‭ ‬لنا‭ ‬فيها‭ ‬أمين‭ ‬المكتبة‭ ‬في‭ ‬الأكاديمية،‭ ‬المستر‭ ‬أندريس‭ ‬ريبرغ‭ (‬ما‭ ‬زلت‭ ‬أذكُره‭ ‬وأذكر‭ ‬اسمه‭) ‬درجًا‭ ‬صغيرًا،‭ ‬وأرانا‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬طلبنا‭ ‬منه،‭ ‬ما‭ ‬عندهم‭ ‬من‭ ‬أعمالنا‭ ‬الأدبية‭! ‬أربعة‭ ‬كُتب‭ ‬صغيـرة‭ ‬مترجمة‭! ‬أي‭ ‬تراث‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬يُختَزل‭ ‬بأربعة‭ ‬كتب‭ ‬صغيرة؟‭ ‬لحظة‭ ‬ماج‭ ‬العالَم‭ ‬بي،‭ ‬وأدركت‭ ‬أن‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬أودّع‭ ‬الحياة‭ ‬الشخصية‭ ‬الهادئة‭ ‬والشعر‭ ‬وحريّة‭ ‬التحرك‭ ‬والسفر‭ ‬كما‭ ‬أريد،‭ ‬وأنصرف‭ ‬إلى‭ ‬عمل‭ ‬مكرّس‭ ‬أكبر‭ ‬منّي‭ ‬ومن‭ ‬عمري‭ ‬كان‭ ‬سيمسك‭ ‬بي‭ ‬ليل‭ ‬نهار‭. ‬كلّما‭ ‬أتحدّث‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬المصيرية‭ ‬أتذكرك‭ ‬وأذكرك‭. ‬كنّا‭ ‬مسافرين‭ ‬من‭ ‬قرية‭ ‬سيغريد‭ ‬إلى‭ ‬مؤتمر‭ ‬لُند‭ ‬في‭ ‬الجنوب،‭ ‬وطلبنا‭ ‬في‭ ‬مرورنا‭ ‬باستوكهولم‭ ‬أن‭ ‬نزور‭ ‬أكاديمية‭ ‬نوبل،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حصل،‭ ‬وتغيّر‭ ‬به‭ ‬عالميب‭.‬

 

د‭. ‬سلمى‭ ‬خضراء‭ ‬الجيوسي

‭• ‬كيف‭ ‬أقنعت‭ ‬نزار‭ ‬1995م‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬ضيف‭ ‬الدورة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬مهرجان‭ ‬ربيع‭ ‬الفنون‭ ‬الدولي‭ ‬بالقيروان؟‭ ‬وكيف‭ ‬احتفت‭ ‬به‭ ‬القيروان؟‭ ‬

‭- ‬نزار‭ ‬شاعر‭ ‬استثنائي،‭ ‬وكان‭ ‬لحضوره‭ ‬في‭ ‬القيروان‭ ‬وقع‭ ‬كبير،‭ ‬فقد‭ ‬تدافع‭ ‬الآلاف‭ ‬للاستماع‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬تونس‭ ‬كلّها؛‭ ‬في‭ ‬حدث‭ ‬قلّ‭ ‬نظيره‭. ‬وكان‭ ‬معنا‭ ‬شعراء‭ ‬كبار‭ ‬من‭ ‬فرنسا،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬أدونيس‭ ‬وسعدي‭ ‬يوسف‭. ‬وللتاريخ،‭ ‬فإنّ‭ ‬أدونيس‭ ‬بتنسيق‭ ‬معي‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬أقنع‭ ‬نزار‭ ‬بالقدوم‭ ‬إلى‭ ‬القيروان‭. ‬وقد‭ ‬ذكر‭ ‬لنا‭ ‬نزار‭ ‬أنّه‭ ‬استشار‭ ‬محمود‭ ‬درويش،‭ ‬فأشاد‭ ‬بنا‭ ‬أنا‭ ‬ومحمد‭ ‬الغزّي،‭ ‬وقال‭ ‬له‭ ‬ااذهب‭ ‬ولن‭ ‬تندمب‭. ‬هذا‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الأمر‭. ‬ولكنّ‭ ‬القيروان‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تستحضر‭ ‬تلك‭ ‬الذكرى‭ ‬العطرة‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬ربيع‭ ‬فنون‭ ‬ينعقد‭ ‬فيها‭.‬

‭• ‬ما‭ ‬هو‭ ‬بيت‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬تستحضره‭ ‬دائمًا‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬وقت‭ ‬المشاكسة‭ ‬مع‭ ‬زوجتك؟‭ ‬ولماذا‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬من‭ ‬المحبة‭ ‬لم‭ ‬تُهدها‭ ‬قصيدة؟

‭- ‬أنا‭ ‬ريفيّ‭ ‬وبي‭ ‬من‭ ‬حياء‭ ‬أهل‭ ‬البادية‭ ‬والريف‭ ‬ما‭ ‬بي،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنّي‭ ‬امتحرّرب‭ ‬في‭ ‬كتاباتي‭. ‬ربّما‭ ‬لهذا‭ ‬السبب‭ ‬لم‭ ‬أُهد‭ ‬زوجتي‭ ‬أيّة‭ ‬قصيدة‭ ‬لي،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬طيفها‭ ‬يمثّل‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬النصوص‭. ‬والبيت‭ ‬الذي‭ ‬أمازحها‭ ‬به‭ ‬عادة،‭ ‬هو‭ ‬تنويع‭ ‬على‭ ‬بيت‭ ‬جميل‭:‬

صغيران‭ ‬مربعنا‭ ‬واحد‭ ‬

فكيف‭ ‬كبرتِ،‭ ‬ولم‭ ‬أكبُرِ؟

 

وأمّا‭ ‬بعد‭ ‬

‭• ‬فوزك‭ ‬بجائزة‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ ‬للإبداع‭ ‬العربي‭... ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬السبعيني‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬شعلة‭ ‬القصيدة‭ ‬متقدة‭ ‬متوهجة‭ ‬داخله،‭ ‬هل‭ ‬لديك‭ ‬خطة‭ ‬إبداعية‭ ‬لما‭ ‬بعد‭ ‬السبعين؟

‭- ‬قد‭ ‬لا‭ ‬أجد‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬عبارة‭ ‬الشابّي،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬فاعلًا‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬التونسي؛‭ ‬لكنّه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أدرك‭ (‬مصيبة‭ ‬المشاريع‭ ‬التونسية‭) ‬بعبارته‭ ‬إذ‭ ‬ايندفع‭ ‬القائمون‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬اندفاعًا‭ ‬كلّه‭ ‬شغف‭ ‬وشوق‭ ‬وإخلاص،‭ ‬ولكنّه‭ ‬لا‭ ‬يدوم؛‭ ‬فإنّه‭ ‬لا‭ ‬يلبث‭ ‬إلّا‭ ‬قليلًا‭ ‬حتى‭ ‬يخبو‭ ‬أوَارُه،‭ ‬وتركد‭ ‬ريحه،‭ ‬وينصدع‭ ‬شمل‭ ‬الجميع‭...‬ب‭.‬

 

تونس‭ ‬

‭• ‬وُلدت‭ ‬عام‭ ‬1949م‭ ‬قبل‭ ‬استقلال‭ ‬تونس‭ ‬بستّ‭ ‬سنوات‭... ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬أنجزه‭ ‬التونسيون؟‭ ‬وما‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬ينجزوه‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬الاستقلال‭ ‬الثقافي؟

‭- ‬أظن‭ ‬أنّ‭ ‬حياتنا‭ ‬الثقافية‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تعاني‭ ‬الكثير‭ ‬ممّا‭ ‬ذكره‭ ‬الشابي،‭ ‬فقد‭ ‬تأسست‭ ‬لدينا،‭ ‬منذ‭ ‬الاستقلال،‭ ‬دور‭ ‬الثقافة‭ ‬والنشر‭ ‬والنوادي‭ ‬والمهرجانات‭ ‬والجمعيّات‭... ‬ولكنّها،‭ ‬وهذه‭ ‬حقيقة‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نصدع‭ ‬بها،‭ ‬اواجهاتب‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬مشاريع‭ ‬ثقافية‭ ‬متكاملة‭. ‬وليس‭ ‬أدلّ‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬الشابي‭ ‬استطاع‭ ‬بمفرده‭ ‬أن‭ ‬ينقل‭ ‬نصّه‭ ‬إلى‭ ‬أفق‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي،‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬أكثرنا،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المشاريع،‭ ‬واقفًا‭ ‬على‭ ‬تخومه‭. ‬ولكن‭ ‬هناك‭ ‬أفراد‭ ‬في‭ ‬شتّى‭ ‬الفنون‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬ومسرح‭ ‬وسينما‭... ‬استطاعوا‭ ‬بمجهودهم‭ ‬الفردي‭ ‬أن‭ ‬ينجزوا‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تُنجزه‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬عندنا‭ ■‬