أمل دنقل... شاعر النُّخبة والجمهور
في 21 مايو من كل عام تحلّ ذكرى رحيل الشاعر المصري أمل دنقل، أحد أكثر شعراء الحداثة إشعاعًا، فقد استطاع أن يُثبت وجوده الشعري بمداد من تميّز في ذاكرة الجماهير ووجدانها، كما استطاع أن يؤسّس لمدرسة شعرية ذات خصوصية تزاوج بين التجديد والالتزام. مَثّل دنقل ظاهرة فنية وجماهيرية فريدة، تمثّلت في انتشار شعره، وذيوعه على الألسنة، وعلوقه بالوجدان.
استطاع أمل أن يكون صوت الجمهور والنخبة معًا، فشعره من الناحية الفنية بالغ مرقاة الكمال النوعي، ومن ناحية ثانية قريب من الجماهير عالق بوجدانها، سائر على ألسنتها، وهو بذلك يُعيدنا إلى تاريخ الشعر القديم الذي كانت فيه القصائد تسير مع الريح وتُعلّق على أستار الكعبة وتلصق بعقول الناس، فتضمن بذلك حياةً ممتدة، وتخترق الزمن، ولا تبلى مهما تغيّرت الأذواق.
لقد استطاع أمل أن يجد لنفسه مكانًا بين روّاد الحداثة الشعرية، وصار اسمه علامة شعريّة مسجّلة، واستطاع - بلا سابق تخطيط - أن يؤسس لمدرسة شعرية قاومت التيار التجريدي الذي نحاه أدونيس، وسوّق له نقديًّا هو وثلّة من مريديه والمنتمين لحزبه.
لم يمتلك أمل بوقًا نقديًا رسميًا أو غير رسمي يسوّق له ويعلي من شأن تجربته غير قوّة شعره وأصالة إبداعه النابعة من إخلاصه لقضايا الأمة، وإصاخته لنبض الواقع الذي نقله في لغة ليّنة قريبة من المتلقي، فأكسبه ذلك ذيوعًا وشيوعًا في زمن تراجعت فيه قيمة الشعر لمصلحة فنون أخرى.
أمل دنقل شاعر النخبة
استطاع أمل أن يبتكر تركيبة شعرية مستعصية، فأمام اتخاذ الشكل الشعري الجديد خيار لا بديل عنه، كان الوفاء لجماليات القصيدة القديمة ضمنيًّا سمة تميّزه عن كثير من الشعراء، الأمر الذي بوّأه مكانة شعرية خاصة، أكّدها باهتمامه بقضايا الأمة الكبرى، ورصده لواقع الجماهير بتفاصيله الصغيرة والكبيرة.
استطاع أمل أن يؤسس - دون نيّة مسبقة - مدرسة شعرية واقعية، ترتبط بالمعيش أكثر من ارتباطها بالخيال، خبراتها مستقاة من الواقع لا من الثقافة، بيد أن ذلك لم يُوقعه في المباشرة، ولم يلصق به تهمة العكس المرآوي الجافّ للواقع، فشعره لا يخلو من العُمق التخييلي، وتوظيف الأسطورة والرمز والقناع، ولعلّه بذلك استطاع أن يقرّب الأشكال التعبيرية الحديثة من جمهور القراء دون أن ينفروا منها.
لقد تميّز أمل بوفائه لما هو عربي محلّي، فالأساطير التي يوظفها والرموز التي يستدعيها والأقنعة التي يلوذ بصوتها تنتمي إلى المشترك العام مع القارئ، فأغلبها عربية إسلامية فرعونية، وهو ما جعل شعره الرؤيوي لا يخالطه التجريد والإغراق في الرمزية، وفي قصائد من قبيل االبكاء بين يدي زرقاء اليمامةب والا تصالحب مثال شاهد ناطق، وهذا الأسلوب في التوظيف بُني على فلسفة إبداعية لها خلفيتها الجمالية النابعة من تصوره لمفهوم الشعر ووظيفته.
ولأمل سياسة فنية تشبه سياسة القدماء، فلقد كان من أكثر الشعراء مراجعة لشعره، وتحكي زوجته عبلة الرويني في االجنوبيب عن حرصه االفنيب على تنقيح شعره الذي قد يصل إلى شهور، يعيد النظر في القصائد ويقلّبها على أوجهها حتى تكتمل صورتها، وفي ذلك ما فيه من اتهام لنفسه واحترام للمتلقي، ولا أدلّ على ذلك من بعض القصائد الأخيرة التي لم تكتمل صورتها النهائية.
واستحق بهذا التقليد لقب المحكك والانتماء إلى مدرسة المحككين، وذلك لا ينفي عنه صفة الطبع، إذ لا تعارُض بين الطّبع والصّنعة التي تعني العناية بالشعر ومراجعته.
لم يكن أمل من الذين جددوا القصيدة من الخارج باعتماد نظام السطر المتفاوت والجملة الشعرية ونظام التفعيلة، بل تجاوز تجديده إلى الداخل، حيث راهن على تشكيل قصائده صوريًا بما لا يتناقض مع جماليات القصيدة، ولا يبعده عن دعوات التجديد التي اتّخذ منها موقفًا وسطًا يقع بين الرفض المطلق والقبول الأعمى.
ارتباط بالواقع
لقد عُدّ أمل أكثر الشعراء قصائد سائرات ودورانًا على الألسنة وارتباطًا بالوجدان الجمعي، ففي قصائد الا تصالحب، واالبكاء بين يدي زرقاء اليمامةب، وامن مذكرات المتنبي في مصرب، وافقرات من كتاب الموتب واسرحان لا يتسلّم مفاتيح القدسب، واتعليق على ما حدث في مخيّم الوحداتب وامقتل القمرب، وغيرها - ارتباط بالواقع ونبضه وإصاخة لضمير الجماهير، فالقصائد هجائية صرف، أوجدت لها مكانًا بين اهتمامات الجماهير، وهذا لم يمنعها من أن تكون قصائد عالية الجودة عكف على دراستها المثقفون والكتّاب، وأشادوا بقيمتها الفنية وجودتها، واستحقت أن تكون علامات فارقة في تاريخ الشعر الحديث لما توفّرت عليه من بُعد نقديّ جمع بين الهجاء والحماسة ورثاء الواقع، وهي أمور استطاع الشاعر أن يصهرها بطريقة بديعة تبرز تمكُّنه من القول الشعر وقراءة الواقع والمستقبل.
أمل دنقل صوت شعري متفرد، امتلك قدرة على خلق تركيبة شعرية جعلته قريبًا من اليسار واليمين، ومن مختلف طوائف الشعر المتنافرة فكريًّا، ولعل ذلك عائد إلى عزفه على وتر المشترك الجمعي من القضايا والهموم.
أمل شاعر الجمهور
يصدق على شعر دنقل وصف االسهل الممتنعب، الذي يعدّ رأس البلاغة ومنتهاها، فهو لا يغرق في الإشارات ولا يجنح إلى لغة التجريد، يخلق بين الواقع الأسطوري والواقع الحقيقي نوعًا من الترابط العضوي، ويوجد بين القناع والشخصية تداخلًا، وبين الرمز والتجربة الذاتية أو الجماعية معادلَة موضوعية ونفسية وتماهيًا تتنافى فيه الاختلافات والخصوصيات، كما يوظّف الأسطورة توظيفًا عضويًّا يخدم نمو الدلالة بعيدًا عن استعراض العضلات الثقافية التي تؤدي إلى التعمية. ويعدّ أمل من هذه الناحية، أقرب إلى النخبة المثقفة التي تبحث في الكلمة الشاعرة عن أمور فنيّة تتعلق بطريقة تشكّل المعنى. ومن ناحية ثانية، مثّل شعره وثيقة جمالية عالية الجودة وعيّنة لدراسات متنوعة رصدت فيه أسرار الإبداع والتميز باعتباره ظاهرة متفردة في تاريخ الشعر الحديث.
لقد راهن الشاعر على الإخلاص لقضايا الأمة العربية وتناولها في شعره بفنيّة عالية، ولعلّ ذلك أسهم في زيادة الوعي لدى فئة الشباب في مرحلة جد حرجة من تاريخ الأمة الحديث.
كان أمل يتّخذ من الحياة مدرسة موازية، فلطالما نصح جابر عصفور بالخروج من محراب الكتب إلى العالَم، ليستوعب الأشياء ويكتسب التجارب، ولقد أهّله ذلك إلى أن يقترب بشعره إلى تفاصيل يومية بسيطة عمل جهده في تلقّفها ورصدها ونقلها بعينه الشعرية المجهرية بلغة ليّنة وسرد بسيط أشبه بحديث يجري على قارعة الطريق أو طاولة مقهى، لكنّه يحافظ على جماليات الشعر.
إن البُعد الثوري في شعره، وسمة الرفض التي لازمته، جعلاه أقرب إلى الجماهير المتطلعة إلى التغيير، الطامحة إلى تجاوز الواقع الكائن، الباحثة عن تعويض نفسي في ظل واقع مهزوم، لذلك وجدت ضالتها الفكرية والنفسية في شعر الرجل.
لقد تحوّل شعره إلى أناشيد وشعارات ترفع في لحظات الهزيمة والرفض والبحث عن الذات التائهة الغريبة الضائعة، كل ذلك أهّله ليكون شاعر الجماهير التي فقدت أملها في الفعل السياسي، فصارت تبحث عن تعويض واقعي ونفسي يجعلها تعيش لحظة الطموح إلى واقع ممكن تنتفي فيه الهزائم والنكسات.
لقد راهن أمل دنقل على أن يكون صوت الجماهير الثائرة الرافضة، وهذا الصدق الفني أهّله ليصير الناطق باسمها والحامل لهمّها، كما أنّ الاقتراب من الواقع السياسي والاجتماعي والتاريخي للأمة لم يوقعه في المباشرة، بل سلك في شعره طريق السهل الممتنع، وحقّق معادلة شعرية جناحاها الوفاء لجماليات الشعر وحفظه من الابتذال، ورصد الواقع ونبضه دون الانسياق وراء لغة التسجيل والمباشرة ■