جاذبية سرّي الزمان والمكان بين الناس والبحر والبيوت

جاذبية سرّي الزمان والمكان بين الناس والبحر والبيوت

يعد‭ ‬المثلث‭ ‬الذهبي‭ ‬للفنانات‭ ‬الثلاث‭ ‬تحية‭ ‬حليم‭ ‬وإنجي‭ ‬أفلاطون‭ ‬وجاذبية‭ ‬سرّي‭ ‬العلامة‭ ‬الثانية‭ ‬بعد‭ ‬رائدة‭ ‬التصوير‭ ‬المجسم‭ ‬عفّت‭ ‬ناجي‭. ‬وقد‭ ‬شبّه‭ ‬المفكر‭ ‬كامل‭ ‬زهيري‭ ‬أعمالهن‭ ‬بصوت‭ ‬الموسيقى،‭ ‬مع‭ ‬اختلاف‭ ‬النغمات‭ ‬‮«‬وبينما‭ ‬كانت‭ ‬تحية‭ ‬حليم‭ ‬قمّة‭ ‬الشجن‭ ‬والحنان‭ ‬أشبه‭ ‬بعازفة‭ ‬الناي‭ ‬الشجي‭ ‬الحنون،‭ ‬تعد‭ ‬إنجي‭ ‬أفلاطون‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الموسيقى‭ ‬الوترية‭ ‬وعازفة‭ ‬الكمان‭ ‬والفيولا،‭ ‬وظلّت‭ ‬ألحان‭ ‬الكمان‭ ‬العذب‭ ‬والمعذب‭ ‬تعلو‭ ‬من‭ ‬لوحاتها‭ ‬الجميلة‭. ‬بينما‭ ‬تبدو‭ ‬جاذبية‭ ‬سرّي‭ ‬أقرب‭ ‬في‭ ‬لوحاتها‭ ‬إلى‭ ‬الموسيقى‭ ‬النحاسية،‭ ‬بألوانها‭ ‬الرنانة‭ ‬والفصيحة‭ ‬والصريحة‭ ‬والصارخة‮»‬‭.‬

يعدّ‭ ‬هذا‭ ‬أجمل‭ ‬تشخيص‭ ‬لأعمال‭ ‬الفنانة‭ ‬جاذبية‭ ‬وعالَمها‭ ‬الفوّار‭ ‬الذي‭ ‬يمتدّ‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬65‭ ‬عامًا‭ ‬بالتنوع‭ ‬والثراء،‭ ‬في‭ ‬تحوّلات‭ ‬وحالات‭ ‬وآفاق،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أن‭ ‬جاذبية‭ ‬سري‭ ‬فنانة‭ ‬أناملها‭ ‬متوهجة‭ ‬بسحر‭ ‬الفن،‭ ‬تحترق‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬تشدو‭ ‬لمستها‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬لوحة‭ ‬التصوير‭.‬

ومازالت‭ ‬رحلتها‭ ‬مع‭ ‬الإبداع‭ ‬تتدفق‭ ‬في‭ ‬دُنيا‭ ‬من‭ ‬الأنغام‭ ‬والألحان‭ ‬بين‭ ‬التجريد‭ ‬والتشخيص،‭ ‬وهي‭ ‬رحلة‭ ‬كانت‭ ‬بداياتها‭ ‬مع‭ ‬لوحات‭ ‬يمتزج‭ ‬فيها‭ ‬الواقع‭ ‬بالتعبير،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬اأم‭ ‬عنترب‭ ‬واأم‭ ‬رتيبةب‭ ‬واأم‭ ‬صابرب،‭ ‬واالطيارةب،‭ ‬واالمراجيحب،‭ ‬تؤكد‭ ‬بداية‭ ‬فنانة‭ ‬تضيء‭ ‬على‭ ‬الشخصية‭ ‬المصرية‭ ‬بكلّ‭ ‬مكنوناتها‭ ‬الروحية‭ ‬والاجتماعية‭. ‬

وتمتد‭ ‬في‭ ‬أعمالها‭ ‬بلا‭ ‬انتهاء،‭ ‬لتجعلها‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬التوقيع‭ ‬على‭ ‬لوحاتها‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬خصوصيتها‭ ‬وتميّزها،‭ ‬فهي‭ ‬أغنية‭ ‬مصرية‭ ‬طويلة‭ ‬متعددة‭ ‬النغمات‭. ‬تنوعت‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬عديدة‭ ‬من‭ ‬الواقعية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬إلى‭ ‬التعبيرية،‭ ‬إلى‭ ‬التلخيص‭ ‬الشديد‭ ‬الذي‭ ‬اختزلت‭ ‬فيه‭ ‬االزمان‭ ‬والمكانب،‭ ‬وهو‭ ‬اسم‭ ‬معرض‭ ‬لها،‭ ‬وانطلقت‭ ‬في‭ ‬قوة‭ ‬تعبيرية‭ ‬وفوران‭ ‬شديد،‭ ‬حتى‭ ‬تحوّلت‭ ‬أعمالها‭ ‬الحالية‭ ‬إلى‭ ‬أصداء‭ ‬وعلامات‭ ‬على‭ ‬مشوارها‭ ‬الفني‭ ‬بمنزلة‭ ‬شفرات‭ ‬تجريدية،‭ ‬جعلت‭ ‬منها‭ ‬رائدة‭ ‬من‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬تلى‭ ‬الرواد‭.‬

وتأكيدًا‭ ‬لمكانتها‭ ‬الفنية‭ ‬الكبيرة،‭ ‬تم‭ ‬اقتناء‭ ‬أحد‭ ‬أعمالها؛‭ ‬لوحة‭ ‬االطيارةب‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬متحف‭ ‬المتروبوليتان‭ ‬للفنّ‭ ‬في‭ ‬نيويورك،‭ ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬أكبر‭ ‬متاحف‭ ‬العالم‭.‬

ويعدّ‭ ‬هذا‭ ‬تتويجًا‭ ‬لمعنى‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬عالمها،‭ ‬ومعنى‭ ‬فقه‭ ‬التصوير‭ ‬الذي‭ ‬يتجاوز‭ ‬الأطر‭ ‬والأشكال‭ ‬المعتادة‭.‬

 

الطفولة‭ ‬و«الحلمية‮»‬

في‭ ‬قلب‭ ‬حيّ‭ ‬الحلمية‭ ‬بالقاهرة،‭ ‬وبالقرب‭ ‬من‭ ‬السيدة‭ ‬زينب‭ ‬والقلعة،‭ ‬الذي‭ ‬ينتسب‭ ‬إلى‭ ‬عباس‭ ‬حلمي‭ ‬باشا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬بنى‭ ‬قصره‭ ‬بها،‭ ‬وأنشأ‭ ‬ميدانًا‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬ميدان‭ ‬الحلمية،‭ ‬وُلدت‭ ‬جاذبية‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬أكتوبر‭ ‬عام‭ ‬1925،‭ ‬ونشأت‭ ‬وقضت‭ ‬طفولتها‭ ‬وبداية‭ ‬الشباب‭ ‬حتى‭ ‬العشرين‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬عتيق‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬طوابق‭ ‬تفصله‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬الخارجي‭ ‬بوابة‭ ‬كبيرة،‭ ‬وكأنه‭ ‬حصن‭ ‬أو‭ ‬قلعة‭ ‬من‭ ‬قلاع‭ ‬الزمن‭ ‬الماضي‭ ‬الذي‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬التاريخ‭.‬

تحيط‭ ‬بجدران‭ ‬البيت‭ ‬مشربيات‭ ‬من‭ ‬الأرابيسك،‭ ‬ومن‭ ‬الداخل‭ ‬يتوسطه‭ ‬صحن‭ ‬واسع‭ ‬تطل‭ ‬عليه‭ ‬المناور‭ ‬والأجنحة‭ ‬للخدم،‭ ‬بيت‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬يحرّض‭ ‬على‭ ‬الإبداع‭ ‬ويدعو‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭.‬

وفي‭ ‬مدرسة‭ ‬الحلمية،‭ ‬بدأ‭ ‬حبّ‭ ‬جاذبية‭ ‬للرسم،‭ ‬وولعها‭ ‬الشديد‭ ‬بالتكوين،‭ ‬وقد‭ ‬كلفها‭ ‬هذا‭ ‬حصولها‭ ‬على‭ ‬6‭ ‬درجات‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬درجة‭ ‬في‭ ‬مادة‭ ‬الرسم،‭ ‬لأنها‭ ‬أرادت‭ ‬التعبير‭ ‬عمّا‭ ‬بداخلها‭ ‬وعقلها‭ ‬ووجدانها،‭ ‬مما‭ ‬يتعارض‭ ‬مع‭ ‬مناهج‭ ‬التربية‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬تعرض‭ ‬أنماطًا‭ ‬محفوظة‭ ‬ومكررة‭ ‬وتعليمات‭ ‬مدرسية‭.‬

 

فنّ‭ ‬البورتريه

عندما‭ ‬التحقت‭ ‬جاذبية‭ ‬بالمدرسة‭ ‬الثانوية،‭ ‬بدأت‭ ‬علامات‭ ‬التفوق‭ ‬والنبوغ‭ ‬في‭ ‬الرسم،‭ ‬خاصة‭ ‬حين‭ ‬بدأت‭ ‬برسم‭ ‬صور‭ ‬شخصية‭ ‬لأساتذتها‭ ‬أثارت‭ ‬إعجابهم‭ ‬ودهشتهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬وقد‭ ‬تمرّست‭ ‬بفن‭ ‬البورتريه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السن‭ ‬الصغيرة‭.‬

وبعد‭ ‬حصولها‭ ‬على‭ ‬الثانوية‭ ‬العامة‭ (‬البكالوريا‭) ‬أرادت‭ ‬لها‭ ‬العائلة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭  ‬است‭ ‬بيتب،‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬تتزوج،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬بإجماع‭ ‬الأخوال‭ ‬والأعمام‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬والدها‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الرابعة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمرها‭.‬

وتحت‭ ‬تلك‭ ‬الضغوط‭ ‬اضطرت‭ ‬إلى‭ ‬البقاء‭ ‬عامًا‭ ‬بأكمله‭ ‬في‭ ‬المنزل،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬التحقت‭ ‬بالمعهد‭ ‬العالي‭ ‬للفنون‭ ‬الجميلة‭ ‬للمعلماتب‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬كلية‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة‭ ‬قد‭ ‬فتحت‭ ‬أبوابها‭ ‬بعد‭ ‬للبنات‭ ‬إلّا‭ ‬عام‭ ‬1954،‭ ‬وتخرّجت‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1946،‭ ‬تقول‭ ‬جاذبية‭: ‬اورغم‭ ‬أن‭ ‬أخوالي‭ ‬كانوا‭ ‬يمارسون‭ ‬الرسم‭ ‬كهواة،‭ ‬فإنّهم‭ ‬اعتبروا‭ ‬أنني‭ ‬اخترت‭ ‬مهنة‭ ‬دون‭ ‬المستوى،‭ ‬حتى‭ ‬عمّي‭ ‬سامي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أتيليه‭ (‬مرسم‭) ‬مع‭ ‬الفنان‭ ‬الرائد‭ ‬أحمد‭ ‬صبري‭ ‬نظر‭ ‬إليّ‭ ‬بنفس‭ ‬المفهومب‭.‬

كانت‭ ‬البداية‭ ‬الحقيقية‭ ‬للفنانة‭ ‬جاذبية‭ ‬عندما‭ ‬عرضت‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬صالون‭ ‬القاهرة‭ ‬عام‭ ‬1950،‭ ‬وعندما‭ ‬اشتركت‭ ‬مع‭ ‬جماعة‭ ‬شباب‭ ‬الفن،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تضم‭ ‬كمال‭ ‬يوسف‭ ‬وموريس‭ ‬فريد‭ ‬وسيد‭ ‬عبدالرسول‭ ‬وغيرهم،‭ ‬استفادت‭ ‬وأفادت‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬الحوار‭ ‬والتفاعل‭ ‬الجماعي‭.‬

لكنّ‭ ‬الجماعة‭ ‬تفككت‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬واحد،‭ ‬فانضمت‭ ‬إلى‭ ‬جماعة‭ ‬الفن‭ ‬المصري‭ ‬الحديث،‭ ‬التي‭ ‬أقامت‭ ‬أول‭ ‬معارضها‭ ‬عام‭ ‬1946،‭ ‬واستمر‭ ‬نشاطها‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬1955،‭ ‬وضمت‭ ‬جمال‭ ‬السجيني‭ ‬وزينب‭ ‬عبدالحميد‭ ‬وعزالدين‭ ‬حمودة‭ ‬ويوسف‭ ‬سيدة‭ ‬وصلاح‭ ‬يسري‭.‬

كما‭ ‬عرضت‭ ‬أعمالها‭ ‬أيضًا‭ ‬مع‭ ‬جماعة‭ ‬الفن‭ ‬المعاصر،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أعضائها‭ ‬حامد‭ ‬ندا‭ ‬وعبدالهادي‭ ‬الجزار‭ ‬وسمير‭ ‬رافع‭ ‬وإبراهيم‭ ‬مسعودة‭ ‬وماهر‭ ‬رائف‭.‬

وفي‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬تأمّلت‭ ‬كل‭ ‬الفنون‭ ‬المصرية‭ ‬مع‭ ‬تنوّعها‭ ‬وثرائها‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬المصري‭ ‬القديم‭ ‬والقبطي‭ ‬والإسلامي‭ ‬والفن‭ ‬الشعبي‭.‬

 

عالَم‭ ‬جاذبية‭ ‬

في‭ ‬فترة‭ ‬الخمسينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬ظهرت‭ ‬لوحات‭ ‬جاذبية‭ ‬ذات‭ ‬البُعد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬عندما‭ ‬قدّمت‭ ‬اأم‭ ‬رتيبةب‭ ‬واأم‭ ‬عنترب،‭ ‬واوأم‭ ‬صابرب،‭ ‬وتجلّت‭ ‬في‭ ‬ملامحهن‭ ‬القسمات‭ ‬المصرية‭ ‬الأصيلة‭.‬

كما‭ ‬تجلّى‭ ‬نقدها‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬تصوير‭ ‬وضع‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬لوحتها‭ ‬االزوجتانب‭.‬

فقد‭ ‬صرخت‭ ‬اللوحة‭ ‬بملامح‭ ‬الحزن‭ ‬البادية‭ ‬على‭ ‬الزوجة‭ ‬الأولى،‭ ‬التي‭ ‬أعطاها‭ ‬الزوج‭ ‬ظهره‭ ‬هي‭ ‬وأولادها،‭ ‬وتصدّرت‭ ‬اللوحة‭ ‬الزوجة‭ ‬الثانية‭ ‬الدلّوعة‭ ‬المقرّبة‭ ‬مع‭ ‬وليدها‭. ‬

ولوحاتها‭ ‬هنا‭ ‬كانت‭ ‬تطالب‭ ‬بتغيير‭ ‬اجتماعي‭ ‬حقيقي،‭ ‬ثم‭ ‬انطلقت‭ ‬فرشاتها‭ ‬بعد‭ ‬1952،‭ ‬لتصوّر‭ ‬وضع‭ ‬المرأة‭ ‬الجديد،‭ ‬ورسمت‭ ‬العازفة‭ ‬التي‭ ‬تعزف‭ ‬لحن‭ ‬الثورة،‭ ‬والمعلّمة‭ ‬تحيط‭ ‬بها‭ ‬الطالبات،‭ ‬وحرّرتهن‭ ‬من‭ ‬المنظور‭ ‬والنسب‭. ‬وانطلقت‭ ‬تحلّق‭ ‬وترسم‭ ‬آمال‭ ‬الوطن‭ ‬وآمال‭ ‬المواطن‭ ‬المصري‭ ‬وآلامه‭.‬

وجاءت‭ ‬لوحتها‭ ‬االمراجيحب‭ (‬1956‭)‬،‭ ‬بداية‭ ‬للتغيرات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬فقد‭ ‬رسمتها‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬عليا،‭ ‬مع‭ ‬الإيحاء‭ ‬بأنها‭ ‬ترسمها‭ ‬من‭ ‬المقدمة،‭ ‬وبعدها‭ ‬بثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬عام‭ ‬1959‭ ‬رسمت‭ ‬لوحتها‭ ‬االطيارة‭ ‬الورقيةب،‭ ‬التي‭ ‬رمزت‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬الانطلاق‭ ‬والتحليق‭ ‬والطيران‭ ‬إلى‭ ‬أعلى،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬الطائرة‭ ‬انطلقت‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الأرض،‭ ‬تشق‭ ‬عنان‭ ‬السماء‭ ‬داخل‭ ‬منطقة‭ ‬مختلفة‭ ‬جدًّا‭ ‬عن‭ ‬الواقع‭ ‬وعن‭ ‬الطفلة‭ ‬الممسكة‭ ‬بها،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬قواعد‭ ‬المنظور،‭ ‬حيث‭ ‬نرى‭ ‬السماء‭ ‬مفتوحة،‭ ‬وكل‭ ‬شيء‭ ‬لا‭ ‬يخضع‭ ‬للمنطق‭ ‬الأرضي‭.‬

وفي‭ ‬الرحلة‭ ‬التاريخية‭ ‬إلى‭ ‬النوبة،‭ ‬سافرت‭ ‬جاذبية‭ ‬مع‭ ‬مَن‭ ‬سافروا‭ ‬من‭ ‬فنّاني‭ ‬مصر‭ ‬ومثقفيها‭ ‬عام‭ ‬1962،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬حبيب‭ ‬جورجي،‭ ‬فنان‭ ‬المائيات‭ ‬وصاحب‭ ‬تجربة‭ ‬النحت‭ ‬التلقائي‭ ‬مع‭ ‬الأطفال،‭ ‬والمعماري‭ ‬حسن‭ ‬فتحي‭ ‬والدكتور‭ ‬لويس‭ ‬عوض‭ ‬والمفكّر‭ ‬الفنان‭ ‬حامد‭ ‬سعيد،‭ ‬رائد‭ ‬مدرسة‭ ‬الفن‭ ‬والحياة،‭ ‬وتحية‭ ‬حليم‭ ‬وآدم‭ ‬حنين‭ ‬ورمسيس‭ ‬يونان،‭ ‬وحامد‭ ‬ندا‭ ‬وحسين‭ ‬بيكار‭. ‬

وظهرت‭ ‬النوبة،‭ ‬بكل‭ ‬مكنوناتها‭ ‬وملامحها‭ ‬البيئية،‭ ‬مثيرًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬لجاذبية‭ ‬أضاف‭ ‬الكثير‭ ‬إلى‭ ‬تعبيراتها،‭ ‬وقدّمت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬من‭ ‬وحي‭ ‬إلهامها،‭ ‬مثل‭ ‬اشروق‭ ‬في‭ ‬النوبةب‭ ‬وااستشهاد‭ ‬بلاد‭ ‬النوبةب،‭ ‬وصورتها‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬لوحات،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬لوحتها‭ ‬االأم‭ ‬وأطفالهاب،‭ ‬التي‭ ‬تلخّص‭ ‬فيها،‭ ‬بكثافة‭ ‬تعبيرية،‭ ‬امرأة‭ ‬بطول‭ ‬اللوحة،‭ ‬بشال‭ ‬من‭ ‬النسيج‭ ‬الشعبي‭ ‬وفي‭ ‬أماميتها‭ ‬أربعة‭ ‬أطفال‭ ‬مع‭ ‬مساحة‭ ‬من‭ ‬الأحمر‭ ‬الناري،‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬من‭ ‬بوابة‭ ‬بيت‭ ‬نوبي‭ ‬تزدان‭ ‬واجهته‭ ‬بالنقوش‭ ‬والزخارف‭ ‬الشعبية‭ ‬من‭ ‬زهور‭ ‬ونباتات‭ ‬وعصفور‭ ‬مغرّد،‭ ‬وتعدّ‭ ‬تعبيرًا‭ ‬رمزيًّا‭ ‬عن‭ ‬الأم‭ ‬أو‭ ‬الوطن‭ ‬والأبناء‭.‬

 

إيمي‭ ‬إزار

يقول‭ ‬الناقد‭ ‬إيمي‭ ‬إزار‭: ‬جاذبية‭ ‬سرّي‭ ‬فنانة‭ ‬مصرية‭ ‬أصيلة،‭ ‬فقد‭ ‬تحرّرت‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا‭ ‬من‭ ‬الصياغات‭ ‬التشكيلية‭ ‬التي‭ ‬تعترف‭ ‬بها‭ ‬المدرسة‭ ‬الأوربية،‭ ‬ونزعت‭ ‬إلى‭ ‬تجديد‭ ‬شباب‭ ‬رؤيتنا‭ ‬للتراث‭ ‬المصري‭ ‬القديم،‭ ‬إذ‭ ‬وفّقت‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬أبحاثها‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬اللون،‭ ‬لنقول‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬الأبحاث‭ ‬تستلهم‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬تراثًا‭ ‬قوميًّا‭ ‬هو‭ ‬النسيج‭ ‬القبطي‭.‬

ولكي‭ ‬نفهم‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬إذن،‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نسلّم‭ ‬بشيء‭ ‬آخر‭ ‬عمّا‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬رأيناه‭ ‬أو‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬عرفناه،‭ ‬وهو‭ ‬أنّها‭ ‬تتخذ‭ ‬نسقًا‭ ‬فنيًّا‭ ‬زخرفيًّا‭ ‬هو‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الزخرفي‭ ‬بشيء‭... ‬ولا‭ ‬يمتّ‭ ‬بصلة‭ ‬إلى‭ ‬الأرابيسك،‭ ‬ولا‭ ‬إلى‭ ‬موضوعات‭ ‬مجازية‭ ‬أو‭ ‬تاريخية،‭ ‬لكنّه‭ ‬مزيج‭ ‬من‭ ‬الخبرة‭ ‬الداخلية‭ ‬الحميمة‭ ‬والفولكلور‭ ‬في‭ ‬نسق‭ ‬تتقارب‭ ‬فيه‭ ‬الخطوط،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تنضوي‭ ‬تحت‭ ‬استخدام‭ ‬البُعد‭ ‬الثالث‭ ‬الذي‭ ‬تسعى‭ ‬جاذبية‭ ‬إلى‭ ‬التحرر‭ ‬منهب‭.‬

وعندما‭ ‬جاء‭ ‬الخامس‭ ‬من‭ ‬يونيو‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1967،‭ ‬أصاب‭ ‬الفنانة‭ ‬الكبيرة‭ ‬إصابة‭ ‬بالغة،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬النكسة‭ ‬بمنزلة‭ ‬صفعة‭ ‬قوية‭ ‬جعلتها‭ ‬تعزف‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬فترة‭ ‬طويلة،‭ ‬تعيش‭ ‬الحزن‭ ‬والصمت،‭ ‬وجاءت‭ ‬لوحاتها‭ ‬انعكاسًا‭ ‬لتلك‭ ‬الفترة‭ ‬وأكثر‭ ‬تعبيرًا‭.‬

فقد‭ ‬شعرت‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬المصري‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬حجارة،‭ ‬بمعنى‭ ‬آخر‭ ‬اانسخطب،‭ ‬بتعبيرها،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬حكايات‭ ‬األف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلةب‭.‬

ورسمت‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬بيت،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعطي‭ ‬إيحاء‭ ‬بتحجّر‭ ‬مشاعره‭ ‬وأحاسيسه،‭ ‬ومزجت‭ ‬البيوت‭ ‬بالأشخاص‭ ‬والطبيعة،‭ ‬لكنّ‭ ‬البيوت‭ ‬بدت‭ ‬مفككة‭ ‬وخائفة‭ ‬وعاجزة‭ ‬تطلّ‭ ‬منها‭ ‬الأعين‭ ‬البشرية‭.‬

وما‭ ‬أبلغ‭ ‬تلك‭ ‬اللوحة‭ ‬التي‭ ‬صورت‭ ‬فيها‭ ‬فتاة‭ ‬منكفئة‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬السقوط‭ ‬مع‭ ‬نوافذ‭ ‬مغلقة‭.‬

 

الباليتا‭ ‬الزرقاء‭ 

إلا‭ ‬أنّ‭ ‬أعمالها‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬أصبحت‭ ‬تغني‭ ‬لمصر‭ ‬وتتغنى‭ ‬بسحرها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬حيث‭ ‬تمزج‭ ‬البيوت‭ ‬بالبشر‭ ‬بصخب‭ ‬الحياة،‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬الرمز‭ ‬ومن‭ ‬التجريد‭ ‬إلى‭ ‬التعبير‭ ‬في‭ ‬خصوصية‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬بكل‭ ‬البقاع‭.‬

في‭ ‬كتاب‭ ‬د‭. ‬لويس‭ ‬عوض‭ ‬االفنون‭ ‬والجنون‭ ‬في‭ ‬أوروباب‭ (‬1969‭)‬،‭ ‬يشير‭ ‬المفكر‭ ‬الكبير‭ ‬عند‭ ‬زيارته‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬عام‭ ‬1968‭ ‬إلى‭ ‬معرض‭ ‬جاذبية‭ ‬سري‭ ‬المقام‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬بصالة‭ ‬الباليتا‭ ‬الزرقاء‭ ‬بشارع‭ ‬سين‭ ‬كثير‭ ‬المعارض‭ ‬هناك،‭ ‬وقد‭ ‬أمّه‭ ‬الكثيرون‭ ‬في‭ ‬المساء‭ ‬عند‭ ‬الافتتاح،‭ ‬وكان‭ ‬لقاؤه‭ ‬بها‭ ‬ومع‭ ‬سعادته‭ ‬بالأعمال‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬المعرض،‭ ‬قرأ‭ ‬بالكتالوج‭ ‬كلمة‭ ‬الأديب‭ ‬الفرنسي‭ ‬الكبير‭ ‬ميشيل‭ ‬بيتور‭ ‬التي‭ ‬قال‭ ‬فيها‭: ‬اسعيد‭ ‬أنا‭ ‬بأن‭ ‬أراك‭ ‬ثانية‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬منازلك‭.‬

وفي‭ ‬اللحظات‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬إقامتي‭ ‬بمصر،‭ ‬كانت‭ ‬كل‭ ‬قرى‭ ‬الوادي‭ ‬وكل‭ ‬ضواحي‭ ‬القاهرة‭ ‬تذكّرني‭ ‬بك،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الطوب،‭ ‬وكل‭ ‬هذه‭ ‬الأبواب‭ ‬والشبابيك‭ ‬بمن‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬السكان‭... ‬وكل‭ ‬هذه‭ ‬النظرات‭ ‬والأشباح‭ ‬وأشجار‭ ‬البرقوق‭ ‬والروائح،‭ ‬والصرخات‭ ‬والهمسات‭ ‬والخطى‭ ‬الحثيثة،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تجيء‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأشياء‭ ‬لتلازم‭ ‬جدراننا‭ ‬وفاتريناتنا‭ ‬وأرصفتنا،‭ ‬وإنّي‭ ‬لأرجو‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬تقع‭ ‬بيوتنا‭ ‬في‭ ‬فخاخ‭ ‬عينيك،‭ ‬وأن‭ ‬تعودي‭ ‬برؤاها‭ ‬حتى‭ ‬القاهرة،‭ ‬وأن‭ ‬توشوش‭ ‬لنا‭ ‬لوحاتك‭ ‬يومًا‭ ‬بهذه‭ ‬الرؤىب‭.‬

والمنازل‭ ‬التي‭ ‬يشير‭ ‬إليها‭ ‬الأديب‭ ‬الفرنسي‭ ‬بيتور‭ ‬هي‭ ‬صور‭ ‬البيوت‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬تميّزت‭ ‬بها‭ ‬موضوعات‭ ‬جاذبية‭.‬

 

البحر‭ ‬والبيوت‭ 

أعمال‭ ‬جاذبية‭ ‬تؤكد‭ ‬دائمًا‭ ‬أن‭ ‬فنّ‭ ‬التصوير‭ ‬فنّ‭ ‬حداثي‭ ‬يتجاوز‭ ‬الفن‭ ‬الأكاديمي،‭ ‬خاصة‭ ‬وهي‭ ‬تقول‭ ‬في‭ ‬معرضها‭ ‬الذي‭ ‬أقيم‭ ‬حول‭ ‬االبحر‭ ‬والبيوتب‭: ‬رحت‭ ‬للبيوت‭ ‬والبحر‭ ‬بطريقة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬التشكيل‭... ‬طريقة‭ ‬فيها‭ ‬غموض‭ ‬وتفاؤل‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬تعكس‭ ‬ما‭ ‬نعيشه‭ ‬حاليًا‭ ‬من‭ ‬متغيرات‭ ‬وأحداث‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم،‭ ‬وما‭ ‬سوف‭ ‬يحدث‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تداعيات‭ ‬العولمة‭ ‬والخوف‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬داخل‭ ‬البيوت‭ ‬والبحرب‭.‬

وتكمن‭ ‬قيمة‭ ‬أعمال‭ ‬جاذبية‭ ‬الحديثة،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تكثيف‭ ‬مراحلها‭ ‬الفنية‭ ‬بلُغة‭ ‬تشكيلية‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭  ‬الرمز‭ ‬والإيحاء‭ ‬والتلميح،‭ ‬ببلاغة‭ ‬شديدة‭ ‬مع‭ ‬التحرر‭ ‬الأكاديمي‭ ‬وتعبيرية‭ ‬اللون‭ ‬الذي‭ ‬ينطلق‭ ‬في‭ ‬قوة‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الوعي‭ ‬وحكمة‭ ‬التشكيل،‭ ‬وهي‭ ‬تفسر‭ ‬أحدث‭ ‬أعمالها،‭ ‬التي‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬العقد‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬الألفية‭ ‬الثالثة‭: ‬االبيوت‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬رموز‭ ‬لبيوت‭ ‬مجرد‭ ‬إشارات‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الشكل‭ ‬الهندسي‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬الشرائط‭ ‬والشكل‭ ‬العضوي‭ ‬للبيوت‭ ‬وما‭ ‬تضمّ‭ ‬من‭ ‬بشر،‭ ‬والشرائط‭ ‬هنا‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬بالشارع‭ ‬من‭ ‬إشارات‭ ‬وعلامات،‭ ‬والتي‭ ‬تعني‭ ‬التوقف‭ ‬والحركة‭ ‬وتحديد‭ ‬الاتجاهات‭.‬

 

تراكُم‭ ‬لعالَم‭ ‬متّسع

جاء‭ ‬معرض‭ ‬الفنانة‭ ‬جاذبية‭ ‬اتجسيدب‭ ‬في‭ ‬ثلاثية‭ ‬من‭ ‬البحر‭ ‬والوادي‭ ‬والناس،‭ ‬وهو‭ ‬مساحة‭ ‬متّسعة‭ ‬تمثّل‭ ‬تراكمًا‭ ‬لعالمها‭ ‬المتسع‭ ‬بلا‭ ‬حدود،‭ ‬ممتدًّا‭ ‬باللمسة‭ ‬والمشاعر‭ ‬والأحاسيس،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬لوحتها‭ ‬االمرأة‭ ‬والرجلب‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬تجريدية‭ ‬من‭ ‬الأزرق‭ ‬الصافي‭ ‬الذي‭ ‬يمتزج‭ ‬بالأخضر‭ ‬الزرعي‭.‬

كما‭ ‬يتوحّد‭ ‬البشر‭ ‬مع‭ ‬البيوت‭ ‬في‭ ‬لوحتها‭ ‬التي‭ ‬تضمّ‭ ‬ثلاثة‭ ‬شخوص،‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الوجوه‭ ‬الجانبية‭ ‬والوجه‭ ‬الأمامي‭ ‬مع‭ ‬بوابة‭ ‬عتيقة‭ ‬ترمز‭ ‬للبيت‭.‬

لقد‭ ‬اختزلت‭ ‬الفنانة‭ ‬عالَمها‭ ‬ولغتها‭ ‬التشكيلية،‭ ‬لكنّها‭ ‬باحت‭ ‬أيضًا‭ ‬بدُنيا‭ ‬تشخيصية،‭ ‬تموج‭ ‬بالناس‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬والبحر‭ ‬والوادي،‭ ‬وتشرق‭ ‬بالبيوت‭ ‬ذات‭ ‬الفتحات،‭ ‬والتي‭ ‬تطلّ‭ ‬بعيون‭ ‬شاخصة‭.‬

وتنقلنا‭ ‬جاذبية‭ ‬في‭ ‬أعمالها‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬الوادي‭ ‬والصحراء‭ ‬من‭ ‬حيوية‭ ‬الزروع‭ ‬إلى‭ ‬حركة‭ ‬الصحراء‭ ‬بكثبانها‭ ‬الرملية،‭ ‬كما‭ ‬نطالع‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬الشخصية‭ (‬البورتريه‭) ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬التعبيري،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬صورة‭ ‬امن‭ ‬الشرفةب‭ ‬للسيدة‭ ‬والدتها،‭ ‬جالسة‭ ‬بالشرفة‭ ‬وسط‭ ‬الخضرة،‭ ‬وصورة‭ ‬للفنانة‭ ‬تحية‭ ‬حليم،‭ ‬وأخرى‭ ‬لزوجها‭ ‬ورفيق‭ ‬مشوارها‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬والحياة‭ ‬عادل‭ ‬ثابث،‭ ‬يرحمه‭ ‬الله،‭ ‬الذي‭ ‬تقول‭ ‬عنه‭: ‬ازوجي‭ ‬عادل‭ ‬وراء‭ ‬كل‭ ‬أعمالي،‭ ‬كأنّه‭ ‬قد‭ ‬تبنّاني،‭ ‬هو‭ ‬منتهى‭ ‬الإنسانية،‭ ‬شيء‭ ‬غير‭ ‬عادي‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬الافتخار‭ ‬ليس‭ ‬للرجال‭ ‬المصريين‭ ‬فقط،‭ ‬ولكن‭ ‬لكلّ‭ ‬رجال‭ ‬العالم،‭ ‬وفي‭ ‬الحقيقة‭ ‬نحن‭ ‬أصدقاء،‭ ‬وكان‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬أموري‭ ‬كلّها؛‭ ‬الفنية‭ ‬والمالية،‭ ‬وثقتي‭ ‬به‭ ‬كاملةب‭.‬

أما‭ ‬هو‭ ‬فقال‭ ‬عنها‭: ‬اجاذبية‭ ‬تستحق‭ ‬الاهتمام‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬إنسان،‭ ‬هي‭ ‬إنسانة‭ ‬وثروة‭ ‬وطنية،‭ ‬وقد‭ ‬تعرّف‭ ‬كل‭ ‬منّا‭ ‬إلى‭ ‬الآخر‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬صداقة‭ ‬الفن‭ ‬التي‭ ‬توّجت‭ ‬زواجنا‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬50‭ ‬عامًا‭. ‬وقد‭ ‬جمعنا‭ ‬أول‭ ‬لقاء‭ ‬في‭ ‬اخان‭ ‬الخليليب‭ ‬بمقهى‭ ‬الفيشاوي‭ ‬الشهير،‭ ‬وكان‭ ‬معنا‭ ‬المرحوم‭ ‬لطفي‭ ‬الخولي‭ ‬وخطيبته‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬وتحية‭ ‬حليم‭ ‬وحامد‭ ‬عبداللهب‭.‬

 

لوحة‭ ‬الطيّارة‭ ‬ومتحف‭ ‬المتروبوليتان‭ ‬

تسلّمت‭ ‬الفنانة‭ ‬الكبيرة‭ ‬جاذبية‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الرسائل‭ ‬المتتالية‭ ‬من‭ ‬متحف‭ ‬المتروبوليتان‭ ‬للفن‭ ‬بنيويورك‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬أوّلها‭ ‬شهادة‭ ‬موقّعة‭ ‬من‭ ‬النائب‭ ‬الأول‭ ‬لرئيس‭ ‬مجلس‭ ‬الأوصياء‭ ‬شارم‭ ‬كوت،‭ ‬يعلن‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬مجلس‭ ‬الأوصياء‭ ‬بالمتحف‭ ‬يقرّر‭ ‬بكل‭ ‬العرفان‭ ‬والتقدير‭ ‬إهداء‭ ‬الفنانة‭ ‬المصرية‭ ‬جاذبية‭ ‬سرّي‭ ‬لوحتها‭ ‬االطيارةب‭ - ‬زيت‭ ‬على‭ ‬قماش‭ ‬95×51‭ ‬سم‭ (‬1960‭)‬،‭ ‬وذلك‭ ‬بتاريخ‭ ‬أبريل‭ ‬2009،‭ ‬لتكون‭ ‬ضمن‭ ‬المجموعة‭ ‬الخاصة‭ ‬للمتحف،‭ ‬ثم‭ ‬جاءتها‭ ‬رسالة‭ ‬من‭ ‬مدير‭ ‬المتحف‭ ‬توماس‭ ‬كامبل‭ ‬يشكرها‭ ‬على‭ ‬إهداء‭ ‬اللوحة‭ ‬للمتحف‭ ‬يشير‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬إسهامها‭ ‬بها‭ ‬يعدّ‭ ‬إضافة‭ ‬متفرّدة‭ ‬لمقتنيات‭ ‬قسم‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬والفن‭ ‬الحديث‭ ‬والمعاصر،‭ ‬خاصة‭ ‬أنها‭ ‬تعدّ‭ ‬مثالًا‭ ‬غير‭ ‬عادي‭ ‬للفن‭ ‬المصري‭ ‬المعاصر،‭ ‬وأن‭ ‬المتحف‭ ‬سيستمر‭ ‬بشكل‭ ‬ثابت‭ ‬ومتوازن‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مؤسسة‭ ‬تتميّز‭ ‬بأعلى‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬الأستاذية‭ ‬والمعرفة‭ ‬والإلهام،‭ ‬وإن‭ ‬هذه‭ ‬الهدية‭ ‬ستساعد‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬تأكيد‭ ‬أن‭ ‬المتحف‭ ‬سيستمر‭ ‬في‭ ‬التحدي‭ ‬والإلهام‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬إسهامها‭ ‬بهذا‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ ‬سيعاون‭ ‬المتحف‭ ‬في‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬مكانته‭ ‬المرموقة‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وهو‭ ‬يعطيها‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬عضويته‭ ‬على‭ ‬أعلى‭ ‬مستوىب‭.‬

‭ ‬تقول‭ ‬جاذبية‭: ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬كتابي‭ ‬االولع‭ ‬بالألوانب،‭ ‬وهو‭ ‬مجلّد‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬230‭ ‬صفحة‭ ‬من‭ ‬القطع‭ ‬الكبير،‭ ‬ويضم‭ ‬130‭ ‬لوحة‭ ‬بالألوان‭ ‬صدر‭ ‬عن‭ ‬قسم‭ ‬النشر‭ ‬بالجامعة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬أحد‭ ‬أسباب‭ ‬اهتمام‭ ‬قسم‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬والفن‭ ‬الحديث‭ ‬والمعاصر‭ ‬بمتحف‭ ‬المتروبوليتان‭ ‬بلوحتي‭ ‬االطيارةب،‭ ‬وذلك‭ ‬لأنهم‭ ‬قرروا‭ ‬بمناسبة‭ ‬إنشاء‭ ‬قسم‭ ‬خاص‭ ‬بالفن‭ ‬الإسلامي،‭ ‬أن‭ ‬يطلقوا‭ ‬عام‭ ‬2004‭ ‬موقعًا‭ ‬إلكترونيًّا‭ ‬للفن‭ ‬الإسلامي‭ ‬المعاصر،‭ ‬اختاروا‭ ‬له‭ ‬10‭ ‬أعمال‭ ‬فنية‭ ‬لفنانين‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬لوحتي‭ ‬االطيارةب‭.‬

قال‭ ‬عنها‭ ‬الناقد‭ ‬الإيطالي‭ ‬اكارميني‭ ‬سينيسكالكو‭: ‬أنظر‭ ‬إليها‭ ‬وهي‭ ‬تذهب‭ ‬وتجيء‭ ‬ومعها‭ ‬لوحات‭ ‬ذات‭ ‬حجم‭ ‬أكبر‭ ‬منها‭ ‬شخصيًا،‭ ‬وأدرك‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أمرًا‭ ‬مهمًّا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬الطبيعية‭ ‬من‭ ‬القوة،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬محبوسة‭ ‬داخل‭ ‬جسد‭ ‬أنثوي‭ ‬صغير،‭ ‬لكنّه‭ ‬قوي،‭ ‬ولن‭ ‬تستطيع‭ ‬الاستغناء‭ ‬عنه‭ ‬أبدًا،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬الرسم،‭ ‬الرسم‭ ‬الذي‭ ‬تتنفّسه‭ ‬مع‭ ‬الهواءب‭. ‬

تحيّة‭ ‬إلى‭ ‬لمسة‭ ‬توهّجت‭ ‬بسحر‭ ‬الإبداع‭ ‬وعمر‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬الجميل‭ ■

عائلة‭ ‬مصرية‭ ‬1955

الابن‭ ‬والأم‭ ‬والجدة