منصات التواصل الاجتماعي والنرجسية
يشير عدد من الدراسات إلى أن مستويات النرجسية - التي أدرجتها جمعية الطب النفسي الأمريكية بديلًا لجنون العَظَمة في عام 1968 - قد تزايدت في الأجيال الجديدة، ولاسيّما جيل الألفية الحالية، مقارنة بالأجيال القديمة كجيلَي السبعينيات والثمانينيات، وأن ثمة علاقة إيجابية وثيقة بين ارتفاع مستوى النرجسية وبين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصًا «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام»، التي باتت منصات للترويج للذات والاستعراضية وسلوكيات جذب الانتباه، طلبًا لمُتع ناتجة عن التفاخر والإعجاب الشديد بالذات والخصال «المميزة». الأمر الذي لا بدّ أن يذكّرنا بالأسطورة اليونانية، حيث يقع نرسيس في حب صورته المنعكس على سطح ماء البركة، فينشغل بها وينعزل عمّا حوله.
توجد تعريفات عديدة للنرجسية التي باتت ملمحًا من ملامح الثقافة المعاصرة، وذلك وفقًا لسياقات المرض العقلي أو المشكلات الثقافية أو الاجتماعية، أو مجرد سمة من سمات الشخصية.
فالنرجسية الأوّلية عبارة عن تركيز يتمحور حول الذات، كما هي الحال عند الأطفال الصغار - من 6 أشهر حتى 6 سنوات - التي تعدّ آلية دفاع لحماية الطفل من الأذى النفسي أثناء تشكُّل الذات.
أما النرجسية الثانوية فهي شكل طبيعي لسعي الأطفال - بعد سن السادسة - والبالغين لتحقيق رضا شخصي ينبع من تحقيق الأهداف الاجتماعية وتأكيد القيم. وهناك قدر طبيعي من النرجسية شائع بين الناس، لا يعدّ مرضًا إلا عندما يفتقد النرجسي القدرة على التقمص العاطفي أو القدرة على وضع نفسه مكان الآخرين ليتفهمهم ويتعاطف معهم. ويستخدمهم، بدلًا من ذلك، لمصلحته من دون رحمة. وعادة ما تُعرف النرجسية في الحياة اليومية بالأنانية والغرور.
فروق بين الأجيال
وفقًا لدراسات أُجريت عبر عقود، تصل النرجسية إلى الذروة في السنوات المبكرة من البلوغ، حيث يظهر التمركز حول الذات كمَلمح واضح لهذه المرحلة العمرية. كما تسجل العشرينيات من العمر درجات عالية من النرجسية، ولهذا يستخدم الشباب وسائل التواصل الاجتماعي بصورة أكبر بوصفها مصادر لتعزيز الميول النرجسية. وفي الوقت الذي يفضل النرجسيون الصغار اتويترب، يفضّل النرجسيون الكبار افيسبوكب.
وكشف تحليل لعشرات الدراسات التي تناولت علاقة تقدير الذات والشعور بالوحدة باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وعلاقة ذلك بالنرجسية بين مختلف الأجيال، أن أصحاب تقدير الذات المنخفض والشاعرين بالوحدة بصورة أعمق يستخدمون وسائل التواصل هذه بشكل أكبر، سواء في شرق العالم أو غربه. وإن كانت هناك بعض الفروق وفقًا للثقافة الجمعية والفردية، حيث يختلف النرجسيون الأمريكيون عن النرجسيين الآسيويين، كمثال، في طبيعة الموضوعات التي يطرحونها وعدد الأصدقاء والمتابعين. كما يتفوّق النرجسيون الألمان على النرجسيين الروس بتسجيل قدر أكبر من الإعجاب.
وبيّنت دراسة أجريت في جامعة إيلون الأمريكية، موافقة غالبية من استطلَعت آراءهم على أن أخذ صور الـ اسيلفيب ونشرها على منصات شبكات التواصل الاجتماعي تؤدي إلى تعزيز السلوكيات النرجسية والأنانية.
أما أهم دواعي نشر الصور، فهي أن الـ اسيلفيب يسمح لجمهورهم بمعرفة حياتهم الاجتماعية االرائعةب، وتلقّي أكبر قدر من الإعجاب والتعليقات على الصور، أو الرغبة أن يراهم الناس ارائعينب كما يبدون في الصور.
وهناك من رأى أن الداعي إلى ذلك إثارة غيرة بعض الأصدقاء القدامى، بينما اعتقدت مجموعة أن الناس يهتمون بهم وبما يفعلون. وخلُصت الدراسة إلى أن جيل الألفية الجديدة يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي، لا لخلق علاقات شخصية والحفاظ عليها فحسب، بل لتقديم أنفسهم على نحو مثالي. وأن كثيرين من هذا الجيل يشعرون بالحاجة إلى تقديم أنفسهم بطرق جذّابة ولافتة لانتباه الأنداد على وجه الخصوص.
أنواع النرجسية
توجد أنواع متباينة من النرجسية، فهناك نرجسية المهمّة، حيث يأتي إعجاب النرجسي بذاته من قدرات فكرية أو مهارات مميزة يمتلكها أو إنجازات متفوقة، فيتوقّع جذب متابعيه نتيجة لذلك.
بينما ينبع إعجاب النرجسي الاجتماعي بنفسه من خفّة ظلّه وقدرته على سرد الحكايات المسليّة، وعادة ما يهتم هذا النوع من النرجسيين بعرض الصور والتفاخر بجوانب سطحية في الحياة.
أما نرجسي الجسد فيجذب الاهتمام بمظهره واهتمامه بالجمال بصورة متطرفة، كمشاهير اهوليوودب، وربما يجري البعض من فئة النرجسيين هذه عمليات تجميل بمئات الآلاف من الدولارات لينالوا مزيدًا من الرضا والإعجاب.
ويحرص النرجسيون على إبراز الوجه الجميل والمثالي لحياتهم بعرض صور وتفاصيل تبيّن، على سبيل المثال، نظامًا غذائيًا صحيًّا، وممارسة يومية للرياضة، وصورًا أخرى للاحتفال بمناسبات اجتماعية، تساهم في إبراز علاقات متينة ومتميزة مع أفراد الأسرة والأصدقاء والمقربين.
ويعرف النرجسي جيدًا أنه لكي يصبح مشهورًا وجذابًا، لا بدّ من تجميع أكبر قدر من الأصدقاء والمعجبين، حتى لو كانوا غرباء وسطحيين. ولتحقيق مثل هذا الهدف فإنهم ينفقون الكثير من الوقت على تعديل صورهم وإعدادها قبل نشرها.
مميزات وعيوب
أما ما يميّز هؤلاء النرجسيين، فهو تمتّعهم بسمات شخصية إيجابية، كالقدرة على القيادة والحشد والإيجابية، وصياغة جمل وشعارات بصورة لافتة للانتباه. ولأنهم لا يحتملون تجاهل الآخرين لهم، تكون حاجتهم إلى المشاركة في الأنشطة كبيرة. كما تسمح وسائل التواصل الاجتماعي للوحيد منهم بالمشاركة في شبكات ومنتديات وأنشطة واسعة المدى. ويسمح ايوتيوبب بتصوير أنفسهم وعرض ما يصوّرونه ويسجلونه من فيديوهات وإعلانات في العالم الافتراضي.
وعلى الجانب السلبي، توجد سمة الاستغلال، وشعور النرجسي باستحقاق الاحترام والاستعداد للتلاعب والاستيلاء على جهد الآخرين لكسب الأضواء بأنانيّة. فلا يسمح النرجسي، في الغالب، لمشاعر الآخرين وحاجاتهم بإعاقة تحقيقه أهدافه، مما يفسد علاقاته بالمقربين منه.
ومن سمات النرجسي أيضًا الاستجابة بعدوانية ردًّا على أيّ تعليق يزدريه. ويغلب على كلماته الغضب والمشاعر السلبية مقارنة بالتفاعل الاجتماعي.
ويوجد نرجسي خفيّ، يعبّر عن نفسه بصورة سلبية وغير مباشرة، ويكون مستعدًا للتنازل. ويفتقد مثل هذا النرجسي الشعور بالأمان، ويتصف بالعدوانية السلبية والدفاعية والإيذاء. ويكون قابلًا للجرح ومنطويًا على نفسه.
علاج النرجسية
أثبتت بعض الدراسات وجود دليل على أن الإفراط في تقدير الأطفال ومدحهم من جانب الوالدين وبقية أفراد الأسرة، وغياب العلاقات الدافئة، من أسباب الإصابة بالنرجسية لدى الصغار.
ووفقًا لنظرية التعلّم الاجتماعي، غالبًا ما يكبر الصغار نرجسيين مع شعورهم بالتفوق على الآخرين إذا بالغ الآباء والأمهات في اعتبارهم متميزين عن غيرهم من الأطفال.
وتحمل نظرية التحليل النفسي تفسيرًا يرى أن قصور الدفء الوالدي يمكن أن يحوّل الأطفال إلى نرجسيين يسعون على الدوام وراء استقطاب تقدير من الآخرين لم ينالوا مثله من أسرهم.
ولهذا استحدثت تدريبات لمقدمي الرعاية للصغار المصابين بالنرجسية كتدخّل علاجي يمنع تطوّر الحالات، وذلك عبر جلسات يستطلع خلالها المعالج خبرات الطفولة الماضية، ويصحّح طرق التعامل والعلاقات بين الأطفال وذويهم.
لكن رغم اعتبار تدخّل التدريب الوالدي فعالًا لعلاج تطور النرجسية في العمر المبكر، فإن هناك دراسات أشارت إلى صعوبة علاج النرجسية بعد أن تتطور؛ وذلك لأن النرجسيين عادة ما يقاومون التغيير، ويعتبرون أيّ ملاحظة توجّه إليهم من جانب الآخرين نقدًا لاذعًا. ولكنّ ثمّة دليلًا وجد على إمكان تغيّرهم في نهاية المطاف.
أمل الشفاء
من الناحية النظرية، يمكن تغيير النرجسيين بإكسابهم سمات كالرعاية والدفء، وغرس المبادئ الأخلاقية وتعزيزها في شخصياتهم. ففي دراسة أُجريت على أزواج، ذكر بعضهم أن شعورهم بمزيد من الرعاية والدفء من جانب شركائهم ساعدهم على أن يصبحوا أفضل وأقلّ نرجسية مع الوقت.
وما يحمل أمل الشفاء، تطورات على صعيد العلاج الإكلينيكي للنرجسية، كالعلاج النفسي المتعلّق بتنظيم الذات والتحكّم فيها كمدخل علاج يساعد على إعادة تقييم النرجسيين لسلوكياتهم في ضوء أهدافهم الشخصية.
فإذا أنفقت فتاة وقتًا طويلًا على نشر صورها على افيسبوكب لكسب الإعجاب وجذب تعليقات الأنداد، مثلًا، يطلب منها المعالج التفكير في سلبيات هذا السلوك، واقتراح طرق بديلة لبلوغ الأهداف نفسها، كالحصول على درجات مرتفعة في المدرسة. ولا تزال الجهود تُبذل لوضع مزيد من الاستراتيجيات الجديدة للتقليل من آثار النرجسية ■