الألمونيوم في موضع الشبهات علاء غنام

الألمونيوم في موضع الشبهات

مرض غريب يضرب أمخاخ البشر وهم بعد في منتصف العمر فيموتون وهم أحياء إذا تزحف على عقولهم شيخوخة مبكرة تشوش الذاكرة فيغيم الوجود ملايين أصابهم هذا المرض الغامض كان آخرهم واحدة من أشهر النساء جاكلين كنيدي - أوناسيس ، زوجة أحد أشهر أثرياء العالم. ولقد اختلفت الآراء حول أسباب حدوث هذا المرض. بعض العلماء يتهمون الألومنيوم وبعضهم يبرئ ساحته فأين تكمن الحقيقة؟

دعنا نتخيل كيف تكون حياة إنسان يفقد قدرته على التعامل المنطقي والكلام، ثم يفقد ذاكرته وانتماءه للزمان والمكان. تماما كما تتحول شاشة التلفزيون إلى اللون الأسود الكامل. إن هذا المصير التعس قد ينتظر الملايين من شتى الأجناس والقوميات حول العالم حاملا اسم مكتشفه "الزهايمر".

لقد بشرت ثورة التكنولوجيا الطبية الإنسان في العقود الأخيرة من هذا القرن بالقضاء على العديد من الأمراض المعدية والوبائية، لكن ما حدث في الوقت ذاته وكنتيجة لذلك هو الارتفاع الدرامي في متوسطات العمر المتوقعة، والتزايد المطرد في أعداد من نسميهم كبار السن، ومعهم أخذت تبرز بقوة تلك الأمراض التي تسمى أمراض التهدم المخي، كما أصبح ما يسمى بعته الشيخوخة، يصيب متوسطي العمر ويتحدد في صورته الإكلينيكية في مرض قدمه د. ألوس الزهايمر، ذلك العالم البافاري الفذ في بداية هذا القرن سنة 1907، وقديما كان الظن الشائع عند العلماء أن العديد من آبائنا وأجدادنا الذين تهاجمهم أعراض الهذيان وفقدان الذاكرة والعزلة والاكتئاب إنما يعانون من بدايات عته الشيخوخة الراجع إلى تصلب في شرايين المخ والذي يعد مجرد مظاهر مصاحبة لكبار السن، لكن الدراسات العصبية المرضية الحديثة والتي بدأها الزهايمر عندما فحص مخ امرأة أصيبت بالعته وهي في سن الخمسين توفيت على أثره، تلك الدراسات التي تصاعدت وتأثرها في العقدين الأخيرين أظهرت أن إصابات المخ التي وصفها الزهايمر في بداية القرن باعتبارها مسببات عته الشيخوخة المبكر وغير المبكر، لم تعد كافية لفهم طبيعة ذلك المرض الغامض القاتل. إن الزهايمر يعد أشهر أمراض المخ العضوية لأنه ينتهي بالموت المحتم في عقد من الزمان، ولأنه يدمر 70% من خلايا المخ العصبية وينتج عنه تدهور مستمر، وتوجد إلى جواره أنماط أخرى أقل شيوعا مثل مرض "بيك" و"كروتسفلد"، وهي أمراض كانت ومازالت بلا علاج. ذلك ما جعل من يتعاملون معها من الاجتماعيين والأطباء يرفعون شعارات مثل (نحو موت هادئ وبلا ألم)، وقد رفعته جماعة هيملوك سنة 1980 في أمريكا لمن يرغب في اختيار طريقة للانتحار برصاصة من رصاصات الرحمة. لكن رصاصات الرحمة هذه تصطدم بمنطق الحياة في الدنيا، وفي الدين، من تعليمات الإسلام وحتى آراء كونفشيوس البوذية التي ترفض الانتحار.

إن الزهايمر الذي يمثل 8% من أمراض المخ العضوية التي تصيب كبار ومتوسطي العمر، يصيب 57 حالة جديدة كل عام في السويد حيث ذروة التقدم الحضاري، وتنفق الولايات المتحدة الأمريكية سنويا 80 بليون دولار على مشاريع العلاج والأبحاث والتأهيل بحثا عن مخرج من نتائجه المدمرة. ومازالت النظريات التي تحاول تفسير أسباب حدوثه تتصارع.

الألومنيوم ضد "أ. ب. ب"

إن رؤية ميكروسكوبية لمخ مريض الزهايمر في مراحله المتأخرة تكشف ضمورا في فصوص المخ خاصة الفصين الأمامي والجانبي، مع اتساع في المسافات الكائنة بين تلافيف المخ، والتصاقات بين جانبي القشرة المخية، مما يؤثر على كل وظائف المخ المتعلقة بالقدرات المعرفية.

والرؤية الميكروسكوبية تكشف أيضا - مع بداية ظهور المرض - ذلك العدد الكبير من الصفائح الشائخة التي تتساقط فجأة داخل القشرة المخية وقرن آمون وأجزاء المخ الأخرى الضرورية لوظائف العقل المعرفية، كما توجد بؤر ترجع لترسبات من مادة مألوفة عبارة عن شرائح بروتينية تتشكل من أربعين موديلا من الأحماض الأمينية الطويلة التي قد تتحول إلى مادة تعرف بـ "أميلويد بيتا بروتين، أ. ب. ب" بفعل إنزيمات خاصة، والصعوبة الكامنة في فهم أسباب حدوث الزهايمر تحث العلماء المهتمين بالمشكلة، على غلق الطريق أمام هذا البلاء المركب، وأن يبدأوا هجومهم المضاد سريعا.

والملاحظة الإكلينيكية لمرض الزهايمر تكشف حدوث خلل في الذاكرة للأحداث القريبة يؤدي إلى فشل في أداء الأعمال اليومية، كما تكشف سقوط العلاقات والوشائج بين المرضى والأقارب، وفقدان الإحساس بالانتماء للمكان والزمان. حتى أن سيدة البيت قد تنسى حساءها فوق الموقد حتى يتبخر تماما.

وقد يعاني المريض من حالة نشاط مفرط بلا هدف وموجات متلاحقة من التهيج الوجداني والقلق، ويتسم السلوك في مجمله بالهذاءات والنمطية والتكرار في فتح الأبواب وغلقها عدة مرات أو تلميع الأثاث بلا داع. كما تكتمل المأساة بفقدان القدرة على تمييز الأماكن المألوفة، ثم فقدان الهوية بالكامل، وقد يبدأ التدهور بطيئا ويستمر عقدا من الزمان ثم تسرع وتائره في تدهور وهبوط سريع ينتهي بالموت.

كان د. دانيال بيرل يتجول وسط المدينة ليبدد الفراغ، حين دخل قسم الأدوات المنزلية بأحد الحوانيت، كان التخفيض هائلا لطقم منزلي من الألومنيوم قال للبائعة: إن بضاعتك جميلة، لا بد أنك لا تلاحقين الزبائن، لكن السيدة ردت: على العكس لا أحد يشتريها ولذا نخفض أسعارها!، قال: ماذا تقصدين إنها جميلة جدا، أجابته: يعتقد البعض أنها قد تسبب الزهايمر.

في البحث عن الأسباب

لقد خرج د. بيرل من الحانوت ورأسه يدور حول تلك المفاجأة. وكانت تلك البداية التي جعلته بعد عدة سنوات من البحث يتحدى المعرفة الشائعة ويؤكد أنه توجد علاقة بين معدن الألومنيوم والزهايمر، ومازال يتذكر تلك القصة جيدا ويقول: "إنه عن طريق تحديد مكان التركيز العالي غير الطبيعي للألومنيوم في مخ مرضى الزهايمر يكمن الجواب عن الأسباب". وقد حدث ذلك في أواخر السبعينيات حيث نجح وفريق من زملائه في إقامة علاقة بين المعدن والمرض، لكنهم لم يتيقنوا أبدا من أن الألومنيوم هو السبب الوحيد للمشكلة.

سارق العقول

بمرور السنوات تصاعدت أعداد المصابين بذلك اللص الذي يسلب العقل فيهاجم شخصا من بين كل عشرة تعدوا الستين، ويعاني منه حوالي أربعة ملايين إنسان في أمريكا وحدها، ومازال بلا أب شرعي أو علاج ناجع، لكن السيد بيرل عالم باثولوجيا الأعصاب في مدرسة "مونتسيارنار" الطبية بمانهاتن والذي يبلغ الخمسين من عمره، لن يستطيع الحياة مع تلك القدور والأواني من الألومنيوم. وقد يكون في الأمر مبالغة، فإن أحدا لا يمكن أن يصاب بأذى من قدور الألومنيوم سوى أولئك الذين يصنعون الألومنيوم، كما أنه سيكون من الصعب علينا ابتلاع طعامنا عندما نجد أن كثيرا من عامة الناس قد اقتنعوا أن قدور الألومنيوم هي السبب في حدوث الزهايمر الرهيب. عندها تطور رد الفعل في المجتمع العلمي من اللا مبالاة إلى الشك الكامل، فقد مال غالبية العلماء في هذا المجال إلى احتمالية وجود عناصر أخرى، وبصفة خاصة شرائح بروتينية صغيرة تسمى (أميلويد بيتا بروتين، أ. ب. ب) وقد وجد هذا البروتين بصفة طبيعية في جسم الإنسان، لذا انتعشت الحملة ضد القول أن السبب هو الألومنيوم وبات يقابل بقليل من التصديق والاهتمام، وكذلك قليل من التمويل. وقد برر د. بيرل ذلك بالضغوط غير العلمية التي يحركها لوبي صناعة الألومنيوم.

الألومنيوم.. سبب أم نتيجة؟

يؤكد د. دونالد بريسي من مدرسة طب جونز هوكنز أن الغالبية منا لا تعتقد أن للألومنيوم دورا فعالا، كما يقرر مدير معهد نيويورك لطب المسنين أيضا: إن الألومنيوم ليس مهما بدرجة كبيرة في تطور الزهايمر، ومع ذلك فإن بعض الدلائل تشير إلى أن الألومنيوم يدمر خلايا الجهاز العصبي، والبحث المباشر داخل مخ بعض الحيوانات أكد أن مركب الألومنيوم يؤدي إلى بعض الأعراض التي تشبه تلك المصاحبة للزهايمر، وبإجراء التجارب وجدت صفائح تحتوي على معدلات مرتفعة من الألومنيوم، لكنهم لم يكتشفوا الميكانيزم الذي يقوم من خلاله الألومنيوم بتحطيم الخلايا العصبية. الألومنيوم يوجد في كل مكان، ولكنه لا يوجد بشكل نقي أبدا، كغيره من المعادن، بل لا بد أن يكون ممتزجا بمواد أخرى وبخاصة الأكسجين، إنه يكون ما يقرب من 8% من القشرة الأرضية ولم تقم صناعة الألومنيوم لتنقية المعدن واستخدامه إلا حديثا في أواخر القرن الماضي، كما أنه يوجد بأجسامنا بكميات قليلة ولكنه في مخ مريض الزهايمر يوجد بكميات تبدو كبيرة قد تصل إلى خمسين ضعفا للكمية الطبيعية في الخلايا، إذن على د. بيرل وزملائه أن يكثفوا عملهم فقط لكي يثبتوا كيف وجد المعدن طريقه إلى تلك الخلايا المخية.

وستظل المعركة قائمة بين حزب الألومنيوم وحزب (أ. ب. ب) حول إثبات العلاقة بين مادتهم المختارة والأعراض غير السوية للزهايمر، تلك العلاقة المرتبطة بوجود الصفائح التي تشبه الطحلب البحري المعقد، وتلك الكتل الغروية الكبيرة التي يبلغ حجمها عشرة أمثال الخلية العصبية، إن د. بيرل وزملاءه يؤكدون أن الذي يكمن داخل تلك التكوينات هي رواسب الألومنيوم. ولكن هل كانت تلك المواد الغريبة سبب حدوث المرض، أم مجرد نتائج لحدوثه؟

للإجابة عن ذلك حدث عام 1990 تطور لافت للنظر يؤيد اتجاه حزب (أ. ب. ب)، فلقد اكتشف فريق بحث بقيادة د. جون هاردي من مدرسة سانت ماري في لندن عيبا وراثيا في عائلة مصابة بالزهايمر، ولكنه مازال غير واضح إلى أي مدى يورث الزهايمر. فقد اختلفت التقديرات، لقد اكتشف هاردي في تلك الحالة أن هناك جينا على الكروموسوم رقم 21 قد تبدل!! أي جين هذا؟ إنه ذلك الذي ينتج المادة البروتينية (أميلويد) التي يتشكل منها (أ. ب. ب) مصدر المادة غير المرغوب فيها لحدوث الزهايمر. وهكذا أشارت الأبحاث إلى أنه مرض جيني أو بسبب خلل في الجينات فوق الكروموسوم 21، وقد عبر د. بيرل عن اعتقاده برغم ذلك بأن العلماء ينحازون بسبب ضغوط لوبي الاقتصاد والصناعة إلى حزب الجينات والمادة البروتينية (أ. ب. ب) بدون أدلة كافية، وأنه يستطيع أن يريهم عددا من الأمخاخ لأناس طبيعيين جدا وهي مليئة بتلك المادة البروتينية ربما أكثر من تلك النسبة الموجودة في حالات الزهايمر. وقد جذب ذلك باحث أمراض عصبية موهوبا من جامعة تورنتو اسمه (رونالد لاكلان) قرر البحث في جانب الألومنيوم، وباستخدام تكنيك يسمى (التحليل التشخيصي بالأشعة السينية) وجد أنه يوجد في مخ مريض الزهايمر بنسبة الضعف مقارنة مع الأسوياء.

وقد أكدت أبحاثه أيضا تلك المشاهدات العلمية لما حدث في جزيرة بالمحيط الهادي مشبعة بمعدن الألومنيوم، وإصابة سكان تلك الجزيرة بحالات عته مبكر وبائي، وأيضا وفاة لاعب بيسبول أمريكي شهير من سكان الجزيرة يسمى (لو جريج)، أيضا ما يتعرض له بعض عمال مصانع الألومنيوم من اضطرابات مخية.

وقد قرر د. بيرل وزملاؤه أن الزهايمر، مثله مثل معظم الأمراض المزمنة المستعصية لكبار السن تعالج بمسكنات ومهدئات للأعراض خلال فترات التهيج والألم وبالرعاية لمنع حدوث تقرحات الفراش، والحفاظ على مستوى التغذية. وحديثا في بداية عام 1992، قام د. لاكلان وفريقه بحقن 24 مصابا بمرض "الزهايمر" بمادة "ديسفيروكسامين" التي تلتصق بالألومنيوم وتحبط تأثيره وتراكمه داخل الجسم، وبعد مرور سنة من هذا النظام العلاجي خفض الدواء، بطريقة ملحوظة، من تقدم الإصابة بالعته لدى هؤلاء المرضى.

وفي مجال الوقاية ينصح أنصار نظرية الألومنيوم بتقليل التعرض لاستنشاق الألومنيوم خاصة في مواد الزينة والعطور، لأنها أسرع في الوصول إلى المخ.

حذار من المبالغة

وحتى لا نقع في المبالغة وإثارة الرعب الزائد من الألومنيوم نقول - حتى مع موجهي أصابع الاتهام إلى الألومنيوم - إنه ليس إلا عاملا - إن صح الاتهام - لا بد له من التفاعل مع العامل الوراثي، فليس كل الناس معرضين للإصابة نفسها رغم تعرضهم لأسباب المرض ذاتها، بل إن هناك من بين العلماء من يرجح أن السبب الأول هو الاستعداد الوراثي للمرض، ومما يؤكد ذلك، كمثال صارخ، أن جاكلين كنيدي - أوناسيس التي أصيبت بالمرض سبق أن توفيت والدتها بأعراض المرض نفسه.

 

علاء غنام







الألومنيوم في موضع الشبهات





جاكلين كيندي-أوناسيس بدأت تفقد ذاكرتها بفعل الزهايمر





اللقطات الشعاعية السفلى لمخ مصاب بالزهامير ويظهر بها نقص المشاط الكيميائي الحيوي مقارنة مع مخ شخص سليم- إلى أعلى





عينة ميكروسكوبية من مخ مصاب بالزهايمر تظهر ترسبات البيتا اميلويد وعقد الألومنيون





حتى عام 1979 كان أعمال المناجم في أونتاريو يرشون ببودرة الألومنيوم حتى يقاوموا الأصابة بالأمراض التي تسببها السيليكا الموجودة في تراب الصخور