يعقوبي وتأسيس التجربة الفلسفية بالجزائر

يعقوبي وتأسيس التجربة الفلسفية بالجزائر

يحضُر التاريخ بضروراته وإمكاناته في كلّ حديث عن التأسيس، سواء أكان هذا التأسيس متعلّقًا بالمجال السياسي أم بالمجال الثقافي والفكري، أم بغيرهما من المجالات الإنسانية.
وتفرض المنجزات الفعلية والإسهامات الحقيقية نفسها على هذا الحديث، رغم ما تثيره من تبايُن في الفهم والتأويل، وما تؤدّي إليه من اختلاف في المواقف والرؤى. ولكن مع ذلك، فإنّ ثمّة معطيات ومعالم، لا يمكن الاختلاف حولها، ولا التقليل من قيمتها، وأكثر من هذا محاولة إنكار دورها في عملية التأسيس.

 لا أجانب الصواب إذا قلت إن ما قدَّمه محمود يعقوبي (1931 - 2020)، الذي وافته المنية في 20 أغسطس الماضي، طوال مدة زمنية تزيد على 60 عامًا، سواء في مجال تعليم الفلسفة بالمرحلتين الثانوية والجامعية، أو في مجال البحث والتأليف والترجمة الفلسفية، أو في المجال النظري الفلسفي، قد أسهم بلا أدنى شك، في تأسيس التجربة الفلسفية في الجزائر، وفي رسم معالمها العامة.
كان يعقوبي واحدًا من أساتذة الجيل الأول الذين درَّسوا الفلسفة بالعربية في الثانوية، وشارك في تعريب برنامجها قبل أن يصبح مفتّشًا أو (مُوجّهًا) عامًّا لهذه المادة لمدة زمنية معتبرة، ألَّف خلالها جملة من الكتب الفلسفية والتربوية، منها: المختار في النصوص الفلسفية، والمقالة الفلسفية، ودروس في المنطق، وأصول الخطاب الفلسفي، وكتاب الوجيز في الفلسفة (1973)، الذي أصبح كتابًا رسميًّا في تعليم الفلسفة بالمرحلة الثانوية؛ سواء للأقسام الأدبية أو العلمية أو الرياضية، مع تقليص في المادة العلمية للعلميين والرياضيين، والتركيز على الجوانب المنطقية والعلمية. 
يتألف الكتاب من قسمين أساسيين؛ الأول حول فلسفة العمل، وفيه يدرس الطالب مسائل متصلة بعلم النفس كالشعور واللاشعور، والشخصية، والفن والإبداع الفني، والأخلاق بحسب المفاهيم الكبرى للحياة الخلقية، والمشكلات السياسية والاجتماعية كالعمل، والحرية... إلخ.
والقسم الثاني حول فلسفة المعرفة، ويتناول مسائل الإدراك، والذاكرة، واللغة، والتفكير المنطقي من حيث الاستدلال وقوانينه، والتفكير العلمي وأسسه، ومشكلات نظرية المعرفة والحقيقة... إلخ. 
كما تضمن الكتاب مقدّمة حول الثقافة والفلسفة، وخاتمة حول قيمة الفلسفة. ولقد اعتمد هذا الكتاب في برنامج تعليم الفلسفة في الثانوية منذ عام 1973 إلى 1991، حيث شُرع في إعادة النظر بالتعليم الثانوي في مجمله، وفي تعليم الفلسفة التي توسّع مجال تعليمها ليشمل المرحلة الثانية الثانوية، مما تطلب إعادة النظر في الكتاب الرسمي بما يتّفق ومتطلبات مخططات المرحلة الجديدة. 

إرادة قوية
على أن ما ميَّز الراحل يعقوبي، مقارنة بجيله من أساتذة الفلسفة، هو إرادته القوية في متابعة الدراسة والبحث الفلسفي، حيث التحق بالجامعة الجزائرية من جديد، لينجز أطروحتين: الأولى في الماجستير وعنوانها «نقد ابن تيمية للمنطق المشائي»، (1986)، والثانية في الدكتوراه وعنوانها «مسالك العلة وقواعد الاستقراء عند الأصوليين وجون ستيوارت ميل»، (1994)، وبذلك يكون قد اختار مبحث المنطق الصوري القديم في صورته الإسلامية وعلاقته بالمنطق الحديث مجالًا لتخصُّصه الفلسفي الذي عزَّزه بجملة من المؤلفات والترجمات، لعلماء المنطق الفرنسي، ومنهم جيل تريكو، وماري لويز رور، وربير بلانشي، الذي خصَّه بترجمة معظم أعماله المنطقية.
والحق أن جهوده في الترجمة الفلسفية عمومًا، وفي ترجمة المنطق على وجه التحديد، تعتبر من جميع الوجوه، ترجمات رائدة في الجزائر، ذلك لأنه يعتبر الأول في جيله الذي أقدم على هذا المجال الحيوي للفلسفة والبحث الفلسفي، رغم ما كان يتميَّز به معاصروه من معرفة باللغة الفرنسية على سبيل المثال.
وقد ترجم مجموعة من الأعمال المنطقية الأساسية، وخاصة في مجال المنطق الصوري، ومنها المنطق الصوري لجول تريكو، وأساس الاستقراء ودراسات منطقية لجول لا شولييه، والمنطق المعاصر لماري لويز رور، وعلم المنطق لغوبلو، وفلسفة المنطق لدوني فرنان، وتخصَّص في ترجمة أعمال المنطق، لمؤرخ العلوم الفيلسوف الفرنسي روبير بلانشي. ومن أهم الأعمال التي ترجمها لهذا الفيلسوف، نشير إلى: نظرية العلم، والمدخل إلى المنطق المعاصر، والاستقراء والقوانين الطبيعية، والعقل والخطاب، وتاريخ المنطق من أرسطو إلى رسل، والبنيات العقلية، والمصادرات، والاستدلال... إلخ. 

طريقته في الترجمة
أجمَلَ يعقوبي طريقته في الترجمة بالقول: «وأنا على علم بأن النقل من لغة إلى لغة تختلف عن اللغة الأصلية بالقواعد وبطريقة نظم الكلام، ليس أمرًا سهلًا، ولا يفي بالغرض دائمًا، إذْ قد يكون على الناقل أن يختار بين الترجمة الحرفية والترجمة المعنوية، وقد تكون الترجمة الحرفية متيسّرة إلى حدٍّ كبير بين اللغات ذات الأصل الواحد، لكنها تكون متعذّرة إذا كانت من اللغة الفرنسية ذات الأصول اللاتينية إلى اللغة العربية التي لا تلتقي معها في أي شيء تقريبًا، وخاصَّة في طريقة نظم الكلام، ولهذا فضَّلت ترجمة المعاني بنقلها من مباني اللغة الفرنسية إلى مباني اللغة العربية». (الاستدلال، ص أ).
 هذا على مستوى الطريقة التي فضَّل فيها المعنى على الحرف، أما على مستوى الهدف، فإن يعقوبي رسم لترجماته هدفًا خاصَّا يتمثّل في إثراء المكتبة الفلسفية والمنطقية على وجه التحديد، وهدفًا ثقافيًّا عامًّا يتمثّل كما يقول في «دعم قدرة اللغة العربية على تطوير مصطلحاتها المنطقية من أجل التعبير عن كل المعاني التي ينشئها البحث المنطقي الفلسفي». (الاستدلال، ص د).
 ولم يكتف رائد التجربة الفلسفية في الجزائر بمجال المنطق، على صعوبته وتعقُّده، وإنّما اهتم بشكل خاص بمجال الميتافيزيقا الذي يُعدُّ، كما نعلم، أساس الفلسفة؛ سواء على مستوى التأسيس الفلسفي أو التكوين الفلسفي. وقد نشر سلسلة من الكتب حول مسائلها الكبرى، بعنوان شامل هو: خلاصة الميتافيزيقا، وجاءت على النحو الآتي: (1) فلسفة المعرفة، (2) فلسفة الطبيعة، (3) فلسفة الوجود، (4) فلسفة الألوهية. 
ويقول في تقديم هذه الخلاصات الميتافيزيقية: «هذه خلاصة لمسائل الميتافيزياء ليس لي فيها إلّا الانتقاء والعبارة، أما الأفكار والآراء فهي لأصحابها الذين أجريتها على ألسنتهم أو لخَّصتها من أعمال غيرهم من المؤلفين، وبما أنّ لكل سلوك بشري أسبابه، فقد جاء الكتاب سدًّا لفراغ تعرفه مكتبة الدراسـات الفلسفية... إلخ» (فلسفة المعرفة، ص 3).

هيمنة الخطاب الدعوي
 لكن في الوقت الذي يؤكد يعقوبي الجانب التعليمي والتكويني من تأليف هذه السلسلة من الدراسات الفلسفية الميتافيزيقية، نراه يكشف عن هدف فلسفي لا يختلف كثيرًا عن تلك الآراء التي نقرأها عند رواد الفكر الفلسفي في العالم العربي الذين استندوا إلى المناهج الفلسفية الحديثة والمعاصرة، بغرض إحياء أو إعادة قراءة التراث الفلسفي الإسلامي. 
 ويقول: «لقد أردت أن تكون هذه الخلاصة بعثًا للميتافيزياء الإسلامية من مرقدها، وذلك بتجديد الصلة بها، بالدراسة والتأليف، ويمكن أن يحصل ذلك باقتفاء آثار الميتافيزيائيين الأوربيين ذوي المذاهب الفلسفية العريقة أو النابتة في العصور الحديثة، لا من أجل تقليدها، بل للاحتكاك بها، ولمعرفة قيمتها، وللوقوف منها مواقف معلّلة عند القبول أو الردّ». (فلسفة المعرفة، ص 5).
من هنا نستطيع القول إن يعقوبي لم يتوقف طوال مسيرته العلمية عند مستوى التعليم والتأليف والترجمة فقط، وإنما حاول الدفاع عن تصور للفلسفة في صورتها التاريخية الإسلامية، وذلك مقارنة بجيله الذي كان مُقلاًّ في التأليف، ولم يلتفت إلى الترجمة إلّا عرضًا، واهتم أكثر بالمسائل الأيديولوجية الآنية، سواء في صورتها السياسية كما يظهر ذلك في كتابات عبدالله شريط، أو في صورتها الدينية كما يمثّلها ثلة من الأساتذة الذين ارتبطوا بوزارة الشؤون الدينية، وبمجلسه الأعلى، وبخاصة الأساتذة: عمار طالبي، وعبدالرزاق قسوم، والربيع ميمون، 
وأبو عمران الشيخ، الذي ترأس المجلس الإسلامي الأعلى مدة زمنية غير قصيرة. 
وقد نجم عن هذا الانشغال بالخطاب الأيديولوجي هيمنة الخطاب الدعوي على الخطاب الفلسفي، ومحدودية في التكوين الفلسفي المؤصل لأجيال من الطلبة والباحثين في الفلسفة.

 التصور الفلسفي ليعقوبي
يظهر التصور الفلسفي ليعقوبي في العلاقة التي أراد أن ينسجها مع ما يسميه بالميتافيزيقا الإسلامية، مع ما تطرحه من مشكلات على مستوى المصطلح والمضمون، وكذلك في محاولته تأسيس منطق قرآني قائم على نوع من النزعة الفطرية، مع ما تثيره هذه النزعة من مشكلات معرفية متعلّقة بالصلة بين المنطق والعقل، وبين المنطق وطبيعة المعرفة الفطرية والمكتسبة، ثم في القيمة المعرفية لهذه المسألة التي ناقشها، كما نعلم، المناطقة القدماء، وتناولوها بشكل خاص في حديثهم عن أصل القوانين المنطقية، وغيرها من المشكلات التي تتعلق بتأويل المنطق أكثر من اتصالها بالتطورات التي عرفها المنطق الصوري في صورته المعاصرة الرمزية. 
وفي تقديري، فإن هذا الجهد الفلسفي، والإسهام النظري يظهر أكثر ما يظهر في بحثه الموسوم «وظيفة الفلسفة في المجتمع الإسلامي المعاصر»، حيث عرَّف الفلسفة بأنها «النظر العقلي الذي يطلب حقائق الأشياء وعللها من خلال منظور العقيدة الإسلامية»، وأن «الفلسفة التي نعتقد أن لها وظيفة تقوم بها في المجتمع الإسلامي المعاصر هي الفلسفة كما مارسها علماء الكلام» (ص 73). 
والسبب في ذلك هو أن علماء الكلام قد قدَّموا في نظره، تصوُّرًا إسلاميًا للفلسفة، ولم يُبدعوا تصوُّرات جديدة للوجود والمعرفة والعمل، كما فعل الفلاسفة القدماء الذين يصنفهم في دائرة المشائية الأرسطية، وفقًا لمذهب استحدثه مؤرخ الفلسفة المصري علي النشار، الذي كان يدرّس في فترة السبعينيات بجامعة الجزائر، وتحلَّق حوله بعض الطلبة الجزائريين؛ منهم عمار طالبي الذي أشرف على أطروحة يعقوبي. 

دور مساند
والحق أن مشكلة هذا التصور الفلسفي الذي قدَّمه يعقوبي، والذي يستعيد موقفًا معروفًا من التراث الفلسفي الإسلامي، يُبخس في مجمله جهود فلاسفة الإسلام باسم المشائية الأرسطية، ويُعلي من قيمة علماء المدرسة الكلامية الأشعرية تحديدًا، لا تكمن في حصره للفلسفة ضمن دائرة محددة، هي دائرة علم الكلام الذي هو جزء من الفلسفة الإسلامية بأقسامها الثلاثة: علم الكلام، وفلاسفة الإسلام، والتصوف الإسلامي، ولا في تقديمه علم الكلام على أنه نصًّ واحد أو جسمٌ موحَّدٌ، في حين أنه في حقيقته التاريخية عبارة عن فرق ومذاهب لا يمكن اختزالها في فرقة واحدة أو في جواب واحد، أو موقف واحد، وإنّما في تحديده للفلسفة من خلال وظيفتها العقائدية، وأن اهتمامها بالحقيقة لا يكون إلّا بما يتَّفق مع المعتقد الديني ممثلًا بالإسلام، وأن على الفيلسوف المسلم - في نظر يعقوبي - أن يعمل من أجل إثبات «أن عقيدته هي عقيدة الحق، وأن شريعته هي شريعة الحق، إما بالاحتجاج بالنتائج العلمية، وإما بالاحتجاج بالمبادئ النظرية». (ص 73).
من هنا يمكننا القول إن المساهمة النظرية ليعقوبي، رغم تميُّزها وتنوُّعها مقارنة بجهود زملائه من الأساتذة الذين شاركوه التأسيس الأوّلي للفلسفة بالجزائر، ويعتبرون من جيل الروَّاد، فإن هذه الأعمال في حقيقتها، وبخاصة تلك المتعلقة بالتصور الفلسفي، تقوم بدور المساند والداعم، سواء أكان ذلك بطريقة مباشرة أم غير مباشرة، لذلك الخطاب الدعوي الذي أشاعه ثلّة من أساتذة الفلسفة في جامعة الجزائر تحديدًا، والذي يظهر بمظهر الخطاب الفلسفي، إلاَّ أنه عمل في الواقع على رفض فتح مجالات الفلسفة أمام المناقشة الفلسفية الحرَّة، وسعى إلى وضع حدود للبحث العقلي الحر، سواء من خلال التزاماته الأيديولوجية أو مسؤولياته الإدارية، وقام بدور الكابح لحركة تطوُّر التجربة الفلسفية، التي ستعرف، رغم ذلك، منذ بداية الألفية الثالثة، توسعًا على مستوى تعليمها الذي سيشمل مختلف الجامعات الجزائرية، وتجدُّدًا وتنوُّعًا في البحث والترجمة والتأليف ■