«كورونا» والعمل عن بُعد
من الممكن أن يُحْدِث فيروس كورونا المستجد (Covid-19) تحوّلًا دائمًا في أنماط العمل، حيث تجد الشركات المُجبرة على تبنّي أسلوب العمل عن بُعد، بسبب جائحة كورونا، موظّفيها رافضين فكرة العودة إلى المكتب، عند انتهاء فترات الحظر. ولعل الزيادة المفاجئة في معدل العمل من البيت تطرح مشكلات بقدر مَا تكفل فرصًا جديدة؛ فمن ناحية تقدّم شركات ناشئة مثل «سلاك» و«زووم» وشركات عملاقة راسخة في السوق، مثل جوجل ومايكروسوفت أدواتها مجانًا، على أمل أن يبدأ الذين يشرعون باستخدامها في فترات الأزمات بمواصلة استخدامها، بعد عودة الأمور إلى نصابها وزوال الخطر.
ثمّة نُظم أخرى تتداعى على الأطراف، فالشبكات المؤسسية التي لا تألف إجراء غالبية اتصالاتها عبر شبكات افتراضية خاصة (VPNs) تشهد منعطفات حادة، بينما تعرّض مزودو خدمات الإنترنت لضغوط جسيمة لإزالة الحدود القصوى لسرعات الإنترنت، حيث لا ينقطع العاملون عن بُعد عن أرباب أعمالهم في منتصف الشهر.
لكن، يبدو - بشكل متزايد - أن الأوضاع لن تعود إلى سابق عهدها، فعدد كبير من الموظفين الذين أرسلتهم شركاتهم للعمل من البيت شرعوا يتساءلون: لماذا يتعيّن عليهم الذهاب إلى المكتب في المقام الأول؟
وكانت شركات تكنولوجية كبرى من بين بعض أوائل الشركات التي أنجزت التحوّل إلى العمل عن بُعد لجميع العاملين لديها، حيث اعتمدت على بنية تحتيّة موجودة مسبقًا، كالدردشات الجماعية المكتبية والوصول عن بُعد إلى الأدوات الحيوية، وحقيقة أن قسمًا كبيرًا من الأعمال المعرفية يمكن إنجازه عن بُعد.
في مدينة سياتل التي تعدُّ بؤرة لكثير من الحالات الأمريكية الأولى المصابة بفيروس كورونا المستجد، أوعزت شركات، مثل أمازون ولينكد إن ومايكروسوفت وجوجل، إلى موظفيها بالامتناع عن القدوم إلى المكاتب أواخر شهر فبراير.
وفي أوائل مارس، نصحت شركة تويتر جميع موظفيها على مستوى العالم، بإصرار، بأن يقتدوا بتلك الشركات، وأخيرًا جعلت المسألة إلزامية على الجميع.
بيئة مختلفة
وقالت رئيسة قسم الموارد البشرية لـ «تويتر»، جينيفر كريستي، في رسالة إلى موظفي الشركة: «إننا ندرك أن هذه خطوة غير مسبوقة، لكنّ هذه أوقات لم نشهدها من قبل».
ووعدت كريستي بتعويض الموظفين، بما في ذلك العاملون بالساعة، عن التكاليف الضرورية لإعداد مكاتبهم في المنزل، بحيث تغطي تكاليف شراء أغراض كأجهزة الكمبيوتر والمكاتب والكراسي المريحة.
وأضافت أن «العمل من المنزل إجمالًا لا يغيّر شيئًا في نمط العمل اليومي، وإنما يعني أنك ستنجز عملك من بيئة مختلفة لا أكثر».
وقد حثّت تلك الاستثمارات كثيرين على التساؤل عمّا إذا كانت الشركات التي تتبنى نموذج العمل عن بُعد في فترات الأزمات ربما اكتشفت أن ذاك النمط استمر حتى مع عودة الأمور إلى نصابها الطبيعي.
فمن الأصعب رفض طلبات الموظفين الخاصة بالعمل من البيت لو اشترى لهم قسم الموارد البشرية بالفعل مكتبًا جديدًا، ومن الأسهل النظر إلى هذا الاستثمار بوصفه أمرًا منطقيًا لو آتى ثماره لسنوات مقبلة، لا لأشهر فقط.
ويقول الرئيس التنفيذي لشركة «أوتوماتيك» المالكة لموقعَي ووردبرس وتامبلر، مات مولينغ: «لم يكن هذا هو النحو الذي تخيّلت أن تسيطر به ثورة العمل المُوزَّع وتهيمن على الأوضاع».
وشركة مولينغ بالفعل «مُوزّعَة»، ويتنبأ مولينغ بأن التغييرات الطارئة «ربما تعطي أيضًا فرصةً لكثيرٍ من الشركات لبناء ثقافة تسمح أخيرًا بمرونة الأعمال التي تأخرت كثيرًا».
ويضيف: «ملايين البشر سيغتنمون الفرصة لعيش أيام دون إهدار ساعات طويلة في المواصلات، أو تكبُّد عناء عدم الوجود على مقربة من البيت حال مرض فرد من أفراد العائلة، ربما كانت هذه فرصة لإعادة ضبط أوضاع كيفية إنجازنا للأعمال».
التكيُّف مع الفكرة
وهذا هو بالتأكيد ما تَعْقِد عليه الصناعة التي تقف وراء العمل عن بُعد الآمال على أن يتحقق. ويقول المتحدث الرسمي باسم شركة سلاك، التي صنعت برنامجًا مشهورًا للدردشة لأغراض الأعمال: «إننا متأهبون بالكامل لهذا الموقف. أولًا، وقبل كل شيء، ينصبّ اهتمامنا على العائلات والأفراد الذين أصيبوا بفيروس كورونا، وينصبّ تركيزنا في الوقت الراهن على مساعدة الجميع في شتى أنحاء العالم على التكيُّف مع فكرة العمل عن بُعد بموارد مجانية. على سبيل المثال، عكفنا على استضافة استشارات مجانية للشركات التي تتكيَّف مع العمل عن بُعد للمرة الأولى.
وخاطبنا شركات على اختلاف أحجامها وصناعاتها، بدايةً من المؤسسات الكبرى التي يبلغ عدد العاملين فيها مئات الآلاف، وانتهاء بالشركات الصغرى التي يتألف فريق عملها من خمسة أفراد».
وليست «سلاك» وحدها في هذا المجال، فقد قدّمت شركة مايكروسوفت «مجموعة برامجها الإنتاجية» السحابية مجانية للشركات الصغيرة لأول 6 أشهر، بما في ذلك برنامجها المنافس لبرنامج «سلاك»، المعروف باسم «تيمز»، وسارت «جوجل» على النهج نفسه باشتراكها الخاص للأعمال، بينما رفعت شركة خدمات المؤتمرات المرئية «زووم» القيود المفروضة على خطتها المجانية الخاصة، حيث سمحت بأن تتجاوز الحوارات 40 دقيقة.
لكن، في مقابل كلّ شركة تتحرك بسلاسة باتجاه مستقبل العمل عن بُعد، اصطدمت شركات أخرى بمشكلات ومعضلات؛ بعضها طفيف نسبيًا، حيث فوجئ موظفو شركة فيسبوك بأن شبكة الشركة حُظِرَت من خدمة «دور داش» لتوصيل المواد الغذائية المُعدّة حسب الطلب، بسبب سلوكها المشتبه به، إذ شرع العاملون في «فيسبوك» بأسرها في عمل طلبيات لتوصيلها إلى شتى أنحاء منطقة خليج سان فرانسيسكو، بينما سجّلوا دخولهم عبر شبكة افتراضية خاصة متصلة بنفس عنوان بروتوكول الإنترنت.
مخاوف مبكرة
ثمّة مشكلات أخرى أخطر بكثير، فقد ظهرت مخاوف مبكرة من انهيار شبكات النطاق العريض المنزلية تحت وطأة ضغوط الاستخدام أعرب عنها مزوّدو خدمات الإنترنت في المملكة المتحدة، حيث أشارت جمعية مزودي خدمة الإنترنت (ISPA) التي ينتمي إليها هؤلاء المزودون إلى أن ذروة النشاط المسائي، عندما يعكف الشعب الإنجليزي على بثّ مقاطع فيديو بخدمة «نتفليكس» وممارسة ألعاب الفيديو، غالبًا ما تقتضي 10 أضعاف السرعات النهارية العادية.
وما يُعدُّ حاجة أكثر إلحاحًا حقيقة أن استخدام الإنترنت عمومًا يزداد عبر النطاق العريض. وقد أعلنت شركة «كلاود فلير»، التي تقدّم خدمات بنية تحتية إلكترونية تشمل نطاقًا واسعًا من شبكة الإنترنت، أنها عكفت على رصد الزيادة.
ويقول الرئيس التنفيذي للشركة ماثيو برنس: «بينما يزداد عدد العاملين من المنزل، زادت حركة المرور في الفضاء السيبراني بالمناطق المتأثرة في المتوسط بنسبة 10 في المئة تقريبًا.
وفي إيطاليا التي فرضت حجرًا صحيًا على نطاق الدولة بأسرها، ارتفعت ذروة حركة المرور على شبكة الإنترنت بنسبة 30 في المئة. وتحولت أنماط الحركة المرورية أيضًا، بحيث وقعت الذروة في فترات أبكر من النهار بالمناطق المنكوبة بالفيروس».
حدود قصوى
وتبدأ المشكلات الحقيقية عندما يتم تعليق الدراسة في المدارس، فقد ازداد استخدام الشبكة الوطنية في إيطاليا بأكثر من الثلثيْن، لا بسبب العمل من المنزل، بل بسبب تسجيل دخول أطفال المدارس المُجبرين على لزوم بيوتهم إلى ألعاب إلكترونية، مثل «فورتنايت»، وفق تقرير صادر عن وكالة بلومبرغ نيوز.
ومن الأرجح أن تؤثّر الزيادات المتصاعدة في الاستخدام على الذين يدفعون مقابل خدمة الإنترنت ذات النطاق العريض المحدود، وهي الخدمة الشائعة تحديدًا في الولايات المتحدة، الذين يعوّلون على النطاق العريض على الأجهزة المحمولة.
وقد بدأت بعض شركات تقديم خدمات الإنترنت الأمريكية، مثل شركة «إيه تي آند تي» تعليق العمل بهذه الممارسة، كي لا تُلام على عرقلة سير العمل، غير أن الشركات كلها لم تسلك هذا المسلك.
ومع ذلك، فالتكنولوجيا لها حدود قصوى، والعمل من المنزل لا يناسب الجميع. يقول أحد العاملين في صناعة التكنولوجيا الذين أُرسلوا للعمل من منازلهم: «لقد عملت بنسبة 100 في المئة عن بُعد من قبل. وثمّة مرحلة يصل إليها الإنسان تدعو حتى أي شخص انطوائي إلى الرغبة في رؤية إنسان سواه».
أدوات للعمل عن بُعد
• سلاك
تُعتبر «سلاك» أداة إدارة محل العمل المشهورة شهرة شركة «أوبر» محبوبةً ومكروهةً بالقدر ذاته، غير أن ثمّة أمرًا واحدًا يميّزها، ألا وهو نموذج عمل التشغيل المجاني الذي تتبناه الشركة؛ فبدلًا من أن يحتاج المرء إلى تسجيل المؤسسة بأسرها مرّة واحدة، من السهل على فرق العمل والمكاتب المنفردة أن تبدأ العمل بالنسخة المجانية من البرنامج، تم تتوسّع بما يتناسب مع احتياجاتها لاحقًا.
وهذا يعني أن البرنامج في موقف يجعله الأنسب لمساعدة العاملين من المنزل على إعادة خلق أجواء الدردشة وجهًا لوجه، والتي تمتعوا بها في المكتب بسرعة وبسلاسة.
• تريللو
بينما يعيد برنامج «سلاك» خلق الشعور بسهولة اللجوء إلى زميل العمل لتبادل أطراف حديث شخصي، بقدر ما هو مهني في آنٍ واحد، نجد أن برنامج «تريللو» أشبه برئيسك في العمل الذي يعرج عليك «ليتحقق من سير العمل لا أكثر».
ويسمح برنامج إدارة المشروعات هذا لفرق العمل بإدارة المهام وتعيينها ورصد التقدّم الأوسع نطاقًا للمشروع، وبناء تدفقات عمل للمهام المتكررة، وبذلك فهو مثالي لليومين الرابع أو الخامس للعمل من البيت، عندما تبدأ تتساءل عمّا إذا كان مديرك قد نسي أنك موجود أصلًا.
• زووم
أدوات عقد المؤتمرات المرئية شائعة جدًا، لدرجة أن تكلفتها زهيدة إلى أبعد الحدود، غير أن برنامج «زووم» أبهر كثيرين، حيث ذلّل المصاعب التي كثيرًا ما تشوب هذه العملية المخيبة للآمال. فقد رفع التطبيق الحدّ المفروض على عدد الحسابات المجانية استجابةً للأزمة، وصار يدعم نظريًا مشاركة 1000 شخص بحدّ أقصى في اجتماع منفرد، ولو أنه من غير الواضح ما إذا كانت هذه الخطوة نقطة إيجابية.
لكنّ الشركة شهدت بعض المشكلات المثيرة للجدل، بدايةً من مكوّنٍ إضافي غير آمن لعملاء أجهزة ماك، تم التعامل معه في يونيو، وانتهاءً بخاصية «رصد الانتباه» المشبوهة التي سمحت للمديرين البشعين باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي للتحقق مما إذا كان موظفوهم يتطلعون إلى الشاشة فعلًا أم لا.
• توميتس
لا يقلّ الحرص على تخصيص فترات للراحة من العمل في البيت أهمية عن التأكد من أنك تكدّ في عملك هناك. وتُعدُّ طريقة بومودورو المشهورة للإدارة المُركَّزَة التي تسمح لك بتقسيم اليوم إلى فترات تمتد الواحدة منها إلى 20 دقيقة، تتخللها 5 دقائق للراحة من بين تلك الطرائق.
ويساعدك «توميتس»، وهو تطبيق بسيط وزهيد التكلفة لأجهزة ماك، على أتمتة الساعات الميقاتية المحددة لتلك الفترات، ولو أن أيّ تطبيق مثيل سيؤدي الغرض أيضًا، أو حتى ساعة ميقاتية فعلية كمنبهات «توماتو» التي سُميَّت هذه الطريقة تيمنًا بها ■
التكنولوجيا لها حدود قصوى والعمل من المنزل لا يناسب الجميع