مقصوفةُ الرّقبَة

مقصوفةُ الرّقبَة

ليست‭ ‬صفحة‭ ‬كاملة،‭ ‬لكنها‭ ‬عدة‭ ‬سطور‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬حافل،‭ ‬تجسد‭ ‬مأساة‭ ‬إنسانية‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬مضطرب‭ ‬حافل‭ ‬بالتناقضات،‭ ‬في‭ ‬الحملة‭ ‬الفرنسية‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1798‭ ‬التي‭ ‬أسقطت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأقنعة،‭ ‬وكشفت‭ ‬عن‭ ‬الغرائز‭ ‬الدفينة،‭ ‬ودفعت‭ ‬ثمنها‭ ‬نفوس‭ ‬بشرية‭ ‬بريئة‭ ‬لم‭ ‬تدر‭ ‬ماذا‭ ‬يدور‭ ‬حولها‭ ‬ولم‭ ‬تتحكم‭ ‬في‭ ‬مصيرها،‭ ‬ولكن‭ ‬دعونا‭ ‬نروي‭ ‬القصة‭ ‬من‭ ‬بدايتها‭.‬

هبط‭ ‬الشيخ‭ ‬البكري‭ ‬بجلالة‭ ‬قدره‭ ‬وعمامته‭ ‬الضخمة‭ ‬إلى‭ ‬القبو‭ ‬الموجود‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬ساري‭ ‬عسكر‭ ‬الفرنسيس،‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬لزيارة‭ ‬نابليون‭ ‬بونابرت،‭ ‬كما‭ ‬تعوّد‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬كل‭ ‬عدة‭ ‬أيام،‭ ‬ولكنه‭ ‬ذهب‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬االطواشيب‭ ‬القيّم‭ ‬الذي‭ ‬يشرف‭ ‬على‭ ‬إدارة‭ ‬المنزل‭ ‬الضخم،‭ ‬نظر‭ ‬إليه‭ ‬القيّم‭ ‬في‭ ‬اندهاش،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬متعودًا‭ ‬على‭ ‬زيارة‭ ‬كبار‭ ‬الزوار،‭ ‬يكفيه‭ ‬أنه‭ ‬ينظّم‭ ‬حركة‭ ‬الخدم‭ ‬والجواري‭ ‬ويتعامل‭ ‬مع‭ ‬مورّدي‭ ‬الفاكهة‭ ‬والخضراوات‭ ‬واللحم،‭ ‬ولكن‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬المشايخ‭ ‬أعضاء‭ ‬المجمع‭ ‬العلمي،‭ ‬فهذا‭ ‬شرف‭ ‬فوق‭ ‬طاقته،‭ ‬لكن‭ ‬الشيخ‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭: ‬علمت‭ ‬أنك‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬سوق‭ ‬العبيد‭ ‬واشتريت‭ ‬سبعًا‭ ‬من‭ ‬الجواري،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الأمر‭ ‬سرًّا،‭ ‬قال‭ ‬الطواشي‭: ‬أنت‭ ‬تعرف‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬لي،‭ ‬ولكن‭ ‬للجنرال‭ ‬نابليون،‭ ‬قال‭ ‬الشيخ‭: ‬بالطبع،‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يعترض،‭ ‬أريد‭ ‬فقط‭ ‬أن‭ ‬أضيف‭ ‬فتاة‭ ‬ثامنة‭ ‬لبقية‭ ‬الفتيات،‭ ‬بلغت‭ ‬الدهشة‭ ‬أقصاها‭ ‬للطواشي‭ ‬وهو‭ ‬يتساءل‭: ‬هل‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تبيع‭ ‬لنا‭ ‬جارية،‭ ‬هل‭ ‬تمارس‭ ‬هذه‭ ‬التجارة؟‭ ‬قال‭ ‬الشيخ‭ ‬باختصار‭: ‬إنها‭ ‬هدية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مقابل‭... ‬إجابة‭ ‬غير‭ ‬مقنعة،‭ ‬عاد‭ ‬الطواشي‭ ‬يسأل‭: ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬تهديها‭ ‬بنفسك،‭ ‬أنت‭ ‬لست‭ ‬بعيدًا‭ ‬عنه؟‭ ‬قال‭ ‬الشيخ‭ ‬في‭ ‬غموض‭: ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أترك‭ ‬له‭ ‬الفرصة‭ ‬للاختيار،‭ ‬والمقارنة‭ ‬بينها‭ ‬والأخريات،‭ ‬استدار‭ ‬الشيخ‭ ‬واستعد‭ ‬للانصراف،‭ ‬لكنه‭ ‬التفت‭ ‬إليه‭ ‬وقال‭ ‬مؤكدًا‭: ‬لا‭ ‬تعرض‭ ‬الجواري‭ ‬عليه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أحضر‭ ‬الفتاة،‭ ‬وانصرف‭ ‬مسرعًا‭.‬

‭ ‬وجد‭ ‬الطواشي‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬مناص‭ ‬أمامه‭ ‬إلا‭ ‬الانتظار،‭ ‬ربما‭ ‬تكون‭ ‬الجارية‭ ‬القادمة‭ ‬قبيحة‭ ‬جدًّا‭ ‬أو‭ ‬عجوز‭ ‬فيرفضها‭ ‬بسهولة‭ ‬ولا‭ ‬تحدث‭ ‬مشكلة،‭ ‬لكنّ‭ ‬الفتاة‭ ‬التي‭ ‬أحضرها‭ ‬الشيخ‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لتُرفَض،‭ ‬حين‭ ‬وضعها‭ ‬الطواشي‭ ‬وسط‭ ‬الجواري‭ ‬السبع‭ ‬وجد‭ ‬أنها‭ ‬تتفوق‭ ‬عليهن‭ ‬جميعًا،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تتجاوز‭ ‬الرابعة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمرها،‭ ‬نضرة،‭ ‬مشرقة‭ ‬كشمس‭ ‬الضحى،‭ ‬خجولة‭ ‬لا‭ ‬تدري‭ ‬لماذا‭ ‬جاءت‭ ‬إلى‭ ‬هنا،‭ ‬ولا‭ ‬ماذا‭ ‬سيحدث‭ ‬لها،‭ ‬اقترب‭ ‬منها‭ ‬الطواشي‭ ‬مندهشًا‭ ‬من‭ ‬سحر‭ ‬الصبا‭ ‬المنبعث‭ ‬منها،‭ ‬وقال‭: ‬أنت‭ ‬لست‭ ‬جارية،‭ ‬هيئتك‭ ‬لا‭ ‬تدلّ‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬مَن‭ ‬أنتِ‭ ‬بالضبط؟‭ ‬قالت‭ ‬بصوت‭ ‬خافت‭: ‬أنا‭ ‬ابنته،‭ ‬هتف‭ ‬مندهشًا‭: ‬أنت‭ ‬بنت‭ ‬الشيخ‭ ‬البكري،‭ ‬حرّة‭ ‬شريفة،‭ ‬ألا‭ ‬يعلم‭ ‬ماذا‭ ‬سيحدث‭ ‬لك‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البيت؟‭ ‬لم‭ ‬تُجب،‭ ‬وبدا‭ ‬واضحًا‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تعلم،‭ ‬لكنّ‭ ‬أباها‭ ‬يعلم‭ ‬بالتأكيد،‭ ‬فقد‭ ‬جالس‭ ‬الفرنسيس‭ ‬طويلًا،‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬دخلوا‭ ‬مصر‭ ‬وهو‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬ركابهم،‭ ‬كلا‭... ‬خلفهم‭ ‬ببضع‭ ‬خطوات،‭ ‬يتعلّم‭ ‬لغتهم،‭ ‬يشاهدهم‭ ‬وهم‭ ‬يرقصون،‭ ‬كيف‭ ‬يتأتّى‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يُدخل‭ ‬ابنته‭ ‬الغريرة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المستنقع‭ ‬ويطلب‭ ‬منها‭ ‬السباحة‭ ‬وحدها،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬يهب‭ ‬جسدها‭ ‬للتمساح‭ ‬الأكبر‭ ‬بونابرت‭.‬

 

الجنرال‭ ‬يختار

قبل‭ ‬أن‭ ‬يفيق‭ ‬الطواشي‭ ‬من‭ ‬أفكاره‭ ‬فوجئ‭ ‬بالجنرال‭ ‬وهو‭ ‬قادم‭ ‬بنفسه‭ ‬ليستعرض‭ ‬الجواري‭ ‬الجديدات،‭ ‬أسرع‭ ‬يضعهن‭ ‬في‭ ‬صفّ‭ ‬واحد،‭ ‬رتّب‭ ‬ثيابهن‭ ‬وشعورهن‭ ‬بسرعة،‭ ‬ثم‭ ‬وقف‭ ‬محنيّ‭ ‬الرأس‭ ‬أمام‭ ‬الجنرال‭ ‬القصير‭ ‬القامة،‭ ‬توقّف‭ ‬نابليون‭ ‬يتأمّل‭ ‬الجارية‭ ‬الأولى،‭ ‬ثم‭ ‬انتقل‭ ‬سريعًا‭ ‬للثانية‭ ‬ثم‭ ‬الثالثة،‭ ‬ثم‭ ‬توقّف‭ ‬وظهرت‭ ‬علامات‭ ‬الامتعاض‭ ‬واضحةً‭ ‬على‭ ‬وجهه،‭ ‬هتف‭ ‬ممتعضًا‭: ‬ما‭ ‬هذه‭ ‬الأوزان‭ ‬الثقيلة،‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬جئت‭ ‬بهؤلاء‭ ‬البنات‭ ‬السمينات؟‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الطواشي‭ ‬يعرف‭ ‬شيئًا‭ ‬عن‭ ‬الذوق‭ ‬الفرنسي‭ ‬في‭ ‬النساء،‭ ‬وحار‭ ‬ماذا‭ ‬يفعل‭. ‬وقال‭: ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الذوق‭ ‬السائد،‭ ‬اعتقدت‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬سيعجبكم،‭ ‬هزّ‭ ‬نابليون‭ ‬رأسه‭ ‬رافضًا،‭ ‬واقترب‭ ‬من‭ ‬الرابعة‭ ‬وشمّ‭ ‬شعرها‭ ‬ثم‭ ‬هتف‭: ‬ما‭ ‬هذه‭ ‬الرائحة‭ ‬غير‭ ‬الطيّبة؟‭ ‬كلهنّ‭ ‬لهنّ‭ ‬الرائحة‭ ‬نفسها،‭ ‬ماذا‭ ‬يأكلن‭ ‬وماذا‭ ‬يشربن؟‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬راضيًا،‭ ‬أحس‭ ‬الطواشي‭ ‬أن‭ ‬مستقبله‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬الانتهاء،‭ ‬لكنّ‭ ‬نابليون‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬ينفجر‭ ‬في‭ ‬وجهه‭ ‬التفت‭ ‬إلى‭ ‬الناحية‭ ‬الأخرى،‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬تقف‭ ‬الفتاة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬الأطول‭ ‬قامة‭ ‬والأشد‭ ‬نحافة‭ ‬والأفتح‭ ‬بشرة،‭ ‬تخطّى‭ ‬البقية‭ ‬ووقف‭ ‬أمامها،‭ ‬ملأ‭ ‬رئتيه‭ ‬من‭ ‬رائحتها،‭ ‬ودار‭ ‬حولها‭ ‬يتأمل‭ ‬قوامها،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تلبس‭ ‬إلا‭ ‬ثوبًا‭ ‬بسيطًا‭ ‬من‭ ‬الحرير‭ ‬المقصب،‭ ‬منسدلًا‭ ‬على‭ ‬جسمها‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬بروزات‭ ‬نافرة،‭ ‬سألها‭ ‬بالفرنسية‭ ‬فلم‭ ‬تفهم‭ ‬ولم‭ ‬تردّ،‭ ‬وأسرع‭ ‬الطواشي‭ ‬يقول‭ ‬لها‭: ‬إنه‭ ‬يسألك‭ ‬عن‭ ‬اسمك؟‭ ‬قالت‭ ‬بخجل‭: ‬زينب،‭ ‬أخذ‭ ‬يردد‭ ‬الاسم‭ ‬كأنه‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬ماذا‭ ‬يعني،‭ ‬سأل‭ ‬الطواشي‭: ‬من‭ ‬أين‭ ‬أتت؟‭ ‬تلعثم‭ ‬الطواشي‭ ‬قليلًا‭ ‬ثم‭ ‬قال‭: ‬إنها‭ ‬ليست‭ ‬جارية‭ ‬عادية،‭ ‬إنها‭ ‬ابنة‭ ‬الشيخ‭ ‬البكري،‭ ‬حتى‭ ‬نابليون‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬أن‭ ‬يُخفي‭ ‬دهشته،‭ ‬التفت‭ ‬للقادة‭ ‬المصاحبين‭ ‬له،‭ ‬وقال‭: ‬كأننا‭ ‬في‭ ‬مأساة‭ ‬إغريقية،‭ ‬هذا‭ ‬الشيخ‭ ‬مستعد‭ ‬للتضحية‭ ‬بأي‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬منصب‭ ‬ما،‭ ‬ضحك‭ ‬القادة‭ ‬جميعًا،‭ ‬والتفت‭ ‬هو‭ ‬إلى‭ ‬الطواشي‭: ‬اصرف‭ ‬هؤلاء‭ ‬القبيحات،‭ ‬وخذ‭ ‬هذه‭ ‬الجميلة‭ ‬إلى‭ ‬الداخل،‭ ‬دعهم‭ ‬يزيّنونها‭ ‬ويصنعون‭ ‬له‭ ‬ثيابًا‭ ‬ويعلمونها‭ ‬الفرنسية‭ ‬والرقص،‭ ‬وانصرف‭ ‬مسرعًا‭ ‬كعادته،‭ ‬لكن‭ ‬زينب‭ ‬دخلت‭ ‬عشّ‭ ‬النّسر‭.‬

في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬الشيخ‭ ‬البكري‭ ‬أن‭ ‬يذهب‭ ‬لمقابلة‭ ‬ساري‭ ‬عسكر،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬نابليون‭ ‬أن‭ ‬يسمح‭ ‬له‭ ‬بهذه‭ ‬المقابلة،‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬ماذا‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬عقل‭ ‬هذا‭ ‬الشيخ‭ ‬ذي‭ ‬العمامة‭ ‬الضخمة،‭ ‬مجرد‭ ‬أن‭ ‬يعتني‭ ‬بمقابلته‭ ‬هذا‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬قبل‭ ‬الهدية،‭ ‬لذلك‭ ‬بدا‭ ‬الشيخ‭ ‬مرتاحًا‭ ‬وهو‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬محبته‭ ‬للفرنسيس،‭ ‬وحرصه‭ ‬على‭ ‬راحتهم،‭ ‬فكّر‭ ‬نابليون‭ ‬بأنه‭ ‬شيخ‭ ‬ماكر،‭ ‬لكن‭ ‬مكره‭ ‬مفضوح،‭ ‬لذلك‭ ‬سأله‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭: ‬أنت‭ ‬مقرّب‭ ‬منّا‭ ‬بما‭ ‬يكفي،‭ ‬لكن‭ ‬قل‭ ‬لنا‭: ‬ماذا‭ ‬تريد؟‭ ‬كان‭ ‬الشيخ‭ ‬البكري‭ ‬بالفعل‭ ‬عضوًا‭ ‬بالمجمع‭ ‬الذي‭ ‬يضمّ‭ ‬كل‭ ‬المشايخ‭ ‬البارزين،‭ ‬وكانوا‭ ‬يجتمعون‭ ‬مع‭ ‬العلماء‭ ‬الفرنسيين‭ ‬أسبوعيًّا‭ ‬ولا‭ ‬يفقهون‭ ‬شيئًا‭ ‬مما‭ ‬يدور‭ ‬حولهم،‭ ‬لكن‭ ‬الشيخ‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أكثر،‭ ‬أخذ‭ ‬يحدّث‭ ‬نابليون‭ ‬عن‭ ‬منصب‭ ‬نقيب‭ ‬الأشراف،‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬يتحدّرون‭ ‬من‭ ‬صلب‭ ‬الرسول‭ [‬،‭ ‬وكيف‭ ‬أنه‭ ‬الأحق‭ ‬بهذا‭ ‬المنصب‭ ‬من‭ ‬الجميع‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬هرب‭ ‬النقيب‭ ‬السابق‭ ‬عمر‭ ‬مكرم‭ ‬إلى‭ ‬الشام‭.‬

لم‭ ‬يفهم‭ ‬نابليون‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬الأمر،‭ ‬لكنه‭ ‬فهم‭ ‬قليلًا‭ ‬عندما‭ ‬عرف‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المنصب‭ ‬يدّر‭ ‬أموالًا‭ ‬وله‭ ‬بيوت‭ ‬وأراض‭ ‬تابعة‭ ‬له،‭ ‬كان‭ ‬الشيخ‭ ‬يؤكد‭ ‬أنه‭ ‬الوحيد‭ ‬الأحق‭ ‬بالمنصب،‭ ‬لكن‭ ‬عائلته‭ ‬حرمته‭ ‬منه‭. ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يهمّ‭ ‬نابليون‭ ‬مَن‭ ‬سيتولى‭ ‬أمر‭ ‬هذا‭ ‬المنصب‭ ‬الغامض،‭ ‬لكنه‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬يعطيه‭ ‬لهذا‭ ‬الشيخ‭ ‬اللحوح‭ ‬الذي‭ ‬قدّم‭ ‬ابنته‭ ‬قربانًا‭ ‬له‭.‬

كان‭ ‬الشيخ‭ ‬سعيدًا،‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬النقيب‭ ‬الفخم‭ ‬وبدأت‭ ‬أراضي‭ ‬الوقف‭ ‬تدرّ‭ ‬عليه‭ ‬الأموال،‭ ‬لكن‭ ‬زينب‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬بالسعادة‭ ‬نفسها،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬راضية‭ ‬عن‭ ‬الملابس‭ ‬التي‭ ‬أعدّوها‭ ‬لها،‭ ‬تلك‭ ‬الطبقات‭ ‬من‭ ‬الملابس‭ ‬الخشنة‭ ‬الثقيلة،‭ ‬وذلك‭ ‬القفص‭ ‬من‭ ‬الأعواد‭ ‬الرفيعة‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬الثياب‭ ‬منفوخة‭ ‬وتبعدها‭ ‬عن‭ ‬جسمها،‭ ‬تجعلها‭ ‬تشعر‭ ‬بفراغ‭ ‬مرعب‭ ‬في‭ ‬نصفها‭ ‬السفلي،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬أيضًا‭ ‬تحب‭ ‬دروس‭ ‬الرقص،‭ ‬لم‭ ‬تفهمها‭ ‬ولم‭ ‬تقدر‭ ‬على‭ ‬عدّ‭ ‬الخطوات،‭ ‬كانت‭ ‬متعودة‭ ‬أن‭ ‬يشارك‭ ‬الجسم‭ ‬كله،‭ ‬ينفّس‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الحركة،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬أي‭ ‬حميمية‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحركات‭ ‬التي‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬حركة‭ ‬أطراف‭ ‬الأصابع‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الجسم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تمتد‭ ‬لبقيته،‭ ‬لم‭ ‬تحب‭ ‬أيضًا‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬كل‭ ‬المفردات‭ ‬فيها‭ ‬متشابهة،‭ ‬تسقط‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬اللسان‭ ‬دون‭ ‬معنى،‭ ‬حروف‭ ‬ساكنة‭ ‬وأخرى‭ ‬لا‭ ‬تُنطق،‭ ‬وكلها‭ ‬غير‭ ‬مفهومة،‭ ‬يوشك‭ ‬المعلم‭ ‬أن‭ ‬يدخل‭ ‬أصابعه‭ ‬في‭ ‬فمها‭ ‬ليلوي‭ ‬لسانها،‭ ‬لكنّها‭ ‬لا‭ ‬تستطيع،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬فكرها‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تستوعبه،‭ ‬لم‭ ‬تحب‭ ‬أيضا‭ ‬الاستحمام‭ ‬كلّ‭ ‬يوم،‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬عبيد‭ ‬سود‭ ‬محترفون،‭ ‬كانوا‭ ‬يعملون‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه‭ ‬أيام‭ ‬المماليك،‭ ‬مرطبات‭ ‬للجلد‭ ‬وعطور‭ ‬لا‭ ‬تألف‭ ‬رائحتها،‭ ‬أين‭ ‬دخان‭ ‬البخور‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحتوي‭ ‬جسدها؟

 

فراش‭ ‬من‭ ‬كوابيس

ثم‭ ‬جاءت‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬يهيئونها‭ ‬لفراش‭ ‬الجنرال،‭ ‬أدخلوها‭ ‬غرفته‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يجيء‭ ‬بوقت،‭ ‬جردوها‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬ملابسها،‭ ‬وطال‭ ‬انتظارها‭ ‬في‭ ‬الفراش‭ ‬فأحسّت‭ ‬ببرودة‭ ‬وأنها‭ ‬وحيدة‭ ‬ومنبوذة‭ ‬أيضًا،‭ ‬غفت‭ ‬قليلًا،‭ ‬ثم‭ ‬فتحت‭ ‬عينيها‭ ‬ووجدته‭ ‬في‭ ‬الغرفة،‭ ‬يقف‭ ‬بجانب‭ ‬فراشها‭ ‬وهو‭ ‬يتأملها،‭ ‬مرتديًا‭ ‬كامل‭ ‬حلّته‭ ‬العسكرية‭ ‬بكل‭ ‬الأزرار‭ ‬والألوان‭ ‬والنياشين،‭ ‬يتفحصها‭ ‬بعين‭ ‬النسر،‭ ‬لا‭ ‬تدري‭ ‬هل‭ ‬يرغب‭ ‬فيها‭ ‬أم‭ ‬يوشك‭ ‬أن‭ ‬يطردها،‭ ‬يشير‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تظلّ‭ ‬في‭ ‬مكانها‭.  ‬كانت‭ ‬تفكر‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬واحد،‭ ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬يأتي‭ ‬أبوها‭ ‬الشيخ‭ ‬الجليل‭ ‬ليأخذها‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المكان؟

‭ ‬لم‭ ‬يأتِ‭ ‬الشيخ‭ ‬البكري،‭ ‬كان‭ ‬مشغولًا‭ ‬بحصد‭ ‬ريع‭ ‬الأملاك‭ ‬والفدادين‭ ‬التي‭ ‬انتقلت‭ ‬إليه،‭ ‬كان‭ ‬يضع‭ ‬جوهرة‭ ‬نفيسة‭ ‬في‭ ‬قمّة‭ ‬عمامته،‭ ‬ويرتدي‭ ‬عباءة‭ ‬من‭ ‬الحرير‭ ‬ويلبس‭ ‬مركوبًا‭ ‬من‭ ‬جلد‭ ‬التمساح،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬نسي‭ ‬ابنته‭ ‬تمامًا،‭ ‬الجنرال‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬يواصل‭ ‬المجيء‭ ‬إلى‭ ‬فراشها‭ ‬كل‭ ‬ليلة،‭ ‬لم‭ ‬تشاركهم‭ ‬الأحاديث‭ ‬ولا‭ ‬حفلات‭ ‬الرقص،‭ ‬ولم‭ ‬تحب‭ ‬أصناف‭ ‬طعامهم‭. ‬لكن‭ ‬الزمن‭ ‬لا‭ ‬يدوم‭ ‬على‭ ‬حال،‭ ‬حاصر‭ ‬الإنجليز‭ ‬نابليون‭ ‬وحطّموا‭ ‬أسطوله،‭ ‬حبسوه‭ ‬داخل‭ ‬حدود‭ ‬مصر‭ ‬مثل‭ ‬فأر‭ ‬في‭ ‬مصيدة،‭ ‬وكان‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬يهرب،‭ ‬يركب‭ ‬سفينة‭ ‬صيد‭ ‬عادية‭ ‬ويهرب‭ ‬تحت‭ ‬جنح‭ ‬الظلام‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا،‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬زينب‭ ‬بهروبه‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أيام‭ ‬طويلة،‭ ‬كانت‭ ‬مندهشة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬فراشها‭ ‬أمسى‭ ‬خاليًا‭ ‬ليلة‭ ‬بعد‭ ‬أخرى‭.‬

‭ ‬فقدت‭ ‬إحساسها‭ ‬بالوقت‭ ‬والمكان،‭ ‬ظلوا‭ ‬يتوافدون‭ ‬على‭ ‬فراشها،‭ ‬الغريب‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬هذه‭ ‬الأشهر‭ ‬التي‭ ‬قضتها‭ ‬أسيرة‭ ‬هذا‭ ‬الفراش،‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أن‭ ‬تألف‭ ‬هذه‭ ‬الأجساد،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لقاء‭ ‬كانت‭ ‬روحها‭ ‬تحلّق‭ ‬بعيدًا‭ ‬إلى‭ ‬الحارة‭ ‬الضيقة‭ ‬والبيت‭ ‬القديم‭ ‬الذي‭ ‬قضت‭ ‬فيه‭ ‬طفولتها،‭ ‬طفولتها‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬اغتيالها‭ ‬فجأة،‭ ‬كل‭ ‬اقتحام‭ ‬غريب‭ ‬يُبعدها‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭.‬

 

الفرنسيس‭ ‬يهربون

‭ ‬لكنّ‭ ‬الفرنسيس‭ ‬أيضًا‭ ‬بدأوا‭ ‬يتغيّرون،‭ ‬يأتون‭ ‬تباعًا،‭ ‬لكن‭ ‬بنفسية‭ ‬مختلفة،‭ ‬أقل‭ ‬ثقة‭ ‬بالنفس،‭ ‬وأقل‭ ‬إقبالًا‭ ‬على‭ ‬الحياة،‭ ‬لم‭ ‬يعودوا‭ ‬مزهويين‭ ‬كما‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬السابق،‭ ‬ولا‭ ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬الانتصارات،‭ ‬كانوا‭ ‬متعبين،‭ ‬محبَطين،‭ ‬الخناق‭ ‬يطبق‭ ‬عليهم،‭ ‬الإنجليز‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬والأتراك‭ ‬في‭ ‬البرّ،‭ ‬وأيامهم‭ ‬قد‭ ‬أذنت‭ ‬بالغياب،‭ ‬ومرّة‭ ‬ثانية‭ ‬تعودت‭ ‬أن‭ ‬تنام‭ ‬وحيدة‭ ‬في‭ ‬فراشها‭ ‬أخيرًا،‭ ‬ثم‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬أحد‭ ‬منهم‭ ‬يأتي‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬أصلًا،‭ ‬وبدأ‭ ‬الخدم‭ ‬والعبيد‭ ‬في‭ ‬الهروب،‭ ‬كانت‭ ‬تبدو‭ ‬غافلة‭ ‬عما‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬العالَم‭ ‬خارج‭ ‬المنزل،‭ ‬لكنّ‭ ‬امرأة‭ ‬أخرى‭ ‬همست‭ ‬في‭ ‬أذنها‭ ‬وهي‭ ‬تستعد‭ ‬للرحيل‭: ‬غدًا‭ ‬سيرحل‭ ‬جنود‭ ‬الفرنسيس‭ ‬خارج‭ ‬مصر،‭ ‬وسيصبح‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬بلا‭ ‬حماية،‭ ‬عليك‭ ‬أيضًا‭ ‬بالهرب‭.‬

كأنها‭ ‬أفاقت‭ ‬من‭ ‬كابوس‭ ‬طوبل،‭ ‬بدأت‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬ثيابها‭ ‬القديمة،‭ ‬جلباب‭ ‬الحرير‭ ‬المقصب،‭ ‬غطاء‭ ‬الرأس،‭ ‬والمركوب‭ ‬الذي‭ ‬جاءت‭ ‬به،‭ ‬ألقت‭ ‬بالملابس‭ ‬الفرنسية‭ ‬وارتاحت‭ ‬أخيرًا‭ ‬وهي‭ ‬ترتدي‭ ‬ملابسها‭ ‬القديمة،‭ ‬لم‭ ‬يمنعها‭ ‬أحد‭ ‬وهي‭ ‬تغادر‭ ‬البيت،‭ ‬غادرته‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتمّ‭ ‬اقتحام‭ ‬المنزل‭ ‬بأيام‭ ‬قليلة،‭ ‬فور‭ ‬أن‭ ‬ذهبت‭ ‬فلول‭ ‬الفرنسيس‭ ‬إلى‭ ‬الإسكندرية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا،‭ ‬حتى‭ ‬بدأت‭ ‬الناس‭ ‬الغاضبة‭ ‬في‭ ‬مهاجمة‭ ‬البيوت‭ ‬التي‭ ‬كانوا‭ ‬يسكنون‭ ‬فيها،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬المنزل‭ ‬أوّلها‭.‬

سألت‭ ‬حتى‭ ‬عرفت‭ ‬مكان‭ ‬بيت‭ ‬أبيها‭ ‬الجديد،‭ ‬فوجئت‭ ‬به‭ ‬وقد‭ ‬شاخ،‭ ‬أصبح‭ ‬غريبًا،‭ ‬أكثر‭ ‬سِمنة‭ ‬وهرمًا‭ ‬وحدّة‭ ‬في‭ ‬الطبع،‭ ‬لا‭ ‬يفيق‭ ‬تقريبًا،‭ ‬خائفًا‭ ‬ومرتعدًا‭ ‬وهو‭ ‬يسمع‭ ‬عن‭ ‬عمليات‭ ‬الانتقام‭ ‬اليومية‭ ‬التي‭ ‬تحدث‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الذين‭ ‬تعاونوا‭ ‬مع‭ ‬الفرنسيس،‭ ‬ربّما‭ ‬مركزه‭ ‬وهيبته‭ ‬الدينية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬منعتهم‭ ‬من‭ ‬الوصول‭ ‬إليه،‭ ‬اختبأت‭ ‬زينب‭ ‬أيضًا،‭ ‬لم‭ ‬تجرؤ‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬أمها‭ ‬وكانت‭ ‬مشمئزّة‭ ‬من‭ ‬أبيها‭ ‬ولا‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تقابله،‭ ‬كانت‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تستعيد‭ ‬جسدها،‭ ‬جسدها‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يُغتصب‭ ‬أو‭ ‬يُمتَهن‭.‬

‭ ‬لكنّ‭ ‬أحوال‭ ‬القاهرة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تسمح‭ ‬بأي‭ ‬عزلة،‭ ‬رحل‭ ‬الفرنسيس‭ ‬وعاد‭ ‬العثمانلي،‭ ‬دخل‭ ‬جيشهم‭ ‬القاهرة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكسبوا‭ ‬أيّ‭ ‬معركة،‭ ‬فاز‭ ‬عليهم‭ ‬الفرنسيس‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬واقعة‭ ‬حتى‭ ‬وهم‭ ‬بنصف‭ ‬عددهم،‭ ‬النصر‭ ‬الوحيد‭ ‬كان‭ ‬سيكون‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬المصريين‭ ‬المستكنين‭ ‬لكل‭ ‬احتلال،‭ ‬لقد‭ ‬نسوا‭ ‬فظاعات‭ ‬العثمانيين‭ ‬التاريخية‭ ‬ولم‭ ‬يتذكّروا‭ ‬فقط،‭ ‬غير‭ ‬أنهم‭ ‬يتشاركون‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬نفسه،‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬قرارات‭ ‬الوالي‭ ‬التركي‭ ‬هو‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬كلّ‭ ‬الذين‭ ‬تعاونوا‭ ‬مع‭ ‬الفرنسيس‭ ‬وقتلهم،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬أشهر‭ ‬من‭ ‬زينب‭ ‬البكري،‭ ‬قربان‭ ‬سهل‭ ‬لإرضاء‭ ‬الغضب‭ ‬وتحقيق‭ ‬انتصار،‭ ‬اقتحم‭ ‬جنوده‭ ‬منزل‭ ‬الشيخ‭ ‬البكري،‭ ‬ومثلما‭ ‬كان‭ ‬أبوها‭ ‬نذلًا‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬كان‭ ‬نذلًا‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬أيضًا،‭ ‬فقد‭ ‬صاح‭ ‬عاليًا‭: ‬أنا‭ ‬بريء‭ ‬منها‭ ‬ومن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬فعلته،‭ ‬خذوها‭ ‬واقصفوا‭ ‬رقبتها،‭ ‬تعالت‭ ‬الصّيحات‭ ‬الوحشية‭ ‬وهم‭ ‬يقودونها،‭ ‬كانت‭ ‬ماتزال‭ ‬جميلة،‭ ‬تتحدّث‭ ‬بهمس‭ ‬وتغضي‭ ‬في‭ ‬خفَر،‭ ‬كانت‭ ‬فقط‭ ‬طويلة‭ ‬الرقبة،‭ ‬ولا‭ ‬يوجد‭ ‬مَن‭ ‬يدافع‭ ‬عنها،‭ ‬وسط‭ ‬صرخات‭ ‬الانتقام‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬ضحية،‭ ‬وفي‭ ‬ميدان‭ ‬القلعة‭ ‬لم‭ ‬يتورّع‭ ‬الجلاد‭ ‬عن‭ ‬قطع‭ ‬هذه‭ ‬الرقبة‭ ‬الجميلة،‭ ‬وأصبحت‭ ‬بنت‭ ‬البكري‭ ‬أول‭ ‬مقصوفة‭ ‬رقبة■