ملحمة «كوم الخادم» وكنزها الملعون

ملحمة «كوم الخادم» وكنزها الملعون

من‭ ‬نقطة‭ ‬النهاية‭ ‬تبدأ‭ ‬الرواية،‭ ‬من‭ ‬لحظة‭ ‬الهدم‭ ‬الثوري‭ ‬والطوفان‭ ‬الأعظم‭ ‬يبدأ‭ ‬البناء‭ ‬السردي،‭ ‬إذ‭ ‬في‭ ‬كلا‭ ‬المشهدين‭ ‬نسمع‭ ‬بجلاء‭ ‬‮«‬أصواتُ‭ ‬الاستغاثة‭ ‬والهلع،‭ ‬فالقرية‭ ‬كلها‭ ‬تصرخ،‭ ‬حينما‭ ‬انفجرت‭ ‬عيون‭ ‬الماء،‭ ‬وتدافعت‭ ‬الأسماك‭ ‬المتوحشة‭ ‬من‭ ‬البئر‭ ‬القديمة،‭ ‬لتأكل‭ ‬كلّ‭ ‬شيء‭. ‬ستُباد‭ ‬القرية‭ ‬بأكملها،‭ ‬لتنتهي‭ ‬الحكاية،‭ ‬وتبدأ‭ ‬أخرى،‭ ‬ولكن‭ ‬بدون‭ ‬غانم‭ ‬ومملكته،‭ ‬وقريته‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬حلمتْ‭ ‬باستخراج‭ ‬كنزها‭ ‬الملعون،‭ ‬الذي‭ ‬سيُغير‭ ‬خريطة‭ ‬العالم،‭ ‬ويجعل‭ ‬منها‭ ‬أغنى‭ ‬قرية‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬البسيطة‮»‬‭.‬

من‭ ‬لحظة‭ ‬الثورة‭ ‬والهدم‭ ‬يبدأ‭ ‬المؤلف،‭ ‬وكأنه‭ ‬اختيار‭ ‬يُؤكد‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬بناء‭ ‬جديد‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬هدم‭ ‬القديم،‭ ‬لذلك‭ ‬يبدأ‭ ‬النص‭ ‬وينتهي‭ ‬بالهدم،‭ ‬ثم‭ ‬ينسج‭ ‬بينهما‭ ‬تاريخاً‭ ‬ممتدًا‭ ‬وعميقاً‭ ‬لذلك‭ ‬المجتمع،‭ ‬فما‭ ‬بين‭ ‬مشهدي‭ ‬الدمار‭ ‬والاندثار‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬ونهاية‭ ‬الرواية‭ ‬القصيرة‭ - ‬أو‭ ‬االنوفيلاب‭ - ‬اكوم‭ ‬الخادمب‭ ‬بتوقيع‭ ‬الصحافي‭ ‬والشاعر‭ ‬المصري‭ ‬عبدالعليم‭ ‬حريص،‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬دائرة‭ ‬الثقافة‭ ‬بالشارقة‭ -  ‬في‭ ‬161‭ ‬صفحة‭ ‬من‭ ‬المقاس‭ ‬المتوسط،‭ ‬نعيش‭ ‬تجربة‭ ‬سرد‭ ‬دائري‭ ‬مليء‭ ‬بالمنحنيات‭ ‬صعودًا‭ ‬وهبوطًا‭ ‬وفق‭ ‬مصائر‭ ‬وأهواء‭ ‬الأبطال،‭ ‬سواء‭ ‬كانوا‭ ‬شخصيات‭ ‬رئيسية‭ ‬أو‭ ‬محورية،‭ ‬حتى‭ ‬تلك‭ ‬الشخصيات‭ ‬الهامشية‭ ‬تظهر‭ ‬بملامح‭ ‬حادة‭ ‬قوية‭ ‬لتُكمل‭ ‬المعمار‭ ‬السردي،‭ ‬والبناءين‭ ‬المجتمعي‭ ‬والفني‭ ‬لمملكة‭ ‬غانم،‭ ‬عبر‭ ‬خيال‭ ‬تعبيري‭ ‬رشيق‭ ‬ومتين،‭ ‬ملوّن‭ ‬بفضاءات‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬تُخصبه‭ ‬الأسطورة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتخلّى‭ ‬المؤلف‭ ‬عن‭ ‬إشارات‭ ‬سياسية‭ ‬يأتي‭ ‬بعضها‭ ‬مُغلفًا‭ ‬برداء‭ ‬شفاف‭ ‬مباشر‭ ‬من‭ ‬الدلالات‭ ‬الرمزية‭ ‬على‭ ‬الأخص‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬منها‭ ‬بحرب‭ ‬1948،‭ ‬ونكسة‭ ‬1967،‭ ‬وبقايا‭ ‬الملكية‭ ‬والإنجليز،‭ ‬وحكم‭ ‬الضباط‭ ‬الأحرار،‭ ‬وقوانين‭ ‬الإصلاح‭ ‬الزراعي‭.‬

 

نص‭ ‬ميتالغوي‭ ‬

أما‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭ - ‬من‭ ‬الإشارات‭ ‬السياسية‭ - ‬فيبدو‭ ‬متواريًا،‭ ‬متسترًا‭ ‬بقناع‭ ‬الأسطورة‭ ‬أو‭ ‬الأحلام‭ ‬وكأنه‭ ‬يحتمي‭ ‬بهما‭ ‬كي‭ ‬يشي‭ ‬بقضايا‭ ‬شديدة‭ ‬المعاصرة،‭ ‬فالكاتب‭ ‬يوظف‭ ‬تقنية‭ ‬الرمز،‭ ‬فيمزج‭ ‬بين‭ ‬الرمز‭ ‬والأسطورة‭ ‬والتراث‭ ‬والفولكلور،‭ ‬جاعلًا‭ ‬الرمز‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬أعماق‭ ‬الماضي‭ ‬واضحًا،‭ ‬بجماله‭ ‬وقيمه‭ ‬وبهائه،‭ ‬لكنّه‭ ‬ماضٍ‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬تناقض،‭ ‬وكانت‭ ‬له‭ ‬مشاكله‭ ‬أيضًا‭. ‬

ليس‭ ‬الرمز‭ ‬هنا‭ ‬رمزًا‭ ‬جزئيًا،‭ ‬وإنما‭ ‬رمز‭ ‬كلي،‭ ‬يشتمل‭ ‬الحياة‭ ‬بشتى‭ ‬صورها‭. ‬فللرمز‭ ‬مقدرة‭ ‬على‭ ‬تجريد‭ ‬الواقع‭ ‬وصياغته‭ ‬في‭ ‬علامة‭ ‬تتخذ‭ ‬من‭ ‬الحكاية‭ ‬التاريخية‭ ‬والأسطورية‭ ‬والشعبية‭ ‬أردية‭ ‬شفافة‭ ‬لها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتضح‭ ‬بقوة‭ ‬مع‭ ‬قضية‭ ‬الاستبداد‭ ‬المطروحة‭ ‬عبر‭ ‬أشكال‭ ‬متباينة‭ ‬ومختلفة‭ ‬داخل‭ ‬متن‭ ‬رواية‭ ‬اكوم‭ ‬الخادمب،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬فرض‭ ‬الهيمنة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬هناك‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬طغيانها،‭ ‬فالهيمنة‭ ‬والاستبداد‭ ‬متفشيان‭ ‬بقلب‭ ‬ذلك‭ ‬المجتمع‭ ‬البطريركي‭ ‬الغارق‭ ‬في‭ ‬ذكوريته‭. ‬

أما‭ ‬لغة‭ ‬النص‭ ‬فواضحة‭ ‬غير‭ ‬معقّدة،‭ ‬لكنّه‭ ‬أيضًا‭ ‬يمتاز‭ ‬بأنه‭ ‬سرد‭ ‬يمتلك‭ ‬بنية‭ ‬لغوية‭ ‬متعددة‭ ‬الطبقات،‭ ‬حيث‭ ‬يفارق‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المرات‭ ‬أرضية‭ ‬الدلالات‭ ‬اللغوية‭ ‬المباشرة،‭ ‬ليحوم‭ ‬في‭ ‬سماوات‭ ‬رمادية‭ ‬وأجواء‭ ‬فوق‭ ‬لغوية،‭ ‬حيث‭ ‬الدلالات‭ ‬المتكاثفة،‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬تلبث‭ ‬بعد‭ ‬فكّ‭ ‬شفراتها‭ ‬النصيّة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يتمّ‭ ‬تأويلها‭ ‬إلى‭ ‬فضاءات‭ ‬رحبة‭ ‬من‭ ‬الدلالات‭ ‬الثنائية‭ ‬لتشكل‭ ‬عوالم‭ ‬شفيفة‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬والدلالات‭. ‬فمثلاً‭ ‬هناك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الاختيارات‭ ‬التي‭ ‬تجعلنا‭ ‬نتساءل‭ ‬ونتوقف‭ ‬أمامها‭ ‬طويلًا‭: ‬لماذا‭ ‬اختار‭ ‬الروائي‭ ‬االهدهدب‭ ‬ليسقط‭ ‬في‭ ‬البئر‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الغلام‭ ‬الذي‭ ‬يسكن‭ ‬جسده‭ ‬مملكة‭ ‬من‭ ‬الجنّ؟‭ ‬هل‭ ‬يودّ‭ ‬السارد‭ ‬العليم‭ ‬بالأمور‭ ‬إعادتنا‭ ‬لقصة‭ ‬سليمان‭ ‬الحكيم؟‭ ‬ولماذا‭ ‬اختار‭ ‬لبطله‭ ‬غانم‭ ‬أن‭ ‬يُصبح‭ ‬أول‭ ‬ملك‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬لديه‭ ‬رعية؟‭ ‬لماذا‭ ‬جرّده‭ ‬من‭ ‬شعبه‭ ‬وأملاكه،‭ ‬رغم‭ ‬مملكته‭ ‬الشاسعة‭ ‬ولم‭ ‬يترك‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬ميراث‭ ‬العدم؟‭ ‬لماذا‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬يحوّل‭ ‬الأسماك‭ ‬من‭ ‬مصدر‭ ‬للخير‭ ‬ورمز‭ ‬الزرق‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الشعبية،‭ ‬ويستبدلها‭ ‬بصورة‭ ‬كائنات‭ ‬متوحشة‭ ‬تلتهم‭ ‬الأخضر‭ ‬واليابس‭ ‬في‭ ‬القرية؟‭ ‬لماذا‭ ‬تعمّد‭ ‬الروائي‭ ‬أن‭ ‬ينسج‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الثنائيات‭ ‬المتناقضة‭ ‬أحيانًا،‭ ‬فمثلًا‭ ‬هناك‭ ‬ثنائية‭ ‬الابنة‭ ‬التي‭ ‬اختارت‭ ‬أن‭ ‬تقرر‭ ‬مصيرها‭ ‬بنفسها،‭ ‬فاتخذت‭ ‬قرارها‭ ‬بالهرب‭ ‬مع‭ ‬مَنْ‭ ‬تُحب؟‭ ‬بينما‭ ‬الأم‭ ‬خضعت‭ ‬للسرقة‭ ‬والقبول‭ ‬بالزواج‭ ‬من‭ ‬مغتصبها،‭ ‬لأنّ‭ ‬معاملته‭ ‬لها‭ ‬كانت‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعيشها‭ ‬بين‭ ‬أهلها،‭ ‬مع‭ ‬مراعاة‭ ‬أن‭ ‬الفكرة‭ ‬ذاتها‭ ‬تتقاطع‭ ‬مع‭ ‬فكرة‭ ‬مديح‭ ‬المحتل‭ ‬والمستعمر،‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬يطرحه‭ ‬الراوي‭ ‬العليم،‭ ‬إذ‭ ‬يُفضل‭ ‬وجود‭ ‬الاستعمار‭ ‬ويعتبره‭ ‬في‭ ‬مصلحة‭ ‬الشعوب‭ ‬المحتلة‭.‬

‭ ‬

الثنائيات

يعود‭ ‬المؤلف‭ ‬للثنائيات،‭ ‬إذ‭ ‬تلوح‭ ‬في‭ ‬الأفق‭ ‬بين‭ ‬فصول‭ ‬العمل‭ ‬بقوة‭ ‬لتؤجّج‭ ‬الصراع‭ ‬الدرامي،‭ ‬منها‭ ‬ثنائية‭ ‬الثوري‭ ‬والخانع،‭ ‬فنواف‭ ‬ذاته‭ - ‬الابن‭ ‬الأكبر‭ ‬لغانم‭ ‬والثائر‭ ‬على‭ ‬والده‭ - ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬الصفتين،‭ ‬وكأنّه‭ ‬يمثّل‭ ‬ضفتي‭ ‬شخصية‭ ‬واحدة‭ ‬اعتبارية،‭ ‬الأخذ‭ ‬في‭ ‬الاعتبار‭ ‬بثنائية‭ ‬متناقضة‭ ‬أخرى‭ ‬تتعلّق‭ ‬بشخصية‭ ‬الجازية‭ ‬ومقارنتها‭ ‬مع‭ ‬بقية‭ ‬الشخصيات‭ ‬النسوية،‭ ‬فالأولى‭ ‬تبدو‭ ‬أقرب‭ ‬لعالم‭ ‬الرجال‭ ‬وسطوتهم،‭ ‬وهناك‭ ‬شخصيات‭ ‬أخرى‭ ‬هامشية‭ ‬عديدة‭ - ‬من‭ ‬النساء‭ ‬والرجال‭ - ‬أغلبها‭ ‬كان‭ ‬خانعًا،‭ ‬لكنّه‭ ‬الخنوع‭ ‬المُوشّى‭ ‬برداء‭ ‬الحكمة‭ ‬والفضيلة،‭ ‬حيث‭ ‬يجعلها‭ ‬المؤلف‭ ‬تبدو‭ ‬وكأنها‭ ‬ثنائية‭ ‬للفكر‭ ‬المستنير‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الواقع‭ ‬الحافل‭ ‬بالثأر،‭ ‬واللعب‭ ‬وفق‭ ‬حسابات‭ ‬المكسب‭ ‬والخسارة،‭ ‬مثلما‭ ‬تبدو‭ ‬بجلاء‭ ‬ثنائية‭ ‬السلام‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الدموية،‭ ‬والصراع‭ ‬بين‭ ‬جيلي‭ ‬الآباء‭ ‬والأبناء‭ ‬وما‭ ‬بينهما‭ ‬من‭ ‬منافسة‭ ‬وعدم‭ ‬انسجام،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ثنائية‭ ‬الحلم‭ ‬والواقع،‭ ‬الحرام‭ ‬والممنوع،‭ ‬المباح‭ ‬والمسموح،‭ ‬خصوصًا‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالنظرة‭ ‬إلى‭ ‬اللص‭ ‬ومكانته‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬والعلاقة‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬الفتوة‭ ‬في‭ ‬روايات‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭. ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬مثل‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬المسيحيين‭ ‬والمسلمين،‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬التاجر‭ ‬اليهودي‭ ‬والفلاحين،‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬حرب‭ ‬فلسطين‭ ‬واغتصاب‭ ‬غانم‭ ‬للأرض‭ ‬من‭ ‬أولاد‭ ‬أخيه،‭ ‬واغتصاب‭ ‬صاحب‭ ‬أرض‭ ‬المقام‭ ‬ميراث‭ ‬أولاد‭ ‬أخته‭ ‬أيضًا،‭ ‬وكأنه‭ ‬إسقاط‭ ‬على‭ ‬االقدسب‭ ‬واغتصاب‭ ‬أرض‭ ‬فلسطينة‭ ‬وإلّا‭ ‬فلماذا‭ ‬تم‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬الواقعتين؟‭ ‬

إن‭ ‬تلك‭ ‬الأقطاب‭ ‬الثنائية‭ - ‬السابقة‭ - ‬المتقابلة‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬شحن‭ ‬المسار‭ ‬الدرامي‭ ‬بتوترات‭ ‬جدلية،‭ ‬وطاقات‭ ‬صراع‭ ‬تحفظ‭ ‬للحكاية‭ ‬ديمومتها‭ ‬وتُنشط‭ ‬حيويتها،‭ ‬خصوصًا‭ ‬عندما‭ ‬يحكي‭ ‬عن‭ ‬احازم‭ ‬بيهب‭ ‬ومنافسته‭ ‬للمسيحيين‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الملك‭ ‬فاروق،‭ ‬مثلما‭ ‬يجعلنا‭ ‬نتساءل‭: ‬لماذا‭ ‬تمّ‭ ‬تجهيل‭ ‬شخصية‭ ‬صاحب‭ ‬أرض‭ ‬المقام،‭ ‬بينما‭ ‬تم‭ ‬تعريف‭ ‬هوية‭ ‬مَنْ‭ ‬تجرأ‭ ‬على‭ ‬شرائها،‭ ‬فالمشتري‭ ‬نصراني‭ ‬مذكور‭ ‬عنه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬التفاصيل؟‭ ‬لماذا‭ ‬التجهيل‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬التعريف؟‭ ‬كذلك‭ ‬صاحب‭ ‬الأرض‭ ‬مجهول‭ ‬الهوية‭ ‬يُحصن‭ ‬نفسه‭ ‬بقراءة‭ ‬فاتحة‭ ‬الكتاب‭ ‬والمعوذتين،‭ ‬ثم‭ ‬يستنجد‭ ‬بأم‭ ‬اليسوع،‭ ‬وكأنها‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬هويته‭ ‬المسيحية‭ ‬أو‭ ‬تغليب‭ ‬لها‭ ‬عن‭ ‬إسلامه‭ ‬افعند‭ ‬الصباح‭ ‬سمع‭ ‬الخفير‭ ‬ينادي‭ ‬عليه،‭ ‬فخرج‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬هدوء،‭ ‬وهو‭ ‬يحصّن‭ ‬نفسه‭ ‬بفاتحة‭ ‬الكتاب‭ ‬والمعوذتين،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬يردد‭ ‬يا‭ ‬أم‭ ‬اليسوع‭ ‬أنا‭ ‬في‭ ‬حماكِ،‭ ‬حتى‭ ‬أرجع‭ ‬إلى‭ ‬أولادي،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يدري‭ ‬بأي‭ ‬دعاء‭ ‬سيحفظه‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬بطش‭ ‬حازم‭ ‬بيهب‭.‬

 

السرد‭ ‬الحلزوني

من‭ ‬لحظة‭ ‬ثورية‭ ‬ينهض‭ ‬النص‭ ‬الروائي‭ ‬الذي‭ ‬بُني،‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬بناءً‭ ‬اجتماعيًا‭ ‬حلزونيًا،‭ ‬فالبُعد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الذي‭ ‬يحييه‭ ‬الخطاب‭ ‬الروائي،‭ ‬مُعبّر‭ ‬بقوة‭ ‬عن‭ ‬تصادم‭ ‬الأهواء‭ ‬والمشاعر‭ ‬بين‭ ‬الشخصيات،‭ ‬حيث‭ ‬تشي‭ ‬بنية‭ ‬الشخصيات‭ ‬وتاريخ‭ ‬المكان‭ ‬بالتحولات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬عبر‭ ‬لمحات‭ ‬وخيوط‭ ‬رقيقة،‭ ‬لكنها‭ ‬كاشفة‭ ‬بقوة‭ ‬الدلالة،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬مهارة‭ ‬الروائي‭ ‬في‭ ‬تجسيد‭ ‬ملامح‭ ‬وأنماط‭ ‬الشخصيات‭ ‬المتباينة،‭ ‬على‭ ‬الأخص‭ ‬شخصية‭ ‬غانم،‭ ‬ونواف،‭ ‬والجازية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬شخصيات‭ ‬الراعي‭ ‬والتاجر،‭ ‬والعمدة،‭ ‬كلٌّ‭ ‬بتاريخها‭ ‬الروائي‭ ‬الكاشف‭ ‬للتحول‭ ‬القيمي‭ ‬بالمجتمع،‭ ‬والانحراف‭ ‬عن‭ ‬مبادئه‭ ‬وعقائده،‭ ‬فهناك‭ ‬لمحات‭ ‬لانهيار‭ ‬بعض‭ ‬القيم،‭ ‬ومنها‭ ‬قيمة‭ ‬العمل‭ ‬والكرامة،‭ ‬وتفشي‭ ‬الفساد،‭ ‬والكذب،‭ ‬والخداع‭. ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬الطموح‭ ‬تحوّل‭ ‬لقيمة‭ ‬سلبية،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬بلغ‭ ‬حدود‭ ‬الجشع‭ ‬المغموس‭ ‬في‭ ‬الغيرة‭ ‬المتأججة‭ ‬التي‭ ‬تدفع‭ ‬بالإنسان‭ ‬إلى‭ ‬السلب‭ ‬والنهب‭ ‬والاغتصاب‭ ‬والثأر‭ ‬الأعمى‭. ‬

يُطرز‭ ‬المؤلف‭ ‬حكاياته‭ ‬بتفاصيل‭ ‬قاسية‭ ‬عن‭ ‬الانتقام،‭ ‬الإلهي‭ ‬والبشري،‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬والتاريخ‭ ‬والأسطورة،‭ ‬فيستعيد‭ ‬قصصًا‭ ‬للقتل‭ ‬العمدي‭ ‬المدروس،‭ ‬وأخرى‭ ‬تمت‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الخطأ‭. ‬إنه‭ ‬عمل‭ ‬روائي‭ ‬ملغّم‭ ‬بحكايات‭ ‬الجن‭ ‬وأصحاب‭ ‬الكرامات،‭ ‬لكن‭ ‬المدهش‭ ‬أن‭ ‬مفاصل‭ ‬العمل‭ ‬وعناصره‭ ‬الأساسية‭ ‬المكونة‭ ‬لعموده‭ ‬الفقري‭ ‬تخلط‭ ‬بين‭ ‬الوهم‭ ‬والحقيقة،‭ ‬بين‭ ‬الرواية‭ ‬والأسطورة‭. ‬افما‭ ‬يظهر‭ ‬هنا،‭ ‬لا‭ ‬يمثّل‭ ‬عُشر‭ ‬الحقيقة،‭ ‬التي‭ ‬تختفي‭ ‬أسفل‭ ‬الأرض،‭ ‬وينطبق‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬أغلب‭ ‬قرى‭ ‬ومدن‭ ‬صعيد‭ ‬مصر،‭ ‬حيث‭ ‬الحقيقة‭ ‬تختفي،‭ ‬ولا‭ ‬يظهر‭ ‬منها‭ ‬إلّا‭ ‬مقدار‭ ‬ضئيل‭ ‬أمام‭ ‬أعين‭ ‬الناس‭.. ‬وتبقى‭ ‬الحقيقة‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الأسطورة،‭ ‬والأسطورة‭ ‬بنت‭ ‬الحقيقة،‭ ‬الرابضة‭ ‬أسفل‭ ‬كوم‭ ‬الخادمب‭.‬

لعلّ‭ ‬أحد‭ ‬الملامح‭ ‬البارزة‭ ‬بالرواية‭ ‬السرد‭ ‬التوثيقي‭ ‬للأسطورة،‭ ‬للتاريخ،‭ ‬للعادات‭ ‬والتقاليد،‭ ‬والفولكلور‭ ‬بتلك‭ ‬القرية‭ ‬التي‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬تمثيلًا‭ ‬لجميع‭ ‬قرى‭ ‬الصعيد،‭ ‬وربما‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬محافظات‭ ‬أرض‭ ‬الكنانة؟‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬براعة‭ ‬المؤلف‭ ‬في‭ ‬توظيف‭ ‬تقنية‭ ‬الحلم‭ ‬على‭ ‬قلتها،‭ ‬وكأنه‭ ‬القنطرة‭ ‬التي‭ ‬يعبر‭ ‬عليها‭ ‬الحدث،‭ ‬إلى‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬عرض‭ ‬الأحداث،‭ ‬والمواقف،‭ ‬التي‭ ‬تبيّن‭ ‬الاختلافات‭ ‬والفروق‭ ‬بين‭ ‬الشخصيات‭ ‬ومصائرها‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬يبدو‭ ‬الانقسام‭ ‬الداخلي‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر،‭ ‬فهناك‭ ‬توازٍ‭ ‬بين‭ ‬الزمنين،‭ ‬بين‭ ‬تطور‭ ‬الحدث‭ ‬في‭ ‬الحاضر‭ ‬وحركة‭ ‬الـ‭ ‬افلاش‭ ‬باكب‭ ‬في‭ ‬ذكريات‭ ‬الماضي،‭ ‬والانتقال‭ ‬بين‭ ‬التاريخ‭ ‬والأسطورة‭ ‬وآنية‭ ‬الواقع‭. ‬

من‭ ‬زاوية‭ ‬أخرى،‭ ‬فالرواية‭ ‬لا‭ ‬تخضع‭ ‬لوحدة‭ ‬الحدث‭. ‬فحدثها‭ ‬أكثر‭ ‬تشعبًا‭ ‬وتشابكًا‭ ‬ومعه‭ ‬تتسع‭ ‬الرؤية‭. ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬يتميز‭ ‬السرد‭ ‬هنا،‭ ‬بأنه‭ ‬قريب‭ ‬الشبه‭ ‬من‭ ‬حكايات‭ ‬األف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلةب،‭ ‬فالمؤلف‭ ‬يُوظف‭ ‬الراوي‭ ‬العليم‭ ‬بالأمور،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يُحدد‭ ‬هويته،‭ ‬ليحكي‭ ‬بواسطته‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬المتناوبة،‭ ‬فتبدأ‭ ‬من‭ ‬القصة‭ ‬الافتتاحية‭ ‬لتتلوها‭ ‬حكاية‭ ‬الإطار،‭ ‬ثم‭ ‬يخرج‭ ‬لقصة‭ ‬فرعية‭ ‬تضمينية‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬القصة‭ ‬الأولى‭ ‬والرئيسية‭ ‬مجددًا،‭ ‬ليخرج‭ ‬منهما‭ ‬إلى‭ ‬قصة‭ ‬ثالثة‭ ‬ورابعة،‭ ‬مرات‭ ‬ومرات،‭ ‬فيُكرر‭ ‬ذلك‭ ‬بإيقاع‭ ‬جذاب‭.‬

وهكذا‭ ‬نجد‭ ‬قواسم‭ ‬مشتركة‭ ‬بين‭ ‬اكوم‭ ‬الخادمب‭ ‬واألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلةب‭ ‬في‭ ‬الأسلوب‭ ‬الفني‭ ‬المُعالج‭ ‬به‭ ‬الشخصيات‭ ‬والأحداث،‭ ‬حيث‭ ‬يتداخل‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬في‭ ‬الحكايات،‭ ‬فهناك‭ ‬حكاية‭ ‬المفتتح‭ ‬عن‭ ‬غرق‭ ‬القرية،‭ ‬والطوفان،‭ ‬ثم‭ ‬الحكاية‭ ‬الإطار،‭ ‬وهي‭ ‬حكاية‭ ‬غانم‭ ‬ومملكته‭ ‬الملعونة‭ ‬والمنسوجة‭ ‬بمهارة‭ ‬بالغة‭ ‬وانتقالات‭ ‬شديدة‭ ‬السلاسة‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬الحكايات‭ ‬التضمينية‭ ‬التي‭ ‬تتداخل‭ ‬ضمن‭ ‬حكايات‭ ‬الإطار،‭ ‬وتتمتع‭ ‬بدلالات‭ ‬فنية‭ ‬ومضمونية‭ ‬مثل‭ ‬حكاية‭ ‬الأولياء‭ ‬الصالحين،‭ ‬والراعي‭ ‬المسيحي،‭ ‬والتاجر‭ ‬اليهودي،‭ ‬والعمدة‭ ‬المعجون‭ ‬بالجشع‭ ‬والطمع‭ ‬والجبروت،‭ ‬خصوصًا‭ ‬غانم‭ ‬الذي‭ ‬الم‭ ‬تكن‭ ‬الحياة‭ ‬معه‭ ‬ورديّة‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬الطريق،‭ ‬فكانت‭ ‬هناك‭ ‬منحنيات‭ ‬وحُفر‭ ‬وسدود،‭ ‬تعيق‭ ‬أو‭ ‬تؤجل‭ ‬أحيانًا‭ ‬غانم‭ ‬عن‭ ‬المضيّ‭ ‬قُدمًا‭ ‬في‭ ‬طموحاته‭ ‬الاستعمارية،‭ ‬فهو‭ ‬يفكّر‭ ‬بذهنية‭ ‬مستعمر‭ ‬لا‭ ‬مصلحب‭.‬

لكنّ‭ ‬اللافت‭ ‬أن‭ ‬دخول‭ ‬الشخصيات‭ ‬الجديدة‭ ‬كان‭ ‬يُنسج‭ ‬بتلقائية،‭ ‬مع‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬الشخصيات‭ ‬الرئيسية،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تغليب‭ ‬لتقنية‭ ‬الوصف‭ ‬الشاعري‭ ‬أحيانًا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تجسيد‭ ‬مواقف‭ ‬درامية،‭ ‬فالروائي‭ ‬متأثّر‭ ‬بحرفته‭ ‬الشعرية،‭ ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬ذلك،‭ ‬ورغم‭ ‬كثرة‭ ‬الشخصيات،‭ ‬وزخم‭ ‬التفاصيل‭ ‬والأحداث،‭ ‬فالقارئ‭ ‬يقفز‭ ‬من‭ ‬قصة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭ ‬عبر‭ ‬الحكايات‭ ‬المتوالدة‭ ‬المتكاثرة،‭ ‬لكلّ‭ ‬منها‭ ‬بداية‭ ‬ووسط‭ ‬ونقطة‭ ‬صراع‭ ‬متفجّر،‭ ‬لكن‭ ‬بعضها‭ ‬لا‭ ‬نُدرك‭ ‬نهاياته،‭ ‬إذ‭ ‬يختفي‭ ‬أبطالها‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نسبر‭ ‬أغوارهم،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نصل‭ ‬لكشف‭ ‬أسرارهم‭ ‬القابعة‭ ‬في‭ ‬قاع‭ ‬البئر‭ ‬المكين‭. ‬أو‭ ‬ربّما‭ ‬هي‭ ‬خدعة‭ ‬من‭ ‬المؤلف‭ ‬لتوريط‭ ‬القارئ‭ ‬في‭ ‬اختراع‭ ‬نهايات‭ ‬لهم ‭■ ‬