السيّد القارئ

السيّد القارئ

أتى‭ ‬على‭ ‬الكُتَّاب‭ ‬حينٌ‭ ‬من‭ ‬الدهر‭ ‬كان‭ ‬القارئ‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليهم‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬العملية‭ ‬الإبداعية،‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬االمتلقّيب‭ ‬الذي‭ ‬ينتظر‭ ‬ما‭ ‬جادت‭ ‬به‭ ‬اقرائحب‭ ‬الأدباء‭ ‬الملهمين،‭ ‬ليتعلّم‭ ‬منهم،‭ ‬ويهتدي‭ ‬بنور‭ ‬عقولهم،‭ ‬لعلّه‭ ‬يصبح‭ ‬إنسانًا‭ ‬أفضل،‭ ‬وترتقي‭ ‬حياته،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يفهمَ‭ ‬ما‭ ‬يقصدون‭ ‬إليه‭ ‬بإبداعهم‭ ‬من‭ ‬مرامٍ‭ ‬عظيمة،‭ ‬وغايات‭ ‬سامية‭.‬

ثم‭ ‬أصبح‭ ‬القارئ‭ ‬شريكًا‭ ‬في‭ ‬العملية‭ ‬الإبداعية،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬شريكًا‭ ‬سلبيًّا،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاهله،‭ ‬فالكاتب‭ ‬يضعه‭ ‬في‭ ‬اعتباره،‭ ‬ويتمنّى‭ ‬أن‭ ‬ينال‭ ‬رضاه،‭ ‬إذ‭ ‬أصبح‭ ‬وجود‭ ‬الكاتب‭ ‬ذاته‭ ‬مرتبطًا‭ ‬بما‭ ‬سيحققّه‭ ‬له‭ ‬القارئ‭ ‬من‭ ‬رواج،‭ ‬وزيادة‭ ‬في‭ ‬المبيعات،‭ ‬تجعل‭ ‬الناشرين‭ ‬يقبلون‭ ‬على‭ ‬نشر‭ ‬أعماله‭.‬

وجاء‭ ‬عصر‭ ‬الإنترنت،‭ ‬ومواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬فأصبح‭ ‬القارئ‭ ‬شريكًا‭ ‬أساسيًا‭ ‬إيجابيًا،‭ ‬بما‭ ‬يملكه‭ ‬من‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬إبداء‭ ‬الرأي‭ ‬والتأثير‭ ‬الفوري‭ ‬على‭ ‬الكاتب‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعدّل‭ ‬نصّه‭ ‬وفقًا‭ ‬لما‭ ‬أرشده‭ ‬إليه‭ ‬القراء‭ ‬من‭ ‬ثغرات،‭ ‬بما‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬رضاء‭ ‬القرّاء‭ ‬عنه‭.‬

وزادت‭ ‬قدرات‭ ‬القراء‭ ‬وتغوّل‭ ‬دورهم،‭ ‬فأصبحوا‭ ‬يكملون‭ ‬العمل‭ ‬بما‭ ‬يريدون‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬مسيرة‭ ‬ونهاية،‭ ‬وذلك‭ ‬بما‭ ‬توفّره‭ ‬لهم‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الحديثة‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬تمكّنهم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭.‬

وكان‭ ‬النقد‭ ‬يواكب‭ ‬كل‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المراحل،‭ ‬ولا‭ ‬يغفل‭ ‬المساحات‭ ‬التي‭ ‬يستولي‭ ‬عليها‭ ‬القارئ‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬حتى‭ ‬رأينا‭ ‬مدارس‭ ‬نقدية‭ ‬عديدة‭ ‬تركّز‭ ‬اهتمامها‭ ‬على‭ ‬عملية‭ ‬التلقّي‭ ‬لا‭ ‬الكتابة،‭ ‬وعلى‭ ‬نقد‭ ‬استجابة‭ ‬القارئ،‭ ‬إذ‭ ‬أصبح‭ ‬العمل‭ ‬الأدبي‭ ‬الذي‭ ‬يقدّمه‭ ‬الكاتب‭ ‬هو‭ ‬امقترحب‭ ‬لنصّ‭ ‬لا‭ ‬يكتمل‭ ‬إلّا‭ ‬بالقراءة،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬لدينا‭ ‬للنص‭ ‬الواحد‭ ‬قراءة‭ ‬واحدة‭ ‬هي‭ ‬قراءة‭ ‬الكاتب،‭ ‬أو‭ ‬قراءة‭ ‬الكاتب‭ ‬والناقد‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬أصبح‭ ‬لدينا‭ ‬عدد‭ ‬لا‭ ‬نهائي‭ ‬من‭ ‬القراءات‭ ‬للنص‭ ‬الواحد‭ ‬بعدد‭ ‬القراء‭ ‬الذين‭ ‬يطالعونه‭.‬

ربما‭ ‬تكون‭ ‬مركزية‭ ‬الكاتب،‭ ‬ومركزيّة‭ ‬نصه،‭ ‬قد‭ ‬اهتزت‭ ‬توافقًا‭ ‬مع‭ ‬اهتزاز،‭ ‬بل‭ ‬وسقوط،‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬ثبت‭ ‬زيف‭ ‬كثير‭ ‬منها،‭ ‬وربما‭ ‬يكون‭ ‬الاتجاه‭ ‬إلى‭ ‬الديمقراطية‭ (‬في‭ ‬المجال‭ ‬الثقافي‭ ‬على‭ ‬الأقل‭) ‬هو‭ ‬ما‭ ‬أتاح‭ ‬للقارئ‭ ‬أن‭ ‬يفرض‭ ‬وجوده،‭ ‬وربما‭ ‬ساعدت‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الحديثة‭ ‬على‭ ‬إعطاء‭ ‬القارئ‭ ‬أدوات‭ ‬التمكين‭ ‬التي‭ ‬تساعده‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬وجوده،‭ ‬وممارسة‭ ‬حقّه‭ ‬كشريك‭ ‬في‭ ‬العملية‭ ‬الإبداعية،‭ ‬إذ‭ ‬أصبح‭ ‬التواصل‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الكاتب‭ ‬مباشرًا‭ ‬ولحظيًا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بريد‭ ‬القراء‭ ‬أو‭ ‬الخطابات‭ ‬البريدية،‭ ‬وقبلها‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ممكنًا‭ ‬إلّا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التواصل‭ ‬الشخصي‭.‬

فلم‭ ‬يعد‭ ‬الكاتب‭ ‬الآن‭ ‬مهيمنًا‭ ‬مالكًا‭ ‬لسلطة‭ ‬التوجيه،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬أصبح‭ ‬مفكرًا‭ ‬محاورًا‭ ‬لآخرين‭ ‬كأنداد‭ ‬يهدفون‭ ‬جميعًا‭ ‬إلى‭ ‬الوصول‭ ‬لفهم‭ ‬العالَم‭ ‬وفهم‭ ‬الإنسان،‭ ‬وتحقيق‭ ‬حياة‭ ‬أفضل‭ ‬وأكثر‭ ‬سعادة‭ ‬للبشر‭ ‬قدر‭ ‬الإمكان‭.‬

الكاتب‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يفهم‭ ‬دوره‭ ‬الجديد‭ ‬قد‭ ‬يخسر‭ ‬تواصُل‭ ‬القرّاء‭ ‬معه،‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يخسر‭ ‬وجوده‭ ‬ذاته‭ ‬ككاتب،‭ ‬لأنّ‭ ‬القراء‭ ‬الذين‭ ‬حصلوا‭ ‬على‭ ‬حقوقهم‭ ‬لن‭ ‬يتنازلوا‭ ‬عنها،‭ ‬بل‭ ‬إنهم‭ ‬يسعون‭ ‬دائمًا‭ ‬إلى‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬المزيد‭ ‬يومًا‭ ‬بعد‭ ‬آخر‭  ■‬