سينويه الروائي المُغرم بحضارات الشرق القديمة

سينويه الروائي المُغرم بحضارات الشرق القديمة

يعد الروائي الفرنسي جيلبرت سينويه المولود في مصر عام 1947 واحدًا من أهم الروائيين بفرنسا في الفترة الراهنة، ولعلّ ما يجعل مشروعه في غاية الأهمية لكل القراء في أوربا، ويجعله مضاعف القيمة والأهمية بالنسبة لنا، هو قدر ولعه بالشرق وحضاراته القديمة وأساطيره وتاريخه وآثاره، فكأن مشروعه هو إعادة ترميم هذا التاريخ وإعادة عرضه بأسلوب أكثر تشويقًا، فرواياته تحمل طاقات معرفية كبيرة وفي غاية التكامل واتساق المعارف، وتمثل بحثًا وتنقيبًا معلوماتيًا غاية في الثراء، والأهم من ذلك أنها تأتي في إطار بنية روائية لها جمالياتها الخاصة، والقدرة على إدهاش المتلقي وجذبه في عالم القراءة حتى النهاية. 

كتب سينويه عددًا كبيرًا من الروايات المستمدة من هذا التاريخ الموغل في القدم، وأحيانًا ما يميل إلى عرض حقبتين تاريخيتين معًا، من تاريخ الحضارات القديمة قبل الميلاد بآلاف السنين، ومن التاريخ الحديث أو عصر النهضة والفترة الكولونيالية وهيمنة الاحتلال الأوربي على منطقة الشرق الأوسط أو الشرق الأدنى، فيؤكد قيمة المكان وقيمة تاريخه وآثاره، ويمرّ بالتحولات التاريخية لهذه الحضارات وما اعتراها من حالات إنسانية متباينة وتقلبات في المصير بين الازدهار والانهيار، ويصوّر البشر في كل أحوالهم ونبض حياتهم وأنشطتهم المعيشية وعقائدهم أو أساطيرهم ومعتقدات السحر والآلهة، ويخلق في المجمل تركيبًا جماليًا حافلًا بالشجن والحركة الإنسانية، ويصوّر الآثار والمنشآت والمعالم والطبيعة، وما تتميز به في المنطقة التي يشتغل عليها ويجسّد قدر خصوصية تلك الحضارة من كل الجوانب؛ سواء الطبيعية الممنوحة بشكل كامل أو سر الجغرافيا والتكوين، أو ما يرتبط بدور الإنسان ويمثّل سر صناعته وتأثيره في بناء هذه الحضارة.

عالَم صاخب
نركز هنا على سبيل التمثيل على روايته دلمون (دار الجمل - 2018) التي تقارب حضارة مملكة البحرين في فترة ازدهارها، ويشكّل منها عالمًا صاخبًا وفي غاية الحيوية والثراء بكل العلامات التي تمنح هذا العالم الحيوية والتشويق، وتجعل المتلقي في أقصى درجات الارتباط به، ويكون منشدًا إلى تفاصيله.
في رواية دلمون يجسّد سينويه عالمًا كامل التفاصيل والملامح، حال المملكة اقتصاديًا وعلاقاتها الخارجية، وبخاصة حضارت ما بين النهرين في أثناء عصر حمورابي وابنه، والاضطرابات التي حصلت في عهد ابنه، ويجسد التشابك الشديد بين الحضارات القديمة، مثل مملكة ملوحة؛ أي بلاد الحبشة (إثيوبيا حاليًا)، ويتجسد لديه كذلك صراع العلم والخرافة، ويشكّل كل تفاصيل العقائد القديمة والأساطير والآلهة، وبخاصة إنكي، وهو إله المياه الجوفية، ويعد الواهب للحياة على أرض إنكي، حسب عقيدة ذلك الزمن في حوالي عام 1700 قبل الميلاد، وابنه مردوخ أو مردودك، وغيرها الكثير من الآلهة، مثل إله الشمس وإله الأوبئة، وحالات غضب هذه الآلهة أحيانًا، ومخاوف البشر ومخاطر حياتهم، سواء الخاصة بالجفاف أو قلّة الرزق، أو العواصف ومشاكل الطبيعة، أو اللعنات غير المفهومة والمبررة التي يمكن أن تصيب البشر، ويمكن أن تميت حضارتهم أو تفنيهم تمامًا. 

نموذج إنساني 
يشكل سينويه عالمًا مزيجًا من العلم والأساطير والخرافات والعقائد القديمة، مزيجًا من الاجتهاد والبحث والمعرفة العلمية والجهد، مثل ما يتجلى ذلك في شخصية الطبيب ياكين رمز المعرفة العلمية والمادية والرافض للخرافات والأساطير بدرجة ما، والمهموم بالموت وعدم قدرته دائمًا على مساعدة الناس على التخلص من أمراضهم أو يمنحهم الخلود. يبدو ياكين شخصًا طموحًا يورث العلم لمن حوله، ويبدو نموذجًا إنسانيًا بامتياز لقيم الوفاء والإيمان بقدرات الإنسان. 
ويطرح سينويه في رواية دلمون نموذجًا قديمًا من الحجر الصحي بين الممالك والدول القديمة بسبب الأمراض المعدية، وذلك من خلال المهمة التي أرسل فيها ملك دلمون أهم طبيب لديه في المملكة، ليستكشف أحوال شعب مملكة ملوحة التي يتعاملون معها، ويقف على حقيقة لعنتهم أو مرضهم، حتى إذا كان مرضًا معديًا ينتقل من شخص إلى آخر بالتلامس أو استخدام الأدوات يمنعون التعامل مع هذه المملكة، ويحددون صلتهم التجارية بأفراد شعبها وتجارها. 
وفي تقديرنا أن أهم ملامح رواية دلمون هو تجسيدها للصراع الأزلي بين الخرافة والعلم، وهو ما يعدّ إسقاطًا غير مباشر على الواقع، وجسّد صراعًا بين طرفين الأول هو طائفة دينية متعصبة لمعتقداتها للإلهة تيامات إلهة البحر، والطرف الثاني هو العِلم ومعه الملك أو السلطة الزمنية والسلطة العلمية في مواجهة الخرافة، وهذا الصراع يمنح الرواية تشويقًا كبيرًا، لأن القارئ يظل مشدودًا إلى النهاية لمعرفة مصيره ونهايته، فضلًا عن أن الرواية تحمل أسئلة وأفكارًا كثيرة مهمة، ومن ذلك النوع المتجدد ويشغل العقل الإنساني باستمرار، سواء ما يخصّ العلاقة بالآخر المختلف في الأفكار والمعتقد أو النظم الإدارية والاقتصادية، وكيف يمكن تحقيق التجانس الاجتماعي بين أبناء الأمة الواحدة ومنعهم من التشرذم والصراع الداخلي.

بحث تفصيلي
تمثّل الجماليات المعرفية أحد أهم الروافد الجمالية والأدبية لهذه الرواية الثرية، فهي تتشكل كما لو كانت بحثًا تفصيليًا في تاريخ مملكة البحرين وتكوينها الجغرافي وبعض آثارها وتاريخها ومعتقداتها القديمة وأساطيرها والأساطير المجاورة، وهو بحث إثنولوجي وأنثربولوجي، وبحث في الطبيعة أو البيئة والتكوين الجغرافي، وبحث في المهن وأنواع الغذاء والحرف، وخصوصًا الغوص على اللؤلؤ، وما يرتبط بالصناعات التقليدية وتخزين التمر وتصديره، أو عمليات تخمير الشعير وغيرها من المهن الموغلة في القِدم. وتأتي في الرواية بكل تفاصيلها ومفرداتها ووصف خطواتها حتى ما يرتبط بالطقوس الدينية وإجراءات الدفن، وبعضها يرتبط بألغاز وإشارات ودلالات معيّنة.
يصور خطاب هذه الرواية الحياة القديمة في أوج ازدهارها وتحرّكها أو نبضها، في سرد مشهدي أقرب للتصوير السينمائي، وفي الوقت ذاته يصورها بعد ذلك في حقبة متأخرة بالقرن التاسع عشر، وقد اندثرت وظلت بعض آثارها ألغازًا يحاول علماء الآثار وجامعو المعلومات للإنجليز أو الدول الأوربية الأخرى فكّ طلاسمها ومعرفة أسرارها، فيكون المتلقي عبر هذين النسقين من التصوير للحضارة قد عاين الصورتين المتناقضتين، ويبدو متفوقًا على هؤلاء العلماء الذين مازالوا يعملون على فك اللغز وتحصيل المعرفة، لأنّ المتلقي يكون قد عاين عبر السرد هذه الحضارة، وعاش فيها بخياله ووجدانه، وأصبح عارفًا بكثير من تفاصيلها وحكاياتها.

لعبة سردية جمالية
ثم يأتي الجزء التالي الذي يخص العلماء الباحثين عنها في العصر الحديث، ويكونون أقل اطلاعًا من هذا المتلقي الذي يسبقهم في الإدراك، وهي لعبة سردية جمالية نتجت عن ترتيب فصول الرواية وفق هذا الشكل الذي يطرح صورة الحضارة القديمة أولًا ثم صورتها وقد اندثرت ثانيًا.  لغز اختفاء ابن الطبيب واختطافه يمدّ الرواية بطاقة تشويقية كبيرة، والرواية بها كذلك درجة متقدمة من الصراع أو النزاع البدني الذي يتسبب في القتل أو المطاردات، وبذلك تكون على درجة متفوقة من الإحكام، برغم كثرة المعلومات والمعارف التي تزدحم بها، وهذه هي المعادلة الصعبة في الرواية التي منحتها أبرز سماتها، بأن ظلت محتفظة بحيويتها وتشويقها ونبضها الإنساني، برغم أنها تبدو - لكثرة ما بها من معارف - تتماسّ مع كتابة البحوث والدراسات.
والحقيقة هي رواية على قدر من الثراء من الناحيتين الجمالية والدلالية، وتستدعي قراءات كثيرة، وتنبّه إلى قيمة ما كتب جيلبرت سينويه من روايات أخرى استلهمت حضارات الشرق وتاريخه القديم ■