« الجوكر»... سيكولوجية الشخصية النيكروفيلية.. دراسة نفسيّة فنيّة للسلوك التدميري من خلال أحداث الفيلم

يُعرف العنف في المرجعيات السوسيولوجية والسيكولوجية بأنه إلحاق الضرر والأذى بشخص ما، أو بأشخاص متعددين، سواء كان هذا الضرر ماديًّا أو معنويًا. فقد يكون هذا الضرر إمّا جسميًّا يظهر أثره على جسم الفرد، أو نفسيًّا يترك تأثيره على مشاعر الشخص، أو نزعًا لممتلكات مادية أو رمزية تخص الشخص المعنّف. وقد حفلت السينما العالمية بمجموعة من الأفلام التي اهتمت بهذه الظاهرة السوسيونفسية، فرصدتها عن طريق مجموعة من الأفلام التي تطرّقت لهذا الموضوع في مضمونها أو شخصياتها أو مجالها.
لعلّنا لن ننحوَ عن الصواب إذا قلنا إنّ كلّ فيلم سينمائي مصوّر يحفل بمزيج من العنف والأذى، ولو في بعض مشاهده القليلة. لأنّ السينما المعاصرة أصبحت تركّز كثيرًا على الصدامات الاجتماعية، والصراعات البشرية بين الخير والشر، سواء كانت هذه الصراعات موجّهة ضد الغير )خارجية سلوكية( أو ضد النفس )داخلية نفسيّة.(
كما عرفت السينما العالمية، حضور مجموعة من الشخصيات الشريرة التي جسّدت العنف والتدمير في أبرز ملامحه وتجلياته، وذلك من خلال أدوار متعددة لسفّاحين وقاتلين ومجرمين وسيكوباتيين متعطشين للدماء والتخريب.
ومن أبرز هذه الشخصيات: شخصية هانيبال ليكتر في فيلم the silence of the lambs (التي أنجزها الممثل القدير أنطوني هوبكنز)، وشخصية جون ديوي (التي جسّدها الممثل كيفن سبايسي) في فيلم seven للمخرج دافيد فينشر، وشخصية نورمان بيتس (التي قام بدورها أنتوني بيركين) في فيلم psycho للمخرج ألفريد هيتشكوك، والممرضة ريتشيد (وقامت بتشخيصها الممثلة لويس فليتشر) في فيلم One Flew Over The Cuckooصs Nest.
ويعتبر االجوكرب من أبرز الشخصيات العالمية التي جسّدت العنف والتدمير والخراب. وقد خلّدت مجموعة من الأفلام هذه الشخصية كأحد الأدوار النيكروفيلية التوّاقة لسفك الدماء، وإحداث الفوضى، وإرهاب الناس، عبر مجموعة من الجرائم الغامضة والمثيرة في قلب مدينة غوثام (نيويورك). وتتكفّل شخصية باتمان (رمز الخير) بحلّ سرّ هذه الجرائم وحماية أهل هذه المدينة من شرور هذا السفّاح، مستعملًا في ذلك أحدث الأسلحة، وآخر وسائل التكنولوجيا الحربية للقضاء على هذا الشرير الذي يتناسل من شرّه تناسلًا غير متناهٍ.
الجوكر وباتمان
إذا كانت شخصية الجوكر مقترنة أشد الاقتران بسلسلة أفلام باتمان (في السابق) ـ عبر أدوار متعددة قام بها نجوم عالميون: سيزار روميرو، وجاك نيكلسون، وهيث لايدكر، وكاريت ليتو... إلخ ـ فإن الفيلم الأخير الذي قدّم هذه السنة عن هذه الشخصية، وأثار ضجّة كبرى في أروقة اهوليوودب بفعل نجاحه الباهر، قد ألغى دور باتمان وأعطى المساحة الكاملة للجوكر كشخصية بطلة متقلّبة بين حالتين متنافرتين (الخير والشر)، عبر عقبات متعددة أضاءت لنا مختلف الخصائص النفسية والاجتماعية التي تساهم في تكوين شخصية الشرير، وفعل العنف والتدمير.
يحكي فيلم الجوكر بطولة النجم العالمي خواكين فينيكس وإخراج تود فيليبس قصة مهرّج يسعى إلى إضحاك الناس وخلق البهجة والفرح في نفوسهم، من خلال مواقفه البهلوانية التي يخلقها في أماكن عامّة من مدينة غوثام، وهدفه الأسمى هو الحصول على دور كوميدي احترافي.
ورغم محاولاته العديدة لتحقيق هدفه، فإنه كان يفشل كل مرة، ويتعرّض لسخرية عارمة من طرف الناس، واحتقار دائم من طرف أهل المدينة. بل حتى أرباب عمله ينتقدونه دائمًا على أخطائه الدائمة، ومواقفه المثيرة للاستهزاء. وقد مرّ هذا المهرج بأوقات عصيبة، لأنه كان يعاني مرضًا نفسيًّا، ويتلقى العلاج من طبيبة نفسية، بسبب متلازمته الهستيرية التي تجعله ينفجر ضحكًا في مواقف عادية وبسيطة من دون علّة أو سبب. كما أنه كان يرعى والدته المريضة التي تخلّى عنها زوجها، وتركها في حالة عسر وفقر وعوَز وسقام.
مهرّج وسيكوباتي
المشهد الذي قلب الأحداث رأسًا على عقب وحوّل مسارها، ومسار الجوكر، كان في المترو، حينما تعرّض المهرج لحالته الهستيرية التي كانت تراوده، وهذا ما عرّضه للشتم والسخرية والضرب من طرف بعض الأثرياء الذين كانوا يركبون المترو. هنا يتحول الجوكر من شخصية المهرّج المضحك الذي يسعى إلى خلق البسمة والفرحة على وجوه الناس إلى شخص سيكوباتيكي شرّير، يتّخذ من العنف والقتل وسيلة تشعره باللذة والمتعة. فالمجتمع الاستغلالي الطبقي الذي تسيطر عليه قيم الفساد والاستغلال والظلم وتقديس الكبار مقابل قهر الصغار، لا بدّ أن ينتج أنماطًا متحوّلة من البشر. أنماط عاشت الويل والحرمان والبؤس في قعر المجتمع، فحوّلت حقدها الدفين إلى بركان ينفجر انفجارًا مهولًا لا حاجز صدّ يمنع سيوله الحارقة.
تنساب الأحداث، وتتناسل الوقائع، وتزداد شدة العنف ووثيرته. يتخلص الجوكر من أمّه التي أحبّها، وأخلص لها، وساندها في ضعفها، وتكفّل بعلاجها في اعتلالها، لكنّه سيكتشف أنها كانت سببًا في علّته وحالته المرضية بسبب تعنيفها المُبالغ له في طفولته. لهذا سيقرر قتلها بدم بارد من الإحساس، خصوصًا حينما علم بأنه مجرّد طفل لقيط متبنّى.
تزداد فوهة العُقد في الاتساع والامتداد، عقب طرد الجوكر من العمل. يتضاعف فشله الذي عمّ كل المناحي: الصحة، والسعادة، والحب، والعمل، والوجود... تتكرّر حالات الاعتداء والشّتم والسخرية والاحتقار عليه، فيقرر الانتقام والاستمتاع بالقتل وسفك الدماء، ليستهدف القضاء على مقدّم تلفزيوني سخر منه ومن أعماله التهريجيّة التي قدّمها في حفل سابق. وينتهي الفيلم بحالة من الفوضى التي عمّت مدينة غوتام، من جراء الاحتجاج على أوضاع الفساد والطبقية والاستغلال والظلم التي استأثر فيها الأغنياء بحقوق الضعفاء، واستحوذ فيها الأثرياء على أرزاق الفقراء.
وإذا انتقلنا إلى الجوانب الرمزية في الفيلم، سنلاحظ أن بدايته هي لمحة فنية تستبق ما سيقع من أحداث وتحولات. فاستماع البطل (الجوكر) لمذيع الأخبار وهو يتحدث عن القمامة وتلوّث المدينة بالزبالة هو إيحاء فنّي بالتلوث الأخلاقي والقيمي الذي سيتصف به أهل هذه المدينة (غوثام).
لقطة بارعة
في مشهد آخر، التقطت الكاميرا وجه الجوكر وهو يتلاعب بفمه، فصورته ينتقل بين وضعيتين: الوضعية الأولى وهو يمسك فمه بواسطة الأصابع نحو الأسفل في هيئة الشخص الحزين والتعيس، ثم يحوّلها إلى وضعية ثانية عكس الأولى، فيرفع طرفي الفم إلى الأعلى في هيئة الشخص السعيد المبتسم. وهذه اللقطة الفنية البارعة إحالة جمالية تلخّص مراحل حياة الجوكر التي انتقلت من حالة المهرّج التعيس الذي يبدّل كل ما في جهده من أجل إسعاد الناس وإضحاكهم، إلى حالة الشرير الذي يتلذذ بإرهاب الناس وسفك دمائهم.
وحتى ضحكة الجوكر المميزة في الفيلم، بنبراتها الساخرة وصداها التهريجي هي مزيج بين الفرح والألم، البهجة والتعاسة، السرور والبكاء، اللذة والألم... وهي تلخّص كل مراحل الفيلم. إنها ضحكة مرَضية، كانت نتاجًا لظروف قاسية، وحياة مضطربة، ومعاناة مأساوية عاشها بطلنا في طفولته. وتناسبت بنيته الجسمية، وهيئته الخارجية كذلك مع حالته المرضية هاته: ضعيف ونحيل، ومقوس الظهر، ولباس تهريجية وشعر كثيف، وملامح بهلوانية... إلخ.
من المشاهد الرمزية الأخرى التي أثرى بها المخرج البنية الفنية للفيلم المشهد الذي يرصد صعود الجوكر أدراج المجمع السكني في مدينة غوثام، وهي أدراج كثيرة لا تنتهي، مرهقة ومنهكة في صعودها، إيحاء بحجم المآسي والمتاعب والصدمات العديدة التي أعاقت طريق الجوكر في مسار حياته. هذا المشهد سينقلب عكسًا وضدًّا في آخر الفيلم، حيث سيتحول الصعود إلى هبوط، وكأن الجوكر تخلّص من ثقل كل هذه الهموم والمصائب، ليستمتع بمباهج الحياة الجديدة.
تحوّل عكسي
رصد المخرج بعدسته الجوكر وهو ينزل هذه الأدراج نحو الأسفل، في حالة رقص صاخب ونشوة شديدة، دلالة على التحول العكسي الذي طبع شخصيته. منتقلًا بذلك من طور المهرج المضحك الوديع، إلى حالة الجوكر المتلذذ بالقتل وسفك الدماء، والمستمتع بالتدمير والفتك والخراب.
ودخول البطل الثلاجة، في مشهد من المشاهد، متموقعًا داخلها وجالسًا في قعرها الجليدي هو دليل آخر على هذا التحوّل الذي وسم أحاسيسه المتغيرة والمنقلبة إلى مشاعر صلبة ومتجمدة فارغة من روح القلب وعطف الفؤاد. وهذا نتاج طبيعي لقساوة المجتمع وظلمه للطبقات الدنيا المسحوقة. كما أن علاقة الحب التي ربطها الجوكر بالفتاة السمراء (التي تعرّف إليها في المبنى الذي يسكنه)، هي علاقة ترسم قيم العنف منذ لحظاتها الأولى، حيث بدأها بلقطة بليغة وجّه فيها المسدس وطلقاته إلى رأسه إيحاءً بحبّ الموت والقتل الذي يميّز طبعه المرهق بالحزن والشجن. فلحظات الحب بالنسبة له حبلى بهياج الفناء وصراخ العنف ولذة التدمير. وما رقصه بالمسدس في لحظات كثيرة إلّا تعبير بليغ عن الصراع الداخلي الذي يؤزم أوثار روحه: صراع الحياة والموت، السعادة والحزن، الضحك والبكاء، اللذة والألم، التهريج والقتل.
مشهد آخر، رسخ هذا الانتقال الشاذ في شخصية الجوكر المتناقضة، نلاحظه في تعقّب عدسة الكاميرا لسلوكه المنذر بالانقلاب في أثناء خروجه من مكان عمله في المبنى الخاص بتدريبات المهرجين، وهو مطرود مرفوض منبوذ، حيث صادف لوحة في الباب المقابلة له، مكتوب عليها عبارة الا تنسَ أن تبتسمب. فمسح الكلمات التي جاءت في وسط الجملة لتصبح الجملة: الا تبتسمب. وهذه لقطة فنية مفصحة ومؤثرة، لكونها لخصت التغير الشامل الذي طرأ على شخصية الجوكر، بانتقاله من روح البهلوان المضحك والمسلّي إلى شرر المجرم المدمر والمنتفض بعدوانية قلّ نظيرها.
مظاهر سلبية
تعرّض الجوكر إذا لكلّ أشكال الظلم وأنواع الاستغلال، فافتقر بذلك لأبرز الحقوق، وأبسط شروط الحياة الكريمة؛ حقّه في العلاج والدواء، إغلاق العيادة النفسية التي كان يتعالج فيها - حقه في العمل، وطرده من العمل، والحطّ من قيمة دوره من طرف مشغله، وحقه في الكرامة؛ السخرية والاحتقار والاستهزاء؛ وحقه في السعادة والاكتفاء المادي، حالته المعوزة والفقيرة نتيجة الاستغلال المفرط والتفاوت الطبقي الشاسع في المدينة، وحقه في السكن اللائق: يعيش في منزل صغير، ضيق، مهترئ وهشّ، وحقه في الحياة والوجود: مطاردته، ضربه، ركله، سرقته، الاعتداء عليه، وحقّه في الأسرة والعائلة: نكران الأب لابنه غير الشرعي وتهربه من مسؤولية تربيته، وحقه في التربية والحنان الطفولي، عنف أمه في تنشئته، وحقه في الحب: فشل علاقته العاطفية بالفتاة السمراء. وحتى حقه في دوره الذي يتقنه: الإضحاك والتهريج تعرّض للهجوم والسخرية والاحتقار من طرف مقدّم البرنامج التلفزي روبرت دي نير.
وهذه المظاهر السلبية التي نتجت عن تقصير المسؤولين في أداء واجباتهم الأساسية بمدينة عمّها الفساد وغمرتها الفوضى، أزمت نفسيّة البطل وأعاقت تكوينه النفسي المتوازن، فحوّلته بذلك إلى شخصية نيكروفيلية قاتلة ومدمرة. وهذا ما يظهر صريحًا في جملته الشهيرة، ذات المغزى العميق: اما حياتي إلّا مسرحية هزليةب.
وتوحي هذه العبارة بلا جدوى الحياة ولا قيمتها في عالم العبث والرفس على الكرامة والحقوق، عالم فقد فيه الجوكر جميع الحقوق وأبسطها، عالم تحطمت فيه كل الأحلام والآمال، عالم التّيه والظلام الذي أخفى من روحه شعاع النور الذي كان يستضيء به. فأصبحت حياته عبثية من دون قيمة، مسرحية هزلية يؤدي فيها دور المهرج القاتل على غرار دور الجوكر في الأفلام الكرتونية.
لحظة تحوّل
حينما تلقّى البطل دعوة للحضور في البرنامج التلفزيوني طلب من المقدم المناداة عليه باسم الجوكر ولبس ثيابًا حمراء. الاسم واللون إذا لهما دلالة مشبوكة بالدم والقتل والموت، فالجوكر في الذاكرة السينمائية العالمية مقترن بالجرائم وسفك الدماء، والبرنامج التلفزي هو إعلان للملأ، وإخبار للجمهور، وإعلام للمجتمع للحظة تحوّل الفرد من إنسان مسالم وديع إلى قاتل مدمّر عاشق للدم. هي لحظة كشف وبوح وإدانة لهذا المجتمع الذي سيتحمّل عواقب الاساءة لهذا الشخص، لتتحوّل طقوس الضحك والتهريج التي قدّمها سابقًا، إلى شعائر من الانتقام والفتك والدمار عقابًا لكل من أساء إليه، ولكل من سخر واستهزأ بكرامته. وفي حواره التلفزي هذا، يكشف الجوكر عن التناقض الصارخ في مجتمع غوثام الفاسد، الذي يقدّس الأثرياء والمتسلطين والأغنياء ويهضم حقوق الفقراء والمقهورين والبؤساء. وقد أماط اللثام عن هذا الفساد المستشري مباشرة في هذا البرنامج باعترافه بالقتل والانتقام من هذا المجتمع الطبقي، الفاسد، المتناقض.
في المشهد الأخير من الفيلم، يمرّر الجوكر يده على شفتيه الملطخة بالدماء ليرسم بها ابتسامة خبيثة وشريرة، بنفس الطريقة التي كان يقوم بها في السابق، حينما كان مهرجًا وديعًا يسعى إلى الإضحاك. غير أن الفرق بين ابتسامته الأولى والأخيرة تتجلّى في استهدافه من الأولى خلق الفرح وإسعاد الناس، أما الثانية فرسمها على وجهه تلميحًا بتلذّذه المَرَضي بالفتك والدماء والخراب. وحينما أخبره الشرطي بأنّ المدينة كلّها تحترق وتخرّب وتدمّر بسببه أجاب الجوكر: اإنها جميلةب. إجابة تعكس تحوّله إلى شخصية نيكروفيلية تعشق القتل، وتستمتع بمشاهد العنف والإبادة.
نظريات نفسية
من جهة أخرى تقاطع الفيلم مع نظريات نفسية عالجت العنف وظروف تكوّن الشخصية التدميرية أو النيكروفيلية، خاصة نظرية التحليل النفسي عند سيجموند فرويد ونظرية التدمير البشري عند إيريك فروم.
ففرويد يرى في كتابه اقلق في الحضارةب أن الإنسان هو خزان لمجموعة من قيم التدمير والعدوان والشّر. وهو ميّال بطبعه إلى استغلال الآخر وتسخيره لتلبية حاجة من حاجياته العضوية أو النفسية، باعتباره أداة لتحقيق الإشباع واللذّة عن طريق اضطهاده ونفيه وتحطيم صنمه. فالعنف والشر هو من خصائص الطبع البشري، وفرويد يحدد تقابلًا نفسيًّا دقيقًا يصنّف فيه هذا الدافع من خلال ثنائية شهيرة صنفها سنة 1920، وقسم فيها الغرائز إلى صنفين: غريزة الموت، وغريزة الحياة (الإيروس).
والتدميرية هي التجلّي الواضح لدافع الموت، والذي يتمظهر نفسيًا من خلال مجموعة من الحالات النفسية كالمازوشية (تعذيب الذات)، والساديّة (الميل إلى تعذيب الآخر)، والنرجسية (تقديس الذات)، والأوديبية (حبّ الأم وكراهية الأب)... إلخ.
وهذه الملامح تظهر واضحة في التكوين السيكولوجي الذي طبع حياة الجوكر، كما يدلّنا المخرج على ذلك من خلال الغوص في الأغوار الداخلية للبطل، وإشارته إلى مرضه النفساني، وظروف نشأته الصعبة رفقة أمه، ومعاناته من غياب الأب.
انجذاب مفرط
فاللقطات الأولى من الفيلم رصدت مشهدًا لجلوس آرثر رفقة أمه فوق سرير واحد، وهذه إحدى الخصائص الأساسية في الشخصية الأوديبية التي تحدّث عنها فرويد سابقًا، حيث الانجذاب المفرط من البطل نحو أمه، وحيث الاهتمام المُبالغ فيه من الأم لابنها.
إنه الارتباط الأوديبي الشاذ الذي التقطه المخرج في لقطات أخرى من الفيلم أيضًا. ففي مشهد آخر تلتقط عدسة المخرج أم البطل وهي تستحم برعاية ابنها آرثر الذي تكفل بغسلها وهي عارية، إيحاء بالانجذاب الجنسي للأم، وتلميحًا للتقارب العاطفي الشديد الذي يشكّل أحد دعائم العقدة الأوديبية.
هذا التدليل المفرط، وهذا التقارب المُبالغ فيه بين الأم وابنها، سيزداد بروزًا وانكشافًا في مشهد مراقصة آرثر لأمه بعد لقاءه الغرامي الفاشل بصديقته. فشبح الأم لا يزال حاضرًا وساكنًا في روح البطل حتى في لحظاته العاطفية الخاصة، وفعل الرقص هنا هو تعبير مجانس ومطابق ومعوّض لرقصته الفاشلة مع المحبوبة. وكأنّه يشابهها بها، أو يقابل إخفاقه الغرامي مع صديقته برقصته هذه، تعويضًا وإبدالًا.
مقابل الانجذاب المفرط للأم، هناك شرط ثانٍ لتكوّن العقدة الأوديبية، وهو كراهية الأب والميل نحو نفيه وتغييب دوره وتحطيم صورته. وهذا ما نجده حاضرًا كذلك في مضامين الفيلم، حيث الفقدان الأبوي وتأثيره بارز في معالم الفيلم.
ابتسامة مفقودة
سيكتشف آرثر أنه مجرّد طفل متبنّى وثمرة إنجاب غير شرعي، وهذا ما سيضاعف من كرهه وحقده لدور الأب، بل إنه سيقتله قتلًا رمزيًّا أوديبيًا من خلال جريمته الختامية، والتي قتل فيها مقدّم البرنامج التلفزي الذي كان يتابعه باستمرار (روبرت دي نيرو). وإذا عدنا تأويليًّا إلى المشاهد الأولى من الفيلم، سنجد أن آرثر كان مولعًا بهذا المقدم، وعاش متيمًا به، وحالمًا بالمشاركة في برنامجه. بل إنه كان يتخيله، باستمرار، أبًا له ويماثله كثيرًا بصورة أبيه الحقيقي الذي افتقده. وذلك يتّضح من خلال مشهد العناق الهذياني الذي جمعهما في نهاية البرنامج، حيث التقط المخرج صورة المقدم وهو يتمنّى أن يكون الجوكر ابنه المخلص (مشهد متخيل).
أما ثنائية المازوشية والسادية، فإنها بادية واضحة في سلوك الجوكر من بداية الفيلم إلى نهايته، فشخصية الجوكر هي تركيب من العُقد النفسية التي كانت تتلذذ بتعذيب النفس ومحاسبتها وإذلالها بعد كلّ إخفاق وفشل (المازوشية)، ونلمس ذلك من خلال سلوك الجوكر ووضعه المرضي الذي كان يخفي إحساسه بالألم واليأس والهزيمة. وكثيرًا ما كان الجوكر يضغط على شفتيه بقوة، راسمًا بها ابتسامة مفقودة حلم بها في زمن الخيبة والإذلال، وهذا طقس مازوشي يجسّد التعذيب الذاتي الذي اختاره البطل تعويضًا عن حالة الانهيار والانكسار في عالمه الواقعي.
بينما اتضحت ميوله الساديّة بعد ذلك، حينما تحول من شخصية آرثر الوديعة واللطيفة إلى شخصية الجوكر المتلذذ بالقتل والعاشق لسفك الدماء. من شخصية آرثر الخالقة للضحك والبهجة إلى شخصية الجوكر المستمتع بعالم تعمّه الفوضى وتسيطر عليه قيم العدوانية والتدمير.
ملامح نرجسيّة
فيما يخص التلوينات النرجسية التي شكّلت شخصية الجوكر، فتتضح بشكل جلّي في المشهد الأخير، مشهد الرجل القيادي نحو قيم الشرّ، مشهد البطل الخارق الذي يخطط للفوضى والخراب ويوجّه عمليات العنف والدمار التي عمت مدينة غوثام.
فالجوكر هنا يرفع من طرف أنصاره على شاكلة الأشراف الكبار، فتظهر عليه ملامح النرجسية والإعجاب بسلوك الذات. الذات التي أصبحت تسيطر وتهيمن وتطغى، الذات التي اتخذت من الوحشية والهدم والهلاك وسيلة للسيادة والزعامة.
الاتجاه الثاني الذي تعامل مع قضية العنف من وجهة سيكولوجية، يمثّله العديد من الباحثين الذين حاولوا الالتفات إلى الدوافع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تساهم في بلورة السلوك التدميري، أبرزهم: الألماني ايريك فروم في كتابه تحليل النزعة التدميرية البشرية، والباحثان الفرنسيان دولوز وغاتاري.
وقد رفض هؤلاء المقولات والآراء السابقة التي أعلنت عن فطرية العنف ونشأته غريزيًّا في الطبع البشري، مستدلين على ذلك بإنسان العصر القديم والتي تخبرنا المعطيات والإحصاءات الخاصة به، بأنه لم يكن يلجأ للعنف إلا عندما تفرضها الضرورة البيولوجية والغريزية، كالدفاع عن القبيلة أو العائلة أو الهجوم من أجل قوت العيش... إلخ.
فطبعه أقل عنفًا وتدميرية من طبع الإنسان الحديث المستثمر للآلة والتكنولوجيا والطاقة المستغلة في الفتن والحروب والنزاعات اللامنتهية. ويرى هؤلاء الباحثون بأنّ العنف هو وثيق الصلة بالأوضاع الاجتماعية المكتسبة في الحياة الواقعية. والسلوك التدميري عندهم هو نتاج طبيعي لغياب الإشباع العضوي أو النفسي، أو لكونه ردّ فعل ضد إساءة أو ظلم أو قهر نتج عن الانقسامات غير الطبيعية التي شهدها المجتمع الرأسمالي الطبقي، المولّد للفصام ولانفصال الناس عن بعضهم البعض وعن العالم المحيط المليء بالتناقضات الشاسعة.
عوامل أساسية
وإذا ربطنا هذا الاتجاه الثاني بمعطيات الفيلم، سنجد بأن المخرج قد أشار في كل مراحل الفيلم إلى الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي ساهمت في تكون شخصية الجوكر الشريرة. فقد كشفت الوثائق السرية للمستشفى بأن آرثر هو ابن مُتبنّى، وعانى حياة طفولية قاسية مليئة بالتعذيب والضرب والتجويع والتخويف والقهر والرهبة والألم والتقييد من طرف الأم التي تبنته. وهذا من الأسباب الرئيسية التي ساهمت في تركيب العُقد النفسية في نفسيّة البطل، وسببت في إعاقة تكوينه السيكولوجي وتحويله إلى مريض نفساني مصاب باضطراب ورهاب وهلوسات متعددة. وهو كذلك من العوامل الأساسية التي أدت إلى تحوّل شخصية الجوكر إلى قاتل سيكوباتيكي عاشق للقتل والفوضى، دون أن ننسى تأثير الدوافع الاجتماعية والمادية والسياسية التي سبق أن أشرنا إليها سابقًا: الفقر - الفشل - الطرد من العمل - المرض - الاحتقار - التفاوت الطبقي - الفساد السياسي المستشري في المدينة - الظلم - الاعتداء - الدوس على الكرامة... إلخ، وكلها بواعث نقلت لنا الشخصية الرئيسية من طور آرثر اللطيف إلى طور الجوكر العنيف الذي لا يرحم أحدًا.
وما قتله للأم إلا انتقام وردّ فعل عنيف ضد المجتمع الذي احتقره ونفاه واستعبده، بل إنّه تصفية حسابات ضد الجميع: الأب الذي تركه وحرمه من نعمة الأبوة- الأم التي حطمت آماله، وركبت فيه مكامن النقص بعد أن حرمته من نعمة التربية - الطبيبة التي حرمته من حق العلاج - الصديقة التي حرمته من دفء الحب - المجتمع الذي داس على أحلامه وقضى على طموحاته بطرق متعددة: الاستغلال/ الاعتداء/ التفقير / الظلم... إلخ - حتى صديقه راندل الذي سلّمه المسدس في البداية، لم ينجُ من سلسلة انتقاماته. وقد كان قتله فعلًا رمزيًّا دلّ على انقلاب الثأر نحو ذاك الذي فتح له باب القتل والجريمة في السابق. إنه قتل للقتل، وفتك بالفتك، واقتصاص من خطايا الأمس التي كانت سببا في انهيار حياته وأحلامه.
فوارق طبقية
إذا انتقلنا إلى المستوى الفني والتقني في الفيلم، نلاحظ أن المخرج تود فيليبس قد نوّع من اللقطات والمشاهد، حيث وظّفت اللقطات المقربة، التي تترصّد ملامح الجوكر وسحنته التهريجية الملطّخة بالأصباغ والمكياج البهلواني، وهذه المشاهد المقرّبة حاولت الإحاطة بلمحات الخير والشر وعلاماته الجسدية في معالم وجه الجوكر، من خلال تقلّبه بين الحالتين: حالة المبتهج الضاحك والمضحك، وحالة العنيف المجنون، المتلذذ بالقتل والتدمير.
أما اللقطات المتوسطة، فتعقّبت أفعال الجوكر وتصرّفاته الغريبة من خلال ميوله المرضية التهريجية، التي تتمظهر في الفيلم من خلال قهقهاته ورقصاته المُبالغ فيها. وهي سلوكيات تعكس الانتقال السيكوباتي في مزاج البطل من الشخصية المتوازنة إلى الشخصية المضطربة العنيفة، في حين جاءت العدسة العميقة ذات اللقطات البعيدة لتؤطّر فضاء غوثام وما تعرفه هذه المدينة من تناقضات اجتماعية وفوارق طبقية وفساد مستشر في كل أرجائها ومرافقها، وهذا ما حوّلها إلى مدينة من الفوضى والخراب، مدينة عمّها الظلال والظلام والسواد. ساءت أخلاق سكّانها وقيمهم، فساء مصيرهم وانحرفت أحلامهم.
أما على مستوى الإنارة، فقد جاءت خافتة وضعيفة في أغلب المشاهد. وهذا الطابع السوداوي للمجال، يتوافق مع رؤية الفيلم المأساوية التي حاولت الإحاطة بواقع مدينة غوثام السلبي.
واقع الظّلم والفساد، واقع الطغيان والتنمر، واقع الشّر والعنف، واقع الفوارق الطبقيّة الشاسعة التي زادت من قهر الضعفاء، وأحزان التعساء. ولهذا اختار تود فيليبس بسط الظلام على الحيّز، ونشر العتمة على الفضاء، على غرار أفلام الجوكر السابقة (أفلام باتمان) التي هيمن فيها الغسق وفتور الأنوار، إيحاء بصراع الخير والشر.
رصد الهامش المنسي
تسطع الإضاءة بنورها الوهّاج في المشاهد السعيدة (القليلة) التي رسم فيها الجوكر البهجة بتهريجه، والفرحة بحركاته البهلوانية، خصوصًا في مشاهد عروضه التي قدّمها رفقة أصدقائه المتدربين (خاصة صديقه القزم) أو في المشاهد التي أماطت اللثام عن قصّة حبه بصديقته السمراء، والتي كان يستهدف تسليتها وإمتاعها بعروضه التهريجية وسلوكه الساخر، في وقت تزداد لقطات الفيلم قتامة، كلّما مال المخرج جانبًا لرصد صور الهامش وظلال المجتمع المنسي، وهذا ما نشاهده مثلًا في المشهد الذي يجمع الجوكر بالطبيبة النفسية، إيحاء بمعاناته وأزماته النفسية الكئيبة التي أثّرت سلبًا على حياته، وجعلت عالمه سديمًا حالكًا كحال الإنارة.
وفيما يخصّ الموسيقى التصويرية، فقد جاءت متلائمة مع طبيعة الفيلم، وخصوصياته العاطفية والنفسية، فقد ارتكز الفنان هيلدور كوانادوتير، في إنجازه وتصويبه للموسيقى التصويرية الخاصة بالفيلم، على التوضيب التناسبي بين القطع الموسيقية وطبيعة اللحظة الدرامية والعاطفية في الفيلم. فاختار موسيقى صامتة بنبرات هادئة أحيانًا في اللقطات الدرامية ومشاهد الحزن والمآسي. ويزيد صداها إزعاجًا واضطرابًا مع اللحظات المتأزمة التي يعيشها البطل (المرض النفسي: الانفصام - الفقر - الضعف - الفشل - الطرد....)، ثم يتضاعف رنينها لدرجة الخوف والترهيب بألحان قوية وإيقاع صخب شبيه بموسيقى أفلام الرعب، وخصوصًا في مشاهد العنف والترقّب للحظاته المخيفة والمرعبة. كما وظّف مؤلف الموسيقى التصويرية بعض الأغاني الكلاسيكية الأصلية، التي اتسقت مع طبيعة الحدث وتوافقت مع خصوصية الواقعة، مثل أغنية اابتسمب التي تدعو إلى الابتسامة والتفاؤل، رغم لحظات القهر والتعاسة، أملًا في غدٍ مشرق تنقشع فيه غيوم البؤس والضياع. ثم هناك أغنية أخرى في الفيلم، تحكي عن أحوال الحياة المتقلبة بين السعادة والحزن، وتدعو إلى البحث عن عناصر السعادة في ركام هذا الواقع البئيس، المليء بالظلم والاستغلال والاعتداء.
انتقال تدريجي
كما استعمل فيلم الجوكر المكياج والألوان بإتقان وتميّز وإبداع. فقد لعبت ملامح آرثر البهلوانية، ورسومات وجهه الفكاهية دورًا بارزًا في إلقاء الضوء على ناحية مهمة من التركيبة النفسية المعقّدة للبطل، حيث كان آرثر يقبع ويحتمي خلف هذا المكياج من مراقبة المجتمع الذي كان ينبذه.
ومن ناحية أخرى، تنجلي ملامح الشحوب والإجهاض النفسي في تعابير وجه الجوكر، كلّما أزال المكياج البهلواني، تأكيدًا لحالته النفسية المنهارة واليائسة من عراقيل الحياة وحواجزها. وهذا ما أرغمه على تكبّد عناء الفشل باستمرار وتكرار دائم، ليتحوّل بذلك من شخصية آرثر المهرج إلى الجوكر المجنون، حيث لمسنا، عن طريق كادرات التصوير المقربة، الانتقال التدريجي في شخصية الجوكر من مراحل متعددة: العناء والتهميش ثم الجنون والفوضى ثم العنف والتدمير.
يبقى أن نشير أخيرًا إلى إحالة ذكية اختارها المخرج في خاتمة الفيلم، ربطته بسلسلة من أفلام الجوكر السابقة، ووصلته بما ينتظر من أعمال سينمائية تعالج الموضوع نفسه في إطار درامي جديد. فالمرشح الرئيسي لبلدة غوثام، التي ترمز لمدينة نيويورك الأمريكية، قتل في النهاية بعد أن اندلعت الفوضى وأعمال التدمير التي قادها الجوكر.
تأريخ مسبق
رصدت الكاميرا لقاء هذا الأخير بطفل صغير (ابن المرشّح) يدعى بروس واين، وهو اسم يذكّرنا ببطل سلسلة الرجل الوطواط الشهيرة التي شارك فيها الجوكر بدور الشرير الذي يقاتله باتمان. ويحمل هذا المشهد السينمائي احتمالين وتصورين يمكن افتراضهما:
- الفيلم تأريخ مسبق لحياة الجوكر قبل مواجهاته المتعددة، وصراعه الحامي الوطيس مع باتمان. لهذا فهذا العمل يمكن تصنيفه، من حيث زمن الوقائع، قبل سلسلة أفلام باتمان، لأنه يتحدث عن فترة زمنية سبقت صراع الرجل الوطواط مع الجوكر، وبالضبط مرحلة الطفولة التي قضاها بطل السلسلة بروس واين وهو في سنّ مبكرة، حيث عاش حياة الترف والرفاهية في قصر بهيج، رفقة أبيه المرشح الأوفر حظًا لقيادة مدينة غوثام.
- الفيلم هو استشراف مستقبلي لأجزاء أخرى من سلسلة الجوكر، فقد انتهى بتقليد دأب عليه كل المخرجين السابقين الذين استثمروا شخصية الجوكر، وذلك بلقائه الطفل بروس واين تمهيدًا لإكمال قصة الفيلم غير المنتهية في أجزاء أخرى ينضج فيها بروس واين (باتمان) ليواجه الجوكر في عمل جديد مستقبلي. وهذه النهاية المفتوحة للفيلم استهدفت تشويق الجمهور لسلسلة أخرى من سلسلات الصراع الدائم بين الخير والشر، من خلال الثنائية الشهيرة: الرجل الوطواط والجوكر.
وأخيرًا لا يمكننا إلّا أن نحتفي بهذا العمل السينمائي العالمي الذي لقي حفاوة وضجّة كبرى في عالم الفن السابع. وينتظر منه أن يفوز بالعديد من الجوائز العالمية، في المحافل السينمائية القادمة: الجولدن غلوب - البافتا - الأوسكار... بعد أن توّج بالأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا هذا العام ■