شعريّة نجيب محفوظ الرواية العربية والتراث السردي

شعريّة نجيب محفوظ الرواية العربية والتراث السردي

شكّل نجيب محفوظ محطة مهمة في مسار الرواية العربية، حتى اعتبر رائدها الأصلي ومهندس مساراتها المختلفة. ونظرًا لقدرته الفنية هذه، وللتحولات العديدة التي عرفت طريقها إلى نتاجاته، بدءًا من تفاعلاتها مع التاريخ الفرعوني بشكل استعادي في رواياته الأولى «عبث الأقدار»(1939م) و«رادوبيس» (1943م) و«كفاح طيبة» (1944م)، ومرورًا بمحاولة عكسها للسيرورة الاجتماعية التي شهدتها مصر ومن خلالها العالم العربي، في رواياته الواقعية التي تتصدرها ثلاثيته الذائعة الصيت «بين القصرين» (1956م) و«قصر الشوق» (1957م) و«السكّرية» (1957م)، ووصولًا إلى تعالقاتها مع نصوص سردية تراثية معروفة، من أهمها نصّا كل من «ألف ليلة وليلة» و«رحلة ابن بطوطة»، فإنه قد ظل حاضرًا بشكل قوي في مختلف المنعرجات الحاسمة التي شهدتها هذه الرواية، سواء على مستوى تغيير التيمات السائدة فيها، أو على مستوى تغيير، وهذا هو الأهم، بنية الأشكال المعبّرة عنها.

انتقل محفوظ في كتاباته هذه من عملية الالتزام بالأشكال الروائية الكلاسيكية، كما جسّدتها الرواية الغربية في القرن التاسع عشر على وجه الخصوص، مستفيدًا في هذا الصدد، من مختلف الأساليب والتقنيات التي تحققت في الرواية الحديثة، نتيجة تأثرها بالتيارات الفكرية التي تمثّلت أساسًا في التيار الفرويدي والرمزي والسوريالي، إلى الاستفادة من تقنية توظيف الأشكال التراثية السردية ومحاولة المزاوجة بينها وبين تلك التقنيات، وبما أن الذي يهمنا، بالتحديد، هو دراسة كيفية تعامل محفوظ مع لعبة توظيف هذه الأشكال التراثية في نصوصه الروائية، ومحاولة الاستفادة منها في خلق عالمه الروائي الكلي، فإننا سنتوقف بالتحديد عند رواية «رحلة ابن فطومة»، محاولين من خلال هذا التوقف، تبيّن كيفية تفاعل هذه الرواية مع «رحلة ابن بطوطة»، باعتبارها نصًا تراثيًا سرديًا، إنْ على مستوى الشكل الذي كتبت به أو المحتوى الذي عبّرت عنه، حتى وإن كان الهاجس الذي حكمنا يتجلى في تحدد نوعية الفضاء السائد في كل منهما والعلاقات التي يقيمها مع الآخر، وهو العنصر الذي سنتوقف عنده بالتدقيق، بعد أن نبيّن الخصائص التناصية العامة التي تربط بين النصين بشكل كلّي، وتجعل بالتالي من نص رواية «رحلة ابن فطومة» نصًا متعلقًا بنص «رحلة ابن بطوطة»، المسمى بـ «تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار».

المنـاص وتشكيلية الفضـاء
يحدد جيرار جنيت، المناص في كونه يتجلّى في العناوين؛ سواء الرئيسية منها أو الفرعية التي تمنح لنص معيّن، كما يتجلى في المقدمات التي تكون مصاحبة له، ممهدة للدخول إلى عالمه الخاص أو منبهة إلى مسألة مهمة تتمحور داخله، إضافة إلى كونه يتجلى أيضًا في الخاتمات التي تعلن عن نهايته، عن طريق الانغلاق، أو موحية بانفتاحه على عوالم أخرى جديدة ستأتي في نصوص قادمة، وهذا إلى كونه يتجلّى كذلك في الإشارة إلى اسم الكاتب واسم الدار التي قامت بنشر الكتاب، ثم الصورة المثبتة على غلافه وبقية الخطوط أو الكلمات المصاحبة لها، أما بالنسبة لنوعية الفضاء الذي يشكّله المناص، فهو فضاء بصري يتعلق بالحيّز المكاني الذي تأخذه عملية تشكيله على صفحة الكتاب. نقصد هنا بالتحديد المناص الداخلي، وهو ما سنوضحه بالنسبة لكل من «رحلة ابن بطوطة»، باعتبارها تمثّل النص السابق الأصلي ورواية «رحلة ابن فطومة»، باعتبارها تمثل النص اللاحق، الذي يعلن عن تعلّقه به بكل وضوح؛ بدءًا من عنوانه، ووصولًا إلى خاتمته المفتوحة، مرورًا بكل منعرجات تشكّلاته النصية الأخرى التي سنأتي على مقاربتها فيما بعد.

فضائية العنوان والتفاعل الأجناسي 
يحيل عنوان «رحلة ابن فطومة» بشكل واضح إلى عنوان رحلة عربية شهيرة هي رحلة ابن بطوطة، الموسومة بـ «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، الشيء الذي يطرح مسألة التناص في بُعده المحاكاتي، خصوصًا أن هذا العنوان غير مذيّل بأي عنوان فرعي يفسره أو يوضح معناه الحقيقي الذي يريد إيصاله إلى المتلقي، كما لا نجد على ظهر الغلاف، الموجود فيه، أيّ تعيين للجنس الأدبي الذي ينضوي تحته الكتاب الذي يمثّل هو عنوانًا له.
كل ما نجده هو اسم كاتبه نجيب محفوظ، المعروف بكتاباته السردية المنضوية تحت جنس الرواية، وهو غالبًا ما يدفع المتلقي إلى اعتبار أن هذا الكتاب، بالرغم من أنه يحمل عنوانًا يشير إلى جنس أدبي معروف هو جنس الرحلة، لا يخرج عن إطار الجنس الروائي الذي يكتبه صاحبه.
ومما يزكي هذا الاعتبار هو أن الفهرست الخاص بإبداعات محفوظ الروائية منها والقصصية، والمنشور في آخر صفحة من الكتاب يضع هذا الكتاب تحت جنس الرواية. إلا أن هذا لا يمنع بتاتًا من الإقرار بتناصية هذا الكتاب - وهو يأخذ طابعه الروائي اعتمادًا على ما سبقت الإشارة إليه من جهة، وعلى اعتماد أن شخصيته المركزية، أي قنديل بن محمد العنابي، هي شخصية تخييلية كليًا لا ترتبط إلا بداخلية النص، ولا تشير إلى ما هو خارج عنه، كما هي الحال مثلًا مع شخصية ليون الإفريقي في الرواية الحاملة لاسمه، لأمين معلوف من جهة ثانية - مع جنس الرحلة في إطلاقيته، ومع رحلة ابن بطوطة على وجه التحديد.

تعالق نصي
وما يؤكد قولنا هذا، هو أن الكاتب قد اختار عنوان نصه الروائي هذا بدقة، وركّز على خلق تعالق نصي بينه وبين عنوان الرحلة السالفة الذكر، محافظًا في عملية تشكيله الصوتي على التشكيل الصوتي نفسه المتحقق في العنوان السابق، حتى ليكاد المتلقي، في الوهلة الأولى، يخلط بينهما، لولا وجود اختلاف في بعض الأحرف بين شخصيتي كل من النصين، أي بين شخصية ابن بطوطة (الاسم الأصلي)، وبين اسم شخصية ابن فطومة، (الاسم المتناص معه)، المشكّلين لهذين العنوانين، بعد زيادة كلمة رحلة على كل منهما، كدلالة واضحة على الوظيفة الرئيسية المحددة لهما مسبقًا.
وعليه يكون هذا العنوان «مختارًا بدقة، معسولًا يثير شهية الجمهور، ويدغدغ مشاعره الداخلية، ويحرّضه على الإقبال على الكتاب وشرائه، كما يعتبر بمنزلة نواة إخبارية عن محتويات النص، وتبيّن أن كل القضايا المعالجة متناسلة منها»، خصوصًا إذا علمنا أن عنوان الكتاب الذي يتناص معه، أي رحلة ابن بطوطة، يعتبر من أشهر الكتب العربية التي كتبت في جنس الرحلة، ووجدت صدى كبيرًا لدى متلقيها بمختلف مستويات ثقافاتهم ونوعيتها، مما يشكّل ضمانة من نوع ما لرواج الكتب المتناصة معه، ومن بينها روايتنا هذه.

 

 

المناصات الأخرى والتعالقات النصية 
إضافة إلى مناص العنوان، باعتباره من أهم النصوص الموازية التي تفتح لنا باب النص الروائي للدخول إلى عوالمه المتعددة وتحديد خاصيته الأجناسية، نجد أن هناك مناصات أخرى تقف بجانبه، موضحة ما ظل غامضًا في النص ولم يستطع العنوان وحده أن يضيئه كما ينبغي، وفي مقدمة هذه المناصات العناوين الصغرى والعناوين الداخلية والمقدمات والتذييلات والنقاط الهامشية والصور التزيينية وسواها، وإذا كنا نجد أن هذه المناصات تحضر بقوة في النص السابق، أي رحلة ابن بطوطة، مما يوضح رغبـة كاتب هذا النص، سواء كان صاحبه الأصلي ابن بطوطة أو محرّره ابن جزي، في نسبه إلى جنس الرحلة دون غيره من بقية الأجناس الأدبية الأخرى، فإنّها تفقد قوة حضورها هذه في «رحلة ابن فطومة»، باستثناء بعض التذييلات المهمة التي نصادفها في آخره، والتي تشير إلى أن ما قرأناه لا يعدو أن يكون المخطوط الذي كتبه صاحبه قنديل محمد العنابي مـسـجـلًا فيه بعض أهم لحظات رحلته، وأن الذي نقله إلينا وأطلعنا عليه هو شخص آخر يختلف عنه تمامًا.
وهي إشارة ذكية من محفوظ / الكاتب إلى تعالق نصي جديد يربط بين شخصية محرر النص السابق، أي رحلة ابن بطوطة المعروف بابن جزي ومحرر النص اللاحق، أي رحلة ابن فطومة، الذي لم يكشف لنا عن اسمه، إذ إن النصين معًا يلتقيان، إضافة إلى تشابه الشخصيتين الرئيسيتين فيهما على مستوى الاسم كما على مستوى الوظيفة، أي السفر من مكان إلى آخر، في كونهما معًا، لم ينقلا إلينا مباشرة من خلال أصحابهما الأصليين، وإنما من خلال آخرين قريبين منهما، مما يجعل النصين معًا يفتقدان ثقة المتلقي بأنهما يمثّلان النصين الأصليين كما كتبا لأول مرة.
وإذا كان ابن جزي يشير إلى قيامه بعملية التلخيص لرحلة ابن بطوطة، نظرًا لطولها وتشعّباتها التي لا تحدّ، يقول: «انتهى ما لخصته من تقييد الشيخ أبي عبدالله محمد بن بطوطة»، فإنّ ناقل مخطوط قنديل محمد العنابي المعروف بابن فطومة لا يصرّح لنا بذلك.
يقول: «بهذه الكلمات ختم مخطوط رحلة قنديل محمد العنابي الشهير بابن فطومة»، وهو ما يوحي عدم تدخّله في النص أو إجراء أي تعديل أو تغيير فيه.
لكنّ هذا الاختلاف مهما كانت أهميته في مسار النص الذي يوجد فيه، فإنّه يؤكد لعبة التعالق النصي المتحققة هنا أكثر مما ينفيها، إذ إن كاتبه يحاول أن يتخلص من قوة الضغط الممارسة عليه من لدُن النص السابق، فيلجأ إلى التحوير والتعديل وربما التغيير حتى، من أجل أن يتخلص من هذه القوة. 
إن الكاتب هنا، وهو يشعر بأن النص الذي يكتبه نص يقع منذ البدء تحت هيمنة كتابات أخرى تفرض عليه كونًا أو عالمًا بذاته، فإنه يسعى إلى تأكيد خصوصيته، ويبرهن على استطاعته الإتيان بنص له جذور في القديم، لكنه يحمل رؤية جديدة تدفع به نحو المستقبل. 

العناوين الفرعية
أما إذا جئنا على العناوين الفرعية المصاحبة لعنوان كل من النصين المشار إليهما، أي نصَّي كل من «رحلة ابن فطومة» و«رحلة ابن بطوطة»، فإننا سنجد أن هناك غيابًا لها فيما يتعلّق بالنص المتعلق، فالناظم قد أغفل إيراد أي عنوان فرعي يوضح العنوان الأصلي الذي منحه لنصه، مكتفيًا به وحده، لإقامة علاقة تواصلية مع المتلقي بمختلف تجلياته، وكأنه يعتقد أن فيه الكفاية التامة لإنجاز مهمة التواصل تلك على أكمل وجه، خصوصًا أنه يحيل على عنوان سابق عليه، قد تجذّر في بنية الثقافة العربية القديمة وأعلن مكانته الكبرى فيه دون منازع، وهو بالتالي، نظرًا إلى تناصيته تلك، يأخذ من العنوان السابق كل سحره وجاذبيته من جهة، ويحمل كل العناوين الفرعية التي ارتبطت به إلى ذهن المتلقي الجديد الخاص به من جهة أخرى.
ولعل هذا الأمر كان من وراء الأسباب التي دفعت هذا الناظم إلى عدم تجنيس نصه هذا مباشرة وتركه مغفلًا من أية إشارة إلى ذلك، مما يوحي للمتلقـي، للوهلـة الأولى، أن جنسه الأدبي لا يمكن أن يكون إلا رحلة، وفقًا لما أعلن عنه عنوانه، وهو بذلك، أي نص «رحلة ابـن فطومة»، وهو يحاول التدثّـر بجنس الرحلة من دون أن يزيل عنـه ثياب جنسه الأصلي، أي الرواية، يحاول بتعبيرها رولد بلوم أن يدمّر النص السابـق، وأن يحتل مكانه، ويستولـي على زوجته ودوره وجمهوره.

معالم جديدة
أما بخصوص النص المتعلق به، أي نص «رحلة ابن بطوطة»، فإنه يعلن عن جنسه الأدبي مباشرة، انطلاقًا من عنوانه هذا الذي عُرف به، لشهرة صاحبه في القيام بالرحلات وتجاوزه معظم الرحّالة الكبار الذين سبقوه في ذلك، أو لمعاصريه الذين حاولوا إنجاز مثل رحلاته، أو انطلاقًا من العنوان الأصلي الذي تحوّل مع مرور الزمن إلى عنوان فرعي يكاد يغفل في كثير من الكتابات التي تناولت هذه الرحلة، لاسيما الدراسات الحديثة منها، وهو عنوان «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، فهذا العنوان كما تشير الكلمات التي يتكون منها يحيل على تيمة السفر بشكل واضح، فهو يشكّل تحفة لكل الراغبين في رؤية معالم أخرى جديدة عليهم لم يسبق لهم أن رأوها في السابق، سواء في أوطانهم أو في الأوطان التي يمكن أن يكونوا قد ذهبوا إليها، وهو إضافة إلى ذلك، يشير إلى أن الأماكن الموصوفة فيه تتميز بغرائبيتها على الإطلاق دون تعيين لنوع هذه الغرائبية والأشياء التي ترتبط بها، كما أن نوع الأسفار التي قام بها صاحبها وسجلها في كتابه هذا تتميز هي الأخرى بالعجائبية، أي أنها أسفار تتجاوز كل ما هو عادي ومتداول لتغوص في كل ما هو غريب وعجيب، وهو ما يشدّ نظر المتلقي إلى هذا الكتاب ويدفعه لمعرفة ما احتواه من أمور تتجاوز حدود العقل لتصل إلى حدود الوهم، أو بتعبير آخر تتجاوز الواقع المعيش، متحدية إياه لتصل إلى تخوم الخيال في أبعد صوَره، لكنه ذلك الخيال المنبعث من الواقع كما هو، أو كما صوّره صاحبه لحظة الحديث عنه، وكما صوره الناظم بعد ذلك.
يقول طلال حرب في هذا الجانب ما يلي: «... وأما سائر الشكوك، فليست بذات قيمة كبيرة، فإذا كان ابن بطوطة لم يزُر هذه المدن، بل سمع أخبارها ممن رآها، فإن هذا لا يقلل من أهمية ما جاء به، ولا ينفي أنه يقدّم صورة عن المجتمع وما يعتمل فيه من أفكار وقصص وتطلعات، وإذا كان بعض القصص صعب التصديق، فهذا لا يعني أنها مزيفة أو كاذبة، وحتى لو كانت من عمل النسّاخ، فإنها تعتبر من نسيج أحلام ذلك المجتمع، من لحمه ومن دمه، فهي تكمل صورة هذا المجتمع وتكمل تفاصيله الأخرى وتنفخ فيه الروح».

إعادة تشكيل التراث السردي
وبما أن أي نص، كيفما كان نوعه أو جنسه لا بدّ أن يوجد انطلاقًا من نصوص أخرى سابقة عليه أو حتى معاصرة له، فإننا نلاحظ حتى بالنسبة لنص ابن بطوطة ذاته، أي «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» أنه، هو الآخر يتناص مع نصوص سابقة عليه، سواء على مستوى الجنس الأدبي الذي يمثّله أو على مستوى العنوان الذي يحمله، إذ غالبًا ما يحيل عنوانه هذا على عنوان الكتاب الذي سجل فيه الشريف الإدريسي مختلف الأسفار التي قام بها، أي عنوان «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، إذ إن كلا العنوانين معًا يحيل إلى جنس الرحلة من جهة، كما يحيل إلى تنوّع الأماكن المسافر إليها من جهة أخرى، وإن كان عنوان رحلة ابن بطوطة يتفوق على عنوان رحلة الإدريسي في تركيزه على عنصرَي الغرابة والعجَب بالخصوص، وهو ما يتوافق مع سعة المتخيّل المتوافر فيه، مقارنة مع سابقه.
هكذا نرى أن محفوظ قد استطاع أن يعيد تشكيل التراث السردي في بناء رواية 
حديثة وفق منظور بوليفوني قوي وجذاب في الوقت نفسه، وهو بعمله هذا، وبعمله الروائي الآخر «ليالي ألف ليلة»، الذي استفاد فيه من كتاب «ألف ليلة وليلة»، يكون قد قدّم عملية تناصية مثمرة في ميدان الإبداع الروائي العربي ■