الجنوب الجزائري وأهم حواضر إفريقيا

الجنوب الجزائري وأهم حواضر إفريقيا

 ألّف عدد كبير من الفرنسيين كتبًا حول الرحلة إلى أكبر حواضر إفريقيا وجنوب الجزائر منذ العهد العثماني، وارتبطت بأغراض عملية جماعية، منها التبشير والتجارة، كما أصبحت الرحلة من النشاطات الرئيسية لمثقفي أوربا المتخصصين في الأنثربولوجيا، والإثنوغرافيا، والعلوم الطبيعية، وتنامى التأليف في العصر الحديث (ق 19 - 20م)؛ حول الرحلة نحو الجزائر وإفريقيا، وتعددت وجهات هذه الرحلات وتباينت موضوعاتها؛ وكانت هذه المنطقة من الأماكن الجديدة، والمثيرة لدى الرحّالة الفرنسيين، وهو ما أدّى بهم إلى استكشافها، وتقديم أخبار عنها مما قرأوه أو شاهدوه، ضمن أسلوب امتزجت فيه الرومانسية مع السرد الواقعي المتزيّي بالسياسة الاستعمارية.

ما يهمنا في هذا الموضوع، ما أُلُّف من رحلات أثناء القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، على يد كل من د. جاكو فيليكس، وجورج روبرت، والمختص في البستنة المسيو غارنيي، ورئيس نقابة المحامين ماك فورنال، وهذان الأخيران اعتنيا بالمنطقة الواقعة بين طرابلس والسودان.
كل هذه الرحلات وغيرها حاولت تصوير الجنوب الجزائري والمدن المحاذية من بلاد المغرب العربي والسودان، إمّا تصويرًا دقيقًا معتمدًا على الحقيقة، والمشاهدة والبحث والتقصي، أو حديثًا ذاتيًا عن السكان وعن الأرض.

عن الجنوب الجزائري والمدن المجاورة
من الرحّالة الأوائل الذين تعنينا رحلاتهم د. فيليكس، الذي ألّف رحلة دوّن فيها أخبار حملة القائد كافينياك في الصحراء، وقد رأى المؤلف أن رحلته تتضمن كشفًا لمنطقة صحراوية جديدة ومثيرة وغريبة في أناسها وأشيائها، وتعريفًا بمسالك لم يسبق لأوربي الوصول إليها من جهة، مثلما تقدّم فائدة جليلة للفلاحين من المعمرين، الذين هم في حاجة إلى ربط الصلة بالصحراء والصحراويين لتنشيط التجارة في المنطقة الجنوبية وما يليها من بلدان مجاورة، ولأنّ الجنرال كافينياك اصطحب في حملته علماء ومتخصصين توصلوا، حسبما أفاد به فيليكس، إلى جني فوائد عظيمة من هذه الرحلة، رغم ما عانوه من خوف ومتاعب، وكان فيليكس مؤهلًا بموضوعيته، وبخبرته التاريخية والتأليفية لجمع المتفرقات من أحاسيس فرح وحزن واستغراب، تتولد عن مشاهدة الجديد، وملاحظات عن الطقس والمناخ، والجغرافيا النباتية، والوصف الطبيعي، والجيولوجي، والإثنوغرافي، وتأملات المفكر، وتمثيلات رسام الطبيعة، وتصورات الشاعر، وتعداد مراحل مشي القافلة ومدده،... وغيرها من الموضوعات التي ارتبطت دائمًا بالصحراء الجزائرية.
حاول فيليكس الكتابة على منوال الجغرافيين العرب المركّزين على المراحل والمسافات بينها، غير أن معلوماته أحدث ومصطلحاته ربما تبدو أكثر سهولة من مصطلحات الجغرافيين العرب القدامى، ولهذا أفادنا بأن واحات الصحراء الجزائرية عديدة، بدأها من الغرب؛ من واحة أسلا إلى واحة تيوت (جنوب ولاية النعامة)، هذه الأخيرة تبعد عن الأولى بنحو اثنين وأربعين كيلومترًا، كلها بسائط وطرق صخرية، ترى فيها من الغرب جبل فزوز، ومن الشرق مرتفعات بريسة وتنوت، كما يُرى وادي أسلا ممتدًا في مناطق ومنقطعًا في مناطق أخرى باتجاه الشمال. (فيليكس جاكو، حملة القائد كافينياك في الصحراء الجزائرية أبريل/ مايو 1847، ص 141).

 منطقة تيوت ونخيلها
تعد تيوت، حسب فيليكس، أجمل واحة بأراضي أولاد الشيخ، وهي غنية بالبساتين، واسعة، تبلغ مساحتها حوالي خمسة وخمسين هكتارًا، موزعة عليها غابات نخيل بها خمسة آلاف نخلة، وأشجار مثمرة من كروم وثمار أخرى كالمشمش، والبرقوق، والخوخ، واللوز، والرمان، والتين والتفاح، كلها تحت أشجار النخيل العظيمة التي قد يصل ارتفاعها أحيانًا إلى خمسة وعشرين مترًا، وهذه البساتين مربعة ومسيّجة، ومصممة بشكل جيد، حتى يسهل دخولها، وبعض الأراضي زرعت فيها الحبوب، وكامل الواحة محاطة بسور من طين مربع الأضلاع، مهدّم في بعض نواحيه.
   ويعلّق الرحال بأن تيوت لا تحتاج إلى هذا السور للحماية لأسباب عدّة، أهمّها اتفاق السِّلم الموقّع بين البدو وسكان الواحة، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولكثرة سكان تيوت، إذ يبلغ عددهم حوالي سبعمئة وخمسين نسمة، وقوتهم تجعل من المنطقة أقل استهدافًا من قبل الغزاة والسرّاق، خلاف واحة أسلا التي هي أقل عددًا في السكان. (فيليكس جاكو، ص. 143، 144). 
وما لاحظه الرحال خلال الحملة العسكرية للجنرال على منطقة تيوت، هو فقر المتعلمين والشيوخ في الصحراء، كما أفادنا بعادة أهالي القصور، وهي عدم التعرّض للنخيل حتى ولو قامت حرب بينهم، وهذا لم يحدث عند حملة الفرنسيين عليها، حيث دُمرت الكثير من الواحات التي أبدى الرحال حزنًا عليها، إذ هي عمل سنوات طويلة، أو حتى قرون، تنهار في أيام قليلة، وقد أفصح فيليكس عن جريمة قطع مئة نخلة. (السابق، ص، 169 و170).
يستمر فيليكس في سرد أحداث حملة الجنرال كافينياك في الصحراء، ويغتنم الفرصة لوصف ما يسمّى بالفلاة، وهي المساحات التي تلي الواحات، والتي تظهر بعد حدود سوف، وتقرت، وتماسين، وورقلة، وحتى عين صالح، وقد افتخر المؤلف بكونهم الأوائل الذين تعدّوا هذه الحدود ومشوا في الفلاة، وقد حاول السابقون من العسكريين والرحالين المغامرين تحقيق ذلك، لكنّهم خابوا في المهمة.

تصحيح النظرة
بفضل قدرته على اجتياز فلاة الجزائر، تمكّن الرحّال من تصحيح نظرته كغيره من الأوربيين من أنّ الفلاة بسيطة رملية غير منقطعة خالية من الماء ومن أي مصدر للحياة، فعلى العكس من ذلك، فإن الفلاة هي مجموعة من البسائط المنقطعة بمرتفعات وصخور، وبها من الحيوانات المتوحشة التي تثبت وجود مصادر الحياة والماء، وتتوزع فيها بعض الواحات، وعليه، فإن المشاهدة تلغي كل خيال، أو أحكام مسبقة. (السابق، ص 187). 
وكذلك صحّح فكرة أن الطوارق الساكنين بالفلاة هم بربر، مثلهم مثل بربر الواحات، فأخبر بأن عاداتهم وطرق عيشهم متميزة جدًا ومختلفة عمّا هي عليه لدى بربر الصحراء، ولهجتهم قوية تتّسم بالخشونة، مما جعله يسمّيها بألمانية الصحراء، وهم منقسمون بين البيض والسود في لباسهم لا في لون بشرتهم، والبيض أقرب في عاداتهم وعيشهم من العرب، بينما السود مختلفون تمامًا.
ويتميز الطوارق بلباسهم المتكون من قطعتين؛ سروال، وقميص طويل، ويضع ثلاث قطع علوية (جلابة وسامية ولبني)، ويأتي القميص العلوي مطرزًا بخيط الذهب، والألبسة مجلوبة من السودان، وعند سفرهم إلى البوادي يتّزرون بحايك يغطيهم من الرأس والرقبة، ولا تظهر منهم سوى العيون. (السابق، ص 207). 

 نبذة تاريخية
يعدّ كتاب «رحلة عبر الجزائر» لجورج روبرت من أهم الرحلات التي سعى فيها صاحبها إلى تقديم أخبار ومعارف متكاملة، ممنهجة وموسوعية حول الجزائر بمناطقها الثلاث؛ الجزائر وقسنطينة ووهران، وأفرد فصلًا كاملًا مهمًا خصصه للصحراء الجزائرية من الشرق إلى الغرب.
تعددت الموضوعات التي عالجها روبرت حول الصحراء؛ حيث عرّف قراءه بالتكوين العام للصحراء الجزائرية، وبسكان الصحراء من العرب الرحالين والبدو المقيمين، وبالفلاحة الصحراوية، كما حدّثنا عن الجمل؛ الحيوان المرتبط ببيئة الصحراء، ووصف لنا عملية صيد الغزلان والنعام وطائر الحجل، وقدّم الرحال الرسام وصفًا جغرافيًّا، ونبذة تاريخية عن أهم واحات الجزائر في الأغواط، وبوسعادة، وعين ماضي، وميزاب، وفليعة، وورقلة، وبسكرة، وأولاد نايل، وواد ريغ، وتقرت، وتماسين، والزيبان، وواد سوف، وجيريفيل، وأولاد سيدي الشيخ، والأبيض، وعين صفراء، وتيوت.
تناول الرحال، على هامش الحديث عن واحات العمالة الوهرانية، ظاهرة الفانتازيا، ووصف تبعًا لذلك الفرس العربي بطل هذه الاحتفالية، كما ضمّن كتابه معلومات إثنوغرافية خصّت عادات السكان، وأساطيرهم، كما أعطى قيمة كبيرة لرحلته بختمه كل فصل من الرحلة بقائمة تعدّد مسار ومسالك المنطقة وأهم مدنها وآبارها وعيونها وجبالها، وغيرها من المعالم والمظاهر المساعدة للمسافر.
ويفيد روبرت بأن بسكرة زمن رحلته أي عام 1891 كانت مركز دائرة تابعة لمقاطعة باتنة، تضم واحدًا وتسعين ألفًا وخمسمئة نسمة، وقد كانت ذات أهمية كبيرة فهي مركز عسكري، وتجاري، وهي أيضًا العاصمة السياسية لبلاد الزاب الواسع، والذي يضمّ عدة قرى تفصلها عن سهل الحضنة سلسلة مرتفعات وجبال (جورج روبرت، رحلات عبر الجزائر، ص. 369 و370).
وتتصل بسكرة من الجنوب الغربي وعبر طريق صحراوي بمدينة ورقلة، مرورًا بمنطقة وادي ريغ، ثم تقرت، ويمكن للمسافر اجتياز المرحلة الأولى بسكرة - تقرت على متن سيارة مجهزة وقوية، غير أن المرحلة الثانية لا يمكن قطعها إلا بواسطة الجمال ضمن قوافل، لأن بها هضابًا ومرتفعات كثيرة. (السابق، ص 373).

تعريفات موجزة
عدّد روبرت الواحات المهمة الواقعة بين بسكرة وورقلة، كما قدّم تعريفات موجزة لكل واحة، وهي الوريغ، والمرايغ، وورلانة، وتمرمة الجديدة، وسيدي راشد، وتقرت التي تعد عاصمة وادي ريغ، كان عدد السكان بها يصل إلى ألف وثلاثمئة نسمة؛ منهم القليل من الفرنسيين، وعدد السكنات فيها حوالي ثلاثمئة، مبنية بالآجر المجفف تحت أشعة الشمس، يتكون أغلبها من طابق أرضي وسطح، والقليل منها به طابق أول، وكل هذه المنازل تتوسطها ساحة صغيرة تجلس فيها النسوة لحياكة النسيج، وصنع الحايك الذي تختص به تقرت.
للمدينة أبواب ثلاثة؛ هي باب البليد وباب بسكرة وباب الخضرة، وبها أكثر من عشرين مسجدًا، اثنان منها مرفوعة بأعمدة من الرخام. وفي تقرت واحة نخيل كبيرة تصل إلى أربعمئة ألف نخلة، وآبار كثيرة حفرها الأنديجان، أو كانت من الآبار الفوارة.
ومن الواحات أيضًا تماسين التي تبعد 10 كيلومترات عن تقرت، وتشتهر بزاويتها التابعة للطريقة التيجانية، «التي تظهر تأثيراتها على الطوارق وأهل السودان». (السابق، ص 379).
أما منطقة الزيبان فهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام؛ الزاب الشرقـي، والزاب الـقبلي (الجنوب)، والزاب الظهراوي (الشمال)، ويحتاج الناس للتنقل في مسالك الزيبان إلى دوابّ من الأحصنة والبغال، وتضمّ المنطقة الواحات الكبرى الآتية، سيدي عقبة، وهي العاصمة الإسلامية للزاب لاحتوائها على المسجد الذي يضمّ رفات الصحابي الجليل الفاتح عقبة بن نافع ]، وقد أخبر الرحال دون أن يعلّق بقوله: «تنقل الروايات الشعبية أن مئذنة المسجد ترتجّ كلما ذكر أحد المسلمين سيدي عقبة». (السابق، ص 380). 

واحة زريبة الواد
من الواحات المعروفة بالزيبان أيضًا واحة زريبة الواد التي تقل شهرة عن سيدي عقبة، وهي تعرف بقبر الولي الصالح سيدي حسان الكوفي، وخنفة سيدي ناجي التي بناها الشيخ سيدي مبارك بلقاسم بن ناجي قبل مئتين وخمسين سنة، وهي مختلفة عن الواحات الأخرى في بنائها بالحجر والرخام على يد بنائين تونسيين.
وذكر الكاتب كذلك واحة الزعاطشة البعيدة عن بسكرة بستة وثلاثين كيلومترًا جهة الشمال الشرقي، وهي معروفة بحصار عام 1949 المنفذ على يد العساكر الفرنسيين على كل منزل، والذي قاومه سكانها ومقاومون آخرون من قبائل مجاورة مدة خمسين يومًا، ليكون الهجوم والغارة، ثم إحكام القبضة على الزعاطشة، وتهديمها كليًّا وبنائها بعد سنوات، ويحاول في هذه المناسبة التقليل من شأن قائد المقاومة الشيخ بوزيان، الذي عرّفه بقوله «حمّال في مدينة الجزائر سابقًا»، حيث ادّعى الرحال أن الشيخ استغل حنق السكان على الضرائب المرتفعة المفروضة على مالكي النخيل، ودعاهم إلى الانتفاضة والثورة لأجل ذلك. (السابق، ص 381).
غير أن الرحال سكت عن الجريمة النكراء التي ارتُكبت في حق السكان وحق الشيوخ الثلاثة؛ بوزيان، وابنه، والحاج موسى الدرقاوي؛ الذين نُكّل بهم وعُلّقت رؤوسهم على المقصلة، ردعًا للشعب الجزائري ونكاية به.
واستطاع الرحال أن يحدد جميع المسالك والطرق داخل صحراء عمالة قسنطينة، والأمر ذاته، حيث عدّد مسالك صحراء عمالة الجزائر وصحراء عمالة وهران، وقد أظهر في وصفه العديد من الخصائص والمعالم الموجودة في كل واحة أو مدينة أو قرية، ومن أبرز المحطات الصحراوية في العمالتين يمكن في الجزائر ذكر مدينة بوسعادة، وعين ماضي، وبريان أول مدينة في الزاب، وغرداية عاصمة الزاب، وبني يزجن، والعطف، والقرارة ونقوسة، وورقلة، وبئر حاسي حاج عيسى، ومتليلي، والـقليعة. 

انطباعات عن السودان وطرابلس
إذا كان الرحالون السابق ذكرهم قد اعتنوا أكثر ببلاد الجزائر، فإنّ منهم من وجّه نظره نحو الجنوب الشرقي، والطريق من طرابلس الليبية إلى السودان والنوبة، ومنهم: الرحالة غارنيي الذي عيّن لنا في رحلته «نظرة خاطفة على السودان» المسار الذي اتّبعه مع الرفقاء، والخدم المصريين، والأدلة، وأفاد بمنطلقه نحو النوبة، وهو كوروسكو، وظهر في بداية سرده لمراحل السير متخوّفًا من الطريق الصحراوي، حيث نعت صحراء النوبة بالبشاعة والقبح، غير أنها الأقصَر مسافة، بينما يأخذ الطريق الغربي عبر نهر النيل ضعف الوقت الذي يُستغرق في قطع الصحراء، ويخبرنا عن سبب ذلك في قوله: «يخط نهر النيل مسارًا طويلًا يتجه غربًا، ويمرّ على حوالي مئتي موضع؛ لكنّ تتابع السيل غير المنتهي يجعل من الإبحار بطيئًا أكثر منه صعبًا: يجب في كثير من المرات التوقف، والنزول إلى الأرض لإفراغ المركب، وجرّه بمئات الأيدي» (م. غارنيي، نظرة خاطفة على السودان، ص 4).
أما صحراء النوبة، أو ما يعرف بالأطمور الأتمور، فرغم خطورة التيه فيها، وانعدام مظاهر الحياة، وعدم توافر موارد المياه، فإنها تقطع سريعًا في ثمانية أيام، بمعدل مشي يقدر بثماني عشرة ساعة في اليوم.
وأول محطة يصلها المسافر بعد قطع الأطمور هي أبو حمد التابعة لبربر، إحدى مديريات السودان الـستّ، ليتم السير ثم الوصول إلى مركز هذه المديرية، التي لها وجهان؛ وجه على يسار الداخل ينبئ بقرب الصحراء لوجود رُبى رملية كثيرة فيه، وعلى اليمين غطاء أخضر كثيف يوحي قرب النيل، وهو الذي يصل المسافر إلى أطرافه كثيفة الدَوْم عند منتصف النهار، بعد مغادرة بربر صباحًا، وعدد غارنيي المحال التي تقع بعد بربر، منها الأتباره، أو الأستبوراه القديمة، وهي نهر يصب في النيل، وبالتقدّم في السير يكون الوصول إلى كسالة، وهي قصبة محافظة تاكة، وتعد محلًا مليئًا بالطرائد، وهي مكان مفضل لهواة الصيد.

تصنيف قبائل سودانية
بعد مشي أيام في اتجاه الجنوب، ونحو الحبشة (إثيوبيا) يصادف المسافر أراضي قاسية، وجبالًا صخرية، وأراضي منبسطة، ليصل بعد ذلك إلى مديرية التاكة، آخر مرحلة ذكرها الكاتب في رحلته، ليلتفت للحديث عن أنواع النباتات، والحيوانات الموجودة في هذه المنطقة، وعن قبائل التاكة، عاداتهم، وطبائعهم، وحياة الصيد، أو السلب عندهم. 
وقدّم غارنيي فيما بعد تصنيفًا لقبائل سودانية بحسب طبيعتها، حيث رأى أن السكان الذين يقطنون الأراضي الواقعة بعد الأتبرا، كرماء، وأقلّهم نهبًا للمسافرين، بينما الهدندوا هم الأخطر، إذ عرفوا بالمكر والخديعة، أما بني عامر فهم أقل غدرًا، لكنّه من الحسن عدم الوثوق بهم، وفي الطريق ذاته، يجد المسافر هنا وهناك قرى في أعالي الجبال، يسكنها سكان زبدرا، والقادن، والباريا، والبازه، وهم من كبار قطّاع الطرق، والنهابين، واللصوص المسلحين، وهؤلاء كانوا يقضون وقتهم في الإغارة على جيرانهم، أو الدفاع عن أنفسهم.
ووصف غارنيي كذلك الخبراء والأدلة، فقال إن «اعتمادهم كان على معرفتهم الفطرية بالأماكن، وكذلك على توكّلهم على الله تعالى، وعلى شفاعة عبدالقادر الجيلالي، سيد الرحالين في المشرق، واسمه ينطق عند النوبيين بـ (عبدالقود)، ويتم المناداة بهذا الاسم بعد كل عجلة أو استعداد في السير، وفي كل الحالات العسيرة، وكأنه نداء للشيخ حتى يحميهم من الأطمور، الذي كما كان يقول خبيري: الأطمور دخوله فقود، وخروجه وجود، وهو يعني أنه بالدخول إلى الأطمور نمشي نحو حتفنا، وعند الخروج نحيا من جديد». (السابق، ص 5).

غير صالحة للأجانب
يتذكر غارنيي كارثة - كما سمّاها الرحالة - جرت في بوقوس شهرين قبل وصوله إلى مكان الباريا، حيث قام هؤلاء بذبح حوالي خمسين رجلًا من بوقوس، ينتسبون لقبيلة إثيوبية مسيحية، واستولوا على أكثر من مئتي امرأة وطفل، وعلى حوالي ثلاثة آلاف رأس من الماشية، وقد شاهد الرحالة آثار الجريمة؛ إذ علقت بقايا من شعر الضحايا بأشواك الدغل، حتى أن هذه المشاهد جعلت الرحالة يحكم قطعًا بأن البلاد السودانية غير صالحة للأجانب، الذين ربما يفكرون في إنشاء مؤسسات، في بلد ينقص فيه كل شيء؛ الماء - إذ توقفت الأمطار الموسمية - والأرض الخصبة، والأمن.  (السابق، ص 10).
واستطاع الرحالة الثاني ماك فورنال أن يكون أكثر دقة في الوصف من غارنيي، وذلك في كتابه «الطرابلسية - طرق السودان»، الذي اهتم فيه بمسار الرحلات نحو السودان انطلاقًا من ليبيا لا مصر، كما اتّسع كتابه لخمسة فصول؛ جاء الأول منها للتعريف بالبلاد الطرابلسية الممتدة من البحر الأبيض المتوسط إلى جبل غريان يحدّها من الشمال البحر المتوسط، ومن الغرب تونس، ومن الجنوب بلاد فزان، ومن الشرق برقة (ماك فورنال، الطرابلسية، طرق السودان، ص 12)، فحدد لنا أجناس سكانها الذين تنوعوا ما بين العرب الأفارقة، والبربر، والطوارق والأوربيين، والأتراك، واليهود، والسود من كل الأجناس، وبكل درجات السواد (السابق، ص 15 و16).
واستطرد فورنال في وصف واحة طرابلس التي سكنها العبيد السودانيون، الذين تحصّلوا على حريتهم بعد تخلّي التجار عنهم، حيث استقروا هناك، لكنهم ظلوا متمسكين بعاداتهم، فلم يسكنوا الخيام مثل العرب الرُّحّل، ولا المنازل التركية، بل بنوا أكواخًا من الأغصان أو القش (السابق ص 15)، وأفادنا بالطقس الحار والجاف الذي تُعرف به المنطقة، خاصة خارج الواحة، وفي أراضي الاستبس، على الرغم من ذلك، فالبلاد لم تعرف - حسب الكاتب - أوبئة خطيرة كالتي عرفتها دول المتوسط الأخرى، كما أن الصحة فيها حسنة على العموم. (السابق، ص 17 و22).

ميناء طرابلس
تناول فورنال في الفصل الثاني من كتابه مدينة طرابلس، فوصف ميناءها ونشاط الجمركة فيه، والطرقات وحال الأمن فيها، كما وصف بعض المرافق كالمسرح، والسوق، وعرّفنا بأجناس السكان فيها من مسلمين ويهود ومسيحيين، وسرد بعض الأحداث الخاصة بجماعة الفرسيسكان ودورها في التعليم والتبشير الديني في المدينة، ليكمل ما خصّ طرابلس في فصل ثالث وصف فيه المدارس وحال التعليم فيها للصبيان والبنات، وبقية المرافق، كالمقهى التركي، والحديقة، والواحة.
وفي الفصل الرابع تعرّض بالتفصيل للجانب السياسي، فعرّف بالحكومة، والدبلوماسية التركية، والجيش الفرنسي، والقنصلية، وجاء الفصل الخامس، وهو أهم الفصول في هذا الكتاب، الذي تناول فيه أهم الطرق التي كانت القوافل التجارية تسلكها نحو الجنوب، وأنهى الفصل بالحديث عن السكان الطوارق في المنطقة. 
فأما الطرق المذكورة في رحلة (الطرابلسية - طرق السودان) فهي التي تربط بين طرابلس ومدينة بورنو (في نيجيريا)، والطريق بين طرابلس ومدينة واداي (في تشاد)، والثالثة الرابطة بين طرابلس والسودان، كما فصّل في مرحلة زندر - بورنو، ولا يمكن ذكر كل هذه الطرق ومراحلها، وسنركّز على الطريق الأولى الرابطة بين طرابلس وبورنو، وعلى طبيعة الأنشطة التجارية التي أفادنا بها فورنال.
نجد أن أوّل مرحلة يصادفها المسافر من طرابلس الليبية إلى مدينة برنو؛ بعد المشي نصف يوم، هي سواني بن أدم (السابق، ص 134)، ومنها يتواصل المشي مدة ثمانية عشرة ساعة للوصول إلى غطيس، وبها آبار معدودة، وبعدها تأتي مراحل كثيرة متقاربة، منها رهيان، في جبل غريان، وكان بهذه المرحلة مساكن وآبار، وتوال الغمير، التي لا توجد بها آبار، وتكشاح، وبها آبار، ورأس الثنية؛ وهنا تمرّ القافلة على جبال ليس بها مياه، ولذلك يجب المشي ثلاث ساعات بحثًا عن الماء، وفي مرحلة سوف الجين تقطع القافلة واديًا كبيرًا يسمّى عين المزاغ، وتتوافر في هذا المكان عناصر، وعيون، وبعد هذه المرحلة تتوغل القافلة في الصحراء، ورغم ذلك يوجد واد غير مسمّى، وبه تقضي القافلة ليلة واحدة. (السابق ص 136 و137).

زمزم وسبها
  بعد المراحل المذكورة تأتي مرحلة تسمى زمزم؛ وهي اسم يطلقه العرب على العين التي تنبع من مكة المكرمة، قرب الكعبة المقدسة، كما يطلق العرب هذه التسمية على كلّ نافورة لها مكانة خاصة، أو حتى على أي منبع ماء صاف وحلو، أما قارورة الماء التي تعلّق على سنمة الجمل فتسمّى زمزمية، ويوجد في هذا المكان واد ترتاح به القافلة يومين، ومن هذا الموضع نصل إلى تجمل، وهي بئر تستلزم يومًا وليلة للوصول إليها، وإلى المحطة المعروفة باسم أم مهير، وهي محطة صحراوية، والتي منها تمشي القافلة أربعًا وعشرين ساعة أخرى لدخول محطة أم الكلب، التي تتوفّر على ثلاث آبار، أو أربع، ذات مياه مستساغة الشرب، وتقيم القافلة ثلاثة أو أربعة أيام بهذا الموضع، ثم تمشي حوالي أربعة أيام دون توقّف في الأراضي الصحراوية المقفرة، التي يسميها العرب السرير، ونادرًا ما يصادف المسافر في هذه الطريق آبارًا، وإن وجدت فماؤها أجاج، مهيّج للمعدة مسبب للإسهال، ولذلك لا يشربه المسافرون إلّا عند استحالة الاستغناء عنه.
كما نجد موضع الشاطئ، فيها نبع فياض، وأرضها غنية بالذهب والفضة والحديد، وبقرب هذا الموضع نجد منبعًا آخر للمياه، لكنها ساخنة، بها شذرات الذهب، وفيها ترتاح القافلة ثلاثة أيام، ومن شعتي يصل المسافر إلى زلاف، وتصلها القافلة مساء بعد مشي يدوم ثلاث ساعات، ثم سبها، وهي مدينة كبيرة محاطة بجدران، وبداخلها مساكن مبنية بالطوب، ومياهها جيدة، ونواحيها غنية بالنخيل، وهي أول محطة بارزة تؤدي إلى السودان، تقوم القافلة فيها ببعض النشاطات التجارية، وتقيم بالمدينة ثلاثة أو أربعة أيام، وعند الخروج من سبها تصادف القافلة أرضًا قفرة، ورملية. (السابق ص 136 و138).

غدوة ومعافن
تتواصل المراحل الصحراوية، فيعدّد فورنال ما مرّ عليه من عيون وآبار ومدن وقرى، فذكر منها: مدينة غدوة التي تتوقف القافلة عندها يومًا للاستراحة، بعد مشي يدوم يومًا وليلة في الأرض الرملية، ومنها إلى غيم، وهنا تحط القافلة لإراحة الجمال، وإحلال بعض النظام في تصنيف السلع وإعادة ترتيبها، وهذه المرحلة قريبة جدًا من مرزق، وهي عاصمة فزان، ويقوم رجال القافلة على تحسين مظهر القافلة، للدخول في مدن عامرة شيئًا ما.
ثم تأتي مرحلة القطرون، وهي محلّ اجتماع واستراحة القوافل، ومنها يتفرّع الطريق، بين مسلكي واداي وبرنو، ومن القطرون يمشي المسافر نحو موضع مدروسة، ثم قصر راوة، الموجود فيها خرائب قصر روماني، والكثير من المراعي، مما يسهل قطع هذا المكان للوصول إلى قصر جراي، وهو آخر مكان يقع تحت الحكم العثماني، وبعده تأتي صحراء رملية شاسعة، خالية من العمارة، وهي عسيرة القطع، ويجهز لها المسافرون الزاد والماء والإبل الكافية لاجتيازها (السابق، ص 136 و140).  

مدينة مرزق
حدّد فورنال أثناء وصفه مدينة مرزق، زمن تأسيسها من قبل أولاد محمد، وهو عام 1310، وعيّن معالمها، فقال: «تنقسم المدينة إلى قسمين، بواسطة شارع واسع مزيّن بمحالّ على الجهتين، وينتهي في الطرفين إلى بابين رئيسيين، يسمى هذا الشارع دندال، وكل الطرق الجانبية التي تقطع المدينة إلى أحياء ذات منافذ موصلة، والطرق مستقيمة، واسعة، غير مغطاة، والحرارة بها كذلك مرهقة، والجو مؤذٍ خاصة بالنسبة للأوربيين». (السابق، ص 137).
كما قدّم بعض المعلومات التاريخية، التي ترجع إلى العهد الروماني، حيث أخبرنا أن مدينة مرزق ظلّت ذات أهمية، وهي مبنية على بعد كيلومترات من تراغان، وهي التي كانت في قديم الزمان مركزًا محصنًا شغله الرومانيون.
والماء السيئ في مرزق هو على العكس منه حلو في تراغان، كما أنّ في نواحي تراغان نجد أنقاض قناة على قناطر قديمة، والبلد أصلًا سكنه الرومانيون، الذين شيّدوا بناءات فخمة نجد لها آثارًا، وعلى بُعد اثنتي عشرة ساعة مشيًا عن مرزق نشاهد قصرًا كبيرًا محصنًا. (السابق، ص 137).
وتحدّث فورنال عن الأهمية التي تحتلها مدينة مرزق، حيث تقيم القافلة بها خمسة عشر يومًا إلى عشرين، إذ هي مكان تجاري (سوق) تعقد فيه صفقات عدة، وأشار إلى الأهمية التي اكتستها مرزق لدى الدول الغربية الكبرى، وكان لإنجلترا عون سياسي تمثّل دوره الرسمي في مراقبة تجارة العبيد السود، ورأى فورنال أن وجود هذا العون لم يمنع من الرحيل الجماعي للسود من الداخل. (السابق، ص 138).
وبعد مرزق نجد مرحلة معافن، وبالقرب منها يوجد مرحلة أم ستوتة، وبها نجد بقايا قصر روماني، وبها واحة وعينٌ ماؤها أبيض كالحليب، وهو حلو، تتم الإقامة فيها أربعة أيام، أما مرحلة تكار فتمشي القافلة ليلة كاملة لتصل إليها، وهي أرض واسعة قفرة. (السابق، ص 138 و139).

مرحلة مهمة
من تكار تتوالى بعض المراحل التي تتسم أكثر المواضع فيها بالخطورة، إذ يجد المسافر ما يسمّى ببحر الرمال الذي لا يتوافر فيه أي أثر للنبات، ولهذا كانت القوافل تتجهز لهذه المرحلة بحمل مؤونة التمر لتغذية الجمال، أما الرجال فيتغذون على لحوم حيواناتهم المتعبة، المشرفة على الموت، ويكون التجهيز في موضع القطرون التي كانت ملتقى القوافل التي تفترق منها إلى واداي أو بورنو، وكذلك تقف القوافل قبل بحر الرمال في مدروسة.
وفي قصر رواي به خرائب قصر روماني، ثم قصر جراي الذي كان حدّ سلطة الأتراك في منطقة فزان، وهذا المكان كان كثير السكان، وهو آخر المواضع المأهولة قبل بحر الرمال، وهو الذي يقطع في يومين لتصل القافلة إلى أماكن جبلية منها رأس الثنية، ولوهار ذات الجبال الشاهقة، والعقبة، وأناي التي اشتهرت ببئر حائطها من رخام، وجبال محيطة مليئة بالحفر، كان يسكنها الإنسان قديمًا، لكنها أصبحت مهملة في القرن التاسع عشر.
وتأتي مرحلة دوركو التي كان فيها محل سكن رئيس قبيلة التبو في قصر روماني قديم، وقريب من دوركو نجد زاوية تتبع الطريقة السنوسية، ونجد بعدها أريافًا وأماكن رعوية بها غزلان وبقر وحشي، وما تلبث أن تختفي هذه المراعي لتليها مناطق خطيرة بها كثبان رملية متحركة، وصولًا إلى مرحلة بورنو، وهي مرحلة مهمة وبارزة في رحلة القوافل التجارية. (السابق، ص. 141 و151). 
وبعد هذا السفر في عدد من الرحلات الفرنسية، تتبدى لنا مدى أهمية الطرق والمسالك لدى كتّاب هذا النوع من المؤلفات؛ إذ تم التركيز عليها لأهداف خاصة؛ منها التجارة والغزو والاكتشاف قصد السيطرة على هذه المناطق الغنية بثرواتها، كما تعكس لنا طبيعة الصلات والروابط التي كانت موجودة بين المدن والقرى في المغرب وفي إفريقيا، وهي التي أقامها الفاتحون المسلمون الأوائل، والتجار والعلماء والرحّالة من العرب والمسلمين الذين كانوا في حركة دائبة بهذه المنطقة على مرّ السنين والعهود ■