مقصوفةُ الرّقبَة
ليست صفحة كاملة، لكنها عدة سطور من تاريخ حافل، تجسد مأساة إنسانية في زمن مضطرب حافل بالتناقضات، في الحملة الفرنسية على مصر في عام 1798 التي أسقطت العديد من الأقنعة، وكشفت عن الغرائز الدفينة، ودفعت ثمنها نفوس بشرية بريئة لم تدر ماذا يدور حولها ولم تتحكم في مصيرها، ولكن دعونا نروي القصة من بدايتها.
هبط الشيخ البكري بجلالة قدره وعمامته الضخمة إلى القبو الموجود في منزل ساري عسكر الفرنسيس، لم يأت لزيارة نابليون بونابرت، كما تعوّد أن يفعل كل عدة أيام، ولكنه ذهب مباشرة إلى االطواشيب القيّم الذي يشرف على إدارة المنزل الضخم، نظر إليه القيّم في اندهاش، لم يكن متعودًا على زيارة كبار الزوار، يكفيه أنه ينظّم حركة الخدم والجواري ويتعامل مع مورّدي الفاكهة والخضراوات واللحم، ولكن أن يأتي واحد من المشايخ أعضاء المجمع العلمي، فهذا شرف فوق طاقته، لكن الشيخ قال له بشكل مباشر: علمت أنك ذهبت إلى سوق العبيد واشتريت سبعًا من الجواري، لم يكن الأمر سرًّا، قال الطواشي: أنت تعرف أنها ليست لي، ولكن للجنرال نابليون، قال الشيخ: بالطبع، ولا أحد يعترض، أريد فقط أن أضيف فتاة ثامنة لبقية الفتيات، بلغت الدهشة أقصاها للطواشي وهو يتساءل: هل تريد أن تبيع لنا جارية، هل تمارس هذه التجارة؟ قال الشيخ باختصار: إنها هدية من دون مقابل... إجابة غير مقنعة، عاد الطواشي يسأل: لماذا لا تهديها بنفسك، أنت لست بعيدًا عنه؟ قال الشيخ في غموض: أريد أن أترك له الفرصة للاختيار، والمقارنة بينها والأخريات، استدار الشيخ واستعد للانصراف، لكنه التفت إليه وقال مؤكدًا: لا تعرض الجواري عليه قبل أن أحضر الفتاة، وانصرف مسرعًا.
وجد الطواشي أنه لا مناص أمامه إلا الانتظار، ربما تكون الجارية القادمة قبيحة جدًّا أو عجوز فيرفضها بسهولة ولا تحدث مشكلة، لكنّ الفتاة التي أحضرها الشيخ في اليوم التالي لم تكن لتُرفَض، حين وضعها الطواشي وسط الجواري السبع وجد أنها تتفوق عليهن جميعًا، لم تكن تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها، نضرة، مشرقة كشمس الضحى، خجولة لا تدري لماذا جاءت إلى هنا، ولا ماذا سيحدث لها، اقترب منها الطواشي مندهشًا من سحر الصبا المنبعث منها، وقال: أنت لست جارية، هيئتك لا تدلّ على ذلك، مَن أنتِ بالضبط؟ قالت بصوت خافت: أنا ابنته، هتف مندهشًا: أنت بنت الشيخ البكري، حرّة شريفة، ألا يعلم ماذا سيحدث لك في هذا البيت؟ لم تُجب، وبدا واضحًا أنها لا تعلم، لكنّ أباها يعلم بالتأكيد، فقد جالس الفرنسيس طويلًا، منذ أن دخلوا مصر وهو يسير في ركابهم، كلا... خلفهم ببضع خطوات، يتعلّم لغتهم، يشاهدهم وهم يرقصون، كيف يتأتّى له أن يُدخل ابنته الغريرة في هذا المستنقع ويطلب منها السباحة وحدها، بل إنه يهب جسدها للتمساح الأكبر بونابرت.
الجنرال يختار
قبل أن يفيق الطواشي من أفكاره فوجئ بالجنرال وهو قادم بنفسه ليستعرض الجواري الجديدات، أسرع يضعهن في صفّ واحد، رتّب ثيابهن وشعورهن بسرعة، ثم وقف محنيّ الرأس أمام الجنرال القصير القامة، توقّف نابليون يتأمّل الجارية الأولى، ثم انتقل سريعًا للثانية ثم الثالثة، ثم توقّف وظهرت علامات الامتعاض واضحةً على وجهه، هتف ممتعضًا: ما هذه الأوزان الثقيلة، من أين جئت بهؤلاء البنات السمينات؟ لم يكن الطواشي يعرف شيئًا عن الذوق الفرنسي في النساء، وحار ماذا يفعل. وقال: هذا هو الذوق السائد، اعتقدت أن هذا النوع سيعجبكم، هزّ نابليون رأسه رافضًا، واقترب من الرابعة وشمّ شعرها ثم هتف: ما هذه الرائحة غير الطيّبة؟ كلهنّ لهنّ الرائحة نفسها، ماذا يأكلن وماذا يشربن؟ لم يكن راضيًا، أحس الطواشي أن مستقبله على وشك الانتهاء، لكنّ نابليون بدلًا من أن ينفجر في وجهه التفت إلى الناحية الأخرى، إلى حيث تقف الفتاة الأخيرة، الأطول قامة والأشد نحافة والأفتح بشرة، تخطّى البقية ووقف أمامها، ملأ رئتيه من رائحتها، ودار حولها يتأمل قوامها، لم تكن تلبس إلا ثوبًا بسيطًا من الحرير المقصب، منسدلًا على جسمها دون أي بروزات نافرة، سألها بالفرنسية فلم تفهم ولم تردّ، وأسرع الطواشي يقول لها: إنه يسألك عن اسمك؟ قالت بخجل: زينب، أخذ يردد الاسم كأنه يحاول أن يعرف ماذا يعني، سأل الطواشي: من أين أتت؟ تلعثم الطواشي قليلًا ثم قال: إنها ليست جارية عادية، إنها ابنة الشيخ البكري، حتى نابليون لم يستطع أن يُخفي دهشته، التفت للقادة المصاحبين له، وقال: كأننا في مأساة إغريقية، هذا الشيخ مستعد للتضحية بأي شيء من أجل منصب ما، ضحك القادة جميعًا، والتفت هو إلى الطواشي: اصرف هؤلاء القبيحات، وخذ هذه الجميلة إلى الداخل، دعهم يزيّنونها ويصنعون له ثيابًا ويعلمونها الفرنسية والرقص، وانصرف مسرعًا كعادته، لكن زينب دخلت عشّ النّسر.
في اليوم التالي كان على الشيخ البكري أن يذهب لمقابلة ساري عسكر، وكان على نابليون أن يسمح له بهذه المقابلة، أراد أن يعرف ماذا يدور في عقل هذا الشيخ ذي العمامة الضخمة، مجرد أن يعتني بمقابلته هذا يعني أنه قد قبل الهدية، لذلك بدا الشيخ مرتاحًا وهو يتحدث عن محبته للفرنسيس، وحرصه على راحتهم، فكّر نابليون بأنه شيخ ماكر، لكن مكره مفضوح، لذلك سأله بشكل مباشر: أنت مقرّب منّا بما يكفي، لكن قل لنا: ماذا تريد؟ كان الشيخ البكري بالفعل عضوًا بالمجمع الذي يضمّ كل المشايخ البارزين، وكانوا يجتمعون مع العلماء الفرنسيين أسبوعيًّا ولا يفقهون شيئًا مما يدور حولهم، لكن الشيخ كان يريد ما هو أكثر، أخذ يحدّث نابليون عن منصب نقيب الأشراف، هؤلاء الذين يتحدّرون من صلب الرسول [، وكيف أنه الأحق بهذا المنصب من الجميع منذ أن هرب النقيب السابق عمر مكرم إلى الشام.
لم يفهم نابليون في أول الأمر، لكنه فهم قليلًا عندما عرف أن هذا المنصب يدّر أموالًا وله بيوت وأراض تابعة له، كان الشيخ يؤكد أنه الوحيد الأحق بالمنصب، لكن عائلته حرمته منه. في النهاية لم يكن يهمّ نابليون مَن سيتولى أمر هذا المنصب الغامض، لكنه قرر أن يعطيه لهذا الشيخ اللحوح الذي قدّم ابنته قربانًا له.
كان الشيخ سعيدًا، انتقل إلى بيت النقيب الفخم وبدأت أراضي الوقف تدرّ عليه الأموال، لكن زينب لم تكن بالسعادة نفسها، لم تكن راضية عن الملابس التي أعدّوها لها، تلك الطبقات من الملابس الخشنة الثقيلة، وذلك القفص من الأعواد الرفيعة التي تجعل الثياب منفوخة وتبعدها عن جسمها، تجعلها تشعر بفراغ مرعب في نصفها السفلي، ولم تكن أيضًا تحب دروس الرقص، لم تفهمها ولم تقدر على عدّ الخطوات، كانت متعودة أن يشارك الجسم كله، ينفّس عن نفسه من خلال الحركة، لم تكن هناك أي حميمية في تلك الحركات التي تعتمد على حركة أطراف الأصابع في بعض الجسم دون أن تمتد لبقيته، لم تحب أيضًا اللغة الفرنسية، كل المفردات فيها متشابهة، تسقط من طرف اللسان دون معنى، حروف ساكنة وأخرى لا تُنطق، وكلها غير مفهومة، يوشك المعلم أن يدخل أصابعه في فمها ليلوي لسانها، لكنّها لا تستطيع، كل ما هو بعيد عن فكرها لا تستطيع أن تستوعبه، لم تحب أيضا الاستحمام كلّ يوم، يقوم به عبيد سود محترفون، كانوا يعملون الشيء نفسه أيام المماليك، مرطبات للجلد وعطور لا تألف رائحتها، أين دخان البخور الذي كان يحتوي جسدها؟
فراش من كوابيس
ثم جاءت اللحظة التي يهيئونها لفراش الجنرال، أدخلوها غرفته قبل أن يجيء بوقت، جردوها من كلّ ملابسها، وطال انتظارها في الفراش فأحسّت ببرودة وأنها وحيدة ومنبوذة أيضًا، غفت قليلًا، ثم فتحت عينيها ووجدته في الغرفة، يقف بجانب فراشها وهو يتأملها، مرتديًا كامل حلّته العسكرية بكل الأزرار والألوان والنياشين، يتفحصها بعين النسر، لا تدري هل يرغب فيها أم يوشك أن يطردها، يشير لها أن تظلّ في مكانها. كانت تفكر فقط في أمر واحد، لماذا لا يأتي أبوها الشيخ الجليل ليأخذها من هذا المكان؟
لم يأتِ الشيخ البكري، كان مشغولًا بحصد ريع الأملاك والفدادين التي انتقلت إليه، كان يضع جوهرة نفيسة في قمّة عمامته، ويرتدي عباءة من الحرير ويلبس مركوبًا من جلد التمساح، ويبدو أنه قد نسي ابنته تمامًا، الجنرال هو الذي ظل يواصل المجيء إلى فراشها كل ليلة، لم تشاركهم الأحاديث ولا حفلات الرقص، ولم تحب أصناف طعامهم. لكن الزمن لا يدوم على حال، حاصر الإنجليز نابليون وحطّموا أسطوله، حبسوه داخل حدود مصر مثل فأر في مصيدة، وكان لا بدّ أن يهرب، يركب سفينة صيد عادية ويهرب تحت جنح الظلام إلى فرنسا، لم تعرف زينب بهروبه إلا بعد أيام طويلة، كانت مندهشة من أن فراشها أمسى خاليًا ليلة بعد أخرى.
فقدت إحساسها بالوقت والمكان، ظلوا يتوافدون على فراشها، الغريب بعد مرور هذه الأشهر التي قضتها أسيرة هذا الفراش، أنها لم تستطع أن تألف هذه الأجساد، في كل لقاء كانت روحها تحلّق بعيدًا إلى الحارة الضيقة والبيت القديم الذي قضت فيه طفولتها، طفولتها التي تم اغتيالها فجأة، كل اقتحام غريب يُبعدها عن هذا المكان.
الفرنسيس يهربون
لكنّ الفرنسيس أيضًا بدأوا يتغيّرون، يأتون تباعًا، لكن بنفسية مختلفة، أقل ثقة بالنفس، وأقل إقبالًا على الحياة، لم يعودوا مزهويين كما كانوا في السابق، ولا يتحدثون عن الانتصارات، كانوا متعبين، محبَطين، الخناق يطبق عليهم، الإنجليز في البحر والأتراك في البرّ، وأيامهم قد أذنت بالغياب، ومرّة ثانية تعودت أن تنام وحيدة في فراشها أخيرًا، ثم لم يعد أحد منهم يأتي إلى البيت أصلًا، وبدأ الخدم والعبيد في الهروب، كانت تبدو غافلة عما يدور في العالَم خارج المنزل، لكنّ امرأة أخرى همست في أذنها وهي تستعد للرحيل: غدًا سيرحل جنود الفرنسيس خارج مصر، وسيصبح هذا البيت بلا حماية، عليك أيضًا بالهرب.
كأنها أفاقت من كابوس طوبل، بدأت تبحث عن ثيابها القديمة، جلباب الحرير المقصب، غطاء الرأس، والمركوب الذي جاءت به، ألقت بالملابس الفرنسية وارتاحت أخيرًا وهي ترتدي ملابسها القديمة، لم يمنعها أحد وهي تغادر البيت، غادرته قبل أن يتمّ اقتحام المنزل بأيام قليلة، فور أن ذهبت فلول الفرنسيس إلى الإسكندرية من أجل العودة إلى فرنسا، حتى بدأت الناس الغاضبة في مهاجمة البيوت التي كانوا يسكنون فيها، وكان هذا المنزل أوّلها.
سألت حتى عرفت مكان بيت أبيها الجديد، فوجئت به وقد شاخ، أصبح غريبًا، أكثر سِمنة وهرمًا وحدّة في الطبع، لا يفيق تقريبًا، خائفًا ومرتعدًا وهو يسمع عن عمليات الانتقام اليومية التي تحدث في الشوارع من كل الذين تعاونوا مع الفرنسيس، ربّما مركزه وهيبته الدينية هي التي منعتهم من الوصول إليه، اختبأت زينب أيضًا، لم تجرؤ على مواجهة أمها وكانت مشمئزّة من أبيها ولا تريد أن تقابله، كانت تريد أن تستعيد جسدها، جسدها الذي لم يُغتصب أو يُمتَهن.
لكنّ أحوال القاهرة لم تكن تسمح بأي عزلة، رحل الفرنسيس وعاد العثمانلي، دخل جيشهم القاهرة دون أن يكسبوا أيّ معركة، فاز عليهم الفرنسيس في كل واقعة حتى وهم بنصف عددهم، النصر الوحيد كان سيكون على حساب المصريين المستكنين لكل احتلال، لقد نسوا فظاعات العثمانيين التاريخية ولم يتذكّروا فقط، غير أنهم يتشاركون في الدين نفسه، كان أول قرارات الوالي التركي هو البحث عن كلّ الذين تعاونوا مع الفرنسيس وقتلهم، ولم يكن هناك أشهر من زينب البكري، قربان سهل لإرضاء الغضب وتحقيق انتصار، اقتحم جنوده منزل الشيخ البكري، ومثلما كان أبوها نذلًا في البداية، كان نذلًا في النهاية أيضًا، فقد صاح عاليًا: أنا بريء منها ومن كل ما فعلته، خذوها واقصفوا رقبتها، تعالت الصّيحات الوحشية وهم يقودونها، كانت ماتزال جميلة، تتحدّث بهمس وتغضي في خفَر، كانت فقط طويلة الرقبة، ولا يوجد مَن يدافع عنها، وسط صرخات الانتقام والبحث عن ضحية، وفي ميدان القلعة لم يتورّع الجلاد عن قطع هذه الرقبة الجميلة، وأصبحت بنت البكري أول مقصوفة رقبة■