« الجوكر»... سيكولوجية الشخصية النيكروفيلية.. دراسة نفسيّة فنيّة للسلوك التدميري من خلال أحداث الفيلم

 « الجوكر»... سيكولوجية الشخصية النيكروفيلية.. دراسة نفسيّة فنيّة  للسلوك التدميري من خلال أحداث الفيلم

يُعرف‭ ‬العنف‭ ‬في‭ ‬المرجعيات‭ ‬السوسيولوجية‭ ‬والسيكولوجية‭ ‬بأنه‭ ‬إلحاق‭ ‬الضرر‭ ‬والأذى‭ ‬بشخص‭ ‬ما،‭ ‬أو‭ ‬بأشخاص‭ ‬متعددين،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الضرر‭ ‬ماديًّا‭ ‬أو‭ ‬معنويًا‭. ‬فقد‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الضرر‭ ‬إمّا‭ ‬جسميًّا‭ ‬يظهر‭ ‬أثره‭ ‬على‭ ‬جسم‭ ‬الفرد،‭ ‬أو‭ ‬نفسيًّا‭ ‬يترك‭ ‬تأثيره‭ ‬على‭ ‬مشاعر‭ ‬الشخص،‭ ‬أو‭ ‬نزعًا‭ ‬لممتلكات‭ ‬مادية‭ ‬أو‭ ‬رمزية‭ ‬تخص‭ ‬الشخص‭ ‬المعنّف‭. ‬وقد‭ ‬حفلت‭ ‬السينما‭ ‬العالمية‭ ‬بمجموعة‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭ ‬التي‭ ‬اهتمت‭ ‬بهذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬السوسيونفسية،‭ ‬فرصدتها‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭ ‬التي‭ ‬تطرّقت‭ ‬لهذا‭ ‬الموضوع‭ ‬في‭ ‬مضمونها‭ ‬أو‭ ‬شخصياتها‭ ‬أو‭ ‬مجالها‭.‬

 

‭ ‬لعلّنا‭ ‬لن‭ ‬ننحوَ‭ ‬عن‭ ‬الصواب‭ ‬إذا‭ ‬قلنا‭ ‬إنّ‭ ‬كلّ‭ ‬فيلم‭ ‬سينمائي‭ ‬مصوّر‭ ‬يحفل‭ ‬بمزيج‭ ‬من‭ ‬العنف‭ ‬والأذى،‭ ‬ولو‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬مشاهده‭ ‬القليلة‭. ‬لأنّ‭ ‬السينما‭ ‬المعاصرة‭ ‬أصبحت‭ ‬تركّز‭ ‬كثيرًا‭ ‬على‭ ‬الصدامات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬والصراعات‭ ‬البشرية‭ ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشر،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الصراعات‭ ‬موجّهة‭ ‬ضد‭ ‬الغير‭ )‬خارجية‭ ‬سلوكية‭( ‬أو‭ ‬ضد‭ ‬النفس‭ )‬داخلية‭ ‬نفسيّة‭.(

كما‭ ‬عرفت‭ ‬السينما‭ ‬العالمية،‭ ‬حضور‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬الشريرة‭ ‬التي‭ ‬جسّدت‭ ‬العنف‭ ‬والتدمير‭ ‬في‭ ‬أبرز‭ ‬ملامحه‭ ‬وتجلياته،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أدوار‭ ‬متعددة‭ ‬لسفّاحين‭ ‬وقاتلين‭ ‬ومجرمين‭ ‬وسيكوباتيين‭ ‬متعطشين‭ ‬للدماء‭ ‬والتخريب‭. ‬

ومن‭ ‬أبرز‭ ‬هذه‭ ‬الشخصيات‭: ‬شخصية‭ ‬هانيبال‭ ‬ليكتر‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬the silence of the lambs‭  (‬التي‭ ‬أنجزها‭ ‬الممثل‭ ‬القدير‭ ‬أنطوني‭ ‬هوبكنز‭)‬،‭ ‬وشخصية‭ ‬جون‭ ‬ديوي‭ (‬التي‭ ‬جسّدها‭ ‬الممثل‭ ‬كيفن‭ ‬سبايسي‭) ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬seven‭ ‬للمخرج‭ ‬دافيد‭ ‬فينشر،‭ ‬وشخصية‭ ‬نورمان‭ ‬بيتس‭ (‬التي‭ ‬قام‭ ‬بدورها‭ ‬أنتوني‭ ‬بيركين‭) ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬psycho‭ ‬للمخرج‭ ‬ألفريد‭ ‬هيتشكوك،‭ ‬والممرضة‭ ‬ريتشيد‭ (‬وقامت‭ ‬بتشخيصها‭ ‬الممثلة‭ ‬لويس‭ ‬فليتشر‭) ‬في‭ ‬فيلم‭  ‬One Flew Over The Cuckooصs Nest‭.‬

ويعتبر‭ ‬االجوكرب‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬الشخصيات‭ ‬العالمية‭ ‬التي‭ ‬جسّدت‭ ‬العنف‭ ‬والتدمير‭ ‬والخراب‭. ‬وقد‭ ‬خلّدت‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬كأحد‭ ‬الأدوار‭ ‬النيكروفيلية‭ ‬التوّاقة‭ ‬لسفك‭ ‬الدماء،‭ ‬وإحداث‭ ‬الفوضى،‭ ‬وإرهاب‭ ‬الناس،‭ ‬عبر‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الجرائم‭ ‬الغامضة‭ ‬والمثيرة‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬مدينة‭ ‬غوثام‭ (‬نيويورك‭). ‬وتتكفّل‭ ‬شخصية‭ ‬باتمان‭ (‬رمز‭ ‬الخير‭) ‬بحلّ‭ ‬سرّ‭ ‬هذه‭ ‬الجرائم‭ ‬وحماية‭ ‬أهل‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬شرور‭ ‬هذا‭ ‬السفّاح،‭ ‬مستعملًا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أحدث‭ ‬الأسلحة،‭ ‬وآخر‭ ‬وسائل‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الحربية‭ ‬للقضاء‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الشرير‭ ‬الذي‭ ‬يتناسل‭ ‬من‭ ‬شرّه‭ ‬تناسلًا‭ ‬غير‭ ‬متناهٍ‭.‬

 

الجوكر‭ ‬وباتمان

إذا‭ ‬كانت‭ ‬شخصية‭ ‬الجوكر‭ ‬مقترنة‭ ‬أشد‭ ‬الاقتران‭ ‬بسلسلة‭ ‬أفلام‭ ‬باتمان‭ (‬في‭ ‬السابق‭) ‬ـ‭ ‬عبر‭ ‬أدوار‭ ‬متعددة‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬نجوم‭ ‬عالميون‭: ‬سيزار‭ ‬روميرو،‭ ‬وجاك‭ ‬نيكلسون،‭ ‬وهيث‭ ‬لايدكر،‭ ‬وكاريت‭ ‬ليتو‭... ‬إلخ‭ ‬ـ‭ ‬فإن‭ ‬الفيلم‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬قدّم‭ ‬هذه‭ ‬السنة‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية،‭ ‬وأثار‭ ‬ضجّة‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬أروقة‭ ‬اهوليوودب‭ ‬بفعل‭ ‬نجاحه‭ ‬الباهر،‭ ‬قد‭ ‬ألغى‭ ‬دور‭ ‬باتمان‭ ‬وأعطى‭ ‬المساحة‭ ‬الكاملة‭ ‬للجوكر‭ ‬كشخصية‭ ‬بطلة‭ ‬متقلّبة‭ ‬بين‭ ‬حالتين‭ ‬متنافرتين‭ (‬الخير‭ ‬والشر‭)‬،‭ ‬عبر‭ ‬عقبات‭ ‬متعددة‭ ‬أضاءت‭ ‬لنا‭ ‬مختلف‭ ‬الخصائص‭ ‬النفسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬شخصية‭ ‬الشرير،‭ ‬وفعل‭ ‬العنف‭ ‬والتدمير‭.‬

يحكي‭ ‬فيلم‭ ‬الجوكر‭ ‬بطولة‭ ‬النجم‭ ‬العالمي‭ ‬خواكين‭ ‬فينيكس‭ ‬وإخراج‭ ‬تود‭ ‬فيليبس‭ ‬قصة‭ ‬مهرّج‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬إضحاك‭ ‬الناس‭ ‬وخلق‭ ‬البهجة‭ ‬والفرح‭ ‬في‭ ‬نفوسهم،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مواقفه‭ ‬البهلوانية‭ ‬التي‭ ‬يخلقها‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬عامّة‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬غوثام،‭ ‬وهدفه‭ ‬الأسمى‭ ‬هو‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬دور‭ ‬كوميدي‭ ‬احترافي‭.‬

ورغم‭ ‬محاولاته‭ ‬العديدة‭ ‬لتحقيق‭ ‬هدفه،‭ ‬فإنه‭ ‬كان‭ ‬يفشل‭ ‬كل‭ ‬مرة،‭ ‬ويتعرّض‭ ‬لسخرية‭ ‬عارمة‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الناس،‭ ‬واحتقار‭ ‬دائم‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬أهل‭ ‬المدينة‭. ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬أرباب‭ ‬عمله‭ ‬ينتقدونه‭ ‬دائمًا‭ ‬على‭ ‬أخطائه‭ ‬الدائمة،‭ ‬ومواقفه‭ ‬المثيرة‭ ‬للاستهزاء‭. ‬وقد‭ ‬مرّ‭ ‬هذا‭ ‬المهرج‭ ‬بأوقات‭ ‬عصيبة،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يعاني‭ ‬مرضًا‭ ‬نفسيًّا،‭ ‬ويتلقى‭ ‬العلاج‭ ‬من‭ ‬طبيبة‭ ‬نفسية،‭ ‬بسبب‭ ‬متلازمته‭ ‬الهستيرية‭ ‬التي‭ ‬تجعله‭ ‬ينفجر‭ ‬ضحكًا‭ ‬في‭ ‬مواقف‭ ‬عادية‭ ‬وبسيطة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬علّة‭ ‬أو‭ ‬سبب‭. ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يرعى‭ ‬والدته‭ ‬المريضة‭ ‬التي‭ ‬تخلّى‭ ‬عنها‭ ‬زوجها،‭ ‬وتركها‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬عسر‭ ‬وفقر‭ ‬وعوَز‭ ‬وسقام‭.‬

 

مهرّج‭ ‬وسيكوباتي

المشهد‭ ‬الذي‭ ‬قلب‭ ‬الأحداث‭ ‬رأسًا‭ ‬على‭ ‬عقب‭ ‬وحوّل‭ ‬مسارها،‭ ‬ومسار‭ ‬الجوكر،‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬المترو،‭ ‬حينما‭ ‬تعرّض‭ ‬المهرج‭ ‬لحالته‭ ‬الهستيرية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تراوده،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬عرّضه‭ ‬للشتم‭ ‬والسخرية‭ ‬والضرب‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬بعض‭ ‬الأثرياء‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يركبون‭ ‬المترو‭. ‬هنا‭ ‬يتحول‭ ‬الجوكر‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬المهرّج‭ ‬المضحك‭ ‬الذي‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬خلق‭ ‬البسمة‭ ‬والفرحة‭ ‬على‭ ‬وجوه‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬شخص‭ ‬سيكوباتيكي‭ ‬شرّير،‭ ‬يتّخذ‭ ‬من‭ ‬العنف‭ ‬والقتل‭ ‬وسيلة‭ ‬تشعره‭ ‬باللذة‭ ‬والمتعة‭. ‬فالمجتمع‭ ‬الاستغلالي‭ ‬الطبقي‭ ‬الذي‭ ‬تسيطر‭ ‬عليه‭ ‬قيم‭ ‬الفساد‭ ‬والاستغلال‭ ‬والظلم‭ ‬وتقديس‭ ‬الكبار‭ ‬مقابل‭ ‬قهر‭ ‬الصغار،‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬ينتج‭ ‬أنماطًا‭ ‬متحوّلة‭ ‬من‭ ‬البشر‭. ‬أنماط‭ ‬عاشت‭ ‬الويل‭ ‬والحرمان‭ ‬والبؤس‭ ‬في‭ ‬قعر‭ ‬المجتمع،‭ ‬فحوّلت‭ ‬حقدها‭ ‬الدفين‭ ‬إلى‭ ‬بركان‭ ‬ينفجر‭ ‬انفجارًا‭ ‬مهولًا‭ ‬لا‭ ‬حاجز‭ ‬صدّ‭ ‬يمنع‭ ‬سيوله‭ ‬الحارقة‭.‬

تنساب‭ ‬الأحداث،‭ ‬وتتناسل‭ ‬الوقائع،‭ ‬وتزداد‭ ‬شدة‭ ‬العنف‭ ‬ووثيرته‭. ‬يتخلص‭ ‬الجوكر‭ ‬من‭ ‬أمّه‭ ‬التي‭ ‬أحبّها،‭ ‬وأخلص‭ ‬لها،‭ ‬وساندها‭ ‬في‭ ‬ضعفها،‭ ‬وتكفّل‭ ‬بعلاجها‭ ‬في‭ ‬اعتلالها،‭ ‬لكنّه‭ ‬سيكتشف‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬سببًا‭ ‬في‭ ‬علّته‭ ‬وحالته‭ ‬المرضية‭ ‬بسبب‭ ‬تعنيفها‭ ‬المُبالغ‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬طفولته‭. ‬لهذا‭ ‬سيقرر‭ ‬قتلها‭ ‬بدم‭ ‬بارد‭ ‬من‭ ‬الإحساس،‭ ‬خصوصًا‭ ‬حينما‭ ‬علم‭ ‬بأنه‭ ‬مجرّد‭ ‬طفل‭ ‬لقيط‭ ‬متبنّى‭.‬

تزداد‭ ‬فوهة‭ ‬العُقد‭ ‬في‭ ‬الاتساع‭ ‬والامتداد،‭ ‬عقب‭ ‬طرد‭ ‬الجوكر‭ ‬من‭ ‬العمل‭. ‬يتضاعف‭ ‬فشله‭ ‬الذي‭ ‬عمّ‭ ‬كل‭ ‬المناحي‭: ‬الصحة،‭ ‬والسعادة،‭ ‬والحب،‭ ‬والعمل،‭ ‬والوجود‭... ‬تتكرّر‭ ‬حالات‭ ‬الاعتداء‭ ‬والشّتم‭ ‬والسخرية‭ ‬والاحتقار‭ ‬عليه،‭ ‬فيقرر‭ ‬الانتقام‭ ‬والاستمتاع‭ ‬بالقتل‭ ‬وسفك‭ ‬الدماء،‭ ‬ليستهدف‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬مقدّم‭ ‬تلفزيوني‭ ‬سخر‭ ‬منه‭ ‬ومن‭ ‬أعماله‭ ‬التهريجيّة‭ ‬التي‭ ‬قدّمها‭ ‬في‭ ‬حفل‭ ‬سابق‭. ‬وينتهي‭ ‬الفيلم‭ ‬بحالة‭ ‬من‭ ‬الفوضى‭ ‬التي‭ ‬عمّت‭ ‬مدينة‭ ‬غوتام،‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬الاحتجاج‭ ‬على‭ ‬أوضاع‭ ‬الفساد‭ ‬والطبقية‭ ‬والاستغلال‭ ‬والظلم‭ ‬التي‭ ‬استأثر‭ ‬فيها‭ ‬الأغنياء‭ ‬بحقوق‭ ‬الضعفاء،‭ ‬واستحوذ‭ ‬فيها‭ ‬الأثرياء‭ ‬على‭ ‬أرزاق‭ ‬الفقراء‭.‬

وإذا‭ ‬انتقلنا‭ ‬إلى‭ ‬الجوانب‭ ‬الرمزية‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬سنلاحظ‭ ‬أن‭ ‬بدايته‭ ‬هي‭ ‬لمحة‭ ‬فنية‭ ‬تستبق‭ ‬ما‭ ‬سيقع‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬وتحولات‭. ‬فاستماع‭ ‬البطل‭ (‬الجوكر‭) ‬لمذيع‭ ‬الأخبار‭ ‬وهو‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬القمامة‭ ‬وتلوّث‭ ‬المدينة‭ ‬بالزبالة‭ ‬هو‭ ‬إيحاء‭ ‬فنّي‭ ‬بالتلوث‭ ‬الأخلاقي‭ ‬والقيمي‭ ‬الذي‭ ‬سيتصف‭ ‬به‭ ‬أهل‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ (‬غوثام‭). ‬

 

لقطة‭ ‬بارعة

في‭ ‬مشهد‭ ‬آخر،‭ ‬التقطت‭ ‬الكاميرا‭ ‬وجه‭ ‬الجوكر‭ ‬وهو‭ ‬يتلاعب‭ ‬بفمه،‭ ‬فصورته‭ ‬ينتقل‭ ‬بين‭ ‬وضعيتين‭: ‬الوضعية‭ ‬الأولى‭ ‬وهو‭ ‬يمسك‭ ‬فمه‭ ‬بواسطة‭ ‬الأصابع‭ ‬نحو‭ ‬الأسفل‭ ‬في‭ ‬هيئة‭ ‬الشخص‭ ‬الحزين‭ ‬والتعيس،‭ ‬ثم‭ ‬يحوّلها‭ ‬إلى‭ ‬وضعية‭ ‬ثانية‭ ‬عكس‭ ‬الأولى،‭ ‬فيرفع‭ ‬طرفي‭ ‬الفم‭ ‬إلى‭ ‬الأعلى‭ ‬في‭ ‬هيئة‭ ‬الشخص‭ ‬السعيد‭ ‬المبتسم‭. ‬وهذه‭ ‬اللقطة‭ ‬الفنية‭ ‬البارعة‭ ‬إحالة‭ ‬جمالية‭ ‬تلخّص‭ ‬مراحل‭ ‬حياة‭ ‬الجوكر‭ ‬التي‭ ‬انتقلت‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬المهرّج‭ ‬التعيس‭ ‬الذي‭ ‬يبدّل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬جهده‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إسعاد‭ ‬الناس‭ ‬وإضحاكهم،‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬الشرير‭ ‬الذي‭ ‬يتلذذ‭ ‬بإرهاب‭ ‬الناس‭ ‬وسفك‭ ‬دمائهم‭.‬

وحتى‭ ‬ضحكة‭ ‬الجوكر‭ ‬المميزة‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬بنبراتها‭ ‬الساخرة‭ ‬وصداها‭ ‬التهريجي‭ ‬هي‭ ‬مزيج‭ ‬بين‭ ‬الفرح‭ ‬والألم،‭ ‬البهجة‭ ‬والتعاسة،‭ ‬السرور‭ ‬والبكاء،‭ ‬اللذة‭ ‬والألم‭... ‬وهي‭ ‬تلخّص‭ ‬كل‭ ‬مراحل‭ ‬الفيلم‭. ‬إنها‭ ‬ضحكة‭ ‬مرَضية،‭ ‬كانت‭ ‬نتاجًا‭ ‬لظروف‭ ‬قاسية،‭ ‬وحياة‭ ‬مضطربة،‭ ‬ومعاناة‭ ‬مأساوية‭ ‬عاشها‭ ‬بطلنا‭ ‬في‭ ‬طفولته‭. ‬وتناسبت‭ ‬بنيته‭ ‬الجسمية،‭ ‬وهيئته‭ ‬الخارجية‭ ‬كذلك‭ ‬مع‭ ‬حالته‭ ‬المرضية‭ ‬هاته‭: ‬ضعيف‭ ‬ونحيل،‭ ‬ومقوس‭ ‬الظهر،‭ ‬ولباس‭ ‬تهريجية‭ ‬وشعر‭ ‬كثيف،‭ ‬وملامح‭ ‬بهلوانية‭... ‬إلخ‭.‬

من‭ ‬المشاهد‭ ‬الرمزية‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬أثرى‭ ‬بها‭ ‬المخرج‭ ‬البنية‭ ‬الفنية‭ ‬للفيلم‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬يرصد‭ ‬صعود‭ ‬الجوكر‭ ‬أدراج‭ ‬المجمع‭ ‬السكني‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬غوثام،‭ ‬وهي‭ ‬أدراج‭ ‬كثيرة‭ ‬لا‭ ‬تنتهي،‭ ‬مرهقة‭ ‬ومنهكة‭ ‬في‭ ‬صعودها،‭ ‬إيحاء‭ ‬بحجم‭ ‬المآسي‭ ‬والمتاعب‭ ‬والصدمات‭ ‬العديدة‭ ‬التي‭ ‬أعاقت‭ ‬طريق‭ ‬الجوكر‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬حياته‭. ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬سينقلب‭ ‬عكسًا‭ ‬وضدًّا‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬الفيلم،‭ ‬حيث‭ ‬سيتحول‭ ‬الصعود‭ ‬إلى‭ ‬هبوط،‭ ‬وكأن‭ ‬الجوكر‭ ‬تخلّص‭ ‬من‭ ‬ثقل‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الهموم‭ ‬والمصائب،‭ ‬ليستمتع‭ ‬بمباهج‭ ‬الحياة‭ ‬الجديدة‭.‬

 

تحوّل‭ ‬عكسي

‭ ‬رصد‭ ‬المخرج‭ ‬بعدسته‭ ‬الجوكر‭ ‬وهو‭ ‬ينزل‭ ‬هذه‭ ‬الأدراج‭ ‬نحو‭ ‬الأسفل،‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬رقص‭ ‬صاخب‭ ‬ونشوة‭ ‬شديدة،‭ ‬دلالة‭ ‬على‭ ‬التحول‭ ‬العكسي‭ ‬الذي‭ ‬طبع‭ ‬شخصيته‭. ‬منتقلًا‭ ‬بذلك‭ ‬من‭ ‬طور‭ ‬المهرج‭ ‬المضحك‭ ‬الوديع،‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬الجوكر‭ ‬المتلذذ‭ ‬بالقتل‭ ‬وسفك‭ ‬الدماء،‭ ‬والمستمتع‭ ‬بالتدمير‭ ‬والفتك‭ ‬والخراب‭.‬

ودخول‭ ‬البطل‭ ‬الثلاجة،‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬من‭ ‬المشاهد،‭ ‬متموقعًا‭ ‬داخلها‭ ‬وجالسًا‭ ‬في‭ ‬قعرها‭ ‬الجليدي‭ ‬هو‭ ‬دليل‭ ‬آخر‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التحوّل‭ ‬الذي‭ ‬وسم‭ ‬أحاسيسه‭ ‬المتغيرة‭ ‬والمنقلبة‭ ‬إلى‭ ‬مشاعر‭ ‬صلبة‭ ‬ومتجمدة‭ ‬فارغة‭ ‬من‭ ‬روح‭ ‬القلب‭ ‬وعطف‭ ‬الفؤاد‭. ‬وهذا‭ ‬نتاج‭ ‬طبيعي‭ ‬لقساوة‭ ‬المجتمع‭ ‬وظلمه‭ ‬للطبقات‭ ‬الدنيا‭ ‬المسحوقة‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬علاقة‭ ‬الحب‭ ‬التي‭ ‬ربطها‭ ‬الجوكر‭ ‬بالفتاة‭ ‬السمراء‭ (‬التي‭ ‬تعرّف‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬المبنى‭ ‬الذي‭ ‬يسكنه‭)‬،‭ ‬هي‭ ‬علاقة‭ ‬ترسم‭ ‬قيم‭ ‬العنف‭ ‬منذ‭ ‬لحظاتها‭ ‬الأولى،‭ ‬حيث‭ ‬بدأها‭ ‬بلقطة‭ ‬بليغة‭ ‬وجّه‭ ‬فيها‭ ‬المسدس‭ ‬وطلقاته‭ ‬إلى‭ ‬رأسه‭ ‬إيحاءً‭ ‬بحبّ‭ ‬الموت‭ ‬والقتل‭ ‬الذي‭ ‬يميّز‭ ‬طبعه‭ ‬المرهق‭ ‬بالحزن‭ ‬والشجن‭. ‬فلحظات‭ ‬الحب‭ ‬بالنسبة‭ ‬له‭ ‬حبلى‭ ‬بهياج‭ ‬الفناء‭ ‬وصراخ‭ ‬العنف‭ ‬ولذة‭ ‬التدمير‭. ‬وما‭ ‬رقصه‭ ‬بالمسدس‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬كثيرة‭ ‬إلّا‭ ‬تعبير‭ ‬بليغ‭ ‬عن‭ ‬الصراع‭ ‬الداخلي‭ ‬الذي‭ ‬يؤزم‭ ‬أوثار‭ ‬روحه‭: ‬صراع‭ ‬الحياة‭ ‬والموت،‭ ‬السعادة‭ ‬والحزن،‭ ‬الضحك‭ ‬والبكاء،‭ ‬اللذة‭ ‬والألم،‭ ‬التهريج‭ ‬والقتل‭.‬

مشهد‭ ‬آخر،‭ ‬رسخ‭ ‬هذا‭ ‬الانتقال‭ ‬الشاذ‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬الجوكر‭ ‬المتناقضة،‭ ‬نلاحظه‭ ‬في‭ ‬تعقّب‭ ‬عدسة‭ ‬الكاميرا‭ ‬لسلوكه‭ ‬المنذر‭ ‬بالانقلاب‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬المبنى‭ ‬الخاص‭ ‬بتدريبات‭ ‬المهرجين،‭ ‬وهو‭ ‬مطرود‭ ‬مرفوض‭ ‬منبوذ،‭ ‬حيث‭ ‬صادف‭ ‬لوحة‭ ‬في‭ ‬الباب‭ ‬المقابلة‭ ‬له،‭ ‬مكتوب‭ ‬عليها‭ ‬عبارة‭ ‬الا‭ ‬تنسَ‭ ‬أن‭ ‬تبتسمب‭. ‬فمسح‭ ‬الكلمات‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬الجملة‭ ‬لتصبح‭ ‬الجملة‭: ‬الا‭ ‬تبتسمب‭. ‬وهذه‭ ‬لقطة‭ ‬فنية‭ ‬مفصحة‭ ‬ومؤثرة،‭ ‬لكونها‭ ‬لخصت‭ ‬التغير‭ ‬الشامل‭ ‬الذي‭ ‬طرأ‭ ‬على‭ ‬شخصية‭ ‬الجوكر،‭ ‬بانتقاله‭ ‬من‭ ‬روح‭ ‬البهلوان‭ ‬المضحك‭ ‬والمسلّي‭ ‬إلى‭ ‬شرر‭ ‬المجرم‭ ‬المدمر‭ ‬والمنتفض‭ ‬بعدوانية‭ ‬قلّ‭ ‬نظيرها‭.‬

 

مظاهر‭ ‬سلبية

تعرّض‭ ‬الجوكر‭ ‬إذا‭ ‬لكلّ‭ ‬أشكال‭ ‬الظلم‭ ‬وأنواع‭ ‬الاستغلال،‭ ‬فافتقر‭ ‬بذلك‭ ‬لأبرز‭ ‬الحقوق،‭ ‬وأبسط‭ ‬شروط‭ ‬الحياة‭ ‬الكريمة؛‭ ‬حقّه‭ ‬في‭ ‬العلاج‭ ‬والدواء،‭ ‬إغلاق‭ ‬العيادة‭ ‬النفسية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يتعالج‭ ‬فيها‭ - ‬حقه‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬وطرده‭ ‬من‭ ‬العمل،‭ ‬والحطّ‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬دوره‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬مشغله،‭ ‬وحقه‭ ‬في‭ ‬الكرامة؛‭ ‬السخرية‭ ‬والاحتقار‭ ‬والاستهزاء؛‭ ‬وحقه‭ ‬في‭ ‬السعادة‭ ‬والاكتفاء‭ ‬المادي،‭ ‬حالته‭ ‬المعوزة‭ ‬والفقيرة‭ ‬نتيجة‭ ‬الاستغلال‭ ‬المفرط‭ ‬والتفاوت‭ ‬الطبقي‭ ‬الشاسع‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬وحقه‭ ‬في‭ ‬السكن‭ ‬اللائق‭: ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬صغير،‭ ‬ضيق،‭ ‬مهترئ‭ ‬وهشّ،‭ ‬وحقه‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬والوجود‭: ‬مطاردته،‭ ‬ضربه،‭ ‬ركله،‭ ‬سرقته،‭ ‬الاعتداء‭ ‬عليه،‭ ‬وحقّه‭ ‬في‭ ‬الأسرة‭ ‬والعائلة‭: ‬نكران‭ ‬الأب‭ ‬لابنه‭ ‬غير‭ ‬الشرعي‭ ‬وتهربه‭ ‬من‭ ‬مسؤولية‭ ‬تربيته،‭ ‬وحقه‭ ‬في‭ ‬التربية‭ ‬والحنان‭ ‬الطفولي،‭ ‬عنف‭ ‬أمه‭ ‬في‭ ‬تنشئته،‭ ‬وحقه‭ ‬في‭ ‬الحب‭: ‬فشل‭ ‬علاقته‭ ‬العاطفية‭ ‬بالفتاة‭ ‬السمراء‭. ‬وحتى‭ ‬حقه‭ ‬في‭ ‬دوره‭ ‬الذي‭ ‬يتقنه‭: ‬الإضحاك‭ ‬والتهريج‭ ‬تعرّض‭ ‬للهجوم‭ ‬والسخرية‭ ‬والاحتقار‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬مقدّم‭ ‬البرنامج‭ ‬التلفزي‭ ‬روبرت‭ ‬دي‭ ‬نير‭.‬

وهذه‭ ‬المظاهر‭ ‬السلبية‭ ‬التي‭ ‬نتجت‭ ‬عن‭ ‬تقصير‭ ‬المسؤولين‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬واجباتهم‭ ‬الأساسية‭ ‬بمدينة‭ ‬عمّها‭ ‬الفساد‭ ‬وغمرتها‭ ‬الفوضى،‭ ‬أزمت‭ ‬نفسيّة‭ ‬البطل‭ ‬وأعاقت‭ ‬تكوينه‭ ‬النفسي‭ ‬المتوازن،‭ ‬فحوّلته‭ ‬بذلك‭ ‬إلى‭ ‬شخصية‭ ‬نيكروفيلية‭ ‬قاتلة‭ ‬ومدمرة‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يظهر‭ ‬صريحًا‭ ‬في‭ ‬جملته‭ ‬الشهيرة،‭ ‬ذات‭ ‬المغزى‭ ‬العميق‭: ‬اما‭ ‬حياتي‭ ‬إلّا‭ ‬مسرحية‭ ‬هزليةب‭.‬

‭ ‬وتوحي‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬بلا‭ ‬جدوى‭ ‬الحياة‭ ‬ولا‭ ‬قيمتها‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬العبث‭ ‬والرفس‭ ‬على‭ ‬الكرامة‭ ‬والحقوق،‭ ‬عالم‭ ‬فقد‭ ‬فيه‭ ‬الجوكر‭ ‬جميع‭ ‬الحقوق‭ ‬وأبسطها،‭ ‬عالم‭ ‬تحطمت‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬الأحلام‭ ‬والآمال،‭ ‬عالم‭ ‬التّيه‭ ‬والظلام‭ ‬الذي‭ ‬أخفى‭ ‬من‭ ‬روحه‭ ‬شعاع‭ ‬النور‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يستضيء‭ ‬به‭. ‬فأصبحت‭ ‬حياته‭ ‬عبثية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬قيمة،‭ ‬مسرحية‭ ‬هزلية‭ ‬يؤدي‭ ‬فيها‭ ‬دور‭ ‬المهرج‭ ‬القاتل‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬دور‭ ‬الجوكر‭ ‬في‭ ‬الأفلام‭ ‬الكرتونية‭.‬

 

لحظة‭ ‬تحوّل

حينما‭ ‬تلقّى‭ ‬البطل‭ ‬دعوة‭ ‬للحضور‭ ‬في‭ ‬البرنامج‭ ‬التلفزيوني‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬المقدم‭ ‬المناداة‭ ‬عليه‭ ‬باسم‭ ‬الجوكر‭ ‬ولبس‭ ‬ثيابًا‭ ‬حمراء‭. ‬الاسم‭ ‬واللون‭ ‬إذا‭ ‬لهما‭ ‬دلالة‭ ‬مشبوكة‭ ‬بالدم‭ ‬والقتل‭ ‬والموت،‭ ‬فالجوكر‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬السينمائية‭ ‬العالمية‭ ‬مقترن‭ ‬بالجرائم‭ ‬وسفك‭ ‬الدماء،‭ ‬والبرنامج‭ ‬التلفزي‭ ‬هو‭ ‬إعلان‭ ‬للملأ،‭ ‬وإخبار‭ ‬للجمهور،‭ ‬وإعلام‭ ‬للمجتمع‭ ‬للحظة‭ ‬تحوّل‭ ‬الفرد‭ ‬من‭ ‬إنسان‭ ‬مسالم‭ ‬وديع‭ ‬إلى‭ ‬قاتل‭ ‬مدمّر‭ ‬عاشق‭ ‬للدم‭. ‬هي‭ ‬لحظة‭ ‬كشف‭ ‬وبوح‭ ‬وإدانة‭ ‬لهذا‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬سيتحمّل‭ ‬عواقب‭ ‬الاساءة‭ ‬لهذا‭ ‬الشخص،‭ ‬لتتحوّل‭ ‬طقوس‭ ‬الضحك‭ ‬والتهريج‭ ‬التي‭ ‬قدّمها‭ ‬سابقًا،‭ ‬إلى‭ ‬شعائر‭ ‬من‭ ‬الانتقام‭ ‬والفتك‭ ‬والدمار‭ ‬عقابًا‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬أساء‭ ‬إليه،‭ ‬ولكل‭ ‬من‭ ‬سخر‭ ‬واستهزأ‭ ‬بكرامته‭.  ‬وفي‭ ‬حواره‭ ‬التلفزي‭ ‬هذا،‭ ‬يكشف‭ ‬الجوكر‭ ‬عن‭ ‬التناقض‭ ‬الصارخ‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬غوثام‭ ‬الفاسد،‭ ‬الذي‭ ‬يقدّس‭ ‬الأثرياء‭ ‬والمتسلطين‭ ‬والأغنياء‭ ‬ويهضم‭ ‬حقوق‭ ‬الفقراء‭ ‬والمقهورين‭ ‬والبؤساء‭. ‬وقد‭ ‬أماط‭ ‬اللثام‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الفساد‭ ‬المستشري‭ ‬مباشرة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البرنامج‭ ‬باعترافه‭ ‬بالقتل‭ ‬والانتقام‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭ ‬الطبقي،‭ ‬الفاسد،‭ ‬المتناقض‭.‬

في‭ ‬المشهد‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬الفيلم،‭ ‬يمرّر‭ ‬الجوكر‭ ‬يده‭ ‬على‭ ‬شفتيه‭ ‬الملطخة‭ ‬بالدماء‭ ‬ليرسم‭ ‬بها‭ ‬ابتسامة‭ ‬خبيثة‭ ‬وشريرة،‭ ‬بنفس‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬السابق،‭ ‬حينما‭ ‬كان‭ ‬مهرجًا‭ ‬وديعًا‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬الإضحاك‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬ابتسامته‭ ‬الأولى‭ ‬والأخيرة‭ ‬تتجلّى‭ ‬في‭ ‬استهدافه‭ ‬من‭ ‬الأولى‭ ‬خلق‭ ‬الفرح‭ ‬وإسعاد‭ ‬الناس،‭ ‬أما‭ ‬الثانية‭ ‬فرسمها‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬تلميحًا‭ ‬بتلذّذه‭ ‬المَرَضي‭ ‬بالفتك‭ ‬والدماء‭ ‬والخراب‭. ‬وحينما‭ ‬أخبره‭ ‬الشرطي‭ ‬بأنّ‭ ‬المدينة‭ ‬كلّها‭ ‬تحترق‭ ‬وتخرّب‭ ‬وتدمّر‭ ‬بسببه‭ ‬أجاب‭ ‬الجوكر‭: ‬اإنها‭ ‬جميلةب‭. ‬إجابة‭ ‬تعكس‭ ‬تحوّله‭ ‬إلى‭ ‬شخصية‭ ‬نيكروفيلية‭ ‬تعشق‭ ‬القتل،‭ ‬وتستمتع‭ ‬بمشاهد‭ ‬العنف‭ ‬والإبادة‭.‬

 

نظريات‭ ‬نفسية

من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬تقاطع‭ ‬الفيلم‭ ‬مع‭ ‬نظريات‭ ‬نفسية‭ ‬عالجت‭ ‬العنف‭ ‬وظروف‭ ‬تكوّن‭ ‬الشخصية‭ ‬التدميرية‭ ‬أو‭ ‬النيكروفيلية،‭ ‬خاصة‭ ‬نظرية‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬عند‭ ‬سيجموند‭ ‬فرويد‭ ‬ونظرية‭ ‬التدمير‭ ‬البشري‭ ‬عند‭ ‬إيريك‭ ‬فروم‭. ‬

ففرويد‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬اقلق‭ ‬في‭ ‬الحضارةب‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬هو‭ ‬خزان‭ ‬لمجموعة‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬التدمير‭ ‬والعدوان‭ ‬والشّر‭. ‬وهو‭ ‬ميّال‭ ‬بطبعه‭ ‬إلى‭ ‬استغلال‭ ‬الآخر‭ ‬وتسخيره‭ ‬لتلبية‭ ‬حاجة‭ ‬من‭ ‬حاجياته‭ ‬العضوية‭ ‬أو‭ ‬النفسية،‭ ‬باعتباره‭ ‬أداة‭ ‬لتحقيق‭ ‬الإشباع‭ ‬واللذّة‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬اضطهاده‭ ‬ونفيه‭ ‬وتحطيم‭ ‬صنمه‭. ‬فالعنف‭ ‬والشر‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬خصائص‭ ‬الطبع‭ ‬البشري،‭ ‬وفرويد‭ ‬يحدد‭ ‬تقابلًا‭ ‬نفسيًّا‭ ‬دقيقًا‭ ‬يصنّف‭ ‬فيه‭ ‬هذا‭ ‬الدافع‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ثنائية‭ ‬شهيرة‭ ‬صنفها‭ ‬سنة‭ ‬1920،‭ ‬وقسم‭ ‬فيها‭ ‬الغرائز‭ ‬إلى‭ ‬صنفين‭: ‬غريزة‭ ‬الموت،‭ ‬وغريزة‭ ‬الحياة‭ (‬الإيروس‭). ‬

والتدميرية‭ ‬هي‭ ‬التجلّي‭ ‬الواضح‭ ‬لدافع‭ ‬الموت،‭ ‬والذي‭ ‬يتمظهر‭ ‬نفسيًا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الحالات‭ ‬النفسية‭ ‬كالمازوشية‭ (‬تعذيب‭ ‬الذات‭)‬،‭ ‬والساديّة‭ (‬الميل‭ ‬إلى‭ ‬تعذيب‭ ‬الآخر‭)‬،‭ ‬والنرجسية‭ (‬تقديس‭ ‬الذات‭)‬،‭ ‬والأوديبية‭ (‬حبّ‭ ‬الأم‭ ‬وكراهية‭ ‬الأب‭)... ‬إلخ‭. ‬

وهذه‭ ‬الملامح‭ ‬تظهر‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬التكوين‭ ‬السيكولوجي‭ ‬الذي‭ ‬طبع‭ ‬حياة‭ ‬الجوكر،‭ ‬كما‭ ‬يدلّنا‭ ‬المخرج‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬الأغوار‭ ‬الداخلية‭ ‬للبطل،‭ ‬وإشارته‭ ‬إلى‭ ‬مرضه‭ ‬النفساني،‭ ‬وظروف‭ ‬نشأته‭ ‬الصعبة‭ ‬رفقة‭ ‬أمه،‭ ‬ومعاناته‭ ‬من‭ ‬غياب‭ ‬الأب‭.‬

 

انجذاب‭ ‬مفرط

‭ ‬فاللقطات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الفيلم‭ ‬رصدت‭ ‬مشهدًا‭ ‬لجلوس‭ ‬آرثر‭ ‬رفقة‭ ‬أمه‭ ‬فوق‭ ‬سرير‭ ‬واحد،‭ ‬وهذه‭ ‬إحدى‭ ‬الخصائص‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬الشخصية‭ ‬الأوديبية‭ ‬التي‭ ‬تحدّث‭ ‬عنها‭ ‬فرويد‭ ‬سابقًا،‭ ‬حيث‭ ‬الانجذاب‭ ‬المفرط‭ ‬من‭ ‬البطل‭ ‬نحو‭ ‬أمه،‭ ‬وحيث‭ ‬الاهتمام‭ ‬المُبالغ‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬الأم‭ ‬لابنها‭.‬

‭ ‬إنه‭ ‬الارتباط‭ ‬الأوديبي‭ ‬الشاذ‭ ‬الذي‭ ‬التقطه‭ ‬المخرج‭ ‬في‭ ‬لقطات‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الفيلم‭ ‬أيضًا‭. ‬ففي‭ ‬مشهد‭ ‬آخر‭ ‬تلتقط‭ ‬عدسة‭ ‬المخرج‭ ‬أم‭ ‬البطل‭ ‬وهي‭ ‬تستحم‭ ‬برعاية‭ ‬ابنها‭ ‬آرثر‭ ‬الذي‭ ‬تكفل‭ ‬بغسلها‭ ‬وهي‭ ‬عارية،‭ ‬إيحاء‭ ‬بالانجذاب‭ ‬الجنسي‭ ‬للأم،‭ ‬وتلميحًا‭ ‬للتقارب‭ ‬العاطفي‭ ‬الشديد‭ ‬الذي‭ ‬يشكّل‭ ‬أحد‭ ‬دعائم‭ ‬العقدة‭ ‬الأوديبية‭. ‬

هذا‭ ‬التدليل‭ ‬المفرط،‭ ‬وهذا‭ ‬التقارب‭ ‬المُبالغ‭ ‬فيه‭ ‬بين‭ ‬الأم‭ ‬وابنها،‭ ‬سيزداد‭ ‬بروزًا‭ ‬وانكشافًا‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬مراقصة‭ ‬آرثر‭ ‬لأمه‭ ‬بعد‭ ‬لقاءه‭ ‬الغرامي‭ ‬الفاشل‭ ‬بصديقته‭. ‬فشبح‭ ‬الأم‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬حاضرًا‭ ‬وساكنًا‭ ‬في‭ ‬روح‭ ‬البطل‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬لحظاته‭ ‬العاطفية‭ ‬الخاصة،‭ ‬وفعل‭ ‬الرقص‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬تعبير‭ ‬مجانس‭ ‬ومطابق‭ ‬ومعوّض‭ ‬لرقصته‭ ‬الفاشلة‭ ‬مع‭ ‬المحبوبة‭. ‬وكأنّه‭ ‬يشابهها‭ ‬بها،‭ ‬أو‭ ‬يقابل‭ ‬إخفاقه‭ ‬الغرامي‭ ‬مع‭ ‬صديقته‭ ‬برقصته‭ ‬هذه،‭ ‬تعويضًا‭ ‬وإبدالًا‭.‬

‭ ‬مقابل‭ ‬الانجذاب‭ ‬المفرط‭ ‬للأم،‭ ‬هناك‭ ‬شرط‭ ‬ثانٍ‭ ‬لتكوّن‭ ‬العقدة‭ ‬الأوديبية،‭ ‬وهو‭ ‬كراهية‭ ‬الأب‭ ‬والميل‭ ‬نحو‭ ‬نفيه‭ ‬وتغييب‭ ‬دوره‭ ‬وتحطيم‭ ‬صورته‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نجده‭ ‬حاضرًا‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬مضامين‭ ‬الفيلم،‭ ‬حيث‭ ‬الفقدان‭ ‬الأبوي‭ ‬وتأثيره‭ ‬بارز‭ ‬في‭ ‬معالم‭ ‬الفيلم‭.‬

‭ ‬

ابتسامة‭ ‬مفقودة

سيكتشف‭ ‬آرثر‭ ‬أنه‭ ‬مجرّد‭ ‬طفل‭ ‬متبنّى‭ ‬وثمرة‭ ‬إنجاب‭ ‬غير‭ ‬شرعي،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬سيضاعف‭ ‬من‭ ‬كرهه‭ ‬وحقده‭ ‬لدور‭ ‬الأب،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬سيقتله‭ ‬قتلًا‭ ‬رمزيًّا‭ ‬أوديبيًا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬جريمته‭ ‬الختامية،‭ ‬والتي‭ ‬قتل‭ ‬فيها‭ ‬مقدّم‭ ‬البرنامج‭ ‬التلفزي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتابعه‭ ‬باستمرار‭ (‬روبرت‭ ‬دي‭ ‬نيرو‭). ‬وإذا‭ ‬عدنا‭ ‬تأويليًّا‭ ‬إلى‭ ‬المشاهد‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الفيلم،‭ ‬سنجد‭ ‬أن‭ ‬آرثر‭ ‬كان‭ ‬مولعًا‭ ‬بهذا‭ ‬المقدم،‭ ‬وعاش‭ ‬متيمًا‭ ‬به،‭ ‬وحالمًا‭ ‬بالمشاركة‭ ‬في‭ ‬برنامجه‭. ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬يتخيله،‭ ‬باستمرار،‭ ‬أبًا‭ ‬له‭ ‬ويماثله‭ ‬كثيرًا‭ ‬بصورة‭ ‬أبيه‭ ‬الحقيقي‭ ‬الذي‭ ‬افتقده‭. ‬وذلك‭ ‬يتّضح‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مشهد‭ ‬العناق‭ ‬الهذياني‭ ‬الذي‭ ‬جمعهما‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬البرنامج،‭ ‬حيث‭ ‬التقط‭ ‬المخرج‭ ‬صورة‭ ‬المقدم‭ ‬وهو‭ ‬يتمنّى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الجوكر‭ ‬ابنه‭ ‬المخلص‭ (‬مشهد‭ ‬متخيل‭). ‬

أما‭ ‬ثنائية‭ ‬المازوشية‭ ‬والسادية،‭ ‬فإنها‭ ‬بادية‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬سلوك‭ ‬الجوكر‭ ‬من‭ ‬بداية‭ ‬الفيلم‭ ‬إلى‭ ‬نهايته،‭ ‬فشخصية‭ ‬الجوكر‭ ‬هي‭ ‬تركيب‭ ‬من‭ ‬العُقد‭ ‬النفسية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتلذذ‭ ‬بتعذيب‭ ‬النفس‭ ‬ومحاسبتها‭ ‬وإذلالها‭ ‬بعد‭ ‬كلّ‭ ‬إخفاق‭ ‬وفشل‭ (‬المازوشية‭)‬،‭ ‬ونلمس‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سلوك‭ ‬الجوكر‭ ‬ووضعه‭ ‬المرضي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يخفي‭ ‬إحساسه‭ ‬بالألم‭ ‬واليأس‭ ‬والهزيمة‭. ‬وكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬الجوكر‭ ‬يضغط‭ ‬على‭ ‬شفتيه‭ ‬بقوة،‭ ‬راسمًا‭ ‬بها‭ ‬ابتسامة‭ ‬مفقودة‭ ‬حلم‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الخيبة‭ ‬والإذلال،‭ ‬وهذا‭ ‬طقس‭ ‬مازوشي‭ ‬يجسّد‭ ‬التعذيب‭ ‬الذاتي‭ ‬الذي‭ ‬اختاره‭ ‬البطل‭ ‬تعويضًا‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬الانهيار‭ ‬والانكسار‭ ‬في‭ ‬عالمه‭ ‬الواقعي‭. ‬

بينما‭ ‬اتضحت‭ ‬ميوله‭ ‬الساديّة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬حينما‭ ‬تحول‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬آرثر‭ ‬الوديعة‭ ‬واللطيفة‭ ‬إلى‭ ‬شخصية‭ ‬الجوكر‭ ‬المتلذذ‭ ‬بالقتل‭ ‬والعاشق‭ ‬لسفك‭ ‬الدماء‭. ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬آرثر‭ ‬الخالقة‭ ‬للضحك‭ ‬والبهجة‭ ‬إلى‭ ‬شخصية‭ ‬الجوكر‭ ‬المستمتع‭ ‬بعالم‭ ‬تعمّه‭ ‬الفوضى‭ ‬وتسيطر‭ ‬عليه‭ ‬قيم‭ ‬العدوانية‭ ‬والتدمير‭.‬

 

ملامح‭ ‬نرجسيّة

فيما‭ ‬يخص‭ ‬التلوينات‭ ‬النرجسية‭ ‬التي‭ ‬شكّلت‭ ‬شخصية‭ ‬الجوكر،‭ ‬فتتضح‭ ‬بشكل‭ ‬جلّي‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الأخير،‭ ‬مشهد‭ ‬الرجل‭ ‬القيادي‭ ‬نحو‭ ‬قيم‭ ‬الشرّ،‭ ‬مشهد‭ ‬البطل‭ ‬الخارق‭ ‬الذي‭ ‬يخطط‭ ‬للفوضى‭ ‬والخراب‭ ‬ويوجّه‭ ‬عمليات‭ ‬العنف‭ ‬والدمار‭ ‬التي‭ ‬عمت‭ ‬مدينة‭ ‬غوثام‭. ‬

فالجوكر‭ ‬هنا‭ ‬يرفع‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬أنصاره‭ ‬على‭ ‬شاكلة‭ ‬الأشراف‭ ‬الكبار،‭ ‬فتظهر‭ ‬عليه‭ ‬ملامح‭ ‬النرجسية‭ ‬والإعجاب‭ ‬بسلوك‭ ‬الذات‭. ‬الذات‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تسيطر‭ ‬وتهيمن‭ ‬وتطغى،‭ ‬الذات‭ ‬التي‭ ‬اتخذت‭ ‬من‭ ‬الوحشية‭ ‬والهدم‭ ‬والهلاك‭ ‬وسيلة‭ ‬للسيادة‭ ‬والزعامة‭.‬

الاتجاه‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬تعامل‭ ‬مع‭ ‬قضية‭ ‬العنف‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬سيكولوجية،‭ ‬يمثّله‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬الذين‭ ‬حاولوا‭ ‬الالتفات‭ ‬إلى‭ ‬الدوافع‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬التي‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬بلورة‭ ‬السلوك‭ ‬التدميري،‭ ‬أبرزهم‭: ‬الألماني‭ ‬ايريك‭ ‬فروم‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬تحليل‭ ‬النزعة‭ ‬التدميرية‭ ‬البشرية،‭ ‬والباحثان‭ ‬الفرنسيان‭ ‬دولوز‭ ‬وغاتاري‭.‬

وقد‭ ‬رفض‭ ‬هؤلاء‭ ‬المقولات‭ ‬والآراء‭ ‬السابقة‭ ‬التي‭ ‬أعلنت‭ ‬عن‭ ‬فطرية‭ ‬العنف‭ ‬ونشأته‭ ‬غريزيًّا‭ ‬في‭ ‬الطبع‭ ‬البشري،‭ ‬مستدلين‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬بإنسان‭ ‬العصر‭ ‬القديم‭ ‬والتي‭ ‬تخبرنا‭ ‬المعطيات‭ ‬والإحصاءات‭ ‬الخاصة‭ ‬به،‭ ‬بأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يلجأ‭ ‬للعنف‭ ‬إلا‭ ‬عندما‭ ‬تفرضها‭ ‬الضرورة‭ ‬البيولوجية‭ ‬والغريزية،‭ ‬كالدفاع‭ ‬عن‭ ‬القبيلة‭ ‬أو‭ ‬العائلة‭ ‬أو‭ ‬الهجوم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬قوت‭ ‬العيش‭... ‬إلخ‭.‬

‭ ‬فطبعه‭ ‬أقل‭ ‬عنفًا‭ ‬وتدميرية‭ ‬من‭ ‬طبع‭ ‬الإنسان‭ ‬الحديث‭ ‬المستثمر‭ ‬للآلة‭ ‬والتكنولوجيا‭ ‬والطاقة‭ ‬المستغلة‭ ‬في‭ ‬الفتن‭ ‬والحروب‭ ‬والنزاعات‭ ‬اللامنتهية‭. ‬ويرى‭ ‬هؤلاء‭ ‬الباحثون‭ ‬بأنّ‭ ‬العنف‭ ‬هو‭ ‬وثيق‭ ‬الصلة‭ ‬بالأوضاع‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المكتسبة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الواقعية‭. ‬والسلوك‭ ‬التدميري‭ ‬عندهم‭ ‬هو‭ ‬نتاج‭ ‬طبيعي‭ ‬لغياب‭ ‬الإشباع‭ ‬العضوي‭ ‬أو‭ ‬النفسي،‭ ‬أو‭ ‬لكونه‭ ‬ردّ‭ ‬فعل‭ ‬ضد‭ ‬إساءة‭ ‬أو‭ ‬ظلم‭ ‬أو‭ ‬قهر‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬الانقسامات‭ ‬غير‭ ‬الطبيعية‭ ‬التي‭ ‬شهدها‭ ‬المجتمع‭ ‬الرأسمالي‭ ‬الطبقي،‭ ‬المولّد‭ ‬للفصام‭ ‬ولانفصال‭ ‬الناس‭ ‬عن‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض‭ ‬وعن‭ ‬العالم‭ ‬المحيط‭ ‬المليء‭ ‬بالتناقضات‭ ‬الشاسعة‭.‬

 

عوامل‭ ‬أساسية

وإذا‭ ‬ربطنا‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬الثاني‭ ‬بمعطيات‭ ‬الفيلم،‭ ‬سنجد‭ ‬بأن‭ ‬المخرج‭ ‬قد‭ ‬أشار‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مراحل‭ ‬الفيلم‭ ‬إلى‭ ‬الأبعاد‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬التي‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬تكون‭ ‬شخصية‭ ‬الجوكر‭ ‬الشريرة‭. ‬فقد‭ ‬كشفت‭ ‬الوثائق‭ ‬السرية‭ ‬للمستشفى‭ ‬بأن‭ ‬آرثر‭ ‬هو‭ ‬ابن‭ ‬مُتبنّى،‭ ‬وعانى‭ ‬حياة‭ ‬طفولية‭ ‬قاسية‭ ‬مليئة‭ ‬بالتعذيب‭ ‬والضرب‭ ‬والتجويع‭ ‬والتخويف‭ ‬والقهر‭ ‬والرهبة‭ ‬والألم‭ ‬والتقييد‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الأم‭ ‬التي‭ ‬تبنته‭. ‬وهذا‭ ‬من‭ ‬الأسباب‭ ‬الرئيسية‭ ‬التي‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬تركيب‭ ‬العُقد‭ ‬النفسية‭ ‬في‭ ‬نفسيّة‭ ‬البطل،‭ ‬وسببت‭ ‬في‭ ‬إعاقة‭ ‬تكوينه‭ ‬السيكولوجي‭ ‬وتحويله‭ ‬إلى‭ ‬مريض‭ ‬نفساني‭ ‬مصاب‭ ‬باضطراب‭ ‬ورهاب‭ ‬وهلوسات‭ ‬متعددة‭. ‬وهو‭ ‬كذلك‭ ‬من‭ ‬العوامل‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬تحوّل‭ ‬شخصية‭ ‬الجوكر‭ ‬إلى‭ ‬قاتل‭ ‬سيكوباتيكي‭ ‬عاشق‭ ‬للقتل‭ ‬والفوضى،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ننسى‭ ‬تأثير‭ ‬الدوافع‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والمادية‭ ‬والسياسية‭ ‬التي‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬أشرنا‭ ‬إليها‭ ‬سابقًا‭: ‬الفقر‭ - ‬الفشل‭ - ‬الطرد‭ ‬من‭ ‬العمل‭ - ‬المرض‭ - ‬الاحتقار‭ - ‬التفاوت‭ ‬الطبقي‭ - ‬الفساد‭ ‬السياسي‭ ‬المستشري‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ - ‬الظلم‭ - ‬الاعتداء‭ - ‬الدوس‭ ‬على‭ ‬الكرامة‭... ‬إلخ،‭ ‬وكلها‭ ‬بواعث‭ ‬نقلت‭ ‬لنا‭ ‬الشخصية‭ ‬الرئيسية‭ ‬من‭ ‬طور‭ ‬آرثر‭ ‬اللطيف‭ ‬إلى‭ ‬طور‭ ‬الجوكر‭ ‬العنيف‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يرحم‭ ‬أحدًا‭.‬

وما‭ ‬قتله‭ ‬للأم‭ ‬إلا‭ ‬انتقام‭ ‬وردّ‭ ‬فعل‭ ‬عنيف‭ ‬ضد‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬احتقره‭ ‬ونفاه‭ ‬واستعبده،‭ ‬بل‭ ‬إنّه‭ ‬تصفية‭ ‬حسابات‭ ‬ضد‭ ‬الجميع‭: ‬الأب‭ ‬الذي‭ ‬تركه‭ ‬وحرمه‭ ‬من‭ ‬نعمة‭ ‬الأبوة‭- ‬الأم‭ ‬التي‭ ‬حطمت‭ ‬آماله،‭ ‬وركبت‭ ‬فيه‭ ‬مكامن‭ ‬النقص‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حرمته‭ ‬من‭ ‬نعمة‭ ‬التربية‭ - ‬الطبيبة‭ ‬التي‭ ‬حرمته‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬العلاج‭ - ‬الصديقة‭ ‬التي‭ ‬حرمته‭ ‬من‭ ‬دفء‭ ‬الحب‭ - ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬داس‭ ‬على‭ ‬أحلامه‭ ‬وقضى‭ ‬على‭ ‬طموحاته‭ ‬بطرق‭ ‬متعددة‭: ‬الاستغلال‭/ ‬الاعتداء‭/ ‬التفقير‭ / ‬الظلم‭... ‬إلخ‭ - ‬حتى‭ ‬صديقه‭ ‬راندل‭ ‬الذي‭ ‬سلّمه‭ ‬المسدس‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬لم‭ ‬ينجُ‭ ‬من‭ ‬سلسلة‭ ‬انتقاماته‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬قتله‭ ‬فعلًا‭ ‬رمزيًّا‭ ‬دلّ‭ ‬على‭ ‬انقلاب‭ ‬الثأر‭ ‬نحو‭ ‬ذاك‭ ‬الذي‭ ‬فتح‭ ‬له‭ ‬باب‭ ‬القتل‭ ‬والجريمة‭ ‬في‭ ‬السابق‭. ‬إنه‭ ‬قتل‭ ‬للقتل،‭ ‬وفتك‭ ‬بالفتك،‭ ‬واقتصاص‭ ‬من‭ ‬خطايا‭ ‬الأمس‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سببا‭ ‬في‭ ‬انهيار‭ ‬حياته‭ ‬وأحلامه‭.‬

 

فوارق‭ ‬طبقية

إذا‭ ‬انتقلنا‭ ‬إلى‭ ‬المستوى‭ ‬الفني‭ ‬والتقني‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬نلاحظ‭ ‬أن‭ ‬المخرج‭ ‬تود‭ ‬فيليبس‭ ‬قد‭ ‬نوّع‭ ‬من‭ ‬اللقطات‭ ‬والمشاهد،‭ ‬حيث‭ ‬وظّفت‭ ‬اللقطات‭ ‬المقربة،‭ ‬التي‭ ‬تترصّد‭ ‬ملامح‭ ‬الجوكر‭ ‬وسحنته‭ ‬التهريجية‭ ‬الملطّخة‭ ‬بالأصباغ‭ ‬والمكياج‭ ‬البهلواني،‭ ‬وهذه‭ ‬المشاهد‭ ‬المقرّبة‭ ‬حاولت‭ ‬الإحاطة‭ ‬بلمحات‭ ‬الخير‭ ‬والشر‭ ‬وعلاماته‭ ‬الجسدية‭ ‬في‭ ‬معالم‭ ‬وجه‭ ‬الجوكر،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تقلّبه‭ ‬بين‭ ‬الحالتين‭: ‬حالة‭ ‬المبتهج‭ ‬الضاحك‭ ‬والمضحك،‭ ‬وحالة‭ ‬العنيف‭ ‬المجنون،‭ ‬المتلذذ‭ ‬بالقتل‭ ‬والتدمير‭.‬

أما‭ ‬اللقطات‭ ‬المتوسطة،‭ ‬فتعقّبت‭ ‬أفعال‭ ‬الجوكر‭ ‬وتصرّفاته‭ ‬الغريبة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ميوله‭ ‬المرضية‭ ‬التهريجية،‭ ‬التي‭ ‬تتمظهر‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قهقهاته‭ ‬ورقصاته‭ ‬المُبالغ‭ ‬فيها‭. ‬وهي‭ ‬سلوكيات‭ ‬تعكس‭ ‬الانتقال‭ ‬السيكوباتي‭ ‬في‭ ‬مزاج‭ ‬البطل‭ ‬من‭ ‬الشخصية‭ ‬المتوازنة‭ ‬إلى‭ ‬الشخصية‭ ‬المضطربة‭ ‬العنيفة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬جاءت‭ ‬العدسة‭ ‬العميقة‭ ‬ذات‭ ‬اللقطات‭ ‬البعيدة‭ ‬لتؤطّر‭ ‬فضاء‭ ‬غوثام‭ ‬وما‭ ‬تعرفه‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬تناقضات‭ ‬اجتماعية‭ ‬وفوارق‭ ‬طبقية‭ ‬وفساد‭ ‬مستشر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أرجائها‭ ‬ومرافقها،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حوّلها‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬من‭ ‬الفوضى‭ ‬والخراب،‭ ‬مدينة‭ ‬عمّها‭ ‬الظلال‭ ‬والظلام‭ ‬والسواد‭. ‬ساءت‭ ‬أخلاق‭ ‬سكّانها‭ ‬وقيمهم،‭ ‬فساء‭ ‬مصيرهم‭ ‬وانحرفت‭ ‬أحلامهم‭.‬

أما‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الإنارة،‭ ‬فقد‭ ‬جاءت‭ ‬خافتة‭ ‬وضعيفة‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬المشاهد‭. ‬وهذا‭ ‬الطابع‭ ‬السوداوي‭ ‬للمجال،‭ ‬يتوافق‭ ‬مع‭ ‬رؤية‭ ‬الفيلم‭ ‬المأساوية‭ ‬التي‭ ‬حاولت‭ ‬الإحاطة‭ ‬بواقع‭ ‬مدينة‭ ‬غوثام‭ ‬السلبي‭. ‬

واقع‭ ‬الظّلم‭ ‬والفساد،‭ ‬واقع‭ ‬الطغيان‭ ‬والتنمر،‭ ‬واقع‭ ‬الشّر‭ ‬والعنف،‭ ‬واقع‭ ‬الفوارق‭ ‬الطبقيّة‭ ‬الشاسعة‭ ‬التي‭ ‬زادت‭ ‬من‭ ‬قهر‭ ‬الضعفاء،‭ ‬وأحزان‭ ‬التعساء‭. ‬ولهذا‭ ‬اختار‭ ‬تود‭ ‬فيليبس‭ ‬بسط‭ ‬الظلام‭ ‬على‭ ‬الحيّز،‭ ‬ونشر‭ ‬العتمة‭ ‬على‭ ‬الفضاء،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬أفلام‭ ‬الجوكر‭ ‬السابقة‭ (‬أفلام‭ ‬باتمان‭) ‬التي‭ ‬هيمن‭ ‬فيها‭ ‬الغسق‭ ‬وفتور‭ ‬الأنوار،‭ ‬إيحاء‭ ‬بصراع‭ ‬الخير‭ ‬والشر‭.‬

 

رصد‭ ‬الهامش‭ ‬المنسي

تسطع‭ ‬الإضاءة‭ ‬بنورها‭ ‬الوهّاج‭ ‬في‭ ‬المشاهد‭ ‬السعيدة‭ (‬القليلة‭) ‬التي‭ ‬رسم‭ ‬فيها‭ ‬الجوكر‭ ‬البهجة‭ ‬بتهريجه،‭ ‬والفرحة‭ ‬بحركاته‭ ‬البهلوانية،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬مشاهد‭ ‬عروضه‭ ‬التي‭ ‬قدّمها‭ ‬رفقة‭ ‬أصدقائه‭ ‬المتدربين‭ (‬خاصة‭ ‬صديقه‭ ‬القزم‭) ‬أو‭ ‬في‭ ‬المشاهد‭ ‬التي‭ ‬أماطت‭ ‬اللثام‭ ‬عن‭ ‬قصّة‭ ‬حبه‭ ‬بصديقته‭ ‬السمراء،‭ ‬والتي‭ ‬كان‭ ‬يستهدف‭ ‬تسليتها‭ ‬وإمتاعها‭ ‬بعروضه‭ ‬التهريجية‭ ‬وسلوكه‭ ‬الساخر،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬تزداد‭ ‬لقطات‭ ‬الفيلم‭ ‬قتامة،‭ ‬كلّما‭ ‬مال‭ ‬المخرج‭ ‬جانبًا‭ ‬لرصد‭ ‬صور‭ ‬الهامش‭ ‬وظلال‭ ‬المجتمع‭ ‬المنسي،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نشاهده‭ ‬مثلًا‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬الجوكر‭ ‬بالطبيبة‭ ‬النفسية،‭ ‬إيحاء‭ ‬بمعاناته‭ ‬وأزماته‭ ‬النفسية‭ ‬الكئيبة‭ ‬التي‭ ‬أثّرت‭ ‬سلبًا‭ ‬على‭ ‬حياته،‭ ‬وجعلت‭ ‬عالمه‭ ‬سديمًا‭ ‬حالكًا‭ ‬كحال‭ ‬الإنارة‭.‬

وفيما‭ ‬يخصّ‭ ‬الموسيقى‭ ‬التصويرية،‭ ‬فقد‭ ‬جاءت‭ ‬متلائمة‭ ‬مع‭ ‬طبيعة‭ ‬الفيلم،‭ ‬وخصوصياته‭ ‬العاطفية‭ ‬والنفسية،‭ ‬فقد‭ ‬ارتكز‭ ‬الفنان‭ ‬هيلدور‭ ‬كوانادوتير،‭ ‬في‭ ‬إنجازه‭ ‬وتصويبه‭ ‬للموسيقى‭ ‬التصويرية‭ ‬الخاصة‭ ‬بالفيلم،‭ ‬على‭ ‬التوضيب‭ ‬التناسبي‭ ‬بين‭ ‬القطع‭ ‬الموسيقية‭ ‬وطبيعة‭ ‬اللحظة‭ ‬الدرامية‭ ‬والعاطفية‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭. ‬فاختار‭ ‬موسيقى‭ ‬صامتة‭ ‬بنبرات‭ ‬هادئة‭ ‬أحيانًا‭ ‬في‭ ‬اللقطات‭ ‬الدرامية‭ ‬ومشاهد‭ ‬الحزن‭ ‬والمآسي‭. ‬ويزيد‭ ‬صداها‭ ‬إزعاجًا‭ ‬واضطرابًا‭ ‬مع‭ ‬اللحظات‭ ‬المتأزمة‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬البطل‭ (‬المرض‭ ‬النفسي‭: ‬الانفصام‭ - ‬الفقر‭ - ‬الضعف‭ - ‬الفشل‭ - ‬الطرد‭....)‬،‭ ‬ثم‭ ‬يتضاعف‭ ‬رنينها‭ ‬لدرجة‭ ‬الخوف‭ ‬والترهيب‭ ‬بألحان‭ ‬قوية‭ ‬وإيقاع‭ ‬صخب‭ ‬شبيه‭ ‬بموسيقى‭ ‬أفلام‭ ‬الرعب،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬في‭ ‬مشاهد‭ ‬العنف‭ ‬والترقّب‭ ‬للحظاته‭ ‬المخيفة‭ ‬والمرعبة‭. ‬كما‭ ‬وظّف‭ ‬مؤلف‭ ‬الموسيقى‭ ‬التصويرية‭ ‬بعض‭ ‬الأغاني‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬الأصلية،‭ ‬التي‭ ‬اتسقت‭ ‬مع‭ ‬طبيعة‭ ‬الحدث‭ ‬وتوافقت‭ ‬مع‭ ‬خصوصية‭ ‬الواقعة،‭ ‬مثل‭ ‬أغنية‭ ‬اابتسمب‭ ‬التي‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬الابتسامة‭ ‬والتفاؤل،‭ ‬رغم‭ ‬لحظات‭ ‬القهر‭ ‬والتعاسة،‭ ‬أملًا‭ ‬في‭ ‬غدٍ‭ ‬مشرق‭ ‬تنقشع‭ ‬فيه‭ ‬غيوم‭ ‬البؤس‭ ‬والضياع‭.  ‬ثم‭ ‬هناك‭ ‬أغنية‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬تحكي‭ ‬عن‭ ‬أحوال‭ ‬الحياة‭ ‬المتقلبة‭ ‬بين‭ ‬السعادة‭ ‬والحزن،‭ ‬وتدعو‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬عناصر‭ ‬السعادة‭ ‬في‭ ‬ركام‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬البئيس،‭ ‬المليء‭ ‬بالظلم‭ ‬والاستغلال‭ ‬والاعتداء‭.‬

 

انتقال‭ ‬تدريجي

كما‭ ‬استعمل‭ ‬فيلم‭ ‬الجوكر‭ ‬المكياج‭ ‬والألوان‭ ‬بإتقان‭ ‬وتميّز‭ ‬وإبداع‭. ‬فقد‭ ‬لعبت‭ ‬ملامح‭ ‬آرثر‭ ‬البهلوانية،‭ ‬ورسومات‭ ‬وجهه‭ ‬الفكاهية‭ ‬دورًا‭ ‬بارزًا‭ ‬في‭ ‬إلقاء‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬ناحية‭ ‬مهمة‭ ‬من‭ ‬التركيبة‭ ‬النفسية‭ ‬المعقّدة‭ ‬للبطل،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬آرثر‭ ‬يقبع‭ ‬ويحتمي‭ ‬خلف‭ ‬هذا‭ ‬المكياج‭ ‬من‭ ‬مراقبة‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينبذه‭.‬

‭ ‬ومن‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬تنجلي‭ ‬ملامح‭ ‬الشحوب‭ ‬والإجهاض‭ ‬النفسي‭ ‬في‭ ‬تعابير‭ ‬وجه‭ ‬الجوكر،‭ ‬كلّما‭ ‬أزال‭ ‬المكياج‭ ‬البهلواني،‭ ‬تأكيدًا‭ ‬لحالته‭ ‬النفسية‭ ‬المنهارة‭ ‬واليائسة‭ ‬من‭ ‬عراقيل‭ ‬الحياة‭ ‬وحواجزها‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬أرغمه‭ ‬على‭ ‬تكبّد‭ ‬عناء‭ ‬الفشل‭ ‬باستمرار‭ ‬وتكرار‭ ‬دائم،‭ ‬ليتحوّل‭ ‬بذلك‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬آرثر‭ ‬المهرج‭ ‬إلى‭ ‬الجوكر‭ ‬المجنون،‭ ‬حيث‭ ‬لمسنا،‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬كادرات‭ ‬التصوير‭ ‬المقربة،‭ ‬الانتقال‭ ‬التدريجي‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬الجوكر‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬متعددة‭: ‬العناء‭ ‬والتهميش‭ ‬ثم‭ ‬الجنون‭ ‬والفوضى‭ ‬ثم‭ ‬العنف‭ ‬والتدمير‭.‬

يبقى‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬أخيرًا‭ ‬إلى‭ ‬إحالة‭ ‬ذكية‭ ‬اختارها‭ ‬المخرج‭ ‬في‭ ‬خاتمة‭ ‬الفيلم،‭ ‬ربطته‭ ‬بسلسلة‭ ‬من‭ ‬أفلام‭ ‬الجوكر‭ ‬السابقة،‭ ‬ووصلته‭ ‬بما‭ ‬ينتظر‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬سينمائية‭ ‬تعالج‭ ‬الموضوع‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬درامي‭ ‬جديد‭. ‬فالمرشح‭ ‬الرئيسي‭ ‬لبلدة‭ ‬غوثام،‭ ‬التي‭ ‬ترمز‭ ‬لمدينة‭ ‬نيويورك‭ ‬الأمريكية،‭ ‬قتل‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اندلعت‭ ‬الفوضى‭ ‬وأعمال‭ ‬التدمير‭ ‬التي‭ ‬قادها‭ ‬الجوكر‭.‬

 

تأريخ‭ ‬مسبق

رصدت‭ ‬الكاميرا‭ ‬لقاء‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬بطفل‭ ‬صغير‭ (‬ابن‭ ‬المرشّح‭) ‬يدعى‭ ‬بروس‭ ‬واين،‭ ‬وهو‭ ‬اسم‭ ‬يذكّرنا‭ ‬ببطل‭ ‬سلسلة‭ ‬الرجل‭ ‬الوطواط‭ ‬الشهيرة‭ ‬التي‭ ‬شارك‭ ‬فيها‭ ‬الجوكر‭ ‬بدور‭ ‬الشرير‭ ‬الذي‭ ‬يقاتله‭ ‬باتمان‭. ‬ويحمل‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬السينمائي‭ ‬احتمالين‭ ‬وتصورين‭ ‬يمكن‭ ‬افتراضهما‭:‬

‭-  ‬الفيلم‭ ‬تأريخ‭ ‬مسبق‭ ‬لحياة‭ ‬الجوكر‭ ‬قبل‭ ‬مواجهاته‭ ‬المتعددة،‭ ‬وصراعه‭ ‬الحامي‭ ‬الوطيس‭ ‬مع‭ ‬باتمان‭. ‬لهذا‭ ‬فهذا‭ ‬العمل‭ ‬يمكن‭ ‬تصنيفه،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬زمن‭ ‬الوقائع،‭ ‬قبل‭ ‬سلسلة‭ ‬أفلام‭ ‬باتمان،‭ ‬لأنه‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬فترة‭ ‬زمنية‭ ‬سبقت‭ ‬صراع‭ ‬الرجل‭ ‬الوطواط‭ ‬مع‭ ‬الجوكر،‭ ‬وبالضبط‭ ‬مرحلة‭ ‬الطفولة‭ ‬التي‭ ‬قضاها‭ ‬بطل‭ ‬السلسلة‭ ‬بروس‭ ‬واين‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬سنّ‭ ‬مبكرة،‭ ‬حيث‭ ‬عاش‭ ‬حياة‭ ‬الترف‭ ‬والرفاهية‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬بهيج،‭ ‬رفقة‭ ‬أبيه‭ ‬المرشح‭ ‬الأوفر‭ ‬حظًا‭ ‬لقيادة‭ ‬مدينة‭ ‬غوثام‭.‬

‭-  ‬الفيلم‭ ‬هو‭ ‬استشراف‭ ‬مستقبلي‭ ‬لأجزاء‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬سلسلة‭ ‬الجوكر،‭ ‬فقد‭ ‬انتهى‭ ‬بتقليد‭ ‬دأب‭ ‬عليه‭ ‬كل‭ ‬المخرجين‭ ‬السابقين‭ ‬الذين‭ ‬استثمروا‭ ‬شخصية‭ ‬الجوكر،‭ ‬وذلك‭ ‬بلقائه‭ ‬الطفل‭ ‬بروس‭ ‬واين‭ ‬تمهيدًا‭ ‬لإكمال‭ ‬قصة‭ ‬الفيلم‭ ‬غير‭ ‬المنتهية‭ ‬في‭ ‬أجزاء‭ ‬أخرى‭ ‬ينضج‭ ‬فيها‭ ‬بروس‭ ‬واين‭ (‬باتمان‭) ‬ليواجه‭ ‬الجوكر‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬جديد‭ ‬مستقبلي‭. ‬وهذه‭ ‬النهاية‭ ‬المفتوحة‭ ‬للفيلم‭ ‬استهدفت‭ ‬تشويق‭ ‬الجمهور‭ ‬لسلسلة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬سلسلات‭ ‬الصراع‭ ‬الدائم‭ ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشر،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الثنائية‭ ‬الشهيرة‭: ‬الرجل‭ ‬الوطواط‭ ‬والجوكر‭.‬

‭ ‬وأخيرًا‭ ‬لا‭ ‬يمكننا‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬نحتفي‭ ‬بهذا‭ ‬العمل‭ ‬السينمائي‭ ‬العالمي‭ ‬الذي‭ ‬لقي‭ ‬حفاوة‭ ‬وضجّة‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الفن‭ ‬السابع‭. ‬وينتظر‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يفوز‭ ‬بالعديد‭ ‬من‭ ‬الجوائز‭ ‬العالمية،‭ ‬في‭ ‬المحافل‭ ‬السينمائية‭ ‬القادمة‭: ‬الجولدن‭ ‬غلوب‭ - ‬البافتا‭ - ‬الأوسكار‭... ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬توّج‭ ‬بالأسد‭ ‬الذهبي‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬فينيسيا‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ■‬