تاج مَحلّ أعجوبة من عجائب الدُنيا السبع
تاج محل... قصة حُب وجمال، ودمعة على خد الزمن، وموقف فلسفي، وموقع أثري عظيم، وآية في الهندسة والبناء، ودُرّة الفن والتراث الثقافي الإسلامي الهندي، ومن أعظم وأروع الآثار المغولية الباقية في الهند، بناه الإمبراطور شاه جهان في آغرا. ويعتبر اليوم أعجوبة من عجائب الدنيا السبع، وقد تم تصنيفه كموقع التراث العالمي لـ «اليونسكو».
تقع مدينة آغـرا في ولاية اُتْرَابَرادِيش، بعيدًا نحو مئتي كيلومتر جنوبًا من نيودلهي عاصمة الهند. وأول من اتخذها مقرًا له من حكام الهند المسلمين هو السلطان بهلول اللودهي، مؤسس السلالة اللودهية في الهند في عام 1451م، الذي أسس فيها مدينة جميلة وسماها ابَادَلْ كَدَهْب. ثم جعلها بعد ذلك الإمبراطور ظهير الدين محمد بابر مؤسس السلطنة المغولية في الهند مقرًا له. وغرس فيها الحدائق الغنّاء، وبنى منشآت حيوية مهمّة، ثم اتخذها الإمبراطور جلال الدين أكبر عاصمة للحكومة المغولية الهندية، وبنى فيها قلعة حصينة شامخة عرفت بالقلعة الحمراء، لأنها مبنية بالحجارة الحمراء المنحوتة، وسماها أكبرآباد، التي كانت من أشهر مدن الهند وأحسنها بعد مدينة دلهي أنذاك.
الإمبراطور شاه جهان
وُلد الإمبرطور شاه جهان في عام 1592م، وهو ابن الملك نور الدين محمد سليم المعروف بجهانجير (فاتح العالم) 1628 - 1658. اتصف برحابة العقل والذكاء وقوة العزيمة، حتى كان جده الإمبراطور جلال الدين أكبر (1556 - 1605) شديد الاعتزاز به، وقد عهد إليه أبوه الملك جهانجـيـر بحكومة الدَكَنْ. وكان حكمه مليئًا بالأحداث، قد وسّع الحدود المغولية باحتلاله أجزاء من هضبة الدكن، وإقليم الدكن يتضمن مناطق جنوبية وغربية للهند، بما فيها اليوم ولاية كَرْنَاتَــكَا بأكملها وجزء كبير من ولاية آنـْدَهْرَا بَرَادِيْش ومَـهَـارَاشْتَرَا وتَامِيلْ نَادُو جنوبًا.
لما توفّي الملك جهانجير، تولّى شاه جهان سدّة الحكم، بعد ما تغلّب على المعارضين والثوار في عام 1628. تميّز عصره بالرخاء والرفاهية والبناء والازدهار الذي لم تشهد الهند مثيلًا له من قبل. وكان حاكمًا متمرسًا يتّسم حكمه بالحزم الشديد مع رجاله وعمّاله والسهر على رعيّته. فكان يُراقب أعمالهم ويحاسبهم ولا يتردّد في إنزال العقاب بالمخالف المخطئ منهم. كان متدينًا متمسكًا بشعائر الإسلام، يكرّم العلماء والكتّاب ويقرّبهم، وكان يُرسل الهدايا والهبات سنويًا إلى فقراء الحجاز وعلماء الأراضي المقدسة وأشرافها. يذكر المؤرخ الهندي الكبير عبدالحئي الحسني في كتابه اجنة المشرق مطلع النور المشرقب المعروف بـاالهند في العهد الإسلاميب: اأزال المظالم عن البلاد وعمّرها وأخمد الفتنة والبدعة. وأسس المساجد والرباطات، وكان كثير الإحسان إلى السادة وأهل العلم. قصده الناس من جميع البلدان، فغمرهم بإحسانه، وكان عصره أحسن العصور وزمانه أنضر الأزمنةب. يعد عصر شاه جهان عصر ازدهار العمارة والفنون، كما كان بلاطُه مقصدًا للفنانين والرسامين من آسيا وأوربا. تُنسب إليه العديد من العمائر. ومن آثاره الحسنة مدينة شاه جهان آباد، والقلعة الحمراء وشاليمار باغ والمسجد الجامع في دلهي وأبنية فخمة وقصور شامخة متعددة في لاهور وآغرا. وكان محبًا للعلم ومشجعًا على التأليف. يذكر العلّامة عبدالكريم السيالكوتي أنه ألّف بأمره كتبًا كثيرة، وكان يعطيه لعام واحد مئة ألف روبية سوى المكافآت، وضمّه إلى مجلسه.
قصة الحبّ والزواج
وُلدت الأميرة أَرْجُمَنْد بَانُو بِيْجَمْ في لاهور (هي مدينة معروفة تقع في جمهورية باكستان الإسلامية حاليًا) عام 1593م من عائلة فارسية نبيلة، وكان أبوها نواب آصف خان كبير قادة الجيش المغولي الذي لقّب بـ ايمين الدولةب. كانت الأميرة جميلة ونادرة الحُسن ورائعة الجمال وثاقبة الفكر.
في يوم من الأيام كان شاه جهان يتجوّل مع مجموعة الحرّاس، وقد رأى أرجمند بانو بيجم. عندما رآها شاه جهان وقع في حُبّها من أول وهلة، فخطبها عام 1607م، وتزوّجها رسميًا بعد خمس سنوات في عام 1612م، لتبدأ أكثر قصة حُب شعبيّة في العالم. أصبحت الأميرة أرجمند مُفضلة لدى السلطان شاه جهان، حتى منحها اسم امُمْتَازْ مَحَلْب (جوهرة القصر). وكانت مستشارة سياسية أولى له، حيث كان يستشيرها في كل الأمور ويعمل بنصائحها، كما عهد إليها بحفظ الخاتَم الملكي. فكانت رفيقة الإمبراطور شاه جهان في جميع مهماته العسكرية وفي رحلات الصيد والنزهة والاستطلاع عبر الغابات والقفار. وهي الزوجة التي منحها ثقته من بين زوجاته؛ فقد سافرت معه إلى أنحاء الإمبراطورية المغولية جميعها، وكانت في نظره الزوجة المثالية التي لم يكن لها أيّ تصوّر أو تطلُّع للسلطة السياسية. أنجبت له أربعة عشر ابنًا عاش منهم سبعة.
وفاة الملكة ممتاز محلّ
وفي عام 1630م رافقت ممتاز محلّ زوجها الإمبراطور سلطان شاه جهان إلى بُرْهَانْ بُورْ في آخر رحلة لها قبل وفاتها، وكانت حملة قتالية في هضبة الدكن. وكانت حاملًا، فمرضت في إنجاب بنتها الأخيرة الرابعة عشرة. وبدأت ألم الولادة، فطلبت من بنتها الأميرة جهان آراء بيجم أن تبلّغ الإمبراطور شاه جهان، فوصل إلى فراشها فورًا، ونظر اليها نظرة عاجزة أخيرة، التمست منه أن يعطف أولادها ووالديها، ثم لفظت أنفاسها الأخيرة في أحضان زوجها الوفيّ الحميم يوم الأربعاء 17يونيو عام 1631م في برهان بور، وقد اشمأز وحزن كثيرًا لموتها.
انعزل الملك شاه جهان بعد وفاة زوجته ممتاز مدّة عام كامل، وظهر في عام 1632م، وكان الشيب قد غطّى رأسه، وانحنى ظهره، وأصبح وجهه شاحبًا، إلّا أن ابنته الكُبرى الأميرة جهان آراء بيجم، أخرجته من تلك الحالة الحرجة تدريجيًا. دُفنت مُمتاز محل بداية في برهان بور، لكنّ برهان بور لم يكن المكان الذي يُريده زوجها ليخلّد فيه ذِكراها، وبناء عليه نقلت جثـتها في نعش ذهبي يوم الجمعة 12 ديسمبر1631 من برهان بور، ووصل إلى مدينة آجرا في 9 يناير1632م. ووُضِعت في بناء صغير على ضِفاف نهر يمونا، بعد ذلك قرّر الملك شاه جهان أن يبني أفخم ضريح في العالم؛ لِيضمّ رفات زوجته مُمْتَازْ مَحَلْ، ويخلّد ذِكراها، ويكون نصبًا تذكاريًا للحب والجمال لا مثيل له في العالم.
عمارة تاج محلّ
تاج محلّ ضريح رائع ومبنى عملاق، يشرف على شاطئ نهر يمونا في مدينة آغرا التي كانت عاصمة السلاطين المغول المسلمين في القرن السابع عشر الميلادي. يعدّ جوهرة العمارة الإسلامية الهندية، واستعرض الإمبراطور شاه جهان العمارات الإسلامية كثيرًا عندما أراد بناءه، حيث كان لهذه الحضارة تأثير كبير على شبه القارة الهندية. وقد عبّر عن آماله وفكرته بشأن مبنى الضريح المقترح قائلًا: اإذا لجأ إلى هذا المكان شخص غارق في الذنوب، فسيتطهّر من ذنوبه، كالمغفور له خطاياه، وإذا لجأ الآثم إلى هذا القصر، فسَتنمحي جميع خطاياه السابقة. إن النظر إلى هذا القصر يترك بين حنايا القلب شعورًا بالحزن. لقد شيّد هذا البناء في هذا العالم ليعرضَ عظمة الخالق وقدرتهب.
وصف شاعر الهند الحاصل على جائزة نوبل، رابندرنات طاغور، في أوائل القرن العشرين ذلك النصب التذكاري قائلًا: اأنت تعرف شاه جهان! راحت حياته وشبابه وماله ومجده مع مرور الزمان... أنت تكافح وتجعل قلبك حزينًا... زال لمعان الجوهرة واللؤلؤ والمرجان، لكنّ تاج محل دمعة على خدّ الزمن للأبدب.
استغرق العمل في بناء تاج محل ما يقارب اثنين وعشرين عامًا، واستهلك الكثير من خزانة الدولة، وقد أسماه الإمبراطور شاه جهان تاج محل (تاج القصر)، ليحمل اسم زوجته ممتاز محل، على الرغم من انتهاء قصة حبّهما بوفاة زوجها في عام 1631م. ولمّا توفي شاه جهان في عام 1666م، وضعت جثته في ضريح جانب ضريح زوجته ممتاز محل. هكذا تجسّدت قصتهما في هذا البناء الضخم، لتكون مثالًا حيًّا على الحب الأبدي.
التصميم والبناء
استغرقت مرحلة التخطيط لبناء مبنى الضريح عامين كاملين، وشارك في بناء هذا الصرح العظيم نخبة من المهندسين المعماريين حول العالم، تحت إشراف الإمبراطور شاه جهان نفسه، والمُهندس الأساسي الذي صمّم تاج محل هو المُهندس الهندي أحمد لاهوري، ومنهم إسماعيل أفندي مصمم القبّة الرئيسيّة، وعيسى محمد أفندي اللذان كان لهما دور كبير في الفن الفارسيّ المعماري، أما الخطّاط الرئيسي فهو أمانة علي خان شيرازي، الذي كتب آيات قرآنية بأسلوب بديع رائع. ويذكر المؤرخ الهندي الكبير عبدالحئي الحسني اآيات القرآن منقوشة في الفسيفساء الفاخرة على الجدران الداخلية وما لا يُحصى من النقوش البديعةب.
فقد بُني من الرخام الأبيض الذي يتغيّر لونه اعتمادًا على انعكاس ضوء الشمس أو ضوء القمر على سطحه، وهذا الرّخام مُطعّم بالأحجار شبه الكريمة، مثل: الفيروز، واللازورد، والليس، واليشم، والكريستال. واستنادًا إلى التقاليد الإسلامية يتكوّن تاج محل بشكل رئيسي من القِباب والمنارات، وقد وصل ارتفاع القبة المركزية فيه إلى 73 مترًا، تحيطها أربع قباب صغيرة، وأربع منارات في الزوايا، وقد كُتبت آيات من القرآن الكريم على المداخل المحرابية المُقوَّسة للضريح. أمّا البوابة الرئيسية فهي من الحجر الرمليّ الأحمر. وفي الداخل توجد غرفة تحتوي على قبر ممتاز محل وضريح زوجها الملك شاه جهان. وهي غرفة على مستوى الحديقة مبنيّة من الرخام، ومزيّنة بالنقوش والأحجار شبه الكريمة.
وما يُميّز تاج محل هو أنّ المواد التي دخلت في إنشائه جُلِبت من المناطق المختلفة حول العالم، فقد جُلب الرخام الأبيض الشفاف من راجستان، واليشم من البنجاب، والكريستال من الصين، والفيروز من التبت، والليس من أفغانستان، أما الياقوت فمن سريلانكا، والعقيق من الجزيرة العربيّة، والواقع قد دمج الرخام الأبيض مع 28 نوعًا من الأحجار الكريمة وشبه الكريمة التي استُخدم في نقلها ما يقارب 1000 فيل، أما التّكلفة الإجمالية لبناء تاج محلّ فقد بلغت 31 مليون روبية تقريبًا في ذاك الوقت. وقد تم إنشاء بعض المرافق والمباني ذات الوظائف المختلفة حول تاج محل، بما فيها حديقة ومسجد وسكن الضيوف.
حديقة تاج محل
هي حديقة مُربعة مُقسَّمة إلى أرباع طويلة مُمتلئة بالمياه تسمى بحديقة تشار باغ، تمتد من البوابة الرئيسية لموقع تاج محل إلى الضريح. وفي منتصف الحديقة بين الجهة الشمالية والجنوبية بحيرات، تعكس صورة الضريح. وسمّى خزان المياه الرخامي بالكوثر، نسبة إلى حوض الكوثر. وقد تغيّرت تصاميم مناظر الحديقة في عهد الحكومة البريطانية الهندية.
• المسجد: يقع المسجد في الجهة الغربية من موقع تاج محل، وبُني بالحجر الرملي الأحمر، وهو صغير في حجمه، لكنّه عظيم في جماله وبهائه ويشبه بالجامع في دلهي.
• سكن الضيوف: يقع هذا المبنى في الجهة الشرقية من موقع تاج محل مقابل المسجد. يُسمّى سكن الضيوف أو دار الاستراحة المعروفة بجماعت خانا في لهجة محليّة. وقد يتسبب بناء هذا المبنى في خلق توازن بين العمارة والمباني في مجمع تاج محل. من حيث البناء يتشابه في بنائه مع بناء المسجد إلى حد كبير، ولكن لا يستخدم للعبادة.
شارك في بنائه عشرون ألف شخص، وقد انعكس تنوعهم هذا على النقوش المستخدمة في البناء، حيث جاؤوا من أنحاء الهند المختلفة وبلاد فارس وأوربا والإمبراطورية العثمانية، إضافة إلى إيران وسورية وتركيا وآسيا الوسطى. فهو يجمع بين الفن الهندي والفارسي والإسلامي. ويُعدّ هذا البناء الضخم أحد الأمثلة الأكثر تميزًا في العمارة المغولية. وقد عُثر على قائمة تضمّ 671 اسمًا محفورًا في جدار رملي على الجانب الشمالي من النهر، ويعتقد أن هذه القائمة حفرت بأيدي النحاتين بأنفسهم الذين ساهموا في عملية الإنشاء وتخليدًا لأسمائهم عبر التاريخ.
تاج محل في العهد البريطاني
بعد مرور مئات السنين على تاج محل وعدم الاعتناء به، انهارت أجزاء منه في مطلع القرن التّاسع عشر.
ونظرًا إلى الاحتفاظ على التراث الثقافي والفني للهند أصدر اللورد كيرزون الحاكم العام نائب الملك البريطانيّ للهند (1905 - 1899) مرسومًا لترميم الضريح، وإعادته إلى حالته السابقة، وأشرف على تصميم ونصب المصباح الكبير بالحجرة الداخلية. في عام 1983م وضعته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) ضمن مواقع التراث العالمي، فقد عُدّ تاج محل وما زال أحد الهياكل الأكثر شهرة في العالم، ومن أجمل نماذج التراث العالمي، ودرّة الفن الإسلامي في الهند.
تاج محلّ اليوم من أهم المعالم الأثرية التي تجذبُ السياح من داخل الهند وخارجها؛ حيث يزوره أكثر من 200 ألف سائح سنويًا من خارج الهند، وما يُقارب 2 إلى 4 ملايين زائر على مدار العام ■
قبرا ممتاز محل وشاه جهان